This attempt seeks to stimulate the debate about the relationship of history to other social sciences, especially anthropology through a research model for Morocco, which describes and illustrates some aspects of the convergence and intersection between the two sciences, as two cognitive fields that constitute one of the most important tributaries of knowledge within the laboratory of human and social sciences.
European research during the 19th century focused on the study of non-Western societies. According to an historical anthropological approach Morocco has been a fertile subject, and this may explain why the emergence of the field of anthropology in Morocco, remained linked to the overall colonial studies, which tried to explore the hidden elements of Moroccan society, but In spite of the colonial nature of these studies, the return of this legacy and the huge amount of knowledge has become an urgent and important necessity for anyone interested in studying Moroccan history and the questioning of its caches, based on the critical methodology, scientific examination, and the adoption of the objective quota of accumulation, linked to the knowledge of the first anthropologists who entered the Moroccan field during the imperialist campaign, to benefit from the availability of their colonial legacy, from a variety of documents and data that interested the ordinary incidents and the daily lives of Moroccans, which, in our estimation, constitute an entrance to rewrite our history away from any ideology or tendency which may affect historical truth.
Keywords: Anthropology – History – Morocco – Contemporary
ملخص:
تسعى هذه المحاولة إلى إثارة النقاش الدائر حول علاقة التاريخ بالعلوم الاجتماعية الأخرى، وفي مقدمتها علم الأنثروبولوجيا من خلال أنموذج بحثي عن المغرب، يصف ويجسد بعض مظاهر التلاقي والتقاطع بين العلمين، باعتبارهما حقلين معرفيين يشكلان أحد أهم روافد المعرفة داخل مختبر العلوم الإنسانية والاجتماعية.
لقد انصبت الأبحاث الأوروبية خلال القرن 19م على دراسة المجتمعات غير الغربية، وفق مقاربة تاريخية أنثروبولوجيا شكل المغرب موضوعا خصبا لها، ولعل ذلك ما يفسر كون بروز حقل الانثروبولوجيا بالمغرب، ظل في مجمله مرتبطا بالدراسات الاستعمارية، التي حاولت التنقيب عن خبايا المجتمع المغربي. وعلى الرغم من الطابع الكولونيالي لهذه الدراسات، إلا أن العودة لهذا الإرث والكم الهائل من الرصيد المعرفي، أضحى ضرورة ملحة ومهمة لكل مهتم بدراسة قضايا التاريخ المغربي واستشكال خباياه، وذلك من منطلق المنهج النقدي والفحص العلمي، وتبني الحصيص الموضوعي من التراكم المعرفي الممهور عن تجربة الأنثروبولوجيين الأوائل اللذين ولجوا المجال المغربي زمن الحملة الامبريالية، للاستفادة مما وفرته تركتهم الكولونيالية، من أصناف متنوعة من الوثائق والمعطيات التي همت الحوادث العادية والمعيش اليومي للمغاربة، والتي تشكل – في تقديرنا – مدخلا لإعادة كتابة تاريخنا بعيدا عن كل إيديولوجية أو نزعة قد تؤثر على الحقيقة التاريخية.
الكلمات المفتاحية: الأنثروبولوجيا – التاريخ – المغرب – المعاصر.
مقدمة :
أدى تطور علم التاريخ إلى انفتاحه على علوم شتى، فأصبح المؤرخ يعالج مختلف القضايا وفق مقاربات جديدة ومناهج مختلفة، فلم يعد التاريخ تلك المعرفة التقليدية القائمة على سرد الأحداث من منظور متفرد وأحادي، بل أصبح تاريخا جديدا منذ مجيء مدرسة الحوليات، يقوم على استيعاب كل ما توفره مختلف العلوم من معارف ونظريات من شأنها أن تثري البحث التاريخي كما وكيفا؛ ولعل من العلوم التي ارتبط بها التاريخ في الآونة الأخيرة علم الأنثروبولوجيا، الذي بات يشكل ركيزة أساسية في الكتابة والتحليل التاريخيين، من خلال إسهامه في مساعدة وتوجيه المؤرخ نحو مواضيع جديدة أغفلتها الكتابات الكلاسيكية، مع بعض الاستثناءات، ونخص بالذكر ههنا ابن خلدون الذي ساعدت كتاباته على تزكية العديد من الأطروحات التاريخية والأنثروبولوجية، لأن نظرته للمجتمع تتمسك بفكرة السكونية وتصور التاريخ الدائري/الحلزوني.
وقد ارتبط ظهور الأنثروبولوجيا بالمغرب بالفترة الاستعمارية، التي اعتبر البحث فيها استمرارا للأبحاث الاجتماعية الغربية التي ركزت على دراسة الظواهر الإنسانية في المجتمعات الأقل تقدما، للوقوف على حقيقة المراحل التي مرت منها، مطبقة عليها معيار النظرية التطورية.
ومحاولة منا لتقريب صورة الترابط ما بين التاريخ والأنثروبولوجيا كموضوع من جهة، وحضور هذا الموضوع في الكتابات التي تناولت المجتمع المغربي في الفترة المعاصرة كإطار مجالي وزمني من جهة ثانية، ركزنا في محاولتنا هذه على أهم الجوانب التي من شأنها توضيح تلك الصورة وفق مقاربة قائمة على معالجة النقط التالية:
1في مفهوم الأنثروبولوجيا
إن هذا الكائن الفريد الذي اسمه الإنسان، كان دائما ولا يزال موضوع التأمل والدراسة من قبل العديد من العلوم الطبيعية والإنسانية على حد سواء، فمنذ القديم لاحظ الإنسان بصفة عامة الفروق القائمة بين شعوب الجنس البشري،واهتم بمعرفة الطبيعة الإنسانية وتغير الاختلافات في الملامح الجسمية ولون البشرة، والعادات والتقاليد والديانات والفنون وغيرها من مظاهر الحياة، وفي إطار هذا الاهتمام والتساؤل تطورت الدراسات خلال العهود الحديثة فنشأ عن ذلك فرع جديد من فروع المعرفة اصطلح على تسميته بالأنثروبولوجيا.
والأنثروبولوجيا مصطلح ذو أصل يوناني وهو مركب من قسمين Anthropos ويعني الإنسان وLogos ويعني العلم[1]، فهو إذن علم الإنسان على مختلف المستويات،ابتداء بالمستوى الفيزيولوجي وانتهاء بالجانب الفكري أو الرمزي، لذلك عرفه البعض على أنه “التاريخ الطبيعي للجنس البشري“[2]؛ فالأنثروبولوجي بهذا المعنى يعمل على وصف الخصائص الإنسانية البيولوجية والثقافية للنوع البشري عبر الأزمان وفي سائر الأماكن ويحلل الصفات البيولوجية والثقافية المحلية، كما يعمل على تحليل النظم الاجتماعية وتفسير نتائج دراساته في إطار نظريات التطور[3].
والأنثروبولوجيا علم ينقسم إلى قسمين:
الأنثروبولوجيا الجسمانية: وتهتم بدراسة الجانب العضوي أو البيولوجي في الإنسان.
الأنثروبولوجيا الثقافية: والتي تعنى بدراسة النواحي الاجتماعية والثقافية لحياة الإنسان، يدخل في ذلك الدراسات التي تتعلق بحياة الإنسان القديم أو حضارات ما قبل التاريخ ودراسة لغات الشعوب القديمة، واللهجات المحلية[4].
وتجدر الإشارة إلى أن علم الأنثروبولوجيا له ارتباط وثيق بعلمين آخرين ذو أهمية كبيرة وهما الإثنولوجيا والإثنوغرافيا، وبالرغم من تداخل المصطلحين إلا أن مصطلح الإثنوغرافيا[5] يعني الدراسة الوصفية لأسلوب الحياة ومجموع التقاليد والعادات والقيم والأدوات والفنون والمأثورات الشعبية لدى مجموعة بشرية معينة خلال فثرة زمنية محددة، والاثنوغرافيا من أقدم فروع المعرفة في علم الأنثربولوجيا عندما قام الأوربيون بوصف القبائل والشعوب المحلية في أمريكا وإفريقيا واستراليا وآسيا، حيث وصفوا أدواتهم وعاداتهم وتقاليدهم وكل ما يتصل بثقافاتهم المادية المختلفة، وسرعان ما تبني الانثروبولوجيون هذه المعلومات واستخدموها في دراساتهم لتطوير المجتمع البشري.
أما الإثنولوجيا فتهتم بالدراسة التحليلية والمقارنة للمادة الإثنوغرافية، قصد الوصول إلى تصورات نظرية أو تصميمات بصدد مختلف النظم الاجتماعية الإنسانية من حيث أصولها وتطورها وتنوعها. وبالتالي فإن هذه العلوم هي متداخلة من حيت موضوعاتها ومناهجها، فالإثنولوجيا والإثنوغرافيا هو ما يصطلح عليه عند المدرسة الفرنسية بالأنثربولوجيا الثقافية، التي تدرس السلوك الاجتماعي الذي يتخذ في العادة شكل نظم اجتماعية كالعائلة ونسق القرابة والتنظيم السياسي والإجراءات القانونية والعبادات الدينية وغيرها، كما تدرس العلاقة بين هذه النظم سواء في المجتمعات المعاصرة أو في المجتمعات التاريخية[6]. وتجدر الإشارة أيضا إلى أن هذا الصنف من الأنثربولوجيا هو موضوع دراستنا خلال في هذه المساهمة.
2 الأنثروبولوجيا والتاريخ: أية علاقة؟
لقد كانت هناك قطيعة واسعة بين الأنثروبولوجيا والتاريخ، استمرت إلى حدود الخمسينيات من القرن الماضي، ويرجع السبب في ذلك إلى كون الأنثروبولوجيين الأوائل الغربيين كانت لهم آراء استعمارية، نظرت إلى الشعوب المستعمرة على أنها “متوحشة لا تاريخ لها” أي أنها خارجة عن نطاق الخطاب التاريخي، إلا أنه ومع بداية السبعينيات سيبدأ نوع من التقارب بين الأنثربولوجيا والتاريخ، ويظهر ذلك بصفة جلية نتيجة التجديد الذي سيعرفه كل من العلمين على حد سواء، حيث تخلت الأنثربولوجيا عن تصنيفها التقليدي للمجتمعات بين ما هو “بدائي وبدون تاريخ”وما هو “مركب وله تاريخ”[7]، فأدركت البعد التاريخي لهذه المجتمعات “المتوحشة” في الحاضر والماضي، وأيقنت أن لفهم حاضر الشعوب لا بد من معرفة ماضيها أي تاريخها وذاكرتها الجماعية وتطورها.
أما التجديد التاريخي فيرجع إلى ثلاثينيات القرن الماضي مع ظهور مدرسة الحوليات الفرنسية، بحيث توسع معها مفهوم التاريخ وأصبح أكثر شمولية، بعدما كان محدود النظرة والمنهج يهتم فقط بسرد الأخبار والوقائع السابقة، فتخلت الدراسات التاريخية تدريجيا عن التاريخ الحدثي وتاريخ الملوك والحكام، لتهتم بظواهر جديدة عبر دراسة المجتمعات والعائلة والبنية الجنسية، كما أصبح المؤرخ بذلك يهتم بدراسة الفئات المستضعفة[8]،وعليه سينفتح التاريخ على علم الأنثروبولوجيا آنذاك، وستؤثر هذه الأخيرة في الكتابة التاريخية، فظهر نتيجة لذلك صنف جديد من المناهج البحثية؛ وهو الأنثربولوجية التاريخية AnthropologieHistorique، التي تهتم بالبنى الأسرية وأنماط العيش والمعتقدات والفئات الاجتماعية[9].
فأصبح التاريخ يتناول مواضيع جديدة وفق مناهج مختلفة، إذ أضحى المؤرخ يكتب عن تاريخ التغذية، وتاريخ الجسم، والتاريخ الطبيعي للأمراض، وتاريخ السلوكات الجنسية، وعن سلوك وتنظيم المجتمع[10]، إلى غير ذلك من المواضيع التي تجاهلتها الكتابات التقليدية.
ولعل هذا ما جعل من الأنثربولوجيا ذي علاقة وطيدة مع التاريخ، حيث يتقاطعان في العديد من المواضيع، وقد نتج عن هذا التقاطع تحول فضول المؤرخ لدراسة الإنسان “المهمل” عوض الإنسان “العظيم”، ودراسة الأشكال الأولية للحياة الثقافية عوض الأدبيات الكبرى[11]. فأضحى التاريخ قائما على رؤية متعددة المقاربات، فبدل النظر إلى الوقائع التاريخية المدروسة من وجهة نظر أحادية الجانب وتفسيرها وتعليلها، أضحى لازما على المؤرخ استحضار كل العناصر والعوامل الأخرى التي قد يكون لها دور في بناء الأحداث والوقائع التاريخية.
فاعتمد المؤرخ على المقاربة الأنثروبولوجية أو السوسيولوجية، وأصبح يميل إلى دراسة الظواهر الاجتماعية للإنسان من مثلا تاريخ الزواج، الموت، علاقات القرابة داخل القبيلة، نظم العشائر، الأسر…إلى غير ذلك، ويعود الفضل في استعمال المنهج الأنثروبولوجي/السوسيولوجي داخل الدراسات التاريخية المعاصرة إلى المؤرخ فرناند بروديل، فقد اعتبر أن الأحداث التاريخية جزء من حقيقة أكبر وأكثر تعقيدا وهي المجتمع[12]، مما سمح بالكشف عن خبايا المجتمع في الماضي وفك تركيبها ومكوناتها وتحديد العلاقات والروابط بين عناصرها.
3 الأنثروبولوجيا بالمغرب: النشأة والتطور
حظي المغرب، منذ منتصف القرن 19م، باهتمام بالغ من قبل قوى أوروبية خاصة إسبانيا وفرنسا، وكانت هذه الأخيرة، بعد احتلالها لكل من الجزائر وتونس، تريد أن تضيف المغرب إلى إمبراطورتيها الاستعمارية، فقد ترسخ لديها تصور جديد حول هذا البلد الذي” لم يعد دولة بربرية ودولة العجائب والإثارة كما هو شأن الشرق“[13]، بل ” بلدا يمكن أن يصبح في يوم ما، جزءا من الإمبراطورية الفرنسية… التي يمكنها أن تقوده بخطى ثابتة نحو تطور مستقبله“[14]. ومنذ ذلك الحين، أصبح المغرب موضوعا تتقاسمه مختلف المباحث والتخصصات العلمية والأدبية، وهو ما نتج عنه تراكم معرفي لامس مختلف أوضاعه وجوانب متعددة من ماضيه وحاضره، وفي هذه الظرفية برز البحث الأنثروبولوجي حول المغرب، واستأثرت فرنسا بالجزء الأوفر منه كما وكيفا، حتى تضمن استعمار المجال الأكبر من البلاد بأقل الخسائر. ومن ثمة ازداد اهتمام الدارسين بالمجتمع المغربي على اختلاف مشاربهم ومواقعهم. ويمكن التمييز بين مرحلتين من الكتابات والدراسات الاستعمارية:
كتابات المرحلة الاستكشافية
هي كتابات بدأت قبل الحماية وتميزت باهتمام مفاجئ بالمغرب، لِما كان يشاع حوله من كونه بلدا غنيا بالثروات المعدنية والفلاحية، وانصبت هذه الدراسات على استكشاف الوسط المغربي معتمدة على المنهج الإثنوغرافي الوصفي في تحديد خصائص المجتمع والمجال المغربيين، إذ كانت تحاول إعطاء وصف دقيق للقبائل وعدد سكانها وطبيعة أنشطتها وكل ما يتعلق بالحياة اليومية بالمغرب. وهذه الدراسات الاستكشافية استوجبت القيام بمجموعة من الاستطلاعات، نظمت في البداية من قبل أشخاص غير باحثين كالقناصل والتجار الذين كانوا يسجلون ملاحظاتهم واستنتاجاتهم عما يجري بالمغرب ويبعثونها كتقارير إلى بلدانهم الأصلية[15]، ثم الأطباء حيث كان منهم من يعمل داخل البلاط ويتنقل مع السلطان في مختلف زياراته، ومنهم من كان يمارس العلاج وبالتالي ربط علاقات مباشرة مع السكان[16]، فاطلعوا على بعض قضايا البلاد ودونوها على شكل كتابات اثنوغرافية وصفية، هذا بالإضافة إلى دور البعثات التبشيرية وأنشطة السياح الاستكشافية والتخابرية[17].
إلى جانب هؤلاء جميعا، نجد ثلة من الباحثين والعلماء من تخصصات علمية مختلفة ركزوا في أبحاثهم حول المغرب، على دراسة البنية الاجتماعية محاولين تفكيكها ومعرفة التفاعلات المتحكمة فيها، وانصب اهتمامهم بالأساس على مساءلة المجتمع وتحديد مستويات التعامل مع الإنسان المغربي، من أجل ضبطه والسيطرة عليه. ومن الأسماء البارزة التي برعت في وصف المغرب وصفا اثنوغرافيا دقيقا، نذكر ريموند طوماسي الذي أصدر أول كتاب حول المغرب سنة 1842م[18]، ودوفييرييو ألفرد لوشاتولييه ولامارتنير وشارل دوفوكو وإدموند دوتي. وقد قام هؤلاء بتحرير عدة تقارير وأبحاث على إنسان ومجال المغرب، وظفت لاحقا في تعبيد الطريق للسيطرة السياسية والهيمنة العسكرية، وقد اعتبرت كتابات هذه المرحلة مرتكزا للأبحاث اللاحقة.
كتابات المرحلة المؤسساتية:
وهي كتابات تميزت ببروز واضح للأنثربولوجيا الاستعمارية المنظمة في إطار المؤسسات العلمية التي ظهرت مع بداية القرن 20مكالبعثة العلمية، المدرسة العليا للغات، المعهد العالي للدراسات المغربية[19]،وفي هذه المرحلة أصبح البحث مؤسساتيا تدعمه أجهزة السلطة الاستعمارية.
4 نماذج من الدراسات الأنثربولوجية
Å نماذج الدراسات الاستكشافية
من خلال تصفح الدراسات والأبحاث الاجتماعية التي أنجزت حول المغرب مع نهاية القرن 19 وبداية القرن 20 تتضح سيطرة المدرسة الفرنسية الجزائرية على عملية البحث، مستعملة منهج الكشف عن طبيعة المجتمع المغربي ومعرفة حركيته، وقد كان المقيم العام الفرنسي بالجزائر كامبو Cambonيشجع على توظيف الدراسات الاجتماعية والأنثربولوجية في عملية الغزو، ووفق هذا المنظور قدِم شارل دو فوكو إلى المغرب في أواخر القرن 19م وصار يجوب المدن والقبائل المغربية، فربط علاقات ودية مع بعض الزوايا كزاوية أبي الجعد، وتمكن من جمع معلومات وافرة عن المجتمع المغربي تخص طبيعة المبادلات والطرق التجارية والنشاطات المحلية، وتعرض للطوارق وسلوكهم وأخلاقهم وطباع البربر وأصلهم العرقي، وبلاد المخزن وبلاد السيبة، وعلاقة المخزن بالقبائل والزوايا، وأصبح كتابه “معرفة المغرب 1883-1884Reconnaissance au Maroc “مرجعا للاطلاع على أحوال المغرب والمغاربة [20]،أما دوفريي فقد اهتم في إطار الوصف الإثنوغرافي بدراسة الوضعية السياسية والدينية بالريف[21]، ويبقى كل من أوغست مولييراس وإدموند دوتي من أهم الباحثين المغمورين في هذا المجال.
كان مولييراس من الكتاب الأوائل المقيمين بالجزائر الذين اهتموا بدراسة المغرب حيث انصب اهتمامه على المنطقة الشمالية، ويعتبر من المؤسسين للبحث الإثنوغرافي والإثنولوجي حول المغرب ممهدا بذلك لبروز التصور السوسيولوجي، وأنجز دراسات إثنوغرافية منها كتابه الهام “المغرب المجهول LE MAROC INCONNU“[22]، الذي ظهر الجزء الأول منه سنة 1895 ويهتم بدراسة منطقة الريف، وظهر الجزء الثاني 1899، ويتناول البنية القبلية لمنطقة جبالة، وقدم الكتاب دراسة وصفية لقبائل المنطقتين بالاعتماد على معطيات جغرافية وإثنوغرافية في وصف الحدود العامة لكل قبيلة وخصائص سكانها وتحديد طبيعة اللغة، كما اهتم بإعطاء وصف عن الشكل التنظيمي للبنية العسكرية (عدد الجنود نوع السلاح)، والبنية الاقتصادية(الفلاحة، الصناعة التقليدية، التجارة)، ثم البنية السياسية (السلطة الداخلية للقبائل، وعلاقتها بالمخزن)[23]. وساهم هذا العمل في تطور الأبحاث والمقاربات الأنثربولوجية للمجتمع المغربي.
أما إدموند دوتي فقد قام بمجوعة من الرحلات الاستكشافية بالمغرب ما بين 1900 و1910، من أهمها الرحلة التي زار خلالها بعض القبائل الواقعة بين الدار البيضاء ومراكش، والرحلة التي انطلق فيها من مراكش إلى الصويرة مرورا بالأطلس الكبير،وقد دون انطباعاته وملاحظاته في عدة كتب منها: “مراكش“سنة 1904، و” النظام العائلي والنظام الاجتماعي بحاحا” 1906، و” السحر والدين في شمال إفريقيا” 1908، و”في القبيلة” 1914، واهتم فيها بحياة القبيلة المغربية وتحليل علاقتها بالمخزن، وتطرق كذلك إلى بعض الزوايا ودورها الاجتماعي والديني والاقتصادي وعلاقتها هي الأخرى بالسلطة الحاكمة[24].غير أنه ركز على الجوانب السلبية في الواقع المغربي وحاول تشويهه. وهذا ما يعكسه بالأساس كتابه “النظام العائلي والنظام الاجتماعي بحاحا“، حيث أكد فيه على أن سكان هذه المنطقة متوحشون وبدائيون وأعطى أمثلة عن ذلك منها:
أن مقاومة سكان حاحا للأجنبي تحت اسم الجهاد هي نوع من التزمت ورفض الآخر ونزوع إلى الحرب، مخالفة بذلك القيم الغربية من قبيل الدفاع عن الوطن والتمسك بالحق الوطني والأرض، وبعيدة كل البعد عن الالتزام السياسي. فهذه المقاومة المشروعة للمغاربة عند دوتي هي بكل بساطة واختصار نزعة متطرفة في حب الحرب والقتال.
أن المكانة التي تحظى بها المرأة في مجتمع حاحا وعلاقتها بالرجل، داخل وخارج مؤسسة الزواج، والمبنية على الاحترام والقواعد الشرعية ما هي إلا سمة من سمات المجتمعات البدائية التي ترى في المرأة كائنا مختلفا عن الرجل.
نماذج الدراسات العلمية
مع توالي الكتابات الإثنوغرافية السابقة، ظهرت إرهاصات لدراسات منظمة على المستوى المنهجي والتحليلي والنظري، تبلورت خلال المرحلة الاستعمارية إلى كتابات أثنربولوجية سوسيولوجية ضخمة حول المناطق المغربية، خاصة كتابات ميشو بيلير وروبير مونطاني وجاك بيرك.
وصل مشو بيلير إلى المغرب سنة 1900 وانصب على دراسة البنيات الاجتماعية المغربية واهتم بالنسق القبلي وبالخصوص القبائل المتواجدة بسهول الغرب وبالنسق المخزني والعلاقة بين القبيلة والمخزن، وكذلك بالدور الديني والاجتماعي والاقتصادي للزوايا، حيث يرى أن المجتمع المغربي يقوم على منطق ثنائي متعارض: بلاد المخزن/بلاد السيبة.[25]
فالقبيلة، في نظره، تعترف فقط بالسلطة الدينية والسيادة الروحية للمخزن دون أن تعترف كليا بسلطته السياسية وبجهاز السلطان الإداري. ومن تم فهي، باعتبارها بلاد السيبة (خاصة القبائل الجبلية)، نظام منغلق ومنعزل عن الحياة السياسية الشرعية والتنظيمات المخزنية، لها بنى سياسية ونمط اقتصادي وطقوس وأعراف وسلاح ولهجة خاصة بها،واعتبرها كوحدة تقوم على الامتلاك الجماعي لنفس الحاجيات والمصالح والأهداف والوسائل[26].
أما روبير مونطاني الضابط في البحرية الفرنسية، فقد التحق بالمغرب كملاحظ مدني بالمهدية، لكن سرعان ما أعفاه هوبير ليوطي من مهامه العسكرية وأوكل إليه مهمة البحث حول المغرب[27]، فتجول وجاب الجنوب المغربي، وألف سنة 1930 كتاب”البربر والمخزن في جنوب المغرب“[28] وهو أطروحة انثروبولوجية تاريخية[29]، تؤسس للكتابات الاجتماعية المتخصصة التي تعتمد المقاربة التحليلية أكثر من الوصفية[30]،إذ لم يكتف بوصف مظاهر الحياة القبلية بأبعادها الاجتماعية والثقافية والمجالية، بل تجاوز ذلك إلى تقديم تفسيرات لها من خلال البحث عن العلاقات والروابط والتفاعلات المؤطرة لها. وقد حاول أن يؤسس نظرية النظام القبلي، فتطرق، بكثير من التفصيل والتحليل، إلى أهم مكونات البناء الاجتماعي والسياسي للقبائل الجنوبية، لمعرفة طبيعة المجتمع والحكم.
يتميز هذا النظام بسلطة محلية، حاول مونطاني شرح أصولها ” فكان يصف في أطروحته، بدقة، أسس تلك الدولة البربرية الجزئية، وإن كانت تقوم في الظاهر على مبدأ ديمقراطي، فهي في الواقع تعني ممارسة حكم الأقلية. فكان الشيوخ (الأمغار) يتوصلون، بواسطة الأحلاف العائلية والحيل السياسية والاستيلاء على الماء ووسائل الإنتاج، إلى توسيع نفوذهم ليؤسسوا في الأخير دولا حقيقية واسعة الامتداد، لها استقلالها وسياستها الخارجية“2، كما يتميز هذا النظام أيضا بتراتبية اجتماعية تتدرج من القبيلة، كمكون ووحدة اجتماعية واقتصادية كبرى تتحدد بوحدة المجال*والمصالح والعادات، إلى المدشر كأصغر مكون ووحدة اجتماعية تتقوى داخلها الروابط الدائمة بين الأسر كضرورة لحمايته والدفاع عنه[31].
تبنى مونطاني في أبحاثه المنطق التعارضي(المخزن/ السيبة، البربر/ العرب،…) على المستويات الاجتماعية والعرقية والتنظيمية والسياسية، وانطلق في التعبير عن أطروحة هذا التعارض من فكرة أن القبائل البربرية لم تفقد خصوصياتها السياسية وبنياتها الاجتماعية إلا بسبب تدخل العنصر العربي المخزني، وقد بنى تصوره هذا من خلال تعميم نتائج دراسته لقبائل الأطلس الكبير على باقي المناطق المغربية الأخرى، لاسيما المناطق الجبلية، ليخلص في الأخير إلى مبدأ محوري في فهم هذه المناطق هو أن الجبال بالمغرب هي بلاد السيبة والفوضى، الساخطة على سلطة المخزن وسياساته.
مجمل أفكار هذا الباحث الاجتماعي يلخصها بالأساس كتابه السابق (البربر والمخزن..)[32] الذي أعتمد في صياغته على التاريخ الاجتماعي والسياسي للمنطقة من خلال الوثائق الفقهية والتاريخية والمعلومات الشفهية.
هناك باحث آخر تعتبر أعماله ذات أهمية خاصة ومكانة متميزة في البحث الأنثروبولوجي والتنظير السوسيولوجي بالمغرب، إنه جاك بيرك الذي كان مراقبا مدنيا، وعاش جزءا كبيرا من حياته محتكا بالرجال والأحداث التي شهدها المغرب العربي. أصبح بحكم تكوينه التاريخي مؤرخا اجتماعيا حيث انصب عمله، في ما بين الحربين، وبصفة خاصة، على التاريخ الاجتماعي للعالم القروي وعلى القانون والثقافة التقليدية بالمنطقة المغاربية. وبعد أن أقام مدة طويلة في ناحية مراكش، درس عن كثب البنيان الاجتماعي لقبائل سكساوة حيث اهتم بوصف وشرح عناصر النظام الاجتماعي لهذه القبائل وخلص إلى أن سمته الأساسية هي عدم التوازن بين ما هو اجتماعي وما هو اقتصادي[33]. وأشار إلى أن الوحدة الاجتماعية داخل النظام القبلي ليست من النوع الجغرافي كما أشار روبير مونطاني، بل هي من النوع السلالي، فالخلية الأساسية هي “العظم” أو الجد المشترك الذي يعتبر قاعدة النظام الزراعي وإطار الحياة اليومية[34].
5 الأنثروبولوجيا الاستعمارية وإشكالية الاستعمال المنهجي
منذ فجر الاستقلال، انكب الباحثون المغاربة على قراءة وتحليل الدراسات الاستعمارية وتمحيصها لمعرفة هوياتها وخلفياتها، ثم ايديولوجياتها ومراميها التي وجهتها، قبل وأثناء غزو المغرب، مٌتَحَدِّين ما قد يعترض هذا النوع من الأبحاث من صعوبة يمكن أن تطرحها طبيعة تلك الكتابات، سواء من حيث تعدد تخصصاتها الموضوعاتية أو مقارباتها المنهجية وهو ما نلمسه، بالخصوص، في البحث الانثروبولوجي الاجتماعي، باعتباره العلم المعرفي الأكثر ارتباطا، عمليا، بالسياسة الاستعمارية لخدمة أهدافها بالمغرب.
ولأن المسؤولية التاريخية والموضوعية العلمية، تدفعان منفردتين أو مجتمعتين بكل ذي علم قادر على كشف الحقيقة، إلى اقتحام ميدان البحث، توحدت الفعاليات الثقافية المغربية، وتضافرت جهودها، خاصة في حقل البحث التاريخي/الاجتماعي، فلاَحَ في أفق النهوض بهذا المشروع زخم ثقافي رزين وبرزت كتابات تاريخية اجتماعية…قيمة، خلال الفترة الأخيرة، تجند أصحابها بالمعرفة العلمية والفكر النقدي، منادين بضرورة إعادة كتابة تاريخ المغرب، وفق مناهج ورؤى جديدة، تُعَرّي وتدحض اللا موضوعية في الكتابات الاستعمارية التي احتكرته زمنا طويلا. وقد كان هؤلاء الباحثون يحاولون إزالة التصور الاستعماري لماضي المغرب، بإبراز عيوب هذه الكتابات وإظهار الشخصية العربية الإسلامية للمغرب ومزايا ماضيه الذي لا مناص منه لصياغة تاريخية واعدة. وقد اعتمد هذا التيار على مبدأين أساسيين، أولهما الرد على الاتهامات الموجودة في مضمون الكتابات الاستعمارية بالتشكيك في فهم الغربيين لخصوصية الدولة العربية الإسلامية. ثانيهما إعادة فهم النصوص والوثائق التي قرأها مؤرخوا العهد الاستعماري قراءة معينة.[35]وسنحاول الاستدلال على كل ذلك ببعض النماذج.
فجرمان عياش فند وقوض، من خلال دراساته المختلفة[36]،الأسس النظرية التي قامت عليها الاستوغرافيا الاستعمارية، واثبت وحدة الدولة المغربية وتشبت القبائل بوطنيتها، ولذلك فإنه لا يبقى مجال للحديث عن ثنائية “بلاد السيبة ” مقابل “بلاد المخزن” أو العرب مقابل البربر”، واعتمد في ذلك على الوثائق المغربية، خاصة الوثيقة المخزنية، دون غيرها من الوثائق الأجنبية كالوثائق الديبلوماسية والقنصلية الأوربية، لأن مهمة دحض الأطروحة الاستعمارية، أملت عليه الإعراض عن دراسات الأوربيين[37]، غير مستبعد أن يكون هؤلاء قد أنجزوا أبحاثهم في إطار صراع فكري فرض عليهم أن يخلصوا إلى نتيجة مسبقة، وهي أن المغرب لم يعد دولة قارة قادرة على القيام بذاتها بسبب الفوضى(السيبة)، وبالتالي فهو في حاجة إلى تدخل دولة تحمل إليه الحضارة، وهذه النظرية لم تصلح لتبرير الغزو قبل وقوعه ولم تصلح كذلك بعده لإقناع الرأي العام بأوربا بأن مقاومة القبائل سمة من سمات التخلف[38].
وتبنى عبد الكبير الخطيبي وجهة نظر جديدة تكشف عن الوعي بضرورة نقد الخلفيات الايديولوجية للكتابات الاجتماعية الاستعمارية، وهو ما يتضح في الموقف الذي عبر عنه بالدعوة إلى القيام بنقد مزدوج للتراث السوسيولوجي الآتي من الثقافة العربية الإسلامية الوسيطية ومن الثقافة الغربية المعاصرة في آن واحد.[39]ومن خلال اشتغاله على الإنتاجات الاستعمارية التي اهتمت بدراسة البنية الاجتماعية للمغرب، وتتبعه عن كثب مناهجها وتحليلاتها لـ ” الميكانيزمات” المتحكمة في سيرورة هذه البنية، خلص إلى أن خطاب أصحاب تلك الدراسات كانت توجهها ايديولوجية استعمارية “ذلك أن النظرية التي انتهوا إليها عبر دراساتهم وأبحاثهم لم تكن تهدف إلا إلى خلق نظرية للسيطرة“[40].
وينطلق محمد وقيدي في مؤخذاته ونقده للأنثربولوجيا الاستعمارية من دراسة خلفياتها الإيديولوجية، بمعنى البحث في الشروط المعرفية والمجتمعية والتاريخية التي نشأ فيها هذا العلم .. ونظرياته ومفاهيمه، وتوصل إلى أن المشكلات التي اتجه إليها البحث الاجتماعي الاستعماري لم تكن تمليها اهتمامات نظرية متخصصة فحسب، بل فرضتها سياسة وأهداف السلطة الاستعمارية.[41]وكشف أيضا عن امتزاج التحليل الموضوعي بوجهة النظر الشخصية “التابعة طبعا للأهداف التي كانت توجه السياسة الفرنسية في المغرب“[42].
ونفس الاتجاه نجده محمد عابد الجابري الذي عاب على أيديولوجيي الاستعمار الفرنسي الخلط بين رغباتهم وطموحاتهم التوسعية، وبين بعض المظاهر السطحية من الواقع المغربي منها مظهران أساسيان: أولهما عمل بعض القبائل بالعرف بدل الشرع الإسلامي في مجال الإرث، وثانيهما انقسام المغرب إلى بلاد “المخزن” وبلاد “السيبة”، فقرؤوا في الأول تمردا على الإسلام، وفي الثاني ثورة على السلطان، ولأن هذا الأخير عربي النسب فقد خلصوا إلى أن البربر يرفضون الإسلام والعروبة[43].
وتجدر الإشارة إلى أن هذا النقاش ظل سائدا ولمدة طويلة حول مدى أهمية توظيف الكتابة التاريخية الاستعمارية في البحث التاريخي المغربي، وبدأ يعرف تحولات عبر مجموعة من المراحل التي واكبت تطور البحث نفسه.
ومع بداية السبعينيات من القرن الماضي سيعرف هذا النقاش تغيرا ملحوظا، إذ أصبح الإقرار بحضور الإيديولوجية في الكتابات الاستعمارية من قبيل تحصيل حاصل حسب تعبير عبد الأحد السبتي[44]، وأضحى التحرر من عقدة الإسطغرافيا الاستعمارية ضرورة ملحة. وبالتالي الاعتراف بأهمية الاعتماد على الأرشيف والكتابات الغربية، وفق حذر منهجي في التعامل مع نوايا ومواقف أصحابها، إذ لا يكفي حسب محمد المازوني الإعراض عنها من منطق يحكمه الحس الوطني لتجاوزها والقول بأنها عديمة الفائدة[45]، بل العكس من ذلك فهي تفيد الباحث في الكثير من القضايا وفي مختلف التخصصات لما تتوفر عليه من الغزارة من حيث المعلومات والاجتهادات في التحليل.
ولقد أصبح في حكم الثابت لدى غالبية المؤرخين أنه من اللازم تجاوز وهم أن تكون هذه الكتابة عديمة القيمة، إذ يمكن أن تَكون، عبر سجال علمي حقيقي، دافعا قويا لبلورة إشكاليات جديدة لدراسة تاريخ المغرب، وطرق مقاربات تواكب المستجدات المنهجية والمعرفية، وبالتالي ستصبح مسألة التحرر من عقدة التاريخ الاستعماري مجرد ذكرى في مسار هذا التجديد.
ويعتبر عبد الله العروي من الرواد الأوائل الذين دعوا إلى التريث في التعامل مع الكتابة الاستعمارية، مؤكدا أن عملية تجاوز نظريات ومعارف هذه الكتابة تتطلب نفسا طويلا وشروطا كثيرة مازال البحث العلمي الوطني في حاجة إليها ” إذ لا يكفي النقد المجرد لإبدالها بتاريخ إيجابي موضوعي”.
واقتفى محمد المازوني أثر سابقه حيث لا يمانع في توظيف تركة الاستعمار الفكرية في إعادة كتابة تاريخ المغرب شريطة إعمال النظر الفاحص والعقل الناقد ” إذ لا يكفي الإعراض عنها من منطلق يحكمه الحس الوطني لتجاوزها أو القول بأنها عديمة الفائدة.”
وإذا كان محمد جسوس يقر بالطابع الاستعماري للكتابات الأجنبية ويربطها بتوجهات إيديولوجية لخدمة أهداف مرحلية، فإنه لا يؤيد فكرة التخلي بالمرة عن هذه الكتابات ويحذر من التغاضي عن قيمتها المنهجية حيث يقول:“…وهنا لابد من الاحتياط من عدم السقوط في نزعة رفض كل ما هو أجنبي وتثمين كل ما هو أهلي، فهل معني هذا أن هناك امتياز إبستيمولوجي للأهالي؟ وإلى أي حد يمكن اعتبار الإنتاج الاستعماري استعماريا بالفعل؟ لهذا فإن الإنتاج الأجنبي لا يعني التحريف بالضرورة أو أن الوطني يعني المصداقية والصحة، لأن المسألة لا تتعلق بالحقيقة أو الخطأ. بل باستراتيجيات تخدم مصالح محدودة. ومن ثمة فالمطروح علينا هو الاندماج في مسلسل إنتاج المعرفة العلمية على الصعيد الدولي حسب شروط الصراع الحالي، وإن كانت إمكانياتنا لا تفي الغرض على الوجه المطلوب“[46].
خلاصة :
انتقلت الأبحاث المتعلقة بالمجتمعات الأوروبية خلال القرن 19م إلى الانصباب علي دراسة المجتمعات غير الغربية، وفق مقاربة تاريخية أنثربولوجية شكل المغرب موضوعا خصبا لها، فتوالت الكتابات الأنثربولوجية الاجتماعية متخذة صورا أكثر تقدما لأنها كانت موجهة نحو أهداف عملية مرتبطة بالحركة الاستعمارية، ذلك أن معظم الباحثين في البنية الاجتماعية المغربية والذين صدرت عنهم مجموعة من الأبحاث كانوا مرتبطين بالسلطة الاستعمارية، وبالتالي كانت أبحاثهم تلك تنجز وتوضع في خدمة المخططات والأهداف الاستعمارية، بل أكثر من ذلك فإن كثيرا منهم كان في الوقت ذاته جزءا من هذه السلطة، وأثبت فاعليته في مجموعة من الأحداث التي كادت تزعزع الوجود الاستعماري بالمغرب.
وإذا كان ظهور الأنثربولوجيا بالمغرب مرتبطا بالدراسات الاستعمارية، فإن العودة لهذا الإرث والكم الهائل من المعلومات أصبح ضرورة ملحة لكل من أراد دراسة قضايا متعددة في تاريخ المغرب، بمنطق المنهج النقدي والفحص العلمي، للاستفادة مما وفرته تلك العينات من الباحثين، من أصناف متنوعة من الوثائق والمعطيات التي همت على الأقل الحوادث العادية والأمور غير الموجه أو المراقبة بسلطة معينة، ونفس المنطق يجب أن تخضع له كذلك الكتابات الوطنية، بعيدا عن كل إديولوجية أو نزعة قد تؤثر على الحقيقة التاريخية، في إطار النقد المزدوج الذي دعا إليه عبد الكبير الخطيبي، وهي الفكرة التي لم تقتصر حسب محمد وقيدي على مجرد الوعي بالسمة الإديولوجية لفكر الغير دون أن تخلق في ذاتها الشروط التي تجعلها تتجاوز المنطق الإديولوجي إلى ممارسة النقد، وهذه في نظرنا دعوة، وإن كانت تلميحا، إلى الجيل الجديد للتأهب لتعميق البحث في هذا الاتجاه.
قائمة المصادر والمراجع:المراجع العربية:
أحمد المكاوي، الدور الاستعماري والإختراقي للطبابة الأوروبية بالمغرب، ، منشورات زمن، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، 2009.
أندري بورغيير، الأنثروبولوجيا التاريخية، ترجمة محمد حبيدة، مجلة أمل العدد الخامس، 1994.
بن سليمان فريد، مدخل إلى دراسة التاريخ، مركز النشر الجامعي،2000 .
بوطالب إبراهيم، البحث الكولونيالي حول المجتمع المغاربي، حصيلة نقدية، ضمن أعمل ندوة البحث في تاريخ المغرب حصيلة وتقويم، منشورات كلية الآداب والعلوم الانسانية الرباط، سلسلة ندوات ومناظرات رقم 14، 1989.
جسوس محمد، العقلانية والمشروع العربي، مجلة الوحدة، المجلس القومي للثقافة العربية، الرباط، العدد 26 27، 1986.
حسن فهيم، قصة الأنثروبولوجيا: فصول في تاريخ علم الإنسان، عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت،1986.
الزين عبد افتاح، السوسيولوجيا في المغرب من إعلان الحماية الفرنسية إلى المرحلة الراهنة، مجلة المستقبل العربي، العدد 146، 1991.
السبتي عبد الأحد، التاريخ الاجتماعي ومسألة المنهج: ملاحظات أولية، ضمن أعمل ندوة البحث في تاريخ المغرب حصيلة وتقويم، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية الرباط، سلسلة ندوات ومناظرات رقم 14، 1989.
عابد الجابري محمد، المغرب المعاصر: الخصوصية والهوية .. الحداثة والتنمية، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 1988.
عبد العزيز علوي الأمراني، من تاريخ السرد إلى تاريخ النقد نحو تطور المعرفة التاريخية في الوطن العربي، مجلة فكر ونقد، عدد 84، 2006.
عبد الكبير الخطبيي، مراحل السوسيولوجية بالمغرب 1912-1976، ضمن مجلة العلوم الإنسانية والاجتماعية، جامعة محمد الخامس، السويسي، المعهد الجامعي للبحت العلمي، العدد 48، 2004.
عبد الكبير الخطيبي، إلى أين تسير السوسيوجيا؟، ترجمة عمر بنعياش، مجلة العلوم الإنسانية والاجتماعية، جامعة محمد الخامس، السويسي، المعهد الجامعي للبحث العلمي، عدد 48، 2004.
علي بولربح، الدراسات الكلونيالية حل المنطقة الشمالية المغربية، نموذج أوكست مولييراس، ضمن مجلة كلية الآداب والعلوم الإنسانيةـ جامعة عبد الملك السعدين تطوان، العدد 6ن 1993.
عياش جرمان، اتجاه جديد للبحث التاريخي في المغرب، ضمن أعمال ندوة البحث في تاريخ المغرب: حصيلة وتقويم، منشورات كلية الآداب والعلوم الانسانية، جامعة محمد الخامس، الرباط، 1989.
فرانسوا فوري، التاريخ والإثنوغرافيا، ترجمة محمد حبيدة، مجلة أمل العدد التاسع، 1997.
المازوني محمد، الكتابة التاريخية الكلونيالية: بين أطروحة الرفض والاستعمال المنهجي، مجلة مناهل العدد 87..
المختار الهراس، القبيلة والسلطة وتطور البنيات الاجتماعية في شمال المغرب، المركز الوطني لتنسيق وتخطيط البحث العلمي والتقني، منشورات الرسالة، 1988.
مروان مصطفى، الكتابة التاريخية بالمغرب: إشكالات مطروحة، مجلة فكر ونقد، العدد 34.
المنصور محمد، الكتابة التاريخية بالمغرب خلال ثلاثين سنة (1956-1986): ملاحظات عامة، ضمن أعمال ندوة البحث في تاريخ المغرب: حصيلة وتقويم، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة محمد الخامس، الرباط، 1989.
وقيدي محمد، العلوم الإنسانية والإديولوجيا، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط 3، 2011.
وقيدي محمد، مكونات المغرب وسياساته، مطلعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، ط1، 2001.
المراجع الأجنبية :
Montagne R, Les bérbers et le Makhzen dans le sud au Maroc : essai sur la transformation politique des bérbers sédentaires (goupe chleuh). ED, Felix Alcan, paris 1930.
[1] بن سليمان فريد، مدخل إلى دراسة التاريخ، مركز النشر الجامعي،2000 ص 127.
[2]المرجع نفسه.
[3] حسن فهيم، قصة الأنثروبولوجيا: فصول في تاريخ علم الإنسان، عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت،1986، 13-14.
[4] حسن فهيم، قصة الأنثروبولوجيا، مرجع سابق، ص 14.
[5] يعرف قاموس الأنثربولوجي اللدكتور شاكر سليم الإثنوغرافيا بأنها “علم وصف حضارة شعب معين يرسم صورة دقيقة لطرائق معيشته ونظمه وعلاقاته الاجتماعية”، ويقول إن الفرق بين الإثنوغرافيا والإثنولوجيا أن العلم الأخير يركز على المقارنة بين الحضارات الغابرة منها والمعاصرة كما يميل إلى الدراسات النظرية، يراجع: قصة الأنثروبولوجيا، مرجع سابق، ص 15.
[6] حسن فهيم، قصة الأنثروبولوجيا، مرجع سابق، ص 16.
[7] بن سليمان فريد، مدخل إلى دراسة التاريخ، مرجع سابق، ص 128.
[8] أندري بورغيير، الأنثربولوجيا التاريخية، ترجمة محمد حبيدة، مجلة أمل العدد الخامس، 1994، ص 101.
[9] بن سليمان فريد، مدخل إلى دراسة التاريخ، مرجع سابق، ص 128.
[10]بورغيير، الأنثروبولوجيا التاريخية، مرجع سابق، ص ص: 105-113.
[11] فرانسوا فوري، التاريخ والإثنوغرافيا، ترجمة محمد حبيدة، مجلة أمل العدد التاسع، 1997، ص 90.
[12] عبد العزيز علوي الأمراني، من تاريخ السرد إلى تاريخ النقد نحو تطور المعرفة التاريخية في الوطن العربي، مجلة فكر ونقد، عدد 84، 2006، ص ص: 16-17.
[13] الهروي الهادي، القبيلة، الإقطاع والمخزن: مقاربة سوسيولوجية للمجتمع المغربي الحديث، 1844-1943، مطبعة إفريقيا الشرق، 2005، ص 23.
[14]المرجع نفسه، ص 24.
[15] بوطالب إبراهيم، البحث الكولونيالي حول المجتمع المغاربي، حصيلة نقدية، ضمن أعمل ندوة البحث في تاريخ المغرب حصيلة وتقويم، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية الرباط، سلسلة ندوات ومناظرات رقم 14، 1989، ص ص: 111-113.
[16] وفي هذا الإطار أنظر كتاب، الدور الاستعماري والإختراقي للطبابة الأوروبية بالمغرب، لأحمد المكاوي، منشورات زمن، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، 2009.
[17] بوطالب إبراهيم، البحث الكولونيالي حول المجتمع المغاربي، مرجع سابق، ص 113.
[18] الهروي الهادي، القبيلة، الإقطاع والمخزن…، مرجع سابق، ص 25.
[19] بوطالب إبراهيم، البحث الكولونيالي حول المجتمع المغاربي، مرجع سابق، ص 122
[20] المرجع نفسه، ص 25.
[21] المرجع نفسه. نفس الصفحة.
[22] علي بولربح، الدراسات الكلونيالية حل المنطقة الشمالية المغربية، نموذج أوكست مولييراس، ضمن مجلة كلية الآداب والعلوم الإنسانيةـ جامعة عبد الملك السعدين تطوان، العدد 6ن 1993، ص 203.
[23] علي بولربح، الدراسات الكلونيالية حل المنطقة الشمالية المغربية، مرجع سابق،صص:230-233.
[24] الهروي الهادي، القبيلة، الإقطاع والمخزن، مرجع سابق، ص 55.
[25] المرجع نفسه، ص 56.
[26] المختار الهراس، القبيلة والسلطة وتطور البنيات الاجتماعية في شمال المغرب، المركز الوطني لتنسيق وتخطيط البحث العلمي والتقني، منشورات الرسالة، 1988، ص 27.
[27] عبد الكبير الخطبيي، مراحل السوسيولوجية بالمغرب 1912-1976، ضمن مجلة العلوم الإنسانية والاجتماعية، جامعة محمد الخامس، السويسي، المعهد الجامعي للبحت العلمي، العدد 48، 2004، ص 16.
[28] Montagne R, Les bérbers et le Makhzen dans le sud au Maroc : essai sur la transformation politique des bérbers sédentaires (goupe chleuh). ED, Felix Alcan, paris 1930.
[29] توفر الأنثربولوجيا أدوات من شأنها أن تثري الدراسة التاريخية والاجتماعية.
[30] المختار الهراس، القبيلة والسلطة والمخزن….،مرجع سابق، ص ص 28- 32.
* للمزيد من التفصيل حول انتظام المجموعات داخل القبيلة، أنظر كتاب: المجتمع المغربي في القرن التاسع عشر (اينولتان 1850-1912)، أحمد التوفيق، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، الرباط، ط2، 1983. ص 105.
[31] Montagne R, Les bérbers et le Makhzen dans le sud au Maroc , op cit, pp 152-153.
[32]إضافة إلى كتاب “البربر والمخزن في جنوب المغرب”، ألف روبرمونطاني كتب أخرى من أبرزها:
“حضارة الصحراء“، باريس 1944.
“ثورة في المغرب“، باريس 1953.
[33] عبد الكبير الخطيبي، إلى أين تسير السوسيوجيا؟، ترجمة عمر بنعياش، مجلة العلوم الإنسانية والاجتماعية، جامعة محمد الخامس، السويسي، المعهد الجامعي للبحث العلمي، عدد 48، 2004، ص 123.
[34]التوفيق أحمد، المجتمع المغربي في القرن 19…، مرجع سابق، ص 106.
[35] مروان مصطفى، الكتابة التاريخية بالمغرب: إشكالات مطروحة، مجلة فكر ونقد، العدد 34، ص 68.
[36] معظم هذه الدراسات جمعت في كتاب Etudes du Histoire marocaine الذي نشر في سنة 1923.
[37] المنصور محمد، الكتابة التاريخية بالمغرب خلال ثلاثين سنة (1956-1986): ملاحظات عامة، ضمن أعمال ندوة البحث في تاريخ المغرب: حصيلة وتقويم، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة محمد الخامس، الرباط، 1989، ص 21.
[38] عياش جرمان، اتجاه جديد للبحث التاريخي في المغرب، ضمن أعمال ندوة البحث في تاريخ المغرب: حصيلة وتقويم، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة محمد الخامس، الرباط، 1989، ص31.
[39] وقيدي محمد، العلوم الإنسانية والإديولوجيا، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط 3، 2011، ص 228.
[40] الزين عبد افتاح، السوسيولوجيا في المغرب من إعلان الحماية الفرنسية إلى المرحلة الراهنة، مجلة المستقبل العربي، العدد 146، 1991، ص 121.
[41] وقيدي محمد، العلوم الإنسانية والإديولوجيا، مرجع سابق، ص 230.
[42] وقيدي محمد، مكونات المغرب وسياساته، مطلعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، ط1، 2001، ص32.
[43] عابد الجابري محمد، المغرب المعاصر: الخصوصية والهوية .. الحداثة والتنمية، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 1988، ص93.
[44] السبتي عبد الأحد، التاريخ الاجتماعي ومسألة المنهج: ملاحظات أولية، ضمن أعمل ندوة البحث في تاريخ المغرب حصيلة وتقويم، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية الرباط، سلسلة ندوات ومناظرات رقم 14، 1989، ص46.
[45] المازوني محمد، الكتابة التاريخية الكلونيالية: بين أطروحة الرفض والاستعمال المنهجي، مجلة مناهل العدد 87، ص48.
[46]جسوس محمد، العقلانية والمشروع العربي، مجلة الوحدة، المجلس القومي للثقافة العربية، الرباط، العدد 26 27، 1986، ص 219.