
القراءة المنهجية للنصوص وتنمية التفكير النقدي لدى المتعلم
The methodical reading of texts and the development of critical thinking in the learner
ط.د. نِتْلَاغْ عبد الله/جامعة محمد الخامس، المغرب
NITLARH ABDALLAH. Researcher in PhD/, Mohammed V University, Morocco
مقال نشر في مجلة جيل العلوم الانسانية والاجتماعية العدد60 الصفحة 33.
ملخص:
تهدف هذه المقالة إلى إبراز مدى مساهمة القراءة المنهجية للنصوص، داخل الثانوية المغربية، في تنمية التفكير النقدي Critical Thinking)) لدى المتعلم. ومما لم يعد يخفي، اليوم، أن تنمية مهارات التفكير النقدي أصبحت من الوظائف الملِحَّة والمهمة التي على المؤسسة التعليمية أن تقوم بها أحسن قيام، إذا ما أردنا مسايرة التطورات المتسارعة التي يعرفها عصرنا الحالي، وتخريج أفراد قادرين على مواجهة التحديات التي تفرضها تلك التطورات.
وقد لاحظ الباحثُ أن القراءة المنهجية، بما هي مقاربة تدريسية للنصوص، تتضمن العديد من الخصائص والمميزات التي تجعلها قادرة على تنمية مهارات التفكير النقدي، مثل: التربية على الاستقلالية، والالتزام بالمنهجية، والدعوة إلى الإيجابية، وتبرير الأحكام، والتعددية…. وغيرها من الصفات التي تُسْهِمُ في تكوين فرد يفكر تفكيرا نقديا تجاه ما يتلقاه من أفكار وأخبار و”حقائق”.
الكلمات المفتاحية: القراءة المنهجية – التفكير – التفكير النقدي – مهارات التفكير النقدي – الاستقلالية – النسبية.
Abstract :
This article aims to highlight the contribution of the methodical reading of texts, within the Moroccan secondary school, to the development of critical thinking. It is no secret that the development of critical thinking skills has become an urgent and important task for the educational institution to do, if we want really follow the rapid developments of our time and to graduate individuals who are able to meet the challenges posed by these developments.
The researcher noted that methodical reading, as a teaching approach to texts, includes many characteristics and features that make it capable of developing critical thinking skills, such as: education on independence, adherence to methodology, advocacy of positive, justification of judgments, pluralism … and others of qualities that contribute to the formation of an individual who think critically about the ideas, news and “facts” he receives.
keywords : Methodical Reading – Thinking – Critical Thinking – Critical Thinking Skills – Independence – Relativity.
مقدمة:يشهد العالم اليوم تطورات متسارعة عديدة في كافة المجالات، الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية … وهذه التطورات تفرض على المؤسسة التعليمية تحديات عديدة على رأسها تكوين أفراد ذوي كفاءات عالية قادرين على مواجهة تلك التحديات بما يلزم من جدية و مهارة. ويعتبر تحليل النصوص الأدبية من الدروس التقليدية التي دأبت المدرسة المغربية على تلقينها للمتعلمين من خلال تبني مقاربات مختلفة آخرُها مقاربة القراءة المنهجية (la lecture méthodique)
وهذه المقاربة التحليلية- المعمول بها حاليا في السلك التأهيلي في المدرسة المغربية – في تدريس النصوص الأدبية، يراها الباحثُ مقاربة واعدة وذات فائدة كبيرة في تنمية مهارات التفكير النقدي لدى المتعلم، لاشتمالها (أي القراءة المنهجية) على مبادئ وخطوات تؤهلها للقيام بذلك، مع توفر الشروط الضرورية لتنمية تلك المهارات.
1- القراءة المنهجية: الأسس والمرتكزات:
1.1- تعريف القراءة المنهجية:
القراءة المنهجية مقاربة ديدكتيكية لتدريس النصوص الأدبية في المؤسسة التعليمية. وقد ورد هذا المصطلح بداية في السياق التربوي الفرنسي مع نهاية الثمانينيات من القرن الماضي، لتعويض طريقة شرح النصوص (L’explication des textes) التي كانت سائدة في المدارس الفرنسية. وتم استقدامها إلى السياق التربوي المغربي مع منتصف التسعينيات من القرن الماضي.
وتٌعرف الجريدة الرسمية للتربية (الصادرة عن وزارة التربية الفرنسية) المؤرخة بتاريخ: 5-2-1987 القراءة المنهجية كالتالي:
” إن القراءة المنهجية قراءة مدروسة ومعدة بإحكام، تمكن التلاميذ من إثبات أو تصحيح ردود أفعالهم الأولى كقراء. ويستدعي اختلاف أنواع النصوص… منهجيات قرائية متعددة تتبلور من خلال سير العمل. وتسمح متطلبات القراءة المنهجية بمنح قدر أكبر من الصرامة لما كان يسمى، عادة، شرح النص” . [1]
وتعود الجريدة الرسمية نفسها إلى الحديث، مرة أخرى، عن القراءة المنهجية في عددها الصادر بتاريخ 9 يونيو 1988 منبهة إلى ” أنه حفاظا على خصيصة النص كنسيج، يمكن أن تتنوع القراءة تبعا لنظام النص لنظام أكثر تركيبا. وهي تتخذ لكل نوع من أنواع الخطاب، ولكل صنف من أصناف النصوص، أدوات تحليلية ملائمة. وبدل أن تقترح شبكة واحدة ووحيدة لقراءة جميع النصوص، فهي تأخذ بعين الاعتبار خصوصية كل نوع” [2]
نستخلص من التعريفين السالفين ما يلي:
- القراءة المنهجية قراءة تأملية تمحيصية تمكن المتعلمين من تصحيح ردود أفعالهم الأولية كقراء.
- القراءة المنهجية قراءة تستدعي طرقا ومنهجيات مضبوطة لتحليل النص وإنتاج المعنى.
- القراءة المنهجية قراءة واعية بخطواتها واختياراتها المنهجية تنظر إلى النص باعتباره نسيجا لعلاقات بين مكونات داخلية وخارجية متفاعلة.
- القراءة المنهجية تراعي الاختلاف البنيوي والأجناسي بين النصوص، لذلك فهي لا تقدم نفسها باعتبارها وصفة جاهزة واحدة ووحيدة تطبق على أي نص، بل هي تأخذ بعين الاعتبار خصوصيات كل نوع من أنواع النصوص. القراءة المنهجية، بهذا المعنى، وسيلة لتحليل النص لا غاية في حد ذاتها.
وتقدم الجريدة نفسُها القراءةَ المنهجيةَ بتحديد ما ترفضه وما تقبله، أي تحددها تحديدين: تحديدا بالسلب وتحديدا بالإيجاب. أما ما ترفضه هذه القراءة فهو: الإطناب والسلبية والخطية في التحليل والحشو والبحث عن مقصدية قبلية للكاتب والفصل بين الشكل والمحتوى والأحكام الجمالية المسبقة… وأما ما تقبله فهو: الملاحظة الموضوعية الدقيقة والمميزة للأشكال وتحليل هذه الأشكال وإدراك مظاهر ديناميتها ومساهمتها في نمو النص والكشف الحذر عن مسكوت النص والبناء التدريجي لدلالة النص انطلاقا من فرضيات قرائية تتولى القراءة فحصها والكشف عن الوحدة العميقة والمركبة للنص وتعليم التلاميذ كيف يجعلون أحكامهم خاضعة للبرهنة…
1.2- المرتكزات المعرفية والديدكتيكية:
تستند طريقة القراءة المنهجية على مجموعة من المرتكزات النظرية والأطر المرجعية، نجملها في ما يلي:
أ- الأبحاث اللسانية والسيكولسانية حول القراءة باعتبارها مسارا ديناميا لبناء المعنى انطلاقا من فرضيات أولية يتم تمحيصها تدريجيا. وهذا يقتضي كسر الخطية التي يفرضها على النص طابعه اللغوي والانتقال من لسانيات الجملة إلى لسانيات النص.
ب- الدراسات الأدبية والنقدية التي عرفت تطورا نقل مجال الاهتمام من المبدع فالنص إلى القارئ باعتباره عنصرا فاعلا في عملية بناء الدلالة.
ج- المراجع الخاصة بتدريس اللغة الفرنسية باعتبارها لغة ثانية أو لغة أجنبية، حيث يؤكد أصحاب هذه المراجع على ضرورة معالجة النصوص وقراءتها انطلاقا من كونها كلا متماسكا.
د- نظرية المعنى باعتباره ” نتيجة للتفاعل الحاصل بين متلق مزود بكفايات (موسوعية، لغوية، منطقية، تداولية) ومادة دالة (النص كشكل أو كأثر) ” [3]
هـ- نظريات التعلم، خاصة البنائية وعلم النفس المعرفي اللذين أكدا على مركزية المتعلم في بناء المعرفة من خلال تطوير أدواته الخاصة للتعامل مع الوضعيات التي يصادفها.
1.3- مراحل القراءة المنهجية للنصوص:
تكتسب القراءة المنهجية طابعها المنهجي من انبنائها على مراحل وخطوات يتبعها المتعلم/القارئ في سيرورة بناء معنى النص. وتنقسم هذه المراحل إلى ثلاثة أنواع من القراءة: القراءة الاستكشافية والقراءة التحليلية والقراءة التركيبية.
1.3.1 مرحلة ما قبل القراءة: أو القراءة الاستكشافية:
يتم في هذه المرحلة اكتشاف النص من خلال الملاحظة الفاحصة للتنظيم المادي المتمثل في شكله الخارجي ونظامه وتوزيعه المكاني والطباعي وعنوانه وكل العتبات الأخرى الموازية له، بغية صياغة الفرضيات الأولى لنوعية النص وصنفه وموضوعه. بعد ذلك يتم الانتقال من الملاحظة الخارجية إلى القراءة الأولى التي تصحح ردود الفعل الأولية والفرضيات التي صيغت سلفا، فيتم إثباتها أو تعديلها أو إلغاؤها وبناء فرضيات جديدة، ويمكن كذلك، أثناء وضع الفرضيات، العودة إلى مختلف الاستفهامات والصعوبات ومظاهر عدم الفهم التي يبديها المتعلمون في هذه القراءة الاستكشافية دون إعطاء جواب قاطع حولها، فالمهم، في هذه المرحلة، هو ترك المجال أمام المتعلمين لوضع فرضياتهم وتخميناتهم حول المعنى والتي سيسعون، لاحقا، إلى تصحيحها، لذلك يستحسن أن يتم اعتماد عنصر المفاجأة كعنصر استراتيجي لتلقي النص، وتنمية حس التوقع والافتراض عند هؤلاء المتعلمين.
1.3.2 مرحلة القراءة المنهجية: أو القراءة التحليلية:
إذا كانت القراءة الأولى خطية تسير في اتجاه واحد فإن هذه القراءة قراءة استعادية وشاملة تميل نحو التعمق أكثر في بُنى النص، ومن ثمة فهي تستدعي أدوات التحليل المناسبة للنص الذي يبحر فيه التلميذ. وهي مرحلة يتم فيها، كذلك، التمحيص الدائم والمستمر للفرضيات التي تمت صياغتها، من خلال الاشتغال على مستويات معينة في النص المدروس.
وتهدف القراءة في هذه المرحلة إلى الإجابة عن الأسئلة الآتية: ماذا يقول النص؟ ماذا يقترح علينا؟ كيف يقول النص ما يقوله؟ وما آثار المعنى الممكنة لكيفيات القول؟… الخ. وللإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها تبحث القراءة المنهجية في المستويات التالية:
- التنظيم الصوري: من خلال فحص اشتغال الروابط البلاغية.
- الالتحام التركيبي الدلالي: من خلال دراسة الروابط المكانية والزمانية والروابط المنطقية.
- الاتساق التيماتي ومؤشراته: التكرارات النحوية (الضمائر، أسماء الإشارة، الأسماء الموصولة…) وأيضا التدرج التيماتي.
- الاتساق الدلالي: من خلال المؤشرات التالية: التكرار المعجمي، الحقل الدلالي، وسائل التمثيل (الكناية، المجاز، الاستعارة).
- الإخراج التلفظي: الكشف عن النظام التلفظي والاستراتيجيات الخطابية وما يمكن أن ينجم عنهما من آثار للمعنى.
1.3.3 مرحلة ما بعد القراءة: أو القراءة التركيبية:
تسعى هذه القراءة إلى تحقيق هدفين مترابطين:
- الإمساك بالوحدة المركبة والعميقة للنص، وذلك لا يكون إلا من خلال الكشف عن تداخل المستويات التحليلية وتساندها في تحقيق المعنى العميق للنص. وهو ما يكشف عن خصوصيات هذا النص وأصالته وتميزه عن النصوص الأخرى وتميز الكاتب عن غيره من الكتاب. إذ يفترض في المدرس أن يدرب المتعلمين على الربط بين مستويات النص والنتائج المتوصل إليها في كل مستوى على حدة للكشف عن المعنى العام والعضوي للنص، فهذا الأخير، في نهاية المطاف، كل متماسك تتضافر فيه عناصره ومستوياته المختلفة لتدل على المعنى الذي يبنيه القارئ بناء استنادا إلى المؤشرات المقدمة من قبل ذاك النص.
- توسيع مجال القراءة بفتح النص على سياقه الخارجي بما يسمح بإعادة القراءة. وهذا ما يدعم فكرة لا نهائية القراءة وانفتاح النص على فرضيات جديدة ووجهات نظر أخرى. ويمكن تحقيق ذلك من خلال مقارنة النص بنصوص أخرى أو بصياغة مشاريع قرائية جديدة للنص ذاته أو لنصوص أخرى يتم تحليلها انطلاقا من نفس التصور المنهجي التحليلي.[4]
2- التفكير النقدي:
1-2 تعريفه:
اختلف العلماء في تعريف التفكير النقدي اختلافا كبيرا، كما اختلفوا من قبل في تعريف التفكير بشكل عام. ودون أن نتيه في كثرة التعريفات التي سيقت لهذا النوع من التفكير، سنأتي هنا بعينة من أشهر التعريفات وأكثرها انتشارا، مستنتجين من خلالها أهم خصائص التفكير النقدي، ومحاولين في الأخير صياغة تعريف إجرائي له.
- يعرف “جون ديوي” (John Dewey,1982) التفكير النقدي بأنه التمهل في إعطاء الأحكام وتعليقُها لحين التحقق من الأمر.[5]
- ويعرفه “روبرت إنيس” (Robert Ennis,1985) بكونه تفكيرا تأمليا ومعقولا، يتجه نحو اتخاذ قرار بشأن ما نصدقه ونؤمن به أو ما نفعله، وما يتطلبه ذلك من وضع فرضيات وأسئلة وبدائل وخطط للتجريب.[6]
- ويعرفه “ماثيو ليبمان” (Matthew Lipman,2003) باعتباره تفكيرا ماهرا (Skillful) يسعى إلى إصدار حكم جيد اعتمادا على معايير محددة. كما يعتبره نوعا من المسؤولية المعرفية.[7]
- أما “جون ماكبيك” (John McPeck,1981) فيقترح التعريف التالي: ” التفكير النقدي هو الاستعمال المناسب للشك المنهجي التأملي في سياق معرفي معين”[8]
من خلال التعريفات السابقة نستنتج ما يلي:
- مصطلح التفكير النقدي الموظف في هذه الدراسة لا يرتبط بمجال النقد الأدبي، كما قد يفهم للوهلة الأولى، وإنما هو مستعمل، هنا، مقابلا للمصطلح الأجنبي Critical Thinking.
- التفكير النقدي بعيد كل البعد عن المعنى السلبي القدحي الذي قد نفهمه من كلمة “نقد”.إذ يفهم عادة، في الكلام العادي، ان صفة “نقدي” أو “ناقد” Critical تطلق على الشخص الذي يتصيد الأخطاء ويبحث عن العيوب ويسعى إلى مخالفة الإجماع من أجل المخالفة ذاتها. لكن كلمة “نقد”، هنا، تشير ببساطة إلى عدم قبول أي شيء دون التفكير فيه. فالتفكير النقدي، إذا، تفكير إيجابي وليس سلبيا.
- التفكير النقدي تفكير تأملي Reflective، بمعنى أنه تفكير متمهل وغير متسرع، لا يقفز إلى النتائج دون بحث أو دليل وبينة. ولهذا فهو يتطلب وقتا لإصدار الحكم حول القضية التي يبحث فيها. وهناك معنى مهم تشير إليه كلمة “Reflective”، هو معنى الانعكاس. فالتفكير النقدي تفكير منعكس على نفسه، بمعنى أنه لا يكتفي بإخضاع المواضيع المبحوث فيها للتفكير المتمهل، بل يتجاوز ذلك إلى التفكير في عملية التفكير نفسها. وهنا تظهر الخاصية الميتامعرفية Metacognitive للتفكير النقدي. ومن هنا نجد بعض التعريفات التي تشدد على هذه الخاصية، مثل التعريف الذي يقترحه “بول ريتشارد”، إذ يعرف التفكير النقدي بأنه التفكير حول التفكير ذاته أثناء ممارسته بهدف تجويده.
- االتفكير النقدي تفكير عقلاني Reasonable، بمعنى أنه تفكير يستند إلى حجج وأدلة Reasons، تتناسب مع طبيعة الموضوع والسياق والهدف…
- غاية التفكير النقدي هي إصدار الأحكام (كما ورد في تعريفي “ديوي” و “ليبمان”)، لكن إصدار الأحكام هذا لا ينطلق من الذاتية ولا يركن إلى المزاجية والهوى، بل يجب أن يعتمد على معايير Criteria محددة. ولعله من المفيد أن نلاحظ التقارب الاشتقاقي بين كلمة Criteria وكلمة Critical . فكل تفكير نقدي ينبني على معايير مضبوطة، لذلك فإن المفردات الثلاث: التفكير النقدي والمعايير والحكم مرتبطة في ما بينها ارتباطا ماهويا، لأن التفكير النقدي إصدار حكم قائمٌ على معايير.
- مظاهر التفكير النقدي تتغير وفق السياقات التي يتحقق فيها. لذلك كانت معرفة معطيات السياق Context مهمة وضرورية في ممارسة هذا النوع من التفكير.
- التفكير النقدي هو تفكير تقويمي، وليس المقصود بالتقويم تقويم موضوع التفكير فقط، بل تقويم عملية التفكير نفسها: منطلقاتها وآلياتها واستراتيجياتها ونتائجها. هو تفكير ذاتي التصحيح/التقويم Self-Correcting.
- التفكير النقدي عملية معرفية مركبة يتضمن عددا من المهارات الفرعية، مثل: التحليل والتركيب والتقويم وحل المشكلات والاستنتاج..
- التفكير النقدي قابل للتدريب والتدريس، شأنه شأن أي مهارة أخرى، وافتراض هذه المسلمة هو الذي يسوغ محاولات الباحثين والخبراء المتعددة تنمية مهاراته من خلال وضع البرامج التدريبية المتنوعة.
بعد هذه الملاحظات يمكن أن نصوغ التعريف التالي للتفكير النقدي:
” التفكير النقدي هو عدم التسرع في إصدار الأحكام على موضوع معين (فكرة أو فعل او خبر أو نص …) إلا بعد فحص الاحتمالات المختلفة اعتمادا على معايير محددة وتوظيفا لمهارات معينة”.
2-2 فوائد تدريس التفكير النقدي:
يحقق تدريس التفكير النقدي الفوائد التالية:
- يحسن قدرة المدرسين في مجال التدريس وإنتاج منجزات عملية قيمة ومسؤولة.
- يطور تربية وطنية مثالية عند المتعلمين، وحسا عاليا بالمجتمع المحيط ويدفع إلى التفاعل معه والسعي، من ثمة، إلى رقيه وتقدمه، وينمي شعورا قويا بالمشاركة السياسية الفعالة والتوجه الديمقراطي.
- يحسن من تحصيل المتعلمين في المواد الدراسية المختلفة.
- يزود المتعلمين بأدوات التفكير التي يحتاجونها من أجل التعامل مع تحديات عصر الانفجار المعلوماتي.
- يشجع على خلق بيئة صفية مريحة تتسم بحرية الحوار والمناقشة الهادفة دون تعصب أو تطرف.
- ينمي قدرة المتعلمين على التعلم الذاتي بالبحث والتقصي عن المعرفة الواضحة والمعللة، فيزيد، من ثمة، في استقلاليته عن المدرس وثقته بنفسه وبإمكانياته الذاتية.
- يفيد التفكير النقدي في العمل على مواجهة بعض الظواهر الضارة، مثل: العنف والإرهاب والتطرف، من خلال العمل على نمو استقلالية الرأي والإيمان بنسبية الحقائق.
- يؤدي إلى مراقبة المتعلمين لتفكيرهم وضبطه مما يساعدهم على صنع القرارات في حياتهم.
- يكسب المتعلمين منهجية في دراسة الكثير من المواد كالمنطق والأدب والفن والتاريخ، بحيث يستطيع الفرد تقييمها ودراستها موضوعيا.
- يكون مواطنين مستقلين فكريا، وقادرين على بناء أحكامهم واتخاذ قراراتهم دون التأثر باتجاهات أو إيديولوجيات معينة.
3- التفكير النقدي والقراءة المنهجية للنصوص:
سبقت الإشارة إلى أن هناك تقاطعات عديدة بين التفكير النقدي والقراءة المنهجية للنصوص تجعل هذه الأخيرة تمرينا مدرسيا مفيدا جدا في تنمية مهارات ذلك النوع من التفكير. فالمدرس الذي يكون واعيا بأهمية مهارات التفكير النقدي وتعليمها للتلاميذ، ويبني درسه لأنشطة القراءة المنهجية بالتركيز على تلك المهارات، يساهم بشكل فاعل في جعل النصوص قنطرة نحو تزويد متعلميه بمهارات تشتد الحاجة إليها في عصرنا الحالي. وفي ما يلي بعض التداخلات بين التفكير النقدي والقراءة المنهجية، تظهر غنى هذه الطريقة وتفسر إلحاح الباحث على أهمية الاستفادة منها في تنمية مهارات التفكير النقدي.
1-3: المنهجية:
تكتسب القراءة المنهجية طابعها المنهجي من انبنائها على خطوات ومراحل محددة تنطلق من ملاحظة مجموعة من المشيرات النصية الظاهرة اعتمادا على شكل النص وعتباته (العنوان، اسم الكاتب، المصدر …)، من أجل صياغة فرضيات حول موضوعه ومعناه. هذه الفرضيات تتنزل منزلة توقعات استباقية للمعنى تُعتبر القراءةُ تمحيصا وتدقيقا لها، بحيث أننا يمكن أن نعتبر هذه القراءة هي حاصل التحقق الدائم والمستمر من تلك الفرضيات. إن تنظيم القراءة في شكل خطوات وإجراءات منهجية يشير إلى ” ذلك النزوع العلمي الذي ما طفقت الدراسات الأدبية تستحث الخطوات نحو آفاقه بغرض التخلص من غلواء الرؤية الانطباعية، التي كانت مهيمنة على المعالجة التحليلية ردحا طويلا من الزمن”[9]. بمعنى آخر ، فإن إضفاء طابع المنهجية يجعل قراءة المتعلم منظمة غير عشوائية تعرف مبتداها ومنتهاها والطريق الرابط بينهما.
وهذا الهدف الأخير هو نفسه الهدف الذي يسعى إليه التفكير النقدي، إذ إن هذا النوع من التفكير، يهدف، من بين أمور أخرى، إلى تنظيم تفكير الفرد تنظيما يجعله منهجيا في إصدار الأحكام والابتعاد بذلك عن إلقائها على عواهنها. التفكير النقدي تفكير تأملي بعيد عن الانطباعية والتسرع والعشوائية، واتصافه بالمنهجية هو الذي يقيه من الوقوع في هذه المَطبات.
2-3: صنافة “بلوم” للأهداف المعرفية:
صنافة “بلوم” هي تصنيف تراتبي للأهداف التعليمية التربوية. وضعها أستاذ علم النفس التربوي في جامعة “شيكاغو” “بنيامين بلوم” (Benjamin Bloom) سنة 1956. وتضم هذه الصنافة ثلاثة مجالات رئيسية هي: المجال المعرفي (Cognitive Domain) والمجال النفس حركي (Psychomotor Domain) والمجال الوجداني (Affective Domain) . وما يهمنا هنا هو المجال المعرفي.
صنف “بلوم” المجال المعرفي إلى ستة مستويات عقلية بشكل هرمي تراكمي، بحيث تتدرج هذه المستويات أو العمليات العقلية من السهل إلى الصعب، ومن البسيط إلى المعقد، وبحيث يتضمن المستوى الأصعب المستوى الأبسط منه بالضرورة، ويصبح المستوى الأسهل متطلبا وشرطا سابقين للمستوى الأعلى منه. وهذه المستويات هي:
– مستوى المعرفة والتذكر Knowledge
ويعرف بأنه القدرة على استرجاع الجزئيات والكليات والعمليات والأنماط والحقائق والرموز والأسماء والتواريخ …. وكافة المعلومات التي تتطلب الحفظ والاستظهار والذاكرة. ومثال الأفعال الدالة على هذا المستوى: أن يذكر، ان يعدد، أن يعطي مثلا، أن يُعرِّف …
– مستوى الفهم Comprehension
ويعرف بأنه القدرة على الاستيعاب والإدراك وهضم المعلومات والأفكار، حيث يكون الفرد، هنا، قادرا على إدراك المفاهيم والقواعد والقوانين وفهمها وترجمتها إلى صيغ مغايرة. ومثال أفعاله: أن يفهم، أن يشرح، أن يعيد صياغة نص، أن يحول من صيغة إلى أخرى…
– مستوى التطبيق Application
ويعرف بأنه القدرة على استخدام الأفكار والقوانين والمبادئ المتعلَّمة وتوظيفها في مواقف جديدة يوضع فيها المتعلم لأول مرة وتختلف عن السياقات التي تعلم فيها. ومثاله: أن يوظف، أن يستخدم، ان يطبق….
– مستوى التحليل Analysis
ويعرف بأنه القدرة على تجزئة المركب أو الموقف إلى عناصره الأولية، وتحليل الكل إلى الأجزاء التي يتكون منها، والقدرة على رؤية التفاصيل والعلاقات التي تربط بينها. ومثال الأفعال الدالة على تحقق هذا المستوى: أن يحلل القصيدة، أن يفكك جهازا، أن يدرك العلاقات، أن يميز بين الكل والأجزاء….
– مستوى التركيب Synthesis
ويعني جمع وتركيب العناصر والأجزاء في كل متكامل وفق مبدأ معين، لتشكيل نسق جديد (غير الذي تعلمه من قبل). ومثال أفعاله: أن يصمم، أن يستنتج، أن يخترع…
– مستوى التقويم Evaluation
ويعرف بأنه القدرة على وصف الأشياء وتثمينها وإصدار الحكم/الأحكام عليها وإبداء الرأي فيها، من خلال الرجوع إلى معايير معينة صادقة وموضوعية، داخلية أو خارجية، ومن ثم اتخاذ القرار بشأنها. ومثاله: أن يحكم، أن يثمن، أن يُقَيِّمَ، أن يبدي رأيه….
إن المستويات التي تضمنتها صنافة “بلوم” تُجسد بعضَ أهم المستويات والمهارات التي يقوم عليها التفكير النقدي، خاصة في المستويات العليا من هذه الصنافة: التحليل والتركيب والتقويم. يُعَضد ذلك أن “بلوم” وضع هذه المهارات في أعلى الهرم مما يدل على أنها تنتمي إلى المستوى المعقد أو المركب من التفكير. ويؤكد هذا أيضا تعريفُ (Polette.1982) الذي قدم التفكير النقدي باعتباره التفكيرَ الذي يتطلب استخدام المستويات المعرفية العليا في تصنيف بلوم، وهي التحليل والتركيب والتقويم. (جروان، 2007، ص: 61).
أما في ما يتعلق بالقراءة المنهجية، فنحن نجد أن مراحلها وخطواتها الإجرائية، سواء في الأدبيات التربوية الفرنسية (السياق الأصلي لهذه المقاربة) أو في التوجيهات التربوية المغربية، نجد ان هذه المراحل والخطوات تسير وفق المراقي المعرفية والعقلية التي حددها بلوم في صنافته. ففي مرحلة القراءة الاستكشافية يوظف المتعلم مكتسباته القبلية والتحليلية من أجل استكشاف النص وملاحظته لصياغة الفرضيات (مستوى المعرفة في الصنافة). وفي مرحلة القراءة التحليلية يحلل ويفكك النص من أجل الكشف عن بنيته/بنياته وإدراك العلاقات بين أجزائها وبناء معناه.( مستويا الفهم والتحليل في الصنافة). وفي مرحلة القراءة التركيبية يعيد المتعلم تركيب أجزاء النص المحلَّل على نسق جديد ثم تقييمه للحكم عليه واتخاذ موقف تجاهه. (مستويا التركيب والتقويم في الصنافة).
3-3 الإيجابية:
يساهم التفكير النقدي في جعل صاحبه متصفا بصفة “الإيجابية”، فالمفكر النقدي Critical Thinker، لا يقبل الأفكار أو الآراء دون ان يفكر فيها ويمحصها، ولا يتقبلها بسلبية دون أن يبدي رأيه فيها، ولا يقبلها بتسليم دون نقاش او مُدَارَسة. كما أن التفكير النقدي لا يعني أبدا السلبية، فصاحبه لا ينتقد ولا يرفض طلبا للنقد والرفض في حد ذاتهما، ولكن رغبة في ان يكون قبوله أو رفضه مؤسسين على معايير موضوعية وحجج مقبولة، وهو، بهذا المعني، إيجابي.
والإيجابية، أيضا، هي من الأهداف التي تسعى القراءة المنهجية إلى تحقيقها لدى المتعلم، فهذه المقاربة التدريسية تنقل هذا المتعلم من التلقي السلبي لأفكار وقراءات الأستاذ الخاصة للنص إلى التلقي الإيجابي المنتج لقراءة المتعلم الخاصة.
4-3 الاستقلالية:
يُمَكن التفكير النقدي مُمَارِسَه من تحقيق استقلالية شخصيته، تفكيرا وسلوكا، فلا يكون تابعا أو واقعا تحت وصاية سلطة أخرى، ولا يقبل أن يَحْجُرَ أحد على تفكيره الخاص أو يصادر آراءه. فالمفكر النقدي شخص راشد فكريا، وليس قاصرا.
في المقابل، تهدف القراءة المنهجية للنصوص إلى تحقيق الهدف نفسه لدى المتعلم بدفعه إلى التفكير بنفسه في النص ودراسته، والابتعاد عن التعويل بشكل كامل على الأستاذ، ثم الاستقلال عنه في تكوين آرائه ومواقفه الجمالية والنقدية حول النص المدروس.
5-3 النسبية:
يشترك التفكير النقدي والقراءة المنهجية في هاته الصفة. ذلك أن التفكير النقدي يؤمن بنسبية الحقائق ومحدوديتها، ومن ثمة، فهو لا يركن إلى الإطلاق وما قد يستتبع ذلك من تعصب وتطرف وعنف … بل يؤمن أن التعددية Diversity والاختلاف هما سمتان تطبعان هذا العصر، عصرِ التسارعات والتغيرات المتلاحقة في كافة مجالات الحياة.
والقراءة المنهجية تؤمن، أيضا، بهذه النسبية. فكل قراءة منهجية ينجزها المتعلم لنص من النصوص هي قراءة نسبية قد تلغيها قراءة/قراءات أخرى. فليست هناك قراءة واحدة ووحيدة ونهائية، خاصة إذا كان النص المدروس نصا أدبيا يقبل تعددية القراءات. لذلك فإن مرحلة ما بعد القراءة (أو القراءة التركيبية) تجعل النص منفتحا على نصوص أخرى أو قراءات أخرى جديدة انطلاقا من مداخل أخرى لم تتم دراستها، وهذا ما يجعل كل قراءة نسبية.
6-3 تعليل الحكم:
من بين أهداف التفكير النقدي إصدار الحكم حول ما نفعله أو نؤمن به. لكن هذا الحكم، كما أسلفنا أيضا، مؤسس على معايير أو حجج وأدلة. وهذا ما يبعد التفكير النقدي عن المزاجية والانطباعية والأحكام الذاتية غير المبررة.
وهو الأمر نفسه الذي نجده في القراءة المنهجية للنصوص، إذ غايتها إصدار الحكم على النص المدروس ، ولكن هذا الحكم ليس ذاتيا أو انطباعيا، بل يعتمد على التعليل الذي يصل إليه القارئ/المتعلم من خلال العمليات التحليلية القرائية التي يمارسها لبناء معنى مُعَلَّل ومُحْتَجٍّ عليه للنص المدروس.
وإذن، فإن هذه التقاطعات، وغيرها، بين القراءة المنهجية والتفكير النقدي هي التي تسمح لنا، في هذه المقالة، بأن نربط بينهما على أساس أن هذه القراءة يمكن أن تنهض بدور كبير في تنمية مهارات التفكير النقدي لدى المتعلم، هذه المهارات التي صارت اليوم مطلوبة بشدة في عالم ما ينفك يتغير وتتسارع فيه مُجْرَيَاتُ الأحداث، بشكل يفرض تحديات جمة على الأفراد والمؤسسات والمجتمعات، خاصة مجتمعاتنا العربية.
خلاصة:
تبين مما سبق أن القراءة المنهجية، بوصفها مقاربة تدريسية، تُعتمد في الثانوي التأهيلي بالمدرسة المغربية، لتدريس النصوص الأدبية، تتضمن من الخصائص والمبادئ ما يجعلها أداة مهمة تساعد – إذا أحسن المدرس توظيفها- في تنمية مهارات التفكير النقدي. إن المتعلم الذي نريده اليوم هو المتعلم القادر على مواجهة تحديات عصرِ يتغير بسرعة جنونية، وهو لن يتمكن من ذلك إلا إذا تجاوز عادات الحفظ والاستظهار والتلقين…التي تُوقعه في السلبية والتبعية. وما لم توضع سياسات تعليمية واضحة المعالم تأخذ على عاتقها تدريس مهارات التفكير النقدي فإن المؤسسة التعليمية لن تنتج إلا طوابير من النسخ التي يكرر بعضها بعضا وتعجز عن مسايرة متطلبات العصر وإيقاعاته السريعة.
قائمة المراجع:
المراجع العربية:
– إبراهيم، مجدي عزيز: “التفكير من منظور تربوي”، عالم الكتب، الطبعة الأولى، مصر، 2005
– جروان، فتحي عبد الرحمن: “تعليم التفكير”، دار الفكر، الطبعة الثالثة، الأردن، 2007
– سعادة، جودت أحمد: “تدريس مهارات التفكير”، دار الشروق، الطبعة الأولى، الأردن، 2003
– حمود، محمد: “مكونات القراءة المنهجية للنصوص” دار الثقافة، الطبعة الأولى، المغرب، 1998
– كلموني، عبد الرحيم: “مدخل إلى القراءة المنهجية للنصوص”، منشورات صدى التضامن، المغرب، 2006
– اليعكوبي، البشير: “القراءة المنهجية للنص الأدبي: النصان الحكائي والحجاجي نموذجا”، دار الثقافة، الطبعة الأولى، المغرب، 2006
المراجع الأجنبية:
– Lipman,Matthe, « A l’école de la pensée ». Traduit par Nicole Decostre, De boeck, 2 edition,Belgique, 2006
-Mcpeck,John E, « Critical Thinking and Education » , Martin Robertson, Oxford, 1 edition,1981
[1] نقلا عن كتاب ” مدخل إلى القراءة المنهجية للنصوص”. عبد الرحيم كلموني. منشورات صدى التضامن. ط 2006. ص: 12.
[2] المرجع نفسه. ص: 13.
[3] كلموني. مدخل إلى القراءة المنهجية للنصوص. ص: 15.
[4] للتعمق أكثر في مقاطع ومراحل القراءة المنهجية يمكن الرجوع إلى ما يلي:
- عبد الرحيم كلموني.” مدخل إلى القراءة المنهجية للنصوص”. منشورات صدى التضامن. ط 2006. من ص:29 إلى ص: 33.
- محمد حمود. ” مكونات القراءة المنهجية للنصوص “. دار الثقافة. ط 1. 1998. من ص: 34 إلى ص: 62.
- البشير اليعكوبي. ” القراءة المنهجية للنص الأدبي: النصان الحكائي والحجاجي نموذجا “. دار الثقافة. ط 2006. من ص: 57 إلى ص: 81.
[5] فتحي عبد الرحمن جروان. ” تعليم التفكير”. دار الفكر. الأردن. ط3. 2007. ص: 60.
[6] نفسه. ص : 61.
[7] Matthew Lipman. « A L’école de la pensée ». Tr. Par Nicole Decostre. Editions de boeck. Belgique. 2006.p :206
[8] Johen E.Mcpeck. « Critical Thinking and Education ». Editions Martin Robertson.Oxford. 1981.p : 19.
[9] محمد حمود. ” مكونات القراءة المنهجية للنصوص “. دار الثقافة. ط 1. 1998. ص: 48.