
قراءة و تحليل في كتاب ( الهويّات القاتلة ) لأمين معلوف
Reading and analysis in the book “Deadly Identities” by Amin malouf
د.نصر الدين دلاوي/جامعة معسكر، الجزائر
مقال نشر في مجلة جيل العلوم الانسانية والاجتماعية العدد 51 الصفحة 121.
ملخّص :
يعتبر كتاب ( الهويّات القاتلة ) لأمين معلوف من الدّراسات الهامّة،في موضوع الهويّة، التي صدرت في نهاية القرن الماضي.و قد صدر في خضمّ الأوضاع العالميّة الجديدة التي أعقبت سقوط الاتّحاد السّوفياتي،سابقًا، و انتهاء الحرب الباردة و تنامي ظاهرة العولمة.و هذا التّوقيت له دلالته و هو يَلفت انتباه الباحث و يدعوه إلى فحص هذا الكتاب و تأمّله و الوقوف،مليًّا، عند أفكاره و أبعاده لاكتشاف حجم التّأثير و طبيعة الانعكاسات التي تلقّاها أمين معلوف من هذه الأوضاع العالميّة الجديدة و رؤيته لموضوع الهويّة و لكثير من المواضيع اللّصيقة به.و قد اعتمدت،في هذا البحث، على النّسخة الأصليّة للكتاب: Les identités meurtrières للاطّلاع على الأفكار من منبعها و تحقيق مزيد من التّواصل و القرب من المؤلّف.
الكلمات المفتاحيّة: الهويّة – الدِّين – التّبادل – الإنسانيّة – اللّغةAbstract :
This book is one of the most important studies on the subject of identity issued at the end of the last century. It was published in the midst of the new global situations that followed the fall of the Soviet Union, the end of the Cold War and the growing phenomenon of globalization. And this time is significant and draws the attention of the researcher and invites him to examine this book and hopes to discover the magnitude of the impact and nature of the repercussions received by Amin Maalouf of these new global situations and his vision of the subject of identity and many of the topics close to it. In this paper I have adopted the original version of the book: Les identités meurtrières to view ideas from their source and to achieve greater communication and proximity to the author.
Keywords: Identity – Religion – Exchange – Humanity – Language
مقدّمة:لقد كثُر الحديث عن الهويّة،بمعناها الواعي، منذ نهايات القرن الماضي و بالتّحديد مع مطلع الثّمانينيّات التي شهدت تحوّلات سياسيّة و ثقافيّة عميقة في بنية الكتلة الشّرقية التي كانت تابعة للاتّحاد السّوفياتي سابقًا.و قد كان من نتائج هذا الوعي الجديد و ما أفرزه من حركة و صراع و مواقف وأفكار أنْ تفكّكت المنظومة الاشتراكيّة و تهاوت قيَمها.و انتهى الأمر،بالتّبعية و المآل، إلى تفكّك الاتحاد السّوفياتي و أُفول نجمه و زوال سيطرته.و بالموازاة مع هذه الأحداث الكبرى التي كانت ساحتها المنظومة الاشتراكيّة شهد العالم العربي ميلاد ظاهرة غيّرت عناوينه و أثّرت على لافتاته تمثّلت في ما يُعرف بالصّحوة الإسلاميّة.و لئن كانت طبيعة الظّاهرتين الشّرقية و العربية مختلفة و لئن كانت مصادر الوعي فيهما و الاستمداد متباعدة بل متناقضة فإنّ الذي كانت تستهدفه كلتاهما هو تحقيق العودة إلى الذّات و استعادة الهويّة المسلوبة.
و الذي زاد موضوع الهويّة أهمّية و شأنًا أنْ تصدَّى لها و خاض فيها شخصيّات ذوات رؤًى مختلفات و مشارب كالقيادات الفكريّة و الدّينية و السّياسية.و ليس من شكّ أنّ هذا التّنوع في الطّرح و الاختلاف في الرّؤى له إيجابيّاته في اكتناه هذا الموضوع و إضاءة جوانبه و زواياه.و لكنه قد أفرز،من جهة أخرى، فهومًا للهويّة جامحة مضطربة بل خطيرة و مدمِّرة قادت أصحابها،أحيانًا، إلى متاهات الغلوّ و العنف فاستحلّوا الدّماء و استباحوا الأعراض و تفنّنوا في عمليّات النّفي و القتل و الإبادة الجماعية و التّطهير العرقيّ كما حدث في دول البلقان و في إفريقيا السّوداء و آسيا و في مناطق أخرى من العالم.
و يعتبر كتاب ( الهويّات القاتلة )[1] Les identités meurtriéres لأمين معلوف من الدّراسات الهامّة التي تناولت موضوع الهويّة[2] و أوضاعها و أحوالها و ما ينشأ عنها و سبل التّعامل معها.
و يكتسب هذا الكتاب أهميته من عدّة نواحٍ: فصاحبه من لبنان البلد العربيّ ذي الوضع الخاصّ و التجربة المتميّزة في العيش المشترك و إدارة الاختلاف بين الطوائف.ثمّ هناك انتساب المؤلّف إلى طائفة اليونان الكاثوليك[3] أو طائفة الرّوم الملكيِّين الكاثوليك و هي إحدى الطّوائف اللّبنانية التي لا تتمتّع بوجود سياسيّ كبير و لا تحظى بحضور ثقافيّ ظاهر. و يُضاف إلى كلّ ما تقدّم أنّ أمين معلوف يعيش في فرنسا منذ سنة 1976 بُعَيد اشتعال الحرب الأهليّة في لبنان و يكتب باللّغة الفرنسية و لغته الأمّ هي العربيّة.
هذه الانتماءات المختلفة التي تتجمّع في شخصية أمين معلوف و تختلط بلحمه و دمه،بدرجات مختلفة من القوّة و التّأثير، و ما ينشأ عن مزيجها من الألوان و الأذواق و الخواطر و الأفكار و الهواجس و الإيحاءات…كلّ أولئك قد يكون أثّر،و لا شكّ، تأثيرًا ما على قلمه و وجّه أفكاره و صنع مواقفه[4] و صبغ آراءه.و كلّ هذه الأبعاد،أيضًا، هي التي تمنح ( الهُويّات القاتلة ) نكهته الخاصّة و ذوقه المميَّز و تجعله كتابًا ذا متعة و فائدة جديرًا بالقراءة و التّدبر و الفحص.
التّعريف بأمين معلوف:
وُلد أمين معلوف في 25 / 02 / 1949 ببيروت و قضى جزءًا من طفولته في مصر.و قد كان أبوه صحافيًّا معروفًا،في لبنان، و شاعرًا و رسّامًا.تحوّل أجداده لأبيه من الكاثوليكية إلى المذهب البروتستاني منذ القرن التاسع عشر.أمّا أمّه فتنتمي إلى عائلة كاثوليكية من تركيا.تلقّى أمين معلوف تعليمه الابتدائيّ في المدارس الفرنسية اليسوعية ببيروت ثم اتّجه إلى دراسة علم الاجتماع و العلوم الاقتصادية في المرحلة الجامعية و عمل صحافيًّا في جريدة النهار اللّبنانية مكلَّفًا بصفحة السياسة الدّولية.انتقل إلى فرنسا سنة 1976 بُعَيد اشتعال الحرب الأهلية في لبنان و أصدر هناك سنة 1983 أوّل كتبه و هو: Les croisades vues par les arabes.
و لن أقف،في الصفحات التالية، عند كلّ القضايا التي تصدّى لها أمين معلوف في كتابه و لكنّي سأحاول التركيز على بعض النقاط هي،في نظري، ذات أهمّية و بال أعرضها كما وردت في الأصل ثمّ أسلّط الأضواء عليها ما وَسِعني ذلك مُبديًا الموقف منها بالمناقشة و الفحص و التّحليل.و قد بدا لي،طلبًا للتركيز و الوضوح، أنْ أضع هذه النّقاط المختلفة في عناوين جانبيّة ليسهل تصوّرها و استيعابها و تكون هي المدخل إلى الذي يليها.
1- التّوسع في مفهوم الهويّة:
في فصل ( هويّتي انتماءاتي )[5] يتوسّع أمين معلوف في مفهوم الهويّة توسّعًا كبيرًا و لا يقبل أنْ تكون محدودة بتلك العناصر التي تعارف عليها النّاس كالانتماء إلى الدّين و اللّغة و الوطن.و يذكر أنّ الهويّة قد تتحقّق،بالإضافة إلى العناصر السّابقة، بانتماءات أخرى كالانتماء إلى مجموعة عرقيّة أو لغويّة أو عائلة كبيرة نسبيًّا أو مهنة أو هيئة أو وَسط اجتماعيّ…و لكنّ هذه القائمة،عنده، ليست نهائيّة فقد يشعر المرء بالحاجة إلى الانتماء إلى إقليم أو حيّ أو قبيلة أو هيئة رياضية أو نقابة أو حزب سياسيّ أو كنيسة…
و هذا الشّعور قد يتحقّق،كذلك، بالانتماء إلى مجموعة من الأشخاص لهم أهواء و اهتمامات مشتركة أو يتقاسمون ميولات جنسيّة واحدة أو يعانون أضرارًا و عوائق جسدية متشابهة.و يَخلص أمين معلوف إلى القول بأنّ هذه الانتماءات لا تحظَى،بطبيعة الحال، بدرجة واحدة من الأهمّية و القدر و لكن لا يمكننا الجزم بأنّ واحدًا من هذه الاهتمامات هو تافه أو عديم الأهمّية لأنّها جميعًا تمثّل العناصر المكوِّنة للشّخصية بل هي « جينات الرّوح ».
و يرفض الكاتب ما يتداوله الكثير من النّاس من وجود سلّم ثابت أو ترتيب دائم في بناء الهويّة يجعل بعضَ عناصرها تحظى بعناية فائقة أو تتمتّع بتأثير أكبر مُضيفًا بأنّ الانتماءات الهامّة في حياة الإنسان و التي يُوليها عناية كبيرة ليست هي التي يتداولها النّاس،عادةً، كالدّين و اللّغة و الوطن.و لتوضيح هذا الأمر يعطينا أمين معلوف مثالاً بأحد الشّواذ جنسيًّا في إيطاليا الفاشية حين يجد نفسه ضحيّة المطاردة و الإقصاء و مهدَّدًا بالمحاكمة و القتل.فهذا الشاذّ جنسيًّا الذي كان وطنيًّا،من قبلُ، سيفقد حماسته الوطنية القديمة و سيتمنّى،مخلصًا قلبُه، هزيمة الجيش الإيطاليّ كذلك.
و تفسير هذا الانقلاب أنّ هذا الرّجل بسبب المطاردة و الاضطهاد التي تعرّض لهما فإنّ ميولاته الجنسيّة قد تعاظم شأنها و تضاعفت أهمّيتها و أصبحت،عنده، أَوْلى بالعناية و الاهتمام دون سائر عناصر الهويّة الأخرى و أنه لا يستعيد انتماءه الوطنيّ و حماسته الوطنية إلاّ بعد هزيمة الفاشية و تنفّسه الصُّعداء في أجواء إيطاليا الجديدة.
و إنه لَيبْدو لي أنّ لجوء أمين معلوف ،هنا، إلى الاستدلال بهذا المثال قد يُضعف حجّته و لا يَعضدها و يُوهن رأيه و لا يُقوّيه.و يمكن دفعُ ما طرحه و التصدّي له و بيان هشاشته مِن وجوه.فقد يُقال،في سياق الاعتراض على ما سبق، بأنّ الميولات الجنسيّة التي اعتمد عليها أمين معلوف لإنكار وجود سلّم ثابت في بناء الهويّة أو لإبطال تمتّع بعض عناصرها بأهمّية كبرى – فقد يُقال بأنّ هذه الميولات الجنسيّة التي اعتمد عليها ليس متعارَفًا عليه في معظم البحوث و الدّراسات أنها من عناصر الهويّة الجماعيّة.
و في السّياق نفسه يمكن الإضافة،أيضًا، بأن هذه الميولات الجنسيّة التي استند عليها المؤلّف لإثبات رأيه السّابق إنّما تخصّ حياة الإنسان الشّخصية أيْ أنّ هذه الميولات جزء من هويّته الشّخصية و لا علاقة لها بالهويّة الجماعيّة التي هي محلّ البحث و النّزاع و الجدل.
و إذا تابعنا أمين معلوف في رأيه و استدلاله و سلّمنا،جدلاً، بأنّ الأمر كما قال فإنه يحقّ لنا أنْ نسأل مختبِرين: ما هو عددُ الذين حصل لهم مثلُ هذا الأمر في جميع الثّقافات و عانوه و قاسوه حتّى أصبح هذا الحال واقعًا يصعب تجاوزه و ظاهرة[6] تَلفت الانتباه و تستحقّ العناية العلميّة و التّسجيل الأمين ؟
فإذا ضَممنا إلى مجموع هذه الاعتراضات اعتراض أخير خلاصته أنّ الشّذوذ الجنسيّ مستهجَن و قبيح في كلّ الثّقافات و ليس سلوكًا جنسيًّا سليمًا يحظى بالقَبول و يتبنّاه الأسوياء فإنه يمكننا القول،باطمئنان، بأنّ أمين معلوف لم يُوفَّق في اختيار دليله الذي جعله عُمدته في شَأن ذي أهمّية و بال كشأن الهويّة الجماعية.
إنّ هذا التوسّع في مفهوم الهويّة،عند أمين معلوف، يُوقع في اللَّبس لأنه يُنشئ تداخلاً بين الهويّة الشّخصية أو الفرديّة و الهويّة الجماعيّة.و توضيح هذا الكلام أنّ الهويّة اثنتان: فهناك الهويّة الشّخصية و هي مجموعة عناصر كالاسم و اللّقب و تاريخ و مكان الميلاد و الصّورة و الإمضاء مضافًا إليها بعض الملامح و العلامات و البصَمات و الميولات المختلفة و الأذواق و الارتباطات و الأوصاف النّفسية و الجسدية كالتي عَرض لبعضها أمين معلوف.ثمّ هناك الهويّة الجماعيّة و هي التي يتقاسمها الإنسان مع كثير من النّاس و عناصرها القويّة هي الدّين و اللّغة و الوطن و القيم الثّقافية المشتركة و هي موضوع الكتاب و محلّ هذا البحث.
هذا التّوسع في مفهوم الهويّة الجماعيّة،عند أمين معلوف، يُوقع،إذنْ، في كثير من اللَّبس و الاضطراب و يشذّ عن الحسّ المشترك[7] و يجعله مفهومًا متهافتًا لا نكاد نلمسه حتىّ نفقده.و هو،بالتبعيّة و المآل، يُفسد موقفنا من هذا الموضوع و يَأفِكنا عن حقيقته و لا يُسهّل بحثه و تعمّقه و اكتناهه.
و السّؤال الذي يَقفنا،في هذا المقام، هو: لماذا لجأ أمين معلوف إلى هذا التّوسع في مفهوم الهويّة ؟
لقد بدا لي،من خلال مصاحبة لهذا الكتاب، أنّ سبب هذا التّوجه قد يكون اعتقاد الكاتب بأنّ الهويّة بمعناها العامّ المتعارف عليه القائمِ على عناصر الدّين و اللّغة و الوطن و ما ينشأ عنها من تكتّل و تضامن و وحدة في الشّعور و العمل و المصير…هذه الهويّة قد تجْني على أصحابها فتجعلهم أرقامًا متشابهة و ألوانًا باهتة أو نماذج متماثلة أو أنها قد تقود أصحابها،أيضًا، إلى استباحة الدّماء و الأعراض كما يُوحي بذلك الكاتب نفسه في مواطن عديدة من كتابه.
و كأنّ هذا الهاجس هو الذي أغراه بإضافة انتماءات أخرى و ارتباطات تكون وظيفتها « مزاحمة » العناصر الأساسيّة المكوّنة للهويّة أو التّخفيف من غُلَوائها،على الأقلّ، و النّأيَ بها أنْ تكون أداة لصناعة الموت أو إنتاج التّماثل[8] أو إفراز المتشابه و المملول.و إذا صحّ هذا الظّن و استقام فقد يكون وهمًا من الكاتب أو عجلة منه لأنّ وحدة الهويّة لا تعني،البتّة، وحدة الفكر أو وحدة الذّوق و اللّون و السّلوك.و لا يحتاج هذا الأمر إلى مزيد تأكيد و فَضل بيان لأنه جليّ لا يَخفَى و بديهيّ لا يُؤكَّد و هو،بعدُ، ليس من صُلب هذا البحث و عموده.
و قد تكون لأمين معلوف دوافعُه الأخرى التي أغرته بهذا الأمر و لكنّ المؤكَّد أنّ النتيجة النّهائيّة لهذا السّعي هو سَلْب مفهوم الهويّة،أيْ الهويّة الجماعيّة، بعض أوصافها الحيويّة التي بها تتعرّف و عليها تقوم كالوحدة و الكثافة و التّماسك[9] و الوضوح و يجعلها أجزاءً و تفاريق بل هَيُولَى[10] ليست بذات لَون أو طعم أو هيئة أو عنوان.و قد يكون نهاية هذا السّعي،أيضًا، هو محاولة من الكاتب لإذابة هذا المفهوم،مفهوم الهويّة، في محلول من الانتماءات قد تكون هشّة أو متهافتة أو ضعيفة الفاعليّة[11] قليلةَ التّركيز.
و يمكن القول،تلخيصًا لما سبق، بأنّ الحدّ الأدنى لمفهوم الهويّة الجماعيّة،كما يذكره جاك بيرك،[12] هو أنْ يتحقّق،لدَى مجموعة من النّاس، شعور بوحدتهم و ترابطهم و انضمامهم و تماسكهم تحت لِواء تصوّر ما أو فكرة ما أو عمل ما.
و ليس بخافٍ أنّ هذا التّوسع الذي تبنّاه أمين معلوف في شأن الهويّة الجماعيّة و ما عرض له من عناصرها كلّ أولئك يقود إلى إحاطة مفهوم الهويّة الجماعيّة بأغشية من اللَّبس و الغموض و هو،بعدُ، قاصر عن بلوغ هذه الغاية و لا يملك أنْ يحقّق مثل هذا الشّعور بعضَه أو نصفَه أو ثلثه.
2- التّحول والانتقال في الهويّة:
يقول أمين معلوف[13] إنّ الهويّة ليست معطًى[14] ثابتًا و لكنّها تُبنَى باستمرار و يمَسّها التّحول طول الحياة.ثمّ يعطينا أمثلة بعوامل البيئة و الزّمان و المكان و الثّقافات و الأحداث و كيف تتدخّل هذه العوامل المختلفة في إعادة صياغة عناصر الهويّة و تحويلها أو توجيهها و تحديد حَمولتها و معناها.مثال ذلك أنّ الموقف من الجنسَين الذّكر و الأنثى و دلالة اللّونَين الأبيض و الأسود و الانتماء القَبَليّ أو القوميّ…كلّ أولئك تتغيّر حمولته من بيئة إلى أخرى و ليس له دلالة واحدة في كابول أو إفريقيا الجنوبية أو النّرويج أو الولايات المتّحدة الأمريكية.
ثمّ يتوسّع أمين معلوف في الحديث عن تجربته الشّخصية،من خلال الحرب الأهليّة اللّبنانيّة، مبيِّنًا و طأة البيئة و الانتماء الطّائفي و الثّقافة و عوامل الزّمان و المكان…في بناء الهويّة و شَحن عناصرها المختلفة بالمعاني و الدّلالات و ما ينشأ عنه من هواجس و وساوس و مخاوف و تهديدات.
و الذي أحبّ أن أقف عنده،في هذا المقام، و أستفيد منه هو قول أمين معلوف إنّ الهويّة ليست معطًى ثابتًا و لكنّما تُبنَى باستمرار و يمَسّها التّحول و الانتقال.و إنّي لأُقاسم الكاتب رأيه و أَتبنّاه إذْ هو،في ظنّي، كلام صواب و مذهب متقبَّل.و الذي دفعني إلى هذا السّلوك و دعاني إلى هذا الموقف و أغراني بملازمته سببان اثنان:أوّلهما هو هذا الخطأ الشّائع في فهم الهويّة على أنّها بناء جاهز أو بِنية ثابتة لا يَمسّها تحوّل أو انتقال مع ما يطرأ،على حياة الناس،من عوامل الزّمان و المكان و الثّقافة و الأحوال و الأفكار الجديدة و العقليّات…
و جلاء هذا الأمر،ببساطة، أنّ عوامل البيئة و الزّمان و المكان و الثّقافات و الأحداث…كلّ أولئك له تأثير على أفكار الإنسان و عواطفه و مواقفه و ليس أحدٌ من الناس يَسْلم من تغيّر و تبديل أو تحوّل و انتقال أو تصحيح و تقويم أو زيادة و نقصان…فكيف يجوز القول أو الاعتقاد أنّ الهويّة بناء ثابت لا يتزحزح و أنّ عناصرها لا تتأثّر صيغُها و مضامينها بما يتأثّر به الإنسان من عوامل مختلفات و ملابسات ؟
أمّا السّبب الثاني الذي دعاني إلى تبنّي هذا الموقف فهو محاولة لفْت الأنظار و الإيحاء بمجموعة من المعاني و في مقدّمتها أنّ التّحول هو امتداد في الزّمان و المكان و انتقال من حال إلى حال مع المحافظة على الأصل و الجوهر[15] و تطعيمه و إثرائه و إغنائه بمعانٍ جديدة و صُوَر جديدة في حين أنّ الثّبات مقصوص عن كلّ امتداد و انتقال لأنه باقٍ على أصله ملازم لوضعه مقطوع عن غَده.
إنّ الهويّة،في تعاملها مع الكون و العالم، تتبادل الأخذ و العطاء شِئنا ذلك أم أبِينا.و أكاد أجزم أنّ الهويّة حين تمارس هذا التبادل و الانفتاح،عن وَعي و فهم و استيعاب، فإنها تصِحّ و تَقوَى و تنمو و تنضج فتنعكس علامات الصّحة و النموّ و القوّة و النّضج على أصحابها المنتَسبين إليها.و حينئذ تستحيل هذه الهويّة عاملَ بناء و توازن للشّخصية الإنسانية و لا تصبح مصدرًا للأحقاد و الشّنآن أو وسيلة لتبرير القتل و العدوان.
أمّا وصف « الثّبات » الذي يستعمله بعض الكاتبين و السّياسيين في حديثهم عن الهويّة في مناسبات عديدة و يطوفون حوله كما يطوف الوثنيّ حول وثَنه- أمّا هذا الوصف فقد جنَى على الهويّة نفسها فحرمها من فرص التّجدد و الانبعاث و قطعها عن مصادر القوّة و الحياة فاستحالت مَرتعًا وَخِيمًا تتكاثر فيه العلل و الأدواء و ميدانًا قبيحًا تتمطّى فيه الجهالة و الغباء.
إنّ الهويّة حين يُراد لها أنْ تظلّ سجينة هذا النّوع من « الثّبات » فتَستنِيم للتّقوقع و الحبس و الانغلاق و لا تنفتح على الكون و العالم و تتبادل معه الأخذ و العطاء أو حين يُراد لعناصرها أنْ تبقى أبدًا قوالب باردة أو صيغًا محنَّطة فلا تكون موضوع تجديد و إحياء أو مادّة تعميق و تحقيق أو إغناء و تطعيم…
إنّ الهويّة حين يُراد لها ذلك أو بعضُه فإنها تكون قد فقدت أُولى مقوّمات الحياة و هي التّجدد و الحركة و الانبعاث. و هي بسبب هذا النّقص أو القصور تظلّ عاجزة عن قيادة حياة الناس أو التّأثير فيها و لا تملك،حينئذ، القدرة على تحقيق المشاركة و الحضور أو تأكيد المواجهة و الصّمود لأنها تعاني،بسبب تقوقعها، ألوانًا من العلل و يسكنها الخوف و الهزيمة و الاضطراب.
و إنّ الثّبات حين يُلحق،عُنوةً، وصفًا للهويّة فلا هي تفارقه و لا هو ينفكّ عنها فإنه يُصيبها بما يُصاب به الماءُ الرّاكد المحبوس عن كلّ حركة و تجدّد و انتقال من كدارة و تعفّن و أُسُون.و مثلُ هذه الهويّات يَبِيض فيها الجهل و يُعشِّش الغباء وتكون مرتعًا خصبًا لجملة من الأمراض النّفسية كجنون العظمة و التّفاخر الهزيل و التّعالم الأجوف و الادّعاء البليد و الانهزام المقيم و الإقصاء و التّهميش و التّقوقع و الانغلاق و المخاوف و الهواجس و السّخيمة و الأحقاد…
و قبل مغادرة هذا المقام يمكن القول بأنّ هناك وصفًا آخر ملازمًا للوصف السّابق مصاحبًا للهويّة و هو التّواصل الذي يضمن لها أنْ تعيش في الماضي و الحاضر و تسكن المستقبل.
التّحول و التّواصل،إذن، وصفان اثنان قَمِينان بجعل الهويّة تنتعش و تحيا في كلّ زمان و مكان و تتجدّد و تنبعث في كلّ لحظة و آن فتكون،حينئذ، وسيلةً فعّالة لبناء الشّخصية الإنسانية و أداة سليمة لتحقيق توازنها و نضجها و انتعاشها.
3- وسائل تدجين الهويّة:
يرى أمين معلوف[16] أنّ معالجة موضوع الهويّة لا يكون أبدًا بالاضطهاد و التّضييق و لا يتحقّق،كذلك، بالمجاملة أو اللاّمبالاة.و لكنّ الموقف السّليم هو مراقبة الظّاهرة ودراستها و فهمها جيّدًا ثم ترويضها و تدجينها حتى لا تتحوّل إلى أداة خلاف و تقاتل و نزاع أو يتحوّل العالم إلى غابة كبرى فيكون مفروضًا على الأجيال القادمة معاناة مشاهد العنف و القتل و الإبادة و التّطهير العرقيّ أو تكون هي ضحيّتها.و بعد متابعة المؤلّف لظاهرة الهويّة،في صفحات طِوال، انتهى إلى تقديم جملة من الأفكار و المقترحات لتدجين الهويّة،كما يقول، حتّى تستحيل عاملَ إغناء و ثراء يحقّق نسبة من التّعارف و اللّقاء بين الشّعوب.و في ما يلي عرض لبعض هذه الوسائل و الحلول التي يراها الكاتب ملائمةً لتدجين الهويّة و قمينة بإزالة « عنفها » و التّخفيف من غُلَوائها.
أ– التّبادل:
و لِكيْ لا تستحيل العولمة غولاً يلتهم،في طريقه، كلّ الخصوصيّات الثّقافية و الحضاريّة و في مقدّمتها الدّين و اللّغة فتكون سببًا إيقاظ الفتن و النّزاعات و أملاً في أنْ تصبح هذه العَولمة إنسانيّة فعلاً و ليست أمريكيّة فقط يَنعم النّاس بقِطافها و جَناها يدعو الكاتب إلى إقامة مبدأ المبادلة أو مبدأ التّبادل.
و خلاصة هذا المبدأ،عنده، أنْ تتحقّق شعوب الأرض كلّها أنّ عناصر ثقافتها و موادّ حضارتها كالأعمال الفنّية و الألوان و الأطعمة و الأذواق و الصّور و الأصوات و اللّغات و الكلمات و الموسيقى و الأَواني و الكتب و الشّخصيات التاريخية…كلّ أولئك يحظى بالعناية و الاهتمام مِن قِبل الثّقافات المهَيمنة.و حينئذٍ لا تجد هذه الشّعوب مانعًا أو غضاضة من أنْ تحتضن هي،أيضًا، من جهتها عناصر هذه الثّقافات الغالبة وتتبنّاها.
و لبلوغ هذا الأمر يدعو أمين معلوف إلى التّوسل بتكنولوجيات الاتّصال الهائلة التي أفرزتها العَولمة و الاستفادة منها لتحقيق الانتشار الواسع لكلّ عناصر هذه الثّقافات القائمة و موادّ الحضارات و تبادلها.و حين يتحقّق تبادلُ هذه الصّور و كلّ المنتوجات على المستوى العالميّ بين جميع الثّقافات و يتمّ لها الانتشار الواسع و الذّيوع بين كلّ الشعوب فإنّ أحدًا لن يشعر بالاحتقار و لن يكون ضحيّة الإقصاء و التّهميش بسبب هويّته و انتمائه.و في هذه الحال،كذلك، لن يكون مفروضًا على أحد أن يُخفي دينه أو لغته أو اسمه ليعيش في وسط الآخَرين.
و يخلص الكاتب إلى القول بأنه في ظلّ وسائل الإعلام الحديثة يمكن لمبدأ التّبادل أنْ يبلغ تمامه و أنْ يحقّق نتائجه. و حينئذ يكون في مُكنة جميع شعوب الأرض أنْ تساهم في بناء ثقافة جديدة هي ثقافتنا المشتركة و هي ثقافة الغد.
و لا بدّ من الإشارة،ابتداءً، أنّ مبدأ التّبادل أو المبادلة الذي أفاض فيه أمين معلوف و ما يحيط بهذا المبدأ من تصوّرات و أفكار قد حظِي باهتمام المسؤولين في الأمم المتّحدة التي تبنّته و كلّفت إحدى المنظّمات التّابعة لها بمهمّة تجسيده و هي لا تَألُو جهدًا في نشره بين شعوب العالم و تَعميمه و الدّعوة لجعله قيمة متداولة و مبدأ ثابتًا في العلاقات الثّنائية أو العلاقات المتعدّدة الأطراف.
و مِصداق ذلك إعلان منظمة اليونيسكو سنة 2010 سنةً للتّقارب و اللّقاء بين الثّقافات بإقامة نشاطات علميّة و فنّية و ثقافيّة في كلّ الدّول تعكس التّنوع الثّقافي و اللّغويّ و الدّينيّ لمختلف الشّعوب لتحقيق التّعارف المشترك و تدعيم الحوار و الاحترام المتبادَل.
و في هذا الشّأن يقول بيان المنظّمة الدّولية: « إنّ الهدف الأسمى من هذه السّنة هو إثبات النّتائج الطيّبة للتّنوع الثّقافي بالاعتراف بأهمية النّقل و التّبادل الدّائم بين الثّقافات و نسيج العلاقات المختلفة القائمة بينها منذ زمن بعيد.و لما كانت الثّقافات تضمّ الآداب و الفنون و أنماط الحياة و أساليب العَيش المشترك و نظام القِيم و العادات و التّقاليد و الدّيانات فإنّنا مدعوّون للمحافظة على هذا التّنوع الثّقافي و حمايته و ترقيته.و لا يتحقّق ذلك إلاّ بإدماج مبادئ الحوار و الاعتراف المتبادَل في كلّ السّياسات و خاصّة في سياساتنا التربوية و الثّقافية و الإعلاميّة لتصحيح التّصورات الخاطئة و الأفكار المسبَقة و إثبات أنّ التّنوع الثقافي هو إغناء للإنسانيّة ».[17]
و الحقّ أنّ مبدأ التّبادل مبدأ أصيل و ذو فاعلية و جدْوى و لا أحدَ يُنكر نتائجه الطّيبة في تحقيق التّقارب و التّعارف بين الآحاد و الجماعات و إزالة ما يُباعد بينها من حواجز التّوجس و الشّكوك و الظّنون.
و مع احترامنا لجهد الكاتب،في هذا الشّأن، و مع الاعتراف لمبدأ التّبادل أو المبادلة بهذه الأهمّية و القدر فإنه لا مناصَ من الإضافة بأنّ هذا المبدأ لا يمكن أنْ يكون وحده وسيلة فعّالة لتحقيق التّقارب بين الشّعوب و التّخفيف مِن حِدّة النّزاعات و صراعات الهويّة لأنّ طبيعة العلاقات الدّولية القائمة تأْباه و طبيعة العولمة الجارفة تتحاشاه.إنّ الاعتراف لمبدأ التّبادل بالأهميّة و الجاذبيّة و النّفع ما ينبغي أنْ يمنعنا من القول أو يصدّنا عن التذكير بأنّه مبدأ لا يصمد كثيرًا أمام الواقع العالميّ المعاصر و طبيعة العلاقات الدّولية القائمة و إنه لَيصطدم مع اعتبارات أخرى و مواقف تتعلّق بالثّقافة و القيم.
إنّ القوّة هي القيمة الوحيدة الكبرى التي تحكم العلاقات الدّولية،اليوم، و هي التي تنسُجها و توجّهها و لا يَبدو أنّ هذا الواقع سيتغيّر غدًا أو في الأجل القريب.و ما حَصل في العقود الأخيرة مِن ظلم و قهر و إبادة جماعيّة و اعتداءات على الشّعوب و مصادرة لحريّاتها و استباحة لسيادة الدّول و إعلان الحرب عليها و تدميرها باسم مبادئ الأمم المتّحدة و باسم قيم الحرّية و حقوق الإنسان و تحت عناوين المحافظة على الأمن و السّلم الدّوليّين…كلّ أولئك يجعل من مبدأ التّبادل مبدأ قاصرًا ضعيف الفاعليّة أو هو نظرة حالمة و أُمنيّات.
إنّنا نعيش في زمن ليس للضّعيف فيه مِن قيمة إلاّ بمقدار طواعيّته و استسلامه و لا يمكن أنْ يَلتفت إليه أحد فيحترمه أو يُنزله منزلته إلاّ إذا التفت هو لحاله و سدّ منافذ النّقص في ذاته[18] و استكمل جوانب القوّة في نفسه.فإذا تحقّق له ذلك فإنه يملك،حينئذ، أنْ يعدّل في موازين القوَى القائمة فيكون في مستوَى التّحديات و يستطيع أنْ يحقّق وجوده و يُثبت ذاته و يحظَى بمكانته في هذا العالم.
و تأسيسًا على هذا الكلام فإنه يَصعب الذّهاب بعيدًا في هذا الظّن و الاستنامة له و الاعتقاد بأنّ مبدأ التّبادل أو المبادلة وحده،كما طرحه أمين معلوف، هو الحلّ الوحيد الأمثل الذي سيهيّئ مناسبة طيّبة للثّقافات،كلِّ الثقافات، أنْ تستعلن و تحقّق وجودها أو أنّ هذا الأخذ و العطاء بين الثّقافات الغالبة و الثّقافات المهمَّشة و هذا النّسيج و المزيج لعناصرَ من الثّقافات المختلفة و موادّ الحضارات القائمة سيمكّن الجميع من إعلان ثقافته و ممارسة هويّته و إقامة أساس متين للتّعارف و التّعاون و الاحترام المتبادَل.إنها نظرة حالمة للواقع الدّوليّ و لطبيعة العلاقات الدّولية القائمة و لا يُمكن أنْ تصدر إلاّ من رجل بعيدٍ عن أَتون الصّراع أو هو ليس معنيًّا به.
إنّنا مع الاحترام الواجب لكلّ هذه الجهود التي تُبذل،هنا و هناك، لتحقيق التّقارب بين الشّعوب و تحقيق الأمن و السّلم العالميَّين فإنه لا بدّ مِن الإشارة إلى وجود وسائل أخرى فعّالة و حاسمة يُمكن الاعتماد عليها،ابتداءً، و تبنِّيها لتحقيق هذه الأهداف الكبيرة و هما العدل و المساواة.
إنّه ليس كالعدل و المساواة دواءً لكلّ الأدواء في القديم و الحديث.و ليس كالعدل و المساواة حلاًّ لكلّ المشاكل و القضايا و النّزاعات لأنه يقضي على أسبابها الأولى فيجفّف منابعها و يمنع قيامها و يجتَثّ ما قد يسكن القلوبَ من ضغائن و سخائم و أحقاد.إنّ العدل و المساواة هما القيمتان الإنسانيّتان الأصيّلتان الكفيلتان بإنجاز هذه الأهداف الكبيرة و إشاعة الأمن و السّلم العالميَّين و تحقيق التقارب و التّعارف بين الشّعوب و الاحترام المتبادل.
إنّ تجسيد مبدأ العدل في العلاقات الدّولية و تحقيق المساواة بين بني الإنسان في كافّة المجالات الممكنة مُضافًا إليهما،و تابعًا لهما و ليس متبوعًا، مبدأُ التّبادل أو مبادئ أخرى ملائمة يُمكن استحداثها…كلّ أولئك هو الذي يجعلنا نقترب مِن حلّ قريب أو نَدنو مِن حلٍّ مقبول لمشكلة صراع الهويّة و ما قد ينشأ عنها من تطاحن و نزاعات بين الشّعوب.
ب– الإنسانيّة بدلاً من الدّين:
أمّا الحلّ الثاني الذي يقترحه أمين معلوف لتدجين الهويّة فهو موقفٌ نسيجُ وحدِه فيه كثير من الغموض و الاضطراب. و هو لهذه العلل فاقد للتّماسك و لا يمكنه أنْ يَحظَى بالقَبول و الاحتضان.
يقف أمين معلوف[19]،في صفحات طِوال، عند الانتماء الدّيني و يدعو صراحةً إلى إخراجه من بناء الهويّة أو جعله،على الأقلّ، عاملاً حياديّاً لا يؤثّر كثيرًا في سلوك الأفراد و الجماعات.و حجّته في ذلك أنّ الدّين حين يكون عنصرًا رئيسيًّا و فعّالاً في بناء الهويّة فإنه يسبّب كثيرًا من التّطاحن والفتن و الآلام بين بني البشر بعكس اللّغة أو اللّغات حين تكون هي الأُسّ و الأصل في هذا البناء فإنها تَستَحيل أداةَ قرب و جمع و وِئام و اتّصال.
ثم يؤكّد هذا المعنى بصيغة أخرى قائلاً إنّ فصل الدّين عن الدّولة لا يكفي و لكنّ المهمّ،بل الأهمّ، هو فصل عنصر الدّين عن بناء الهويّة.و يزيد الكاتب موقفه إيضاحًا قائلاً بأنه لا يدعو إلى عالم خِلْوٍ من الدّين لأنّ الدّين باقٍ أبدًا و لا يمكن لأيّ سياسة أو علم أنْ يُلغيه أو يتجاوزه.و لكنه يحلم بقيام عالم تكون فيه الممارسة الدّينية فرديّة و مقطوعة عن الحاجة إلى الانتماء.عالمٍ لا يصبح فيه الدّين رباطًا و أداة لأقوام يُشعلون الفتن و النّزاعات.
و زبدة هذا القول كلّه أنْ لا يشعر كلّ ذي نِحلة أو دين أنه معنيٌّ بالحاجة إلى الانتماء أو أنه في حاجة ماسّة إلى تحقيق التّواصل و الارتباط العضويّ مع إخوة له في العقيدة و الدّين.
و يختم أمين معلوف هذا الموقف متسائلاً: كيف نستطيع أنْ نخفّف من غُلَواء الدّين و جَعْله غيرَ ذي فاعليّة و تأثير في حياة الناس ؟ و هل هناك انتماء آخر يمكنه أنْ يُزاحم الدّين فَيَحِلّ محلّه و يجعله مُهمَلاً أو مهجورًا كما كان من قبل ؟ و يجيب في الحين: الانتماء إلى الإنسانيّة أو الانتماء إلى المجموعة الإنسانيّة.
و يزيد هذا الجواب جلاءً حين يلتفت إلى ظاهرة العولمة مؤكّدًا أنّ تقنيّات الاتّصال الجديدة التي اختصرت المسافات بين الشّعوب قد هيّأت لنا مناسبة التّعبير و الإعلان عن خصوصيّاتنا و اختلافنا و لكنّها،أيضًا، حقّقت لدينا الوعي[20] بمصيرنا المشترك و بجوانب التّشابه بَيننا و عناصر الاتّفاق.و ليس بمستبعَد أنْ يتنامَى هذا الوعي فينشأ عنه هويّة جديدة تكون هي حصيلة كلّ انتماءاتنا و يكون عنصر الانتماء إلى الإنسانيّة فيها هو العنصر الغالب الذي تزداد أهمّيته مع الزّمن حتى يصبح الانتماءَ الأساسيّ دون أنْ يؤدّي هذا الانتماء الجديد- أيْ الانتماء إلى الإنسانيّة أو الانتماء إلى المجموعة الإنسانيّة- إلى مَحو انتماءاتنا و خصوصيّاتنا المختلفة.
إن أوّل ما يقفز إلى الذّهن أنّ مصطلح الإنسانيّة الذي يعوّل عليه أمين معلوف،في هذا الشّأن، و يدعو إلى جعله بديلاً عن الدّين هو مصطلح غامض و فضفاض و هو ذو لُيونة عجيبة و تقلّب و ذو قابليّة للتّلون و التّشكل.و بسبب هذه الخصائص اللّصيقة به فإنّنا لا نكاد نجد اتّفاقًا واحدًا حول مضمونه و إجماعًا حول معناه.[21]
ثمّ إنّ الإنسانيّة ليست نوعًا واحدًا بل هي مذاهب و ألوان لها أصولها الفلسفيّة و منابتها و هي تختلف في حَمولتها و في أسسها اختلافًا يجعل من الصّعب التّوفيق بينها.فالإنسانيّة الوجودية،مثلاً، التي يؤمن أصحابها أنّ الوجود سابق على الماهية[22] تقوم على اعتبار الإنسان وحده خالق القيم و باعث الحياة في كلّ ما يختار و أنّ الإنسان لا يحقّق ذاته إلاّ بتفوّقه الدّائم على نفسه لأنه ليس هناك إلاّ فضاء واحد هو فضاء الإنسانيّة أو فضاء الذّاتية الإنسانيّة.و توضيح هذا الكلام أنّ الله ليس هو الفَوقيّة التي نندفع نحوها إذْ ليس هناك فوقيّة مطلقة بل عمليّات تفوّق دائمة.ثم تنتهي الوجودية إلى القول بأنها تعتمد الإلحاد للوصول إلى كلّ الحلول الممكنة و النّتائج.و حصيلة هذا المبدأ،عند أصحابه، أنّ الوجود الإنسانيّ هو الوجود الحقّ و أنّ الإنسان هو مركز الكون الوحيد و لذلك فليس لأحد أنْ يطالبه بفعل معيّن أو التزام مَا.[23]
أمّا الإنسانيّة التي يَشيع استعمالها في السّياسة و في بعض المناسبات و خطابُها الطّويل المملّ عن حقوق الإنسان و كرامته و نبذ التّمييز العنصريّ و الإشادة بقيم الأخوّة و التّضامن و الحرّية و العدالة و المساواة و الأمن و السّلام…
أمّا هذه الإنسانيّة و بنودها،و قد أشار إليها أمين معلوف[24] و أشاد بها، فهي التي تزرع الموت و الدّمار في أوطاننا و تغتصب أراضينا و تَسرق خيراتنا و طاقاتنا و تتحكّم في مصيرنا و تحوِّل أوطاننا إلى ساحات كبرى تُعرض فيها مشاهد الهَدم و القتل و البكاء و الدّموع و الجُثث و الأحزان و الدّماء و الأشلاء.و هذه الإنسانيّة هي التي يَستهويها الدَّمار و الخراب و تستحلّ استعمال الأسلحة الفتّاكة المحرّمة دوليًّا لقتل الأطفال و النّساء و الشيوخ و إنّ مشاهدها بل جرائمها لا زالت قائمة في فلسطين و العراق و أفغانستان و في كلّ مكان.
فأيُّ الإنسانيّات،إذنْ، هي التي يَعنيها أمين معلوف و يتحمّس لها و يراها جديرةً لأنْ تحلّ محلَّ الدّين فتحقّق الألفة و التّقارب و الاحترام المتبادَل بين الشّعوب ؟
و لقد تعمّدت الوقوف عند هاتين الدّلالتين المذهبيّة و السّياسية لمصطلح الإنسانيّة لِبيان أنّ ما يدعو إليه أمين معلوف ليس عمليًّا و لا يمكن تقاسمه أو احتضانه لأنه يتعارض كثيرًا مع اعتبارات مختلفة و مواقف تتعلّق بالثّقافة و العقائد و نظام القيم.إنّ مصطلح الإنسانيّة،خلافًا لما يتمنّاه أمين معلوف، لا يمكن أنْ يكون بديلاً عن الدّين و هو بهذا التّقلب و الغموض أو بهذه الحَمولة الشّائهة و هذا المضمون الكالح لأنّ البديل ينبغي أنْ يكون في مستوى المبدَل منه أو قريبًا منه أو يساويه و هذا ما لم يتحقّق بعضُه أو نصفه أو ثلثه في مصطلح الإنسانيّة.
و إنّ أوّل تناقض لا يَخفَى عند أمين معلوف أنه يدعو إلى استبعاد الدّين من بناء الهويّة و هو الذي كان قد أكّد،من قبلُ، أنّ الدّين عنصر حيويّ وفعّال في بناء الهويّة وأنّه يصعب على الإنسان،أيِّ إنسان، أنْ يحيا حياة فارغة من الدّين أو مُتنصِّلة تمامًا من قيمه و إيحاءاته و كذلك لا يستطيع أيّ عِلم أو نظام سياسيّ أنْ يَمحوه أو أن يحُلّ محلّه.
فكيف يكون الشّيء أساسيًّا و مهمًّا ثمّ يُراد حذفه ؟ و كيف يُثبت للدّين هذا العمق و هذه القوّة و المكانة ثمّ يدعو إلى تجاوزه و الاستعاضة عنه بمفهوم آخر كالإنسانيّة غامض و فضفاض تعدّدت حوله المشارب و المواقف ؟
إنّ الدّين،خلافًا لأمين معلوف، ليس بطبيعته مصدرًا للأحقاد و الشّنآن و لا هو وسيلةً لصناعة الموت و إقامة العداوات ابتداءً.إنّ للدّين وجودًا مستقلاًّ عن وجود الآحاد و الجماعات المنتمين إليه و هو ليس معنيًّا بالسّلوكات الشّاذة التي تدّعي انتسابًا إليه أو احتضانًا له.و إنّ الوعي الحقيقيّ هو فضح كلّ السّلوكات و المواقف التي تنتسب إلى الدّين زورًا و بهتانًا و تدّعي وَصْلاً به لتبرير النّزاعات و الأحقاد أو تزكية الظّلم و القتل و العدوان.أمّا الاتّكاء على النّماذج السّلبية و الاستدلال بالسّلوكات الخاطئة و تسليط الأضواء عليها وحدها دون غيرها لإبداء حكم عامّ أو تسجيل موقف قاطع فليس من النّزاهة العلميّة في شيء.إنّ هذه الأفكار حول الدّين و صناعته للكراهية و الأحقاد و كونه مصدرًا للعنف- إنّ هذه الأفكار قد كثر تداولها في وسائل الإعلام العالميّة المهيمنة حتى أصبحت منقوشة في العقل الباطن تُردَّد،هنا و هناك، عن غفلة و قلّة استيعاب.و لا أحبّ،في هذا المقام، أنْ أقف طويلاً عند هذه الأفكار و تحليلها فليس ذلك مطلوب هذا البحث.و لكنّي أقول،في كلمات موجَزات، إنّ القرن الماضي قد شهد حربَين عالميّتين بلغ ضحاياها حوالي 70 مليون نسمة،حسب بعض التّقديرات،و شهد حروبًا إقليميّة أخرى أنشأت كثيرًا من الأحزان و الخراب و سالت فيها كثيرٌ من الدّماء و الدّموع و سقط فيها من الضّحايا و الأشلاء ما سقط.و كلّ هذه الحروب لم يكن الدّين سببَها و لم يكن له أيُّ دَخل فيها من قريب أو من بعيد.فكيف تُطوَى مثل هذه الحقائق و الأفكار و لا يجيء لها ذِكر جادّ أو التفاتة مناسبة ثمّ يُراد لأفكار أُخرَ،خدمةً لجهات معيّنة أو ثقافات بعينها، أنْ يُكتب لها الذّيوع و الانتشار ؟
ج– التّعددية اللّغوية:
يذكر أمين معلوف[25] أنّ اللّغة،خلافًا للدّين، لا ينطبق عليها مبدأ التّفرد و الحَصر أيْ أنّ أيّ إنسان يستطيع أنْ يمارس،في الوقت نفسه، اللّغة العربية و الإيطالية و العبرية و غيرها و لكنه لا يمكنه أبدًا أنْ يكون يهوديًّا و مسلمًا و مسيحيًّا في آنٍ واحد.و يَلفت انتباهنا،بعد ذلك، إلى المزيّة المزدوَجة التي تتمتّع بها اللّغة و هي كونها عنصرًا من عناصر الهويّة و وسيلة للاتّصال.ثمّ يستند الكاتب على هذه الخصوصيّة المزدوَجة فيضيف بأنه لا يدعو إلى فصل اللّغة عن الهويّة،كما صنع مع عنصر الدّين، لأنه أمر غير مفيد و لا يمكن تخيّله أو التّفكير فيه ابتداءً كما يقول.
و يواصل أمين معلوف كلامه قائلاً إنّ الانتماء اللّغويّ عنصر هامّ في بناء الهويّة قد يُوازي الانتماء الدّيني أو يُضاهيه في الأهمّية و الشّأن.و قد تأكّد شعور كلّ الثّقافات بحاجتها القويّة،و الملِحّة أيضًا، إلى لغة الهويّة و إشباع انتمائها اللّغويّ.و إذا كانت ممارسة لغة الهويّة حقًّا مشروعًا لا يَقبل المساومة و التّفاوض فإنّ أيّ سلوك يستهدف قطع الحبل السرِّيّ الذي يربط الإنسان بلغته أو محاولة منعه،بشكل من الأشكال، مِن ممارسة لغته الأصليّة قد يؤدّي إلى ألوان من التّطرف و يفتح أبوابًا مِن العنف و النّزاعات يصعب سدُّها.
و تفاديًا لقيام نزاعات لغويّة،في المستقبل، يقترح أمين معلوف صيغة يراها ملائمة يتحقّق بموجبها صيانة اللّغة الأمّ و إشباع الانتماء اللّغويّ و ضمان التّواصل و التّقارب بين شعوب ذوات لغات مختلفات.و هذه الصّيغة التي يقترحها المؤلّف هي كالتّالي: إنّ كلّ إنسان،في عالم اليوم، يحتاج إلى إتقان ثلاث لغات: اللّغة الأولى و هي لغة هويّته و اللّغة الثّالثة و هي اللّغة الإنجليزية لأنها لغة تَبسط جناحها عل كلّ الأرض.و بين هاتين اللّغتين هناك اللّغة الوسطى و لْتكُن أيّ لغة أخرى يختارها الإنسان و تناسبه.و يزيد هذا المعنى وضوحًا حين يدعو إلى المحافظة على لغة الهويّة و عدم إهمالها ثمّ تعميم تعليم و استعمال اللّغة الإنجليزية مع التّأكيد على عدم كِفايتها وحدها.و بين هاتين اللّغتين الخاصّة و العامّة ينبغي تشجيع تعلّم اللّغات الأخرى حتّى يَنشأ،في كلّ أمّة و في كلّ بلد، طوائفُ من النّاس تُتقن لغات عالميّة كالإسبانية و الفرنسيّة و الألمانيّة و العربيّة و اليابانيّة و الصّينية…
و الحصيلة النهائيّة لهذه الصّيغة،في رأي أمين معلوف، هي تنمية كلّ العلاقات بين الشّعوب بما فيها العلاقات الثّقافية و التّجارية و ضمان نجاحها لأنّ الشّركاء في هذه العلاقات يكونون قد أبدَوا اهتمامًا سابقًا ببعضهم البعض حين تعلّم كلٌّ منهم لغة الآخر.و يخلص الكاتب إلى القول بأنّ هذه الصّيغة ذات أهمّية و نفع للآحاد و الجماعات و أنّ الذي تحقّقه متعدِّدٌ و ثريّ: إشباع الانتماء اللّغويّ و المحافظة على لغة الهويّة و دخول العولمة و التّعامل مع مظاهرها بلا خوف أو وَجل ثمّ المحافظة على التّنوع اللّغويّ لضمان التّواصل و تنمية العلاقات بين الشّعوب و إثرائها.و كلّ أولئك هو أفضل بكثير من أجواء الشكّ و البلبلة و التّوجس و الظنون.
استنتاج
يمكن القول،بعد كلّ ما تقدّم من أفكار، أنّ كتاب ( الهويّات القاتلة ) جدير بالقراءة و التّأمل للوقوف على فكر مثقّف لبنانيّ ذي مكانة و شأن و إنتاج كبير تجمّعت فيه انتماءات مختلفة كَتب في موضوع الهويّة بعد ما تابع المأساة اللّبنانية مهاجرًا في فرنسا ومراقبًا للأوضاع الدّولية المتقلّبة والنّزاعات القوميّة التي لا تهدأ.وإذا كان هذا الكتاب لا يخلو من أفكار جيّدة وآراء صائبة فإنه لم يَسلم،كذلك،من بعض الهنَات و عليه بعض الاستدراك.
إنّ الأمر الكبير الذي يؤكّد عليه أمين معلوف كثيرًا،في كتابه، و يردّده صراحة و إيحاءً أنّ الهويّة هي الدَّاء و هي مصدر الآلام و أصل كلّ الدموع و الدّماء و الأشلاء.و ليس مِن شكٍّ أنّ هذا الرّأي يتحلَّى ببعض الصّواب و أنّ له مِن الواقع التّاريخيّ الطّويل ما يُسنده و يُقوِّيه و يجعل وجهًا للهويّة كالحًا ينتفض أمامنا مذمومًا مدحورًا.
و لكنّ الذي لا يقوله الكاتب أو يتغافل عنه هو هذا السّؤال الكبير: متى تكون الهويّة مصدرًا للآلام و سبب الفتن و النّزاعات ؟ و لماذا تتنكّب عن وظيفتها الأولى فتستحيل أداةً وحشيّة من أدوات القتل و القَهر و الحقد و التّطهير العرقيّ ؟ و أين يحصل كلّ ذلك و كيف… ؟
إنّ الوظيفة الأولى للهويّة هي جمع شَتات النّفس الإنسانيّة و إقامة التّوازن بين دوافعها و تحقيق الانسجام في عالمها ذي التّعقيد و الغموض و تجنيب الشّخصية الإنسانيّة مزالق الفوضى و الحيرة و الانْبتات و صدِّها عن متاهات التّمزق و العنف و العدوان.فإذا شِيءَ لها وظيفة أخرى أو غاية مشبوهة فإنما هو حال شاذّ و وضع طارئ هي منه بَراء و يتحمّل عواقبَه و يَنُوء بأوزاره أولئك المرضى و المتطرِّفون الذين أفرغوها من حمولتها الإنسانيّة الأولى و شَحنوها بخليط غريب من الشّكوك و الظّنون و الخوف و التّربص و السَّخيمة و الحقد و العدوان.
ليس للهويّة،إذنْ، وضع واحد كما يوحي بذلك كتاب ( الهويّات القاتلة ) من خلال عنوانه و لكنّ لها أوضاعًا مختلفة تبعًا للظّروف التي تحياها و تبعًا للملابسات التي تغشاها و ما قد تتعرّض له من حَبس أو مطاردة و تضييق و ما قد تَنعم به مِن أمْن و حرّية و انتعاش.و إنّ الوقوف الجادّ عند مجموع هذه الظّروف و الملابسات و فَهمها و اكتناهها هو الذي يحدّد رأينا في الهويّة و في أوضاعها المختلفة و يزوّدنا بالقدرة على الحكم عليها و الموقف منها.و إنّ أيَّ محاولة لفهم ما قد يَطرأ على طبيعة الهويّة مِن تغيّر أو تحوّل أو شذوذ ينبغي أنْ يكون مسبوقًا بطرح مجموعة من الأسئلة،كالتي سبق بيانها، تُضيء هذا الأمر و تكون عونًا للباحث على تلمّس مواضع الخلل و استبانة أسبابه الأولى و معرفة دواعيه.
و لَو سأل أمين معلوف مثل هذه الأسئلة أو بعضها لفُتح له أبواب من الفهم مختلفة و ألوان من الرّأي متوازنة و لكنّه لم يَفعل ذلك أو أغفله أو لم يُرده صراحة.فكأنّه كان معنيًّا،ابتداءً، بتسجيل شيء آخرَ مرتَّبٍ في الذّهن سلفًا فهو يتتبَّعه و يَستهديه و ينشط له و يستوحيه و مِن ثمّ لم يطرح مثل هذه الأسئلة و لم يكلّف نفسه عناءها.
و قد يكتسب هذا الرّأي بعض قيمته و تبدو وَجاهة هذا الموقف بالعودة إلى الكتاب و الوقوف عند عنوانه مَليًّا و تدبّره: ( الهويّات القاتلة ) إذْ لا يفوت المتأمّل الحصيف أنْ يَلحظ فيه شيئًا من الحكم و يستنتج منه تلخيصًا سابقًا للموقف يجعله مُوحيًا بمضمون صفحاته قبل تَقليبها.و كأنّ الكاتب المحترم،بهذا الصّنيع، قد جنَى على نفسه فقيَّدها و جنَى على بحثه فأنهاه قبل أنْ يكتبه.
قائمة المراجع:
1- أبو البقاء أيّوب بن موسى الكفوي:الكلّيات.معجم في المصطلحات و الفروق اللّغوية.قابله على نسخة خطّية و وضع فهارسه.عدنان درويش و محمد المصريّ.مؤسّسة الرّسالة.ط.1.بيروت.1998
2-جان بول سارتر- الوجودية مذهب إنسانيّ.قدّم له كمال الحاج.دار مكتبة الحياة.بيروت.بدون تاريخ
3- جميل صليبا: المعجم الفلسفيّ.الجزء 1،2.دار الكتاب اللّبناني.دار الكتاب المصريّ.1978
4-دينكن ميتشال:معجم علم الاجتماع.تر إحسان محمد الحسن.دار الطّليعة.ط.1.بيروت.1981
5- عليّ بن محمد الشّريف الجرجاني: التّعريفات. مكتبة لبنان.طبعة جديدة.بيروت.1985
6- مجمع اللّغة العربية:المعجم الفلسفيّ.الهيئة العامّة لشؤون المطابع الأميرية.القاهرة.1983
7- مجموعة من المؤلّفين:معنى الوجودية.دراسة توضيحيّة مستقاة من أعلام الفلسفة الوجودية.دار مكتبة الحياة.بيروت.1978
8- محمد عليّ التّهانوي: كشّاف اصطلاحات الفنون و العلوم.الجزء 1،2.تقديم و إشراف و مراجعة رفيق العجم.مكتبة لبنان ناشرون.ط.1. 1996
9- مراد وهبة:المعجم الفلسفيّ.دار الثّقافة الجديدة.ط.2.القاهرة.1971
10- م.روزنتال و ب.يودين:الموسوعة الفلسفيّة.ترجمة سمير كرم.دار الطّليعة.ط.5 بيروت.1985
11- Amin malouf – Les identités meurtriéres,Grasset,Paris,1988
12- La grande encyclopédie . Vol 10,13 Librairie Larousse,Paris,France 1983
13- Guy michaud – Identités collectives et relations inter-culturelles ,Presse universitaire de France,1978
Webographie:
http://ejabat.google.com/ejabat/thread?tid=61feb7b785c01b3c
http://www.unesco.org/culture/pdf/2010/2010_leaflet_fr
1- صدرت الطبعة الأولى للكتاب في أكتوبر 1998 عن دار النشر الفرنسيّة ( Grasset )
2- الهويّة:في الكلّيات لأبي البقاء ص 961 « الأمر المتعقَّل من حيث إنه مَقول في جواب ( ما هو ) يسمّى ماهية.و من حيث ثبوته في الخارج يسمّى حقيقة و من حيث امتيازه على الأغيار يسمّى هويّة ».و قيل إنها « الحقيقة المطلقة المشتملة على الحقائق اشتمال النواة على الشجرة في الغيب المطلق ».و تطلق،أيضًا، على الشّخص،أو الموجود، إذا ظلّ الشخص ذاتًا واحدة رغم التغيّرات التي تطرأ عليه في مختلف أوقات وجوده.و انظر الجرجاني- التعريفات ص 258 و جميل صليبا- المعجم الفلسفي 2/531
3- الروم الكاثوليك:و هي إحدى الطّوائف المسيحيّة الشرقية التي قبِلت بالمبادئ العقَديّة و التنظيميّة التي أقرّها مجمع خلقيدونية Chalcédoine و أعلنها القيصر Malkâ السّوريانيّ سنة 451 م و من هنا جاء اسمها.و كنيسة الرّوم الكاثوليك أو اليونان الكاثوليك أو المَلْكيّين الكاثوليك تعترف بسلطة البابا في روما و لكنها تحافظ على بعض الطّقوس البيزنطية و تؤدّي شعائرها باللّغة العربية
انظر: http://ejabat.google.com/ejabat/thread?tid=61feb7b785c01b3c
و انظر أيضًا: 13/7835:La Grande Encyclopédie
1- الموقف: يقصد به التهيؤ العقليّ الذي يجعل الإنسان مستعدًّا للقيام بسلوك معين تجاه شيء أو حادثة أو هو كما شاع،في العصر الحديث، علاقة الموجود بغيره من الموجودات الأخرى.و هو حينئذ يكون دالاًّ على الموقف الكامل لا على الموقف العقليّ أو العاطفيّ فقط.و في الحالتين يكون الموقف مصحوبًا باستجابة خاصّة.انظر المعجم الفلسفي ص 197 و مراد وهبة – المعجم الفلسفي ص 437 و دينكن ميتشل-معجم علم الاجتماع ص 25-26
2-انظر: 16-21 p Les identités meurtrières
1- الظاهرة:يُقصد بها الواقع الخارجيّ المؤثّر في الحواسّ كالظّواهر الفيزيائية و الكيميائية و الفلكية كما تعني الواقع النفسيّ المدرَك بالشعور كالظّواهر الانفعالية و العقلية و الإرادية.انظر جميل صليبا-المعجم الفلسفي 2/30
1- الحسّ المشترك:و يُطلق على ما تشترك فيه عقول الناس من معانٍ كلّية أو أحكام أوّلية ثابتة لا تتغيّر أو هو مجموع الآراء التي بلغ انتشارها بين الناس درجة من الشّمول بحيث يُعدّ مخالفتها انحرافًا لا يحتاج إلى دحضه بالحجّة.انظر جميل صليبا- المعجم الفلسفي 1/469
2- التّماثل:أو المماثلة،عند المحاسبين، هي كون العددين متساويين و كلا العددين يسمَّى متماثلاً.أو هو « اشتراك الموجودين في جميع صفات النفس على الأصحّ ».انظر التهانوي-كشّاف اصطلاحات الفنون 1/506 و الكلّيات لأبي البقاء ص 311
3-التّماسك: تماسك الأفكار و المبادئ خلوُّها من التناقض و الاضطراب.و يُطلق على كلّ شيء صلب متين ذي صفات موضوعيّة ثابتة لا تؤثّر فيه الظروف العرَضيّة.و انظر جميل صليبا- المعجم الفلسفي 1/340
4-الهَيولَى: هي المادّة التي ليس لها شكل و تكون قابلة لأنْ تأخذ أشكالاً مختلفة و صورًا.و هي عند الحكماء ( شيء قابل للصّور مطلقًا من غير تخصيص بصورة معيّنة و يسمَّى بالمادّة ) و هي في كلّ الأحوال ( جوهر بسيط لا يتمّ وجوده بالفعل دون وجود ما حلّ فيه. ) انظر التّهانويّ – كشّاف اصطلاحات الفنون 2/ 704 و أبا البقاء الكفوي – الكلّيات ص 955
5-الفاعليّة: هي وصف لكلّ هو ما فاعل.و الفاعل هو ما له قدرة على الفعل و يقابل المنفعل و هو الذي لا قدرة له على الفعل. انظر مجمع اللغة العربية- المعجم الفلسفيّ ص 137
6-انظر: Guy michaud – Identités collectives et relations inter-culturelles p 11
1-انظر: 16-21 Les identités meurtrières p
2-المعطيات: ما يكون حاضرًا في الذهن قبل تناوله بالمعالجة و يقابله المستنبط و المركّب.و المعطيات في الرياضيات هي الكمّيات المعلومة التي يستند إليها لاستخراج الكمّيات المجهولة.و انظر جميل صليبا- المعجم الفلسفي2/424
3-الجوهر: هو الموجود القائم بنفسه حادثًا كان أو قديمًا و يقابله العرَض.و عند ديكارت هو الشيء الدّائم الثابت الذي يَقبل توارد الأوصاف المتضادّة عليه دون أن يلحقه تغيير.و انظر جميل صليبا- المعجم الفلسفي 1/394
1-انظر: 165 ,139-147, Les identités meurtrières p 52
1-انظر: http://www.unesco.org/culture/pdf/2010/2010_leaflet_fr
2-الذّات: ما به الشّعور و التّفكير فتقف الذّات على الواقع و توجد الصّور الذّهنية و تقابل العالم الخارجيّ.و الذّات أعمّ من الشّخص لأنّ الذّات يطلق على الجسم و غيره أمّا الشّخص فلا يطلق إلاّ على الجسم.و قد يُقصد بالذّات الماهية بمعنى ما به الشّيء هو هو و يقابله حينئذ الوجود.و يشيع إطلاق الذّات،في العصر الحديث، على الإنسان الإيجابيّ المتمتّع بالإرادة و الوعي.و انظر- مجمع اللغة العربية- المعجم الفلسفي ص 87 و الجرجاني- التعريفات ص 112 و جميل صليبا- المعجم الفلسفي 1/579 و م.روزنتال و ب.يودين-الموسوعة الفلسفيّة ص 216 و التّهانوي- كشاف اصطلاحات الفنون 1/876
1-انظر: 124-123, 114-115,111- 109,107 Les identités meurtrières p
2- الوعي: سيكولوجيًّا هو إدراك الإنسان لذاته و أحواله و أفعاله إدراكًا مباشرًا و هو أساس كلّ معرفة.انظر مجمع اللّغة العربية- المعجم الفلسفيّ ص 215
1-انظر: 6049/10 :La Grande Encyclopédie
2-الماهيّة:في التّعريفات للجرجانيّ ص 205 « ماهية الشيء ما به الشيء هو هو و هي من حيث هي هي لا موجودة و لا معدومة و لا كلّي و لا جزئيّ و لا خاصّ و لا عامّ ».أو هي الخصائص الذاتية لموضوع معيّن و تقابل الوجود و هو نوع من الحضور الفعليّ في العالم.و انظرالمجمع اللّغوي- المعجم الفلسفي ص 87 و لمجموعة من المؤلفين- معنى الوجودية ص 31
3-انظر: سارتر- الوجوديّة مذهب إنسانيّ ص 88- 89
4- انظر: Les identités meurtrières p 123-125
1-انظر: – Les identités meurtrières p 152-156,158-160,162-164