تجلّيات رمز الشرّ في الخطاب الرّوائيّ العربيّ : عزازيل ليوسف زيدان أنموذجا *
مقال نشر في العدد الثاني من مجلة جيل الدراسات الأدبية والفكرية ص 61 للأستاذ المنجي بن عمر / كليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة بالقيروان، للإطلاع على مقالات كل العدد يرجى الضغط على غلاف المجلة:
*** مُلخَّصُ البحث :
لقد بحثْنا في رواية “عزازيل” ليوسف زيدان عن رمزيَّةِ الشّيطانِ ، هذا الرّمزُ الدّينيُّ المُتَعلِّقُ بالشرِّ حضورًا وغيابًا . فهو مُبرِّرُه في كلِّ الأزمنةِ وعند جُلِّ الشّعــوبِ . وقد تَجلَّى فِعْلُهُ في هيبا : الرّاوي/الإنسان ، الذي يُدوِّنُ سيرةَ صِراعِهِ مع الشرِّ (عزازيل) ، مُصوِّرًا أطْــوارَ رحْلةٍ ملحميَّةٍ يَخوضُها كلُّ إنسانٍ في هذا الكونِ منذ بدْءِ وعْيهِ الوُجـودَ . فالشرُّ قيمةٌ أخلاقيَّةٌ نُدْرِكُها من خلال نقيضها الخيْر ، تمامًا، كتصوّرِنا لصِلَةِ الله بالشّيطان . وقد مثَّلَ عزازيل في هذا الخِطاب الرِّوائيِّ رمزًا صريحًا للشرِّ ، فحُضـورُه فاعلاً سرديّا في أحداثِ الرّوايةِ موصُـولٌ بحُضورِ هيبا في السّرْدِ طرَفًا في نَسَقِ سيْر الأحداثِ المَرْويَّةِ . أمّا غِيابه ، فيَبْرزُ من خلال دورِ هيبا الواصِفِ للمشاهِدِ غير المشارِكِ ، فعليًّا ، فيها : مشهد اغتيال هيباتيا ، مثلاً ، أو مشهدِ مقتل والدهِ…إذن، هيبا وعزازيل مُتلازِمانِ في الرّوايةِ ، بهما خرجَ النصّ إلى الوُجودِ . ألمْ يُقْنعْ عزازيل هيبا بلُزومِ تدْوينِ سيرتِه ، كيْ تَظلَّ شاهِدًا على وقَائعَ تاريخيّةٍ مؤثِّرةٍ عايَشَها ..؟؟
ينتهي بنا تأويلُ رمزِ الشرِّ في رواية “عزازيل” إلى جُملَةٍ من النّتائجِ يُمكنُ أنْ نُجْمِلها في أربعِ نقاطٍ : أوّلها ارْتِباطُ الشرِّ بالعقوبةِ التي تعرّضَ إليها آدمُ بسببِ إغواءِ الشيطان لقرينِهِ حوّاء عبر حثّها على ارتكابِ المحْظورِ الدّينيِّ ، فالشرُّ ، إذن ، مُتأصِّلٌ في الكونِ . أمّا ثانيها ، فيتمثّلُ في صِلَةِ الإنسانِ بالشرِّ ، إذ أنّ الشرَّ فِعْلٌ إراديٌّ يمتلكُ ناصِيَتَه الإنسان ، فهو مصدَرُهُ وضحيّتُهُ ، ولا شيطانَ إلاّ شيطانُ النّفسِ الأمَّارةِ بالسّوءِ . وأمّا ثالثها ، فيظهرُ في علاقةِ الشرِّ بالمرأةِ التي كانت سببًا في سُقوطِ آدم من جنّتهِ ، وسُقوطِ هيبا من نعيمِ اليَقينِ ونِعْمةِ الاطمئنانِ . والنّتيجةُ الرّابعةُ ، فنزْعمُ أنّها الأهمّ ، وتتعلّقُ بماهيّةِ رمز الشرِّ عزازيل ، كما يَجْلُو في الرّوايةِ : هل هو نحن ، أمْ هو غيرُنا ؟.. هل هو الإنسان المُريدُ ، المُدْرِكُ لأفعاله ؟..أم هو الملاكُ المُتسلِّطُ/المُتحكِّمُ في أفعالِ البشرِ ؟؟..
ومهْما يكُنْ “عزازيل” ، فإنَّ الرّوايةَ أضحت به أثَرًا فنيًّا ، تُمْتِعُ بسحرِ خيالِ مبْدِعِها ، وتُثيرُ الفكرَ بما تَكْتَنِزُ به من معارِفَ تشْهدُ بثراءِ زادِ مؤَلِّفِها .
** توطئــــــــــة:
يَتَجَلّى الشّر في رواية”عزازيل” * ليوسف زيدان خطابًا رمزِيًّا :(discours symbolique)،يَتَشَكّلُ وِفْقَ أنْسَاقٍ مُتَعدِّدَةٍ : دِينيَّة وفلسفيّة ونفسيّة…فَحِينَ نَتَأَمَّلُ البِنْيَانَ الدّلاليّ لهذَا الخِطَابِ الرّوائي، نُدْرِكُ الحُضُورَ اللاّفتَ للشرّ رمزًا ، يرْتَبِطُ ب “عزازيل” : الرّمْز الكَوْنِيّ للخَطيئةِ وَ السُّقُـوطِ منذ الأَزَلِ(شَرُّ البدَايَاتِ) . فقدْ سَعَى يوسف زيدان في هَذَا العَمَلِ الرِّوَائِيّ إلى إضْفاءِ النَّزْعَةِ التَخْيِيلِيَّةِ عَلى الوَقَائِعِ التاريخيّة التي شَهِدَتْهَا المُؤَسَّسَةُ الكَنسيَّةُ في القَرْنِ الخَامِسِ الميلادِيّ . وهْيَ وَقَائِعُ يَسْرُدُهَا “هيبا” في ثَلاَثِينَ رِقًّا : مُخْبِرًا فيها عن سِيرَتِهِ العَجِيبَة ِ، مُصَوِّرًا صُرُوفَ حَقْبَةٍ زَمَنِيَّةٍ تَغَوَّلَ فيها الشَّرُ، وَتَسَيَّدَ فيهَا “عزازيل”. وَلَعَلَّ مَا يَسْتَوْقِفُ المُتَقَبِّلَ لهَذِه الرِّوَايَة ِ، اكتساحُ رَمْز الشّر:”عزازيل” لأغلب أَحداِثها وفُصُولِها (الرُّقُوقِ). هذا الرّمز الدّينيّ الذي يُحَمّلُهُ زيدان رُؤَاهُ و تطلُّعَاتَهُ و هَواجِسَهُ ، فتَمْتَزِجُ في النصّ سيرة هيبا بسيرةٍ زيدان الفكريّة . وتَلْتَبِسُ على القارِئِ/المُؤَوِّلِ سُبُلُ و مسَالِكُ المعْنى ظَاهِرُهُ وبَاطِنُهُ : فهل هي سيرة هيبا (الشخصيّة القَصَصِيَّةُ المُتَخَيِّلَةُ) ؟.. أَمْ هيَ شَوَاغِلُ زيدان الفِكريَّة وإرْهَاصَاتُ معـارفه المُتَنوِّعَةِ ؟.. وَلِمَنْ يُنْسَبُ عزازيل ؟.. هَلْ هُوَ شيطـان هيبا/ الحَائِرِ ؟.. أَمْ هُوَ شَيْطَـانُ زيدان /المتَسَائِل ؟.. ألَمْ يَكُنْ لِكلّ شاعِرِ في الجاهِلِيَة شَيْطَانُهُ ؟.. . لكنَّ ، شياطينهم تُبْدِعُ فَنًّا يُحَلِّقون بِهِ في سَمَاءِ الكوْنِ الشّعْرِيّ ، أمَّا شَيْطَان زيدان فهْوَ يُغْرِقُ “هيبا” الرّاَهِبَ ، المُتَدَيّنَ ، المُتَرفِّعَ عن الإثْمِ في دَنَسِ ووَحَلِ الإنسان/ سَليلِ الخَطِيئَةِ . غَيْرَ أنَّ ذَلِِكَ لاَ يَجْعَلُنَا نُنْكِرُ فَضْلَ عَزَازيل الذي وَهَبَنَا نَصًّا رِوَائِيًّا مُمْتِعًا ، يَحْمِلُنَا عَبْرَ أَجْنِحَةِ الخَيَالِ إلى زَمَنٍ تَصَارَعَتْ فيه الأَهْوَاءُ و الأَمْزِجَةُ والأَدْيَانُ . فَيَكْشِفُ بَصَائِرَنَا و يَجلُو أبْصَارَنا .
إنَّ رواية” عزازيل ” تَخُوضُ في اللاَّهوتِ المَسِيحِيّ ، من خلالِ جُرأَةِ مُبْدِعِها على َالغَوْصِ في مَسَارِبِ المَحْظُورَاتِ : (les tabous) ، بما يمْتَلِكه من زادٍ معرفيٍّ واسِعٍ . فَرَمْزِيَّةُ “عزازيل” تُسْتَشَفُّ من الصّراعات التي كانت الكَنائِسُ مَسْرَحًا لَهَا،ومن الجَوْرِ الدّينيّ الذي كانت “هيباتيا ” ووالد “هيبا” وعائلة “أوكتافيا” ضَحِيَّةً لَهُ . لقدْ كان الشَّرُ سِمَةً مُهَيْمِنَةً : (symbole dominante) تَسِمُ الرِّوَايَةَ مُنْذُ عَتَبَتِهَا الأولى (العنْوَانُ) . وَقَدْ يَكَونُ ذَلِكَ مَا حَفَّزَنَا إلى مُحَاوَلَةِ فَكِّ شَفَرَاتِ رُمُوزِهَا ، مُسْتَنِدِينَ إلى خِطَابٍ تَأْوِيليٍّ نَأْمَلُ أنْ يُمَكِّنَنَا من تَقَصِّي دِلاَلاَتِ رَمْز الشّرِ وتَجَلِّياتِهِ في المَتْنِ الرِّوائي وفي العَتَبات(seuils).
كذلك “عزازيل”، لَمْ يَكُنْ شَخْصِيَّةً روَائِيَّةً تُعَرْقِلُ مَسَارَ حَيَاةِ “هيبا ” الرَّاهِبِ ، فحسب ، بل كان فاعِلاً سَرْدِيًّا:(actant narratif) يؤَثِِّر في نَسَقِ سَيْرِ الأحْدَاثِ ، يُبْطِئُها حِينًا فاسِحًا المَجَالَ للمُشَاهِد : (les scènes) والوَقَفَاتِ:(les pauses) ، وَيُسَرِّعُهَا أحْيَانًا أُخْرى دَافِعًا بِالسَّرْدِ إلى مُنْتَهَاه . فهو الشَّخصّية السرديّة:(personnage narrative) المِحوريَّةُ في هذا الخطاب الرّوائي : يُحَاوِرُ “هيبا ” ، ويُحَرِّضُهُ على فِعْل الكِتَابَةِ ، يَلُومُهُ تارةً ، و يُؤَنِّبُهُ طَوْرًا آخرًا .يكشِف الحجابَ عن ذاته ، فَيُخْبرهُ أنه الشّر المُتَجَذِّرُ في الخليقةِ مُنْد بدء الخَلْقِ ، وألاَّ وُجوُدَ لَهُ إلاّ فيه (هيبا/الإنسان) ، و يُدركُ “هيبا” أنّ “عزازيل” هو سببُ سُقُوطه ، لمَا يَتَمَيَزُ به من حيَاكَةٍ للمَكْْرِ الخَبيثِ : يُزَيّنُ الرّذائل و الشّرُورَ ، و يُنَوِّعُ طُرُقَ الغِوَايَةِ ليُوقِعَ ِبهِ في الهُوّة السَّحِيقَةِ ، أليس هو رمز الشّرّ و رسوله بين العالمِينَ ؟ …
ليست مَهَمُّةُ تأويل الرّمز في رواية “عزازيل ” يَسيرةً ، إّنما هي من المشقّةِ بمَكَان ٍ، فالمعَاني غُلْفٌ ، سَميكَةٌ حَمَّلَهَا زيدان زادًا مَعْرفيًا مُتَنوّعًا، ممّا يَجْعَلُ المُؤَوّل يُطاَردُ المَعْنَى ، آملاً تَوْسيعَ أُفُق التَقَبّلِ عَبْرَ قراءَة مُنْتجَة لدِلالاتٍ أَعْمَق . فَكَيف عبّر “عزازيل” عن الشّر المُتَأصِّل في الكَوْنِ ؟.. وَ مَا عَلاَقَتُهُ بالإنْسانِ؟.. وَ كَيْفَ نَصَبَ حَبَائِلَهُ للإيقَاعِ ب”هيبا” الرّاهِبِ المُتَزَهّدِ ؟..
1 -عَزَازيلُ / الشّرُّ المُتأصِّلُ : تَبْدُو أصَالةُ “عزازيل” رَمْزًا للشّر ، مَجَال اتّفاقٍ بين الأديانِ السَّماويَّة الثّلاثة : (اليهوديّة /المسيحيّة /الإسلام). فَقَدْ رَبَطَ الفكر الدّيني بين وُجُودِ الشّر أوْ بَدْءِِ وُجُودِه وقصّة أوْ أُسْطُورَة آدم – على حدّ عبارة بول ريكور – . فالشّر قَرِينُ الخَطِيئةِ التي أنْزَلَتْ آدم من عَلْيَائِهِ ، وَرَمْزُهُ مُتَعدّدُ الوُجُوهِ ، أحَاديُّ الفِعْلِ : عزازيل / الشّيطان / إبليس / الحيّة ….. مَهْمَا كان شَكْلُه ، فإنَّ هَدَفَهُ وَاحِدٌ : حِرْمَانُ آدم من نَعِيمِهِ وَتَضْليلُهُ عن الطّريق القَويمِ (مسْلَك الإيمان الوِجْدَانيّ الغيبيّ) ، ذلك أنّ : “الأفعى (الشيطان) ، تُمثِّل في قلب أسطورة آدم نفسها ، الوجهَ الآخَرَ للشّر (…) الشّرُّ الموجودُ من قبل هنا ، و الشّرُّ يُحَاوِلُ أنْ يَجْتَذِبَ الإنسانَ و يَفْتِنَهُ . وَتَعْنِي الأفعى أنّ الإنسان لا يَبْدَأُ الشّر ، بل يَجِدُهُ . بالنّسبة إليه ، فإنّ البدءَ يعني الاستمرار (…) ، الأفعى تُمَثِّلُ تقاليدَ للشّرِّ أكثر قدمًا منها بالذّات . إنّ الأفعى ، هي الآخر للشّرِّ الإنسانيِّ… “[1] . هذا الشّاهد يَدْفعُنا إلى ضَرُورَة ِتِبْيَانِ العَلاَقةِ بين أَوْجُهِ هذا الرّمز المُتَعَدِِّدِ كَيْ نُؤَكّدَ -مع ريكور- على تَجَذُّرِ رَمْز الشّر في الكَوْنِ .
و لَنْ نَتَمَكَّنَ من ذَلِكَ مَا لَمْ نَجِدْ سَنَدًا قَائِمًا على شِبْهِ إجْمَاعٍ بين أَطْرافِ الفِكرِ الدِّينِيِّ الذي عرَفتْه الإنْسانِيَّةُ ، و لعلَّ ذلك يَتَحَقّقُ حين نَحُدُّ هذا الدّال (عزازيل) مُعْجَمِيًّا : فقد أوْرَدَ بن منظور في “لسانه” تَعْرِيفًا يُضِيءُ جَانِبًا من هذا الفكر ، فهو يَقُول : ” الشّيطانُ حيَّةٌ له عُرْفٌ(…) والشّيطانُ لاَ يُرَى ، ولكّنه يُسْتَشْعَرُُ أنَّهُ أقْبَحُ ما يَكُونُ من الأشْيَاءِ(…) وكذلك قَوْلُهُ إنّ َالشيطان يَجْري من ابن آدم مَجْرى الدَّمِ ، إنّما هو مَثَلٌ أيْ يَتَسَلَّطُ عَلَيْهِ فيُوَسْوِسُ له ، لا أنَّهُ يَدْخُلُ في جَوْفِهِ … ” [2] . وَمَا نَصِلُ إليهِ من هذا التَّحْديدِ المُرْتَبِط بِمَرْجَعِيَّةٍ إسلاميّةٍ مُوَجِّهَةٍ لزاوية النَّظر إلى الشّر ، يُمْكِنُ أنْ نُجْمِلَهُ في عُنْصريْنِ : أَوَّلاً هذه المُطَابقة بين الحيّة و الشّيطان في الماهِيَّةِ و هذا يُعَدُّ قَاسِمًا مُشْتَرِكًا بين الأديان ، فالقصّة التَّوْراَتِيَّة تَعُودُ بالخَطِيئةِ إلى الحَيَّةِ / الإغْوَاءِ . ثَانِيًا ظَاهِرَةُ تَسَلُّطِ الشيطان على الإنسان عَبْرَ وَسْوَسَتِه ِ/ إغْرَاءَاتِهِ / إيحَاءَاتِه التي تَنْضَحُ فِتْنَةً ، وهذه الفِكْرَةُ نَجدُ صَداها في الدّيانة المسيحيّة ، حيث أنَّ البند العاشر من إعلان الإيمان لكنيسة الإصلاح يَقُولُ بأنَّ : ” كُلّ سلالة آدم قد تفشّت فيها هذه العدوى ، والتي هي الخطيئة الأَصْلُ و نَزْعَةُ الشّر المَوْرُوثَةُ … ” [3] . إذن ، لقد تَجَذَّرَ الشّرُ في الخلِيقةِ ، ربّما وُجِد قَبْل أَنْ يُوجَدَ الإنسان ، إذ أنَّ :” ” إبليس ” مشتّق من فعل أَبْلَسَ ،وأَبْلَسَ من رَحْمَةِ اللّهِ أَيْ يَئِسَ ونَدِمَ ، ومنه سُمِّيَ إبليس وكان اسمه “عزازيل”،وفي التَّنْزيل العزيز ” يَوُمَئِذٍ يُبْلَسُ المُجْرِمُون ” وإبليس، لعنة اللّه : مشّتقّ منه لأنَّهُ أَبْلِسَ من رحمة اللّه أي أَُويسَ … ” [4] ، و يُبيِّنُ مالك الشّبل في ” معجم الرّموز الإسلامية ” سبَبَ يَأْسِ إبُليس من رَحْمَةِ اللّه : ” لأَنَّهُ رَفَضَ الانحناءَ أَمَامَ العظَمَةِ الإلَهيَّةِ ” [5]، مُسْتَدِلاًّ بالآية الخمسينَ من سورة “الكهف” ، و الآية الرَّابعةِ والثّلاثينَ من سورة “البقرة “. و قد يَكون ُ هذا الرَّفْضُ هو بِدَايةُ الصِّراع بين قيم الخيْرِ المُطْلَقِ وقيم الشّر المَحْض ، بين اللّه و الشّيطان الذي يُعْتَبَرُ الخَصْمَ (l’adversaire ) أو النَّقِيضَ : “الشّيِِْطان عِبارة ٌتَعْني الخَصْمَ (…) وَهذا المصطلح سَيَتَطَوَّرُ لِيَدُلَّ على كلّ َكائِنٍ مُتَجَذِّرٍ في السّيئَاتِ ، ثمّ يَتَحَوَّلُ إلى اسم عَلَمِ دَالٍّ على قُوّةِ الشّر : (puissance du mal) ، مُرَادِفٍ للتّنين و إبليس و الحيّة … و وُجُوهٍ أخرى لفِكْرَةِ الشّر . و الشّيطان يُغْوِي الإنْسانَ لِيَدْفَعُهُ إلى الخطيئة / الذّنب ، كما فَعَلَتْ حيّةُ بِدايةِ التَّكوينِ … “[6] . فالشّيطان هو قُوَّة الشّر المُوَاجِهَةُ لقُوَّةِ الخَيْرِ (اللّه) ** . وَقَدْ طُرِحَتْ ثُنائِيَّةِ الخَيْرِ و الشّر مُنْذُ بِداَيَةِ الوَعْي الفَلْسَفِيّ ، فقد أَثَارَت الفلسفة الهندِيَّةُ والفلسفة اليونانيّةُ قضيّة حرِّيةِ الاختيار بين الخير و الشّر ، ثمّ تَوَسَّعَتْ دَائِرَةُ الجدل حَوْلَ هذه المسألة في الفلسفة الإسلامية ، فَأَنْتَجَتْ فِرَقًا كَلاَميَّةٍ أَثْرَتْ زَادَ الفكر الإنساني *** .
لَمْ يَخْرجْ عزازيل “هيبا ” عن الصُّورة النّمطيّة للشّيطان ، إذ هو يُجَسِّدُ قيمة الشّر التي تُوَاجهُ قيمة الخير (من مَنْظورٍ إيمانيٍّ وُثوقيٍّ) . فهو النَّقيضُ ، يقُول “هيبا” أثناءَ بعض فتَراتِ جلْد الذّات :”أنا اْلتِبَاسٌ في الْتباسٍ ! و الالتِباسُ نَقيضُ الإيمان ، مثلما إبليس نقيض اللّه …” [7]. ثمّ يُضيفُ في حِوَارٍ حجاجيٍّ ثنائيّ جمعه و “عزازيل” : “- هل خلق اللّه الإنسان أم العكس ؟
– ماذا تَقْصِد ؟
– يا هيبا ، الإنسان في كلّ عَصْرٍ يَخْلُقُ إلهًا على هواه ، فإلههُ دَوْمًا رُؤَاهُ و أحلامه المستحيلة ، ومُنَاهُ .
– كُفَّ عن هذا الكلام ، فأنت تعرف مكانك من اللّه ، فلا تَذْكُرْهُ
– أنا مذكورٌ يا هيبا ، مادام هو مَذْكورًا !
غَلَبَني الغِيَابُ ، فتركت عزازيل يقول ما يُريِدُ وانْصَرَفتُ عنه … بَعْدَ حين عُدتُ إليه ، فكان يتكلَّمُ مُنْفَرِدًا . أنْصَتُُّ ، فَوَجَدْتُهُ يقول بلغة غريبةٍ ما مَعْنَاهُ : أنَّ اللّه مُحْتَجِبٌ في ذَوَاتِنا ، و الإنسان عاجِزٌ عن الغَوْصِ لإدْرَاكِهِ ! ولمَّا ظنَّ البعض في الزّمن القديم ،أنّهم رسموا صورة للإله الكامل ، ثمّ أدْرَكوا أنَّ الشّر أصيلٌ في العالم ومَوْجُودٌ دَوْمًا أوْجَدُونِي لِتَبْرِيرِهِ …” (ص 384) . هَلْ يُمْكِنُ، إذَنْ، أنْ نَعْتَبِرَ الشّيطانَ ضحيّة لهيبا، نفسه، وللإنسانيّة جَمْعَاء ؟ .. . قد يكون ذلك مُبَرَّرًا ما دام “عزازيل” / الضّحية رَمْزًا لشّرٍّ كامنٍ في الإنسان ، سَابِقٍ لِوُجُودِهِ ، لا تَخْلُو أمّة من الأممِ منهُ ، ولن تَسْتَقيمَ الحياة دُونَهُ .
إنَّ صورة الصّراع بين هيبا (الرّاهب) وعزازيل (المُذْنِب) تُعَبّرُ عن أزَلِيَّةِ ثُنَائيّة : الخير و الشّر / اللّه والشّيطان ، وقد كانت المقاطع الحوارية التي صاغ بها زيدان هذا الصراع مُمْتِعَةً ، فقد وَظَّفَ فيها مُخْتَلَفَ أَنْوَاعِ الحِوار : (المباشر/ المنقول /الباطني …) ، وَنَوَّع لَهَجاتِ القَوْلِ التي تَرَاوَحَتْ بين اللّين والشّدة ، و القوّة و الانكسار، حسب حالات النفس المُضْطرِبَةِ ، لِيَرْسُمَ مَشْهَدًا حِوَارِيًّا(scène dialogiqueَ) يُثيرُ العَقْلَ والوِجْدَانَ ، فهو ذو طَابع سِحْرِيّ ، يَدْفَعُ القَارِئَ إلى مُجَالِسَةِ شَيِِْطَانِهِ في لَحَظَاتِ بَوْحٍ مُحَفِّزَةٍ على ضَرُورَةِ خَوْضِ تَجْرِبََةِ السُّؤالِ تَأْسيسًا لكيانٍ وَاعٍ . وقَدْ حَرِصَ زيدان على تَأْكيد العَلاَقَةِ بين الإنسان و الشّيطان من خِلالِ عَتَباتِ َنصّهِ (les seuils ) ، خاصّة المُصَاحِبَات النّصيّة الدّاخليّة (les péri textes) **** ، إذ يُصَدِّرُ نَصَّهُ بِحَديثٍ للرَّسول صلّى اللّه عليه و سلّم : “لكُلِّ امرئ شَيْطَاُنهُ ، حتّى أنا ، غَيْرَ أنّ اللّه أَعَانَنِي عليه فَأَسْلَمَ … ” وهو حديث يُثَبِِّتُ تَأَصُّلَ الشّر
ويَدُعَمُهُ بحُجَّةٍ دِينيَّةٍ تُبَيّنُ أَنَّ الرُّسُلَ لَيْسُوا في مَأمَنٍ من الشّيْطان . وَتُقِرُّ عَتَبَة العُنوان (عزازيل) وبعض العناوين الدَّاخِليّة 🙁 غوايات أوكتافيا/التّيه/مدينة الملح والقسوة/كمون الإعصار..) ، بأنّ رمزَ الشّرِّ يُلاحقُ الإنسان ، بل يَتَلَبَّسُ به ويَسعى إلى إغوائِه بطرقٍ شتّى ، ليَضمَنَ سُقوطَه في الجَحيمِ أوْ حُلولَ رُوحِهِ في كائنٍ شرّيرٍ بعد موته – كما يعْتقِدُ أتبـاعُ بعضِ الدِّيـانات الهنديَّةِ القديمةِ- . ومن المُفارقَات التي تَطْرَحُها عَتَبةُ العُنوان ، هذا الارتباطُ الوثيقُ لُغويّا بين الله و”عزازيل” ، إذ أنَّ لفظ :”عزازيل” : “مشْتَقٌّ من اسم الله “إيل” مثل إسرائيل وبيت إيل…”[8] ، وهو ذو أصلٍ عبريٍّ . وقد تكون صِلةُ “عزازيل” بالله مُثْبِتَةً لتلازُمِ الخيْرِ والشرِّ، وداعِمةً لتَأصُّلِهما ، فمتى وُجِدَ الخيْرُ كان الشرُّ ، وأنَّى وُجِد الله كان “عزازيل” ،وبينهما كان الإنسانُ ف: ” الآبُ السّماويُّ خَلقَ آدمَ على صورته ،ليكون خالدا . غير أنّ آدمَ انْخَدَعَ بوسْوسة إبليس ، فعصى ربّه القُدُسَ ، وأكلَ من الشَّجرةِ المُحرَّمَةِ ، على أملِ أنْ يَصِيرَ إلها . خدعه “عزازيل” اللَّعين بوسْوسته ، فأخطأَ آدمُ وعُوقِبَ بالطّرْدِ من الجنّة ، بحُكْم قُدوسيّةِ الرّبِّ الإله…”(ص28) . لعلّ هذه الخَطيئةَ/الأصلَ ، تُشَرِّعُ لمنطقِ الشرِّ الموروثِ الذي لازمَ الإنسانيّةَ ، ولا زال مُسْتمِرًّا ، وسيظلُّ كذلك حتّى فناء الكونِ .
إنَّ خطابَ الشرِّ في رواية “عزازيل” يَتَجاوزُ المستوى الفرديَّ إلى الجَماعيِّ ، و”هيبا” رمزٌ للإنسان في كُلِّ عصرٍ ، هذا الإنسان الذي ظَلَّ مُعلَّقا بين السّماء والأرض ، يُحاولُ جاهدًا أن يسمُوَ برُوحهِ إلى المثال/الله ، فيَصطدمُ بنُزوعِ الجَسَدِ إلى التُّرابِ حيث الفِتَنُ و أغلالُ الشَّهَواتِ : “كان الصّوتُ الهامسُ ذاتُه ،الذي عرفْتُ بعدها بأسابيع ،أنّه صوت عزازيل.
كان يَسْتَعْطِفُني بنِداءٍ باطنيٍّ عميقٍ : لا تَفْقِدْ مرتا ،مثلما فقدْت أوكتافيا قبل عشرين عاما .
– لمْ يكنْ صوتي ،يا هيبا ، كان ذاك نِداء روحِكَ .
– عزازيل ،لا تُشَوّشْ عليَّ ، دعْني أُكملْ الكتابة ، فقدْ صار وقتي ضيّقًا ،وصَدْري ، فسوفَ أرْحلُ عن هنا بعد أيّامٍ…” (ص334) .
أَقَدرُ الإنسان أنْ يَتَحمّلَ وِزْر الخطيئة ، ويَعيشَ في أَتونِ صراعٍ مريرٍ ؟؟.. . تلكَ هي الحقيقة التي يَسْعى زيدان إلى إماطَةِ اللِّثامِ عنها ، كاشِفًا عن اضطرابٍ يَسْتَبِدُّ بكُلِّ إنسانٍ يُفَتِّشُ عن معنًى لوُجودِهِ . فكأنّ الرّوايةَ قادِحٌ للسّؤال الحارقِ : كيف نَنْجو بأنفُسِنا من شرٍّ تأصَّل فينا ولازمنا كظِلٍّ لا يُفارِقُنا ؟..
” – دَعِ الأموات يَهْنأون بموتهم ، وخُذْ مرتا وعُدْ إلى بلادِك الأولى .
– اسْكتْ وعُدْ أنت من حيث جئت…أيّها الوجودُ الغامضُ المُخايلُ .
– أعِدْني أنت ، فأنت الذي أوْجدْتني .
– أنا لم أوجِدْ أحدًا ..أنا الآن أحلمُ .
– إذن ، سوف يطولُ حُلْمُك يا هيبا !..
– أنت تُناديني باسمي المشْهورِ ..فما اسمك أنت ؟
– عزازيل…” (ص346) .
قدْ يكون هذا الحوارُ من أفضلِ المناطِقِ المُؤثِّرةِ في هذه الرّواية ، فالأعمال اللّغويَّةُ الموزّعةُ بين الأمر والنّفي ، تَفْضَحُ الصّراعَ الذي عـاشَه هيبا/الرّاهب : المُتَزَهّدُ في ملكـوت الرّحمان ، في مُوَاجهة هيبا/الإنسان: العـاشق لزينة الحياة . ويَتَواصلُ هذا الحوار الحِجـاجيُّ ، الذي تبلُغُ فيه الرّوايَةُ أكثر المناطقِ جَماليّةً فيها ، في الرقِّ الثّامن والعشرين ، حيث يرسُمُ زيدان مشهدًا يجمعُ هيبا بعزازيل في حوارٍ وجدانيٍّ فكريٍّ يَبْحثُ مسائلَ فلسفيّة شائكةٍ بأسلوبٍ أدبيٍّ مشوِّقٍ ،تُطَرِّزُه اللّغة الصّوفيّة التي تنهلُ من معاجم الوجْدِ والشّوقِ : ” سألت عزازيل عن المعنى الواحد لأسمـائه الكثيرة ، فقال : النّقيضُ . عزازيل نقيض الله المأْلوه… هذا ما قاله لي همسًا ، بلغة أخرى ، غير اللّغة السّابقة التي لم أعرفْها . غير أنّني فهِمتُ عبارته ، وهِمْتُ في معانيها …هو إذن نقيضُ الله الذي عرفْناه ، وعرّفْناه بالخير المحضِ . ولأنّ لكلّ شيء نقيضا ، أفْردنا للشرِّ المحْضِ كيانا مناقضا لما افترضْناه أوّلا وسمّيناه عزازيل وأسماء كثيرة أخرى .. قلت هامسا : – لكنّك يا عزازيل ، سَبَبُ الشّر في العالم .
– يا هيبا ، كن عاقِلاً ، أنا مُبرّرُ الشّرور … هي التي تُسَبِّبُني .
– (…)
– أنا ، يا هيبا أنت ، و، أنا هُمْ … تَرَاني حَاضِرًا حيثما أرَدْتُ ، أو أرَدُوا .
فأنا حَاضِرٌ دَوْمًا لِرَفْعِِ الوِزْرِ ، وَدَفْعِ الإصْرِ ، وتَبْرِئَةِ كلّ مُدَانٍ . أنا الإرادةُ والمُرِيدُ والمُراَدُ ، و أنا خَادِمُ العِبادِ ، ومُثير العُبَّادِ إلى مُطارَدَةِ خُيُوطِ أَوْهَامِهِمْ …” (ص350) . يُلَخِّّصُ هذا الحِوَارُ الذي يَنْقُلُهُ الرّاوي / الشّخصيّة : هيبا ، حَقِيقَةَ الشّر وَرَمْزه “عزازيل” . ويُؤَكّدُ أنَّ الشّر مُتَأصّلٌ فينا ، فنحن من أوْجدَهُ ،وخلقْنا “عزازيل” شمَّاعةً نُعلِّقُ عليها شُرورنا ، ونُبَرّرُ من خلاله وَحْشيّتنا وأخطاءنا . أَلَمْ يدْفَعْنا التَّعَصّبُ الدّينيُّ والتَّكالبُ الدُّنيوِيُّ والجشعُ والطّمعُ إلى الاقْتتال وسفك الدِّماءِ ؟؟…، تلك حقائقُ لا بدَّ أنْ يُدرِك كُنهها الإنسان ، هذا ما أرادَه زيدان ، الذي فتح نافِذةً على أعماقٍ مُظْلمةٍ في ذَواتنا ، وأخبرنا أنّ “عزازيل” /الشّيطان لم يكنْ غير الإنسان . فكيف تجلَّى “عزازيل” /الإنسان في رواية زيدان ؟؟…
2 – عزَازيلُ / الإنْسان : لا شكَّ أنَّ “عزازيل” : رمز الشرِّ/نقيض الله/خصْمه ، ظلَّ مرْتبِطًا بالسّماءِ رغم طردهِ من الجنّةِ وإصرارهِ على إغْواءِ سُلالةِ آدمَ وجرّهم إلى الجحيمِ ، هذا ما تتّفقُ حولَه كلُّ الأديانِ السّماويّةِ . غير أنّ هذه الحقيقة تَبْدُو غَائِمَةً ، حينما نَتَأَمّلُ الوَاقِعَ بِمَا يَحمِلُهً إليْنَا من أَخْبارٍ حَزينةٍ عن صِراعاتٍ بين الأَدْيان ، واستباحة لِأرْواحِ النّاس بدَعْوى حِمايةِ الدّينِ . فهل أنَّ الشّر في السّماء مَوْعودٌ به الضّالُّون ؟.. أَمْ هُوَ صَنيعَةُ بَني الأَرْضِ المُفْسِدين،المُشَرّعينَ لِأَنْفُسهِمْ تَطْبيقَ الأُلوهِيّة على الأرض ؟؟ … تلك أَسْئلَةٌ حارِقَةٌ أَرّقتْ هيبا ، فسأل حَبيبَهُ نسطور :” يا أبت ، هل تَرى أنَّ الوَثَنيّة كُلَّها شرٌّ ؟ … ” فأَجَابهُ :” اللّهُ لا يَخْلُقُ الشّر… وَلا َيَفْعَلَهُ …وَلاَ يَرْضَى بِهِ ، اللّه كلّه خير ومحبَّةٌ … “(ص47) . إذن من أين تَنْبَعُ هذه الشّرور الأرضيّة ؟ … إذا كان اللّه لم يَخْلُقْ الشّر ، فمن هذا عزازيل رمز الشّر ؟.. إنّه الإنْسَانُ ، يَكْشِفُ عن جَواَنِبهِ المُعْتِمَةِ ، ويُكَشّرُ عن أنْيَابِهِ ، فَتَنْطَفِئُ الرُّوحُ الطّاهِرةُ ، ويَبْرُزُ الحَيَوَان الشَّّرِير من مَكْمَنِهِ ، فَتَسْتَغيثُ الأَرْضُ وَالسَّمَاءُ من جَبَرُوتِهِ ، “أَلَيْس الإنْسَان ذِئْبٌ للإنْسَان” –على حدّ عبارة “هوبس” -؟…هكذا يَتَحَوَّلُ الرّمزُ من المجرّد إلى المحْسُوسِ ، من : عزازيل /الفكرة ، إلى : الإنسان / تَجْسيد الفكرة . فَيُصْبِحُ الشّر إبْدَاعًا إنْسَانِيًّا خَالِصًا مُبَرِّرُهُ “عزازيل” . وقَدْ رَصَدَ لنا الرّاوي ” هيبا ” مَشَاهِدَ درَامِيَّةٍ مُؤَثِّرَةً يَتَجَلّى من خلالها الإنسان /الشّيطان : رمزًا للشّر . لَعلَّ المَشْهدَ الأَوّل منها كان أَشَدَّ إيلاَمًا لِرُوحِهِ ، وَهوَ الفتى الصّغير الذي يَشْهَدُ مَقْتَلَ أبيهِ الوَثَنِيَّ أمَام نَاظِرَيْهِ بِأَيْدي عَوَّامِ المَسِِيحيِّين(إخوانه في الدّيانة ). لقد تَحَوَّلَ “هيبا” الرّاوي (narrateur ) إلى وَاصِفٍ (descripteur ) ، يَسْتَرْجِعُ تَفَاصِيلَ مَشْهَدٍ وَحْشِيٍّ يرْوِيهِ للرّاهِب نسطور، القَرِيبِ من رُوحِهِ ، في لَحَظَـاتِ بَوْحٍ صَادِقَةٍ . مُسْتَعِينًا بِتَقْنِيـَاتِ المَشْهَدِ السّينمــَائِي القَائِمِ على الومضة الورائيّة : (flash-back) ، مُنَوّعًا طَرَائِقَ القَصّ المتَرَاوِحِ بين القَصِّ المُؤَلِّف : (ِrécit itératif) : “كان أبي يَصْحَبُني في قَارِبِهُ ، كلَّما زَارَ المَعْبَدَ لِيُقَدِّمَ للكهنة نِصْفَ مَا عَلِقَ في شِبَــاكِهِ من سَمَكٍ ، خِلاَلَ اليَوْمَيْنِ … ” (ص41) والقصّ المُفْرَدِ : (récit singulatif) ، “كانوا يَخْتَبِئُون خَلْفَ الصّخور (…) سحبوا أبي من قاربه وجَرُّوهُ على الصّخُور لِيَقْتُلوُهُ طَعْنًا بالسَّكَاكِين الصّدئَةِ … “(ص41).
كما عَدّدَ الوََاصِفَ وَسَائِلَ الوَصْفِ التي أثَّثَت مَشْهَد الجَريمة النَّكراءِ ، فقدّ ركّزَ على الصّور الفَنّيَّةِ القائمةِ على التّشبيه والاستعارة والمجاز : ( ” كأَشْباح فرَّتْ من قعر الجَحيمِ … “، ” أَفْزَعتْهم الأصوات التي شَقَتْ السُّكُون َ…” ، ” كنت أزُوم مُتحَصًِّناَ بانكماشي … ” ، ” نظَروا نَحْوِي بِعيُونِ ذِئابٍ قد ارتوت … ” ) (ص42) .
لقد تَفَنَّنَ زيدان في صِياغَةِ بَانُورَامَا مَشْهَديٍََّةٍ تَمَاهى فيها الوَاصِفُ بالمَوْصُوفِ ، فاُسْتُلَّتْ العِبَارةُ من رَحِمِ المُعَاناةِ ، لِتُخْبِرَ عن مَوْتِ إنْسَانيّة الإنسان ، و ميلاَدِ الإنسان / الشّيطان : ” اخْتَلَطَ دَمُهُ وَلَحْمَهُ وأسْمَاكُهُ بتراب الأرض التي مَا عَادَتْ مُقَدَّسَةً ، ثمّ تَمَلَّكَتْهُم نَشْوَةُِ الظَّفَرِ والارْتِوَاءِ ، فَتَصَايَحُوا و قَدْ رَفَعُوا أذْرعَتَهَمْ المُلطَّخَةُ بدَمِ أَبي (…) مَضَوْا بَعْدَ ذلك مُتَهَلّلين ، مُهَلّلين بالتَرْنيمة الشَهيرةِ : المَجْدُ ليَسُوعِ المَسيحِ ، وَالمَوْتُ لِأَعْداءِ الرّب … “(ص42) . وَقَدْ تَكُونُ هَذِهِ اللَّوْحَةُ الفَنيَّةُ من أَجْمَلِ اللّوْحاتِِ التي رَسَمَهـَا زَيدان في هذا العَمَلِ الرِّوَائِيّ ، فَهْيَ مُـوحِيَةٌ ، تَكثََّفَ الرّمز فيها لِيُلْقي بظلالهِ على الحاضرِ ، حيث أصبحَ التَّعصُّبُ الدّينيُّ مُبَرّرًا لسفْكِ الدِّماءِ ومُسوِّغًا للفسادِ في الأرضِ.
لمْ يَتَخلّصْ ” هيبا ” من مَرَارَةِ اغتيال وَالِدِهِ، بل تَعَمَّقَتْ هذه المَرَارَةُ ، حين عَلِمَ بَعْدَ ذَلك ، بِأَنَّ أُمَّهُ هي سَبَبُ كُلِّ َما حَدَثَ ، فقَدْ وَشَتْ بأَبيهِ لأنَّها كانت مسيحيّةً ، ثمّ تَخَلَّتْ عَنْهُ ، وَفَرَّتْ لِتَتَزَوَّجَ رَجُلاً آخَرَ من قَتَلَةِ والِدِهِ ، لتَكُونَ بالنّسبةِ إليه(هيبا) وَجْهًا للشّر المُرَوِّعِ . وَتَتَوَاصَلُ مَسِيرَةُ ” هيبا ” المُظْلِمَة ، وَتَتَعَمَّقُ جِرَاحُهُ حِينَ يَشْهَدُ حَادِثَةً لاَ تَقِلُُّ فَظَاعَةً عَنْ مَقْتَلِ أبيهِ ، إنَّهُ مَشْهَدُ اغْتِيَال هيباتيا/ العَقل ، هيباتيا التي اشْتَقَّ اسمه من اسمها بَعْدَ التَّعْمِيدِ : ” “هيباتيا” ، أكاد إذا أكتُبُ اسمها الآن ، أراها أمامي و قد وقفت على منصّة الصّالة الفسيحة ، وكأنّها كائن سماويٌّ هَبَط إلى الأرض من الخيال الإلهيّ ، ليُبَشّرَ النّاس (…) كانت لهيباتيا تلك الهيئة التي تخيّلها دَوْمًا ليسوع المسيح ، جَامِعَةً بين الرّقة و الجلال (…) من أيّ عُنْصُرٍ نُورَانيّ خُلِقَتْ هذه المرأة ؟ … ” (ص136).
تلك “هيباتيا ” كما رآها ” هيبا ” ، هي المسيح الطّاهِر النَّقيّ ، كم تَمَنَّى أنْ يَقْضِّيَ العُمْرَ خَادِمًا لها كَيْ لاَ يُحْرَمَ من سِحْرِ هذا الملاَكِ الذي حَلَّ بالأرض لِيَنْشُرَ العِلْمَ والمَعْرِفَةَ !!! …
يَسْتَنْجِدُ زيدان بلُغَةٍ شِعْرِيَّةٍ صُوفِيَّةٍ تُبْرِزُ المَوْصُوفَ في أبْهى صُورَةٍ ، و تَمْنَحُ الوَاصِفَ المَسَافَةَ الكَافِيةَ لاخْتِبَارِ الوَجْدِ الصُّوفيّ . فلقد عبَّر ” هيبا ” الرَّاهِبُ ، المُجِدُّ في إتّبــاع تَعاليم ” كيرلّس ” ، عن عِشْقِهِ الصُّوفيِّ للجَمَالِ الأُلُوهِيّ وللمَعْرِفَةِ العَمِيقَةِ . فهو يُصوّر ” هيباتيا ” تَصْوِيرًا حِسّيًّا : “في عيْنَيْهَا زُرْقَةٌ خَفِيفَةٌ
وَرمَاديَّةٌ ، وفيها شَفَافيَّةٌ . في جَبْهَتِهَا اتِّسَاعٌ وَنُورٌ سَمَــاوِيٌّ ، في ثَوْبِهَا الهَفْهَافِ وَوَقْفَتِهَا وَقَارٌ يُمَاثِلُ مَا
يَحُفُّ بالآلِهَة من بَهَاءٍ … ” (ص137) . وَمَعْنَويًّا : ” كانت تَشْرَحُ لنا بلُغَةٍ يُونَـانيّة رَاقيّةٍ ، كيف يُمْكِنُ للعَقْلِ الإنسانيّ أَنْ يَسْتَشِفَّ النّظام الكَامِنَ في الكَوِْنِ (…) كان يَجْرِِي على لِسَانِهَا عِبَـارَاتٌ من مبادئ الفلسفة ، عِبـارَاتٌ طَالما سَمِعْتَُهَا من غيرها ، لكنَّها نَطَقت بها وكأنَّها تَفتَحُ عَقْلِي وَتَدُسُّها فيه … ” (ص137) . مُسْتَعِيرًا مَعَاجِمَ دينيَّةٍ صُوفِيَّةٍ تَرْقَى بالمَوْصُـوفِ إلى مَجَالِ المُقَدِّسِ / المُتَعَـالي عن حَضِيضِ الدُّنيا . بَيْدَ أَنَّ “هيباتيا ” هذا العقْلُ المُنيرُ وَالعلْمُ الغَزِيرُ ليست سوى شَيْطَانَةٍ – في أعينِ المُتَعصِّبين – كَافِرَةٍ تُلوّثُ أَرْواحَ المُؤمنينَ ، و الاقترابُ منها خَطِيئَةٌ عُظْمى ، أَلَمْ يَنْصَحْ الرَّاهبُ “بيشوي ” ” هيبا ” بعَدَمِ الاقترابِ منها ، مُحَذِّرًا إيَّاهُ من غَضَبِ الأسقف الأعظم “كيرلّس ” إنْ سَمِعَ عن نيَّةِ حُضُورِهِ مُحَاضَرَتها : ” ألَنْ تَسْمَعَ خطبة الأحَدِ من البابا “كيرلّس ” ، الأَسقُفُ الأَعْظَمُ ، من أَجْلِ الذَّهَابِ لرؤية شَيْطَانَهٍ ! لنْ يَغْفَرَ لك هذا الذّنب إذا اقْتَرَفْتَهُ ،أمّا من ناحيَتي ،فلا تَخْشَ شَيْئًا.سوف أَعُدُّ ما سمعْتهُ منك مُزاحًا ثَقيلاً..”(ص143) . أَلاَ يُحَدِّثنا زيدان عن حَاضِرٍ أَصْبَحَ الشّيطَان فيه كلّ من خَالَفَنا وَجَادَلَنا ، فَعَزَمْنَا أَنْ نُعِيدَهُ إلى جَحيمِهِ واسْتَبَحْنا دَمَهُ تَعَصُّبًا لِفِكْرٍ سَاذِجٍ كَبَّلَنَا ؟؟؟ … هو الماضِي يُرْوَى عِبْرَةً للحاضِرِ ، وَلَكن ، هَلْ يُدْرِك العُمْيَانُ نُورَ حَقِيقَةِ الاخْتِلاَفِ دون الخلاف ؟؟… الإجابة عن هذا السُّؤَال يُؤَمِّنها الرَّاوي في قصّة اغتيال “هيباتيا ” المُضَمَّنَةِ في سيرَتِهِ الاسْكَنْدَرَانيَّةِ . فقدْ عَرَضَ عَلَيْنا مَشْهَد الفَتْكِ بالعَـالِمَة الوَثَنيَّةِ ” هيباتيا ” من طرف جَمـَاعَة “مُحِبِّي الآلاَمِ” : هَؤُلاَءِ الرّهُْبـان الاسْكندرانيّون الذين يُوَظِّفُونَ تَعَالِيمَ المَسيح وَيُؤَوِّلُونَ أَقْواَلهُ وِفْقَ نَزَعَاتِهمْ الشِّريرَةِ ، فَيَقْتَرِفُون ، تَحْتَ غِطَاءِ حِمَايَةِ المُعْتَقِدِ ، أَبْشَعَ صُنُوفِ الجَرِيمَة ضدّ مُخَالِفيهِم ، وإِنْ كانوا أَحْيَانًا يَعْتَنِقُونَ دِينَهُمْ بِتَأْوِيلٍ مُخَالِفٍَ ، مثل أسقف الإسكندريّة ” جورج الكبادي ” . وَلا يُعتَبَرُ هَؤُلاَءِ غير آلةٍ للقَتْلِ الشّنيع تُديرُهَا المُؤَسّسةُ الدِّينيَّةُ حِفَاظًا على سَطْوَتِهَا وَتَرْسِيخًا لِوُجُودِهَا . فَلَوْ تَأَمَّلْنَا مَسَارَ الأَحْدَاثِ المُتَعَلِّقَةِ بقِصَّة اغْتِيَال “هيباتيا ” ، لَوَجَدْنَاهَا مَحْبُوكَةً بِتَقْنِيَة بَالِغَةِ التَّأْثيرِ : فقد ارْتَبَطَتْ بِشَخْصِيّة رَئيسيّة : (هيباتيا) ، تَخُوضُ صِرَاعًا غيْرَ مُتَكَافِئٍ مَعَ شَخصيّات مُعَرْقلَةٍ : (بطرس القارئ/ الأسقُف “كيرلّس ” / الجُمُوع الحَاشِدة /الرّجل النّحيلُ / العجوز الشّمطاء ..) ،لا َيُسَاعِدُهَا في ذلك غيْرُ شَخْصِّيَتَيْنِ : “هيبا ” بِقَلْبِهِ وَرُوحِهِ وَ”أوكتافيا ” تَمُوتُ دِفَاعًا عَنْهَا ، فَتَُعَمِّقُ مُعَانَاة ” هيبا ” : ” اتَّجَهَ بطرس قــائدُ الجُمُوعِ إلى الشّارع الكانوبيّ الكبير ، ومن خَلْفِهِ سَارَ مِئَاتُ الهَاتِفينَ (…) ثَار غُبارُ الطُّرقاتِ ، وهربت المَلاَئِكَةُ الرَّحيمَةُ من السّماء،وَحَدَّثَنِي قَلْبي بِقُرْبِ وُقُوعِ حَدَثٍ مُروَّعٍ.(..)كِدْتُ أَسْتَدِِيرُ رَاجِعًا إلى أَسْوَار ِالكنيسة، إلى حِصْني الحَصِينِ ، لَوْلاَ أَنَّنِي انْتَبَهْتُ إلى ذلك الرَّجُلِ النَّحِيلِ ، طويلِ الرَّأْسِ الذي جاءَ من أَقْصى الشَّارِع يَجْري ،وهو يَصِيحُ لِبطرس و الذين معه : – الكَافِرَةُ رَكِبَتْ عَرَبَتَهَا ، وَلاَ حُرَّاسَ مَعهَا .
خَفَقَ قَلْبِي بِشِدَّةٍ (…) لمَّا رَأَيْتُ بطرس يجري (…) وهو يَصِيحُ صَيْحَةً هَائِلَةً وَيُخْرِجُ من تحت رِدَائِهِ الكنسيّ سِكّينًا طَوِيلاً … صَدِئًا … أَيْضًا … السكّين ..(…) زَعَقَ فيهَا : جئْنَاك يا عَاهرة ،يا عدوَّةَ الربِّ. امْتَدَّتْ نَحْوَهَا يَدُهُ النَّاهِشَةُ ، وأَيْدٍ أخرى نَاهِشَةٌ أَيْضًا (…) صَارت ” هيباتيا ” عاريَةً تَمَامًا وَمُتَكَوِّمَةً حَوْلَ عُرْيِهَا (…) الذّئاب انتَزَعُوا الحَبْل من يدِ بُطْرس وهم يَتَصَايَحون ، وجَرُّوا “هيباتيا ” (…) ، أَلقَوْها فوْقَ كَوْمَةٍِ كَبِيرَةٍ من قِطَعِ الخَشَبِ (…) ثم أشْعَلُوا النّاَر … علاَ اللَّهبُ وَتَطَايَرَ الشَّرَرُ … وَسَكتَتْ صَرَخَاتُ هيباتيا …” (ص154/155..) . يَبْدُو الإنسان في هذه المَشَاهِدِ الوَصْفِيَّةِ رَمْزًا للشّيطان الذي يَتَجَلّى في بطرس القارِئِ وَأَعْوَانِهِ المُمْتَثِلِينَ لِأَوَامِر الأسقف “كيرلّس ” ، وَفي العَجُوزِ الشَّمْطاءِ وغَيْرِهَا من الذين سَاهَمُوا في تَقْدِيمِ ” هيباتيا ” قُرْبَانًا لِتَعَطُّشِهم لِسَفْكِ الدِّماء . وَلَم ْيَسْتَطِعْ الرَّاوي الشّخصيّة المُشَارِكِ في المُغَامَرَة : (narrateur homodiégétique) أنْ يُخفِيَ انْفِعَالاَتِهِ أثْناءَ سَرْدِ الأَحْداثِ . لذلك تَنَوّعتْ تَقْنِيات السّرد ، و تَرَاوَحَتْ بين السّرد الآنيِّ للأحْداثِ : (سرْد تَفَاصيل اغتيال هيباتيا ) ، والسّرد الاسترْجَاعيِّ : (تذكّر هيبا مصرع والده ) . وَيبْلُغُ البنَاءُ الدّراميّ أَوْجَهُ حين يُقَرّرُ “هيبا ” أَنْ يَسْكُتَ عن الكَلاَمِ المُباح ، إلاَّ أَنَّ عزازيل يُقْنِعَهُ بِمُوَاصَلَةِ رِوَايَةِ الفَاجِعَةِ لأَنَّه شَاهِدُها وَشَهِيدُهَا (معنويّا) . لقد مَثَّلَ مصرع ” هيباتيا ” صَدْمَةً عَنيفَةً لهيبا جَعَلَتْهُ يَهيمُ على وَجْهِهِ فَارًّا من الإسكندريّة / عاصمة المِلْحِ وَالقَسْوَةِ ، بَعْدَ أَنْ أَصْبَحَتْ مَيْدَانًا فَسيحًا للشّياطين ، وَسِجْنًا يَضيقُ على العُقَلاَءِ المُبْدِعينَ . وقدْ غَطَّى وَصْفُ مَشْهَدِ التَّنْكِيلِ بِهيباتيا على اغْتِيَالِ اوكتافيا التي حَاوَلَتْ جَاهِدَةً أَنْ تُخَلِّصَهَا من سَطْوَةِ جَلاَّدِيهَا ، فَقَدَّمَتْ رُوحَهَا قُرْبَانًا لِملاَكِهَا المُقَدَّسِ ، وهي التي شَهِدَتْ قَبْلُ مَصْرَعِ زَوْجِهَا فِدَاءً لِآلِهَتِهِمْ : ” سيرابيس ” . وَلَعَلَّ احْتِدَامَ الصِّراعِ بين المسيحيّة و الوثنيّة هو الذي فكَّ أَسْرَ الشّيطان الكَامِنِ في الإنسان ، فأَصْبَحَ الشّر زَادًا يَوْمِيًّا يَقْتَاتُ من فُتَاتِهِ الضّعَفَاءُ ، وَبُرْكَانًا يَغْرُقُ في طَمْيِهِ التُّعَسَاءُ . وَقَدْ اعْتَبَرَ “فرويد ” ، أنَّ سَيْروُرَةَ التّاريخ تَقْتَضي ذلِكَ ، لأَنَّهُ : ” عندما يُغْلَبُ شَعْبٌ من الشّعُوبِ على أَمْرِهِ ، فَلَيْسَ يَنْدُرُ أَنْ تَتَحَوَّلَ آلِهَتُهُ السَّاقِطَةُ إلى أَبالِسَةٍ في نَظَرِ الشَّعْبِ الغَالِبِ … “[9].إذنْ ، لَمْ يَكُنْ إبْليس غيرَ رَمْزٍ نُحَمِّلهُ شرَّ أَفْعَالَِنا ، ألَمْ يَتَجَسَّدْ لِهيبا حينما كان في طَرِيقِهِ إلى الإسكندريّة على هيئة فَتًى في العشرين من عُمُرِهِ يُصَاحِبُ قِرْدًا وَيَأْتِي سُلُوكًا مُرِيبًا فيه إيحَاءٌ رَمْزِيٌّ بلذَائِذِ الدُّنْيَا؟؟… ، ثمّ يُعَاوِدُهُ ذاك التَّجَسُّدُ حِينَ يُلاَقِي الأَمْرَدَ في” سرْمَدَةٍ “، فَيَرْوِي لَهُ سِيرَةَ شَيْطَانٍ اسْتَبَاحَ كُلَّ مُقَدَّسٍ ، فَدَنَّسَهُ ، لَمْ يَتْرُكْ بَابًا للذَّةٍ مُحَرَّمَةٍ لَمْ يَطْرُقْهُ ، فقَدْ نَكَحَ الحيوان و مَارَسَ َِزنَا المَحَارِمِ : ( l’inceste) ، وَاستََمْتَعَ بمَباهجِ الدّنيا ، وأرَادَ أنْ يُذَكّرَ “هيبا”بحِرْمَانِهِ منهَا : “- لماذا تَهْرُبْ منّي أيّهَا الرّاهِبُ ، قِفْ لِتَسْمَعَ عن اللّذات و المُتَعِ التي حَرَمْتَ نَفْسَكَ مِنْهَا … فعنْدِي منْهَا الكَثيرُ وَالكَثيرُ . لَكَزْتُ بَطْنَ حِمَارِي بِكَعْبَيّ ، فَأنْطَلَقَ شَرْقًا بكلِّ ما فيه من عزْمٍ . انْطَلَقَ الحِمَارُ كأَنَّهُ يَهْرُبُ ، أَوْ لَعَلَّهُ أَدْرَكَ مثْلِي أَنَّ هذَا الفتى لَيْسَ بِفَتًى ، وإنَّمَا هوَ شَيْطَان قَدْ تَجَسَّدَ لنا في صُورَةٍ آدَمِيَّةٍ ، لِيَعْبَثَ بي”(ص260).
ولذلك، فلَنْ تَسْمَحَ رواية ” عزازيل ” لِمُتَقَبّلِهَا المُسْتَكِينِ المُطْمَئِنِّ ،أَنْ يَنْعَمَ بِسُكًونِهِ وَوثُوقِه ِبالحَقيقَةِ المُطْلَقَةِ . فهي تُثيرُهُ كَيْ يُبْحِرَ بَاحِثًا عن لَوْنٍ للحَقيقةِ ، بَعْدَ أنْ اختََلَطَتْ وَتَدَاخَلتْ أَلْوَانُهَا ؛ فَهَلْ أَنَّ “عزازيل” شرًٌّ مُتَأصّلٌ فينا لاَ نَمْلِكُ قُدرَةَ الانْفِلاَتِ مِنْهُ ؟!.. أَمْ هو / نحْنُ في حَرَكَةٍ مَسْرَحِيَّةٍ نَتبَادَلُ خِلاَلَهَا الأَدْوَارَ ؟ …
لكنْ ، كَيِفَ أَثَّرَ في هيبا الرّاهب ؟.. ، و كيْفَ سَلَكَ بِهِ دُرُوبَ الغِوايَةِ لِيُجَنِّبَه طَريقَ الإيمانِ النَّقِيِّ ؟!…
3 – عزازيل وَدَرْبُ الغِوَايَةِ : لَوْ لَمْ تَكُنِ المَرْأَةُ مَا كَان ” عزازيل ” ، هذا مَا تُخْبِرُنَا بِهِ الدّيَانَتَانِ المسيحيّة و اليَهُودِيَّة ، فهما تَعْتَبِرَانِ أَنَّ حَوَّاءَ سَبَبُ الخَطِيئَةِ التي أَخرَجَت آدم من جنّةِ الرّحمان ، إذْ أَوْعَزَ لَهَا “عزازيل” بإِغرَاءِ آدمَ وَحَثِّه على اكْتِشَافِ المَجهُول عَبْرَ الأَكْلِ من ثمار الشّجرة المَنْهيِّ عنها . ولذلك
ف : “في معْتقدات الكثيرِ من الشُّعوبِ تُرادِفُ الأنوثةُ الشَّيْطَنَةَ (…) ، فقد اتّفقت اليهوديّة والمسيحيّةُ ، في الحديث عن أصلِ الخلقِ ، وتصْويرِ المرأةِ الحامِلةِ الأبَديَّة ِ لذنْبِ أمِّها حوّاء والتي بسببها سقط آدمُ من مرْتَبَتِهِ ، بعد أن أوعزَ لها الشّيطانُ أكْلَ ثَمَرةِ الشَّجَرةِ التي نهاها عنها الله ، فاحتفظت الذّاكرةُ بذلك التَّلازُمِ بين المرأةِ وإبليس الذي أنْذَرَ بالإيقاعِ بأبناءِ آدمَ حتّى يَحْرِمَهم من الخلدِ…”[10]* . وما يُؤَصِّلُ علاقةَ المرْأةِ بالشّيطانِ ليس الأكْلُ من ثمارِ الشَّجَرةِ المُحرَّمةِ ،فقط ، بلْ ما تَرتَّبَ عن ذلك الفِعْلِ ، وهو اكتِشافُ الجَسَد . يقولُ عزَّ وجلَّ : ” فدلاّهمَا بغُرورٍ فلمَّا ذاقا الشّجَرَةَ بدتْ لهما سوْآتهما وطفِقا يَخْصِفانِ عليهما من ورقِ الجنَّةِ وناداهما ربّهما أَلمْ أنْهكما عن تِلْكما الشَّجَرةِ وأقُلْ لكما أنَّ الشّيْطانَ لكما عدوٌّ مبينٌ…” [11]. إلاَّ أنَّ هذا الاكتِشاف َالمثيرَ للجسدِ تَجاوزَ كَوْنََه شغفًا بالمعرفةِ وتَوْقًا إليها ، لِيُصْبِحَ وسيلةً من وسائلِ إبليسَ يَفْتِنُ بها سُلالَةَ آدمَ . فقد أصبح جسدُ المرأةِ بابًا من أبْوابِ الفِتْنةِ منه يَلِجُ “عزازيل” ليُفْسِدَ على النّاسِ دينهمْ وتقْواهم ، ويُضِلَّهم عن سُبُلِ الرَّشادِ . وقدْ نُسِبت إلى الرّسولِ صلّى الله عليه وسلّم أحاديثُ عديدةٌ تُثْبِتُ العلاقةَ بين المرأةِ /الجسدِ والشّيطانِ منها : ( “المرأةُ تُقبِلُ وتُدْبِرُ في صُورةِ شيطانٍ ” ،و” المرأةُ من حبائلِ الشيطان ” ، و” ما يَئِسَ الشّيطانُ من وليٍّ قطُّ إلاّ أتاهُ من قبلِ المرأةِ ” )[12] . فالجَسدُ الأنْثَوِيُّ هو مصْدَرُ الغِوايةِ ، وبه يَنْصِبُ عزازيل شِراكهُ ليَصْطادَ فَرائسَهُ من الغاوينَ . وقد تَفنَّنَ زيدان في تَصْويرِ ما لهذا الجَسَدِ من قُدْرَةٍ على الإغواءِ بإبرازِ مناطقِ الإثارةِ فيهِ من خلالِ حسٍّ فنّيٍّ عميقٍ : “ولمّا وقفتُ قُبالَتهُ همَّ أنْ يَتَكلَّمَ ، لكنّهُ اكْتفى بالصّمتِ وهو يمدُّ لي يُمْناهُ ، ليُهديني دينارًا ذهبيًّا لامِعًا ،ويَمدُّ عينيهِ مُحدِّقًا كالأبلهِ إلى شفتي التَّحْتانيَّةِ (…) لمّا انصَرَفتُ عنه ، ظَلَّ “بسنتي” مُتَسَمِّرًا بموْضِعِهِ تحْتَ الشّجرةِ . أحْسَسْتُ به دون أن ألتفِتَ وَرائي ، أنَّه ينظرُ إلى ورائي ويُناديني بلا صوْتٍ…”[13] . تلكَ ، إذنْ ، لُغةُ الجَسَد تُلمِّحُ ولا تُصرِّحُ ، تُعبّرُ ولا تُثَرْثِرُ ، تَجُرُّ التّائبينَ إلى العِصْيانِ وتدْفَعُ بهم نحو الفتنةِ . فيُصْبحُ جسدُ المرأةِ الجميلُ : ” طُعْمًا يُؤدِّي إلى الخَسارةِ والهَلاكِ الأَبَديِّ ، ولذلك المرأةُ من هذا المنظورِ تُعتَبَرُ من حبائلِ الشّيطانِ …”[14] . فهي التي أوْقعتْ هيبا في المُحَرَّمِ ، وأَسَرتْهُ في أغلالِ الشَّهْوةِ ، وكانت نافِذةً نَفَذَ منها عزازيل ليَقْتَحِمَ حياةَ هيبا الودِيعَةَ الآمِنَةَ ، فيَجْعَلَها فوضى . فكيف كانت المرأةُ قيدًا كبَّلَ به “عزازيل” هيبا ، تمْهيدًا لإخراجه من جنَّةِ الخلودِ الآمنةِ ؟؟..
3 – أ – المرأةُ حبلُ الشّيطان : لقد اخْتَبَرَ “عزازيل” هيبا مرَّتيْن ونجَحَ في إغْوائِهِ ، فقد كان حبْلُهُ متينًا . الاختبارُ الأوَّلُ كان ب”أوكتافيا” الأرْمَلَةُ الوَثَنيَّةُ خادِمَةُ التّاجرِ الصِّقليِّ ، وكان ذلك أوّلَ قُدومِهِ إلى الإسكندريّة طلبًا للعلمِ الدُّنيويِّ (الطبّ) ، والأخْرويِّ (اللاّهوت المسيحيّ) . أمّا الاختبارُ الثّاني ، فكان ب”مرتا” المُغنّيةُ المسيحيّةُ التي التَقاها عند ديرِ حلب ، أوْ ربّما أرسلها “عزازيل” لتُفْسدَ عليه خلْوتَهُ في صوْمَعَتِهِ . يَرْوي هيبا في الرّقّينِ الرّابعِ والخامسِ غوايات “أوكتافيا” ، مُصوِّرًا قُدْرةَ عزازيل على تَحْويلِ وجْهتهِ من راهبٍ ينْشُدُ كنيسةً تَشُدُّ إيمانَهُ ، إلى عاشقٍ يَطْلبُ جسدًا ينفثُ فيه سُمومَ كبْتِهِ وحُرْقةَ حرْمانهِ . وقد طغى السّردُ المَشْهَديُّ : (reçit scènique ( على طرائقِ القصِّ في هذين الرّقَّيْنِ /الفصْليْنِ ، حيث وظَّفَ زيدان تقْنياتِ التَّصْويرِ السينمائيِّ ، الذي يَعتمِدُ على تقْنيةِ ترْكيبِ المشاهدِ وحُسنِ توْظيفِها لتكونَ أكثرَ تعْبيريَّةً ، وأعْمقَ تأثيرًا . كما نوَّعَ زَوايا النّظرِ كي يُحيطَ بالموصوفِ من كلِّ جوانبهِ مع التَّركيزِ عمّا يُثيرُ ويَفتِنُ . فمشْهدُ لقاءِ هيبا ب”أوكتافيا” يُمكنُ أن نُجزِّئهُ إلى ثلاث مشاهِدَ مُتَكامِلةٍ : مشهدُ هيبا المفْتونِ بالبحْرِ ، المُتَطهِّرُ بالماءِ الأعْظمِ . ومشهدُ “أوكتافيا” الملاكُ المُحذِّرُ من الغرقِ والغِوايةِ ، ثمّ مشهدُ “أوكتافيا”/الجسدُ الفاتِنُ الذي أيْقظَ غُلْمةَ هيبا : “ولمّا حملني البحرُ ، شعرتُ بأنّني جنينٌ يخرجُ من رحمٍ هائلٍ . انتابتني الأحاسيسُ الغريبةُ ، وأخذتني لهْفةُ اللّمْسِ ودغْدَغَةُ الشّهوةِ.أنا الذي لمْ أعرفْ قَبْلها إمرأةً في حياتي،ولمْ أكنْ أنْوي أن أعرِفَ …”(ص76)،
و”حين لمْ أجدْ أحدًا غيري على الشّاطئِ الرّمليِّ المُمْتدِّ ، ظننتُ لوهلةٍ أنَّ الذي كان يُلوِّحُ لي منبِّهًا من خطرِ الغرقْ ،لم يكنْ من البشرِ وإنّما هو ملاكٌ أرْسَلَه الله من السّماءِ،ليُنْقِذني من غواياتي…”(ص77)، ثمّ يُضيفُ : “حين تركتْني “أوكتافيا” عند ملابسي (…) وقفتُ مشْدوهًا وقد تسمّرتْ بها عيْنيَّ قبل أنْ تتوارى بمُؤَخَّرتِها العاليَةِ الرّشيقَةِ بين الصّخورِ . نظرتْ نحوي نَظْرةً ولْهَى ، وأشارتْ بذِراعِها اليُسْرى إلى أسْفلِ بطْني وهي تقولُ باسِمةً : – هل ستظلُّ هكذا ، للأبدِ ، البسْ جلْبابَك ليُداري ما أنت فيه ، والْحَقْ بي بسُرْعةٍ…هئ هئ !..
ارْتَبكْتُ حينَ انْتَبهْتُ لانتِصابِ شيطاني من تحت سرْوالي المَبلولِ بماءِ البحرِ المالحِ …”(ص80) . تُظْهِرُ هذه المقاطعُ الوصفيّةُ قُدْرةَ يوسف زيدان على حُسنِ توظيفِ الوصفِ الحسّيِّ القائمِ على تَجْسيدِ المشاهدِ إثارةً للغرائزِ ، وتَعْبيرًا عن ضعْفِ الإنسانِ أمامَ سُلطةِ الشّهوةِ ، وسُلْطانِ الجسدِ الفَاتِنِ ، الذي يَتَسَلَّحُ به “عزازيل ” ليَفْتِنَ أَشَدّ خُصُومِهِ وَكَارِهِيهِ . وَقَدْ نَجَحَ في مَسْعَاهُ حين باغَتَ “هيبا ” بذلك المَلاَكِ السَّاحرِ “مرتا ” بعْدَ أَنْ أَغْرَاهُ بِمُرَاقبَةِ أَسْرَابِ الحَمَامِ وَهي في سِفادٍ مُتَكَرِّرٍ ، فأَلْهَبَ مَشَاعِرَهُ وَأَثَارَ غَرَائِزَهُ : ” الحَمَامُ كثير السِّفادِ وَلاَ يَكِفْ طِيلةَ نَهَارِهِ عن التّغزُّلِ وَالالْتِصَاقِ (…) الحَمَامُ يُثيرُ الشَّهَوَاتِ ، وَيَبْعَثُ على ارْتِكَابِ الخَطِيئَةِ … ” (ص264) . وَقَدْ مَثَّلَتْ مَرتا تعْوِيضًا لِمَا فَقَدَهُ هيبا بَعْدَ أَنْ أُخْرِجَ من جَنَّةِ “أوكتافيا” قَسْرًا ، لمَّا عَلِمَتْ أَنَّهُ رَاهبٌ مَسِيحيٌّ ، وَهي َالوَثَنِيَّة التي اكْتَوَتْ بنارِ الاضْطِهَادِ الدينيّ الذي مَارَسَهُ المسيحيّونَ أرْبَابًا و أَتْبَاعًا . إلاَّ أَنَّ عَلاَقَةَ هيبا بمرتا لَمْ تَتَوَقّفْ عنْدَ حُدُودِ الجَسَدَ، فَحسب ، كما كان مع ” أوكتافيا ” ، بلْ تَجَاوزَتْ الجسد إلى الرُّوحِ . فقد سَلَبتْ ” مرتا ” عقل ” هيبا ” بسِحْرِهَا الفتَّان جَسَدًا وَرُوحًا ، فهي :” حُوريَّةٌ هَبَطَتْ إلى الأَرْضِ مَلْفُوفَةٌ بالنُّورِ السَّمَاوِي لِتَمْنَحَنَا السَّلاَم وَتَمْلأَ الكَوْنَ رَحْمَةً بَعْدَمَا امْتَلأَ جَوْرًا وَظُلْمًا (…) لَنْ أَنْسى هذه اللَّحْظَةِ ما حَيِيتُ . لَمْ أَشْعُرْ بيَدي إلاَّ وَقَدْ أَزَاحَتْ عنّي غِطَاءَ رَأْسِي المَلِيءِ بالصُّلْبانِ ، لأسْتَقْبِلَ النّورَ الذي أَشْرَقَ فجأةَ من عند البابِ . تَأَكَّدْتُ لَحْظَتَهَا من أَنَّ مَرْتا هي أَجْمَلُ امْرَأَةِ خَلَقَهَا الرّب … ” (ص290) . هذا سِحْرُ الجَسَدِ . أَمَّا عن سِحْرِ الرُّوحِ فهْوَ الغِوَايَةُ ، عيْنُهَا ،وَقَدْ تَجَلَّتْ في تلك التَّرَاتِيلِ التي تُنْشِدُهَا مرتا، فَتَأْسِرُ القَلْبَ وَالأَلْبَابَ . يَصِفُ هيبا سِحْرَ صَوْتِهَا فَيَقُولُ : “يا لصَوْتِهَا الرَّقْراقِ الذي أَتاني صَافيًا من بين طَيَّاتِ السَّحَابِ . أَتَاني مُطَيّبًا بِعَبَقِ شُجَيْرَاتِ الوَرْدِ وَرُوحِ المُرُوجِ الخَضْرَاءِ الزّكية (…) كان غِنَاؤُهَا الشَّجيُّ نَادِرَ العُذُوبَةِ .
الأَطْفَالُ الذين كانوا مَعَنَا ، سَكَنُوا لَحْظَةَ غِنَائِهَا تَمَامًا . غَابُوا مَعَ غِنَائِهَا ، فَكَأَنَّهُمْ رَاحُوا على أَجْنِحَةِ النَّغَمَاتِ ، إلَى مَوْضَعٍ بَعِيدٍ (…) أَشْعُرُ بِصَوْتِهَا الخَلاَّبِ يَأْخُذُنِي منّي ، إِلَى مَا وَرَاءَ الأََشْيَاءِ كُلِّهَا.
وَيَرِنُّ تَرْجيعُهُ السَّماوِي بين قمَمِ الجِبَالِ البَعيدَةِ ،فَيَسِيلُ قَلْبِي بَيْنَ الضًّلُوعِ … ياإلَهِي … ” (ص272) . أَبَعْدَ هذا الإغْوَاءِ ثَمَّة مَا يَفْتِنُ..؟ وَأَنَّى لَهيبا المِسكين أَنْ يُقَاوِمَ “عزازيل “وهوَ المَجْبُولُ على العِشْقِ وَالذّوَبَانِ في الآخر ؟ … لَقَدْ كَانَ طُعْمُ “عزازيل ” مُثِيرًا وَسِحْرُهُ لا َيُقَاوَمُ ، وَأَصْبَحَ من خِلاَلِهِ رَغْبَةً جَامِحَةً ، يَقُولُ “فرويد ” مُثْبِتًا ذَلِكَ : ” فَالأَبَالِسَةُ ، في نَظَرِنَا نحن (علماء التّحليل النّفسي ) رَغَبَاتٌ شريرَةٌ مُسْتَهْجَنَةٌ ، تَنْبَعُ من دَوَافِعَ مَكْبُوحَةٍ ، مَكْبُوتَةٍ … ” [15]* . إذنْ هيبا-من وِجْهَةِ نَظَرِ التَّحْليل النَّفسيّ – ضَحِيّةٌ من ضَحَايَا الكَبْتِ وَالحِرْمَان الذي يَعيشُهُ الرُّهْبَانُ المُتَزَهِّدُونَ عن مُتَعِ الدّنيا ، الذين يَحْيَوْنَ في صِرَاعٍ مُتَوَاتِرٍ بين الأَرْضِ وَالسّمَاءِ ، فَهم يَتُوقُونَ إلى السّماءِ ،لَكِّنَ أَطْوَاقَ الأَرْضِ تُكَبِّلَهُمْ، فلاَ فيهَا يَهْنَؤُونَ وَلاَ للخُلُودِ مُدْرِكُونَ وَلا َهُمْ من قُيُودِ عزازيل مُنْفَكُُّونَ . وَقَدْ يَدْفََعُ بِهم الوَضْعُ اليائِسُ إلى التَّفْكِير في حُلُولٍ ، قدْ يَرَوْنَ فيها خَلاَصًا من أَدْرَانِ الجَسَدِ – كما تَصوَّرَ هيبا ، يَوْمًا ، عِنْدَمَا أَرَادَ إِخْصَاءَ نَفْسِهِ ، تَجَنُّبًا لِتِكْرَارِ مُغَامَرَتِهِ مع “أوكتافيا ” ، وَقَهْرًا لِشََهَوَاتِ النّفْسِ . إلاَّ أَنّه عَدَلَ عن ذلك حين تَذكَّرَ أَنَّ الرّهْبَنةَ تَعْني مُقَاوَمَةَ رَغَباتِ النّفس وَاشْتِهَاءَاتِ البَدَن ، فلاَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ رَاهِبًا مَادَامَ مَخْصِيًّا ، بلْ سَيُعْتَبَرُ مُذْنِبًا وَيُطْرَدُ من الكنيسة لأنَّهُ أَخَلَّ بِقَاعِدَةٍِ من قواعد الرّهبنة فيها . فهلْ يُمْكِنُ أنْ نَعْتَبِرَ سُقُـوطَ هيبـا انتصَـارًا لعزازيل رمز الشرّ ؟… ، وَكَيْفَ تَجَلَّتْ رَمْزِيَة السُّقُـوطِ في رواية “”عزازيل ” ؟…
3-ب- رمزيّة السُّقُوطِ : يَعُودُ رَمْزَ السُّقُوطِ : ( le symbole de la chute ) ، إلى أسطورة آدم -كما يَزْعَمُ بول ريكور – ، فهو يَقُولُ :” وَلِهذه الأسطُورَةِ وَجْهَانِ بالفعل ،فهي، من جِهَةٍ ، قصّةُ لَحْظَةِ السُّقُوطِ (…) وَلَكنَّهَا في الوَقْتِ نَفْسَهُ قِصّة الإغْوَاءِ التي تَحْتَلُّ فَتْرَةً ، وَرَدْحًا من الزَّمن ، وَتُشْرِكُ عَدَدًا من الشّخصياتِ : اللّه الذي يَمْنَعُ ، وَمَوْضُوعُ الإغْوَاءِ ، وَالمَرْأَةُ المَفْتُونَةُ ، وَخُصُوصًا الأَفْعَى التي تُغْري … ” [16] . فَقَدْ ارْتَبَطَ سُقُوطُ الإنْسَان الأَوَّلِ : آدَم العجوز/ الأنْمُوذَجُ الأَصْليّ: (archétype )
بِفِعْلِ الإِغْوَاءِ الذي كَان مَصْدَرُهُ قُوَّةَ الشرِّ : الأفْعَى / عزازيل / إبليس . أيًّا كان مَصْدَر الشَّرِ وَرَمْزه ،
فإنَّ نَتيجَتَهُ وَاحِدَةٌ : السُّقُوطُ . وَيُصَنِّفُ “جيلبار دوران ” *****، رمز السّقوط أو نسَق السُّقُوط : (le schème de la chute ) ضمن النّظام النّهاريّ للصّورة:(le régime diurne de l’image) ،
وَيَعْتَبِرُ أَنَّ السُّقُوط في جانب من جوَانِبه مُرْتَبِطٌ بالعِقابِ ( punition ) ، وَهو مَحْفُوفٌ بِمَعَانِي : الخوف وَالرَّهْبَةِ وَ الانْجِذَابِ وَفِقْدَانِ التّوَازنِ . وَرُمُوزُ السُّقُوطِ تُنَاقِضُ الرُّمُوزَ الارْتِقَائِيّةَ : (les symboles ascensionnels ) التي تَقُومُ علَى الصُّعُودِ نَحْوَ السَّمَاءِ . وَيَسْتَدِلُّ ” دوران ” عن رَمْزِيَّةِ السُّقُوطِ المُتَكَرِّرِ ، بما تُخْبِرُ عنه الدِّيَانَةُ اليَهُودِيَّةُ ، التي تَزْعَمُ أَنَّ سُقُوطَ آدم تَكَرَّرَ بِسُقُوطِ مَجْمُوعَةٍ من المَلاَئِكَةِ المتَمَرِّدِين يَقُودُهُمْ ” عزازيل ” ، وهم مَوْعُودُونَ بالنَّارِ مَعَ أَتْبَاعِهِمْ من البَشَرِ المَفْتونينَ . إذَنْ ، فالسُّقُوطُ مُتَكَرِّرٌ ، وَيَعْنِي ، من خِلاَلِ مَا سَبَقَ ذِكْرُهُ : الاسْتِجَابَةُ لإِغْوَاءِ رَمْزِ الشرِّ والنُّزُولُ من عُلْوِيَّةِ السَّمَاءِ إلى سُفْلِيَّةِ الأَرْضِ . وَقَدْ حَدَثَ ذَلِكَ مَعَ هيبا الذي لَمْ يُفْلِحْ في مُقَاوَمَةِ عزازيل مرَّتين وَسَقَطَ من عَلْيَائِهِ في مُنَاسَبَتَيْنِ . وَقَدْ رَسَمَ زَيْدَان مَشْهَدَيْنِ رَمْزِيَّيْنِ مُعَبِّرَيْنِ عَنْ حَالَةِ السُّقُوطِ التي عَاشَهَا هيبا مَعَ أوكتافيا و مرتا ، اعْتَمَدَ خِلاَلهُمَا الوَصْفَ الحسِّيَّ الذي يُرْبِكُ المُتَقَبِّلَ بِمَا يُثِيرُهُ في النَّفْسِ من شَهْوَانِيَّةٍ جَامِحَةٍ . فَأَثْنَاءَ وَصْفِهِ لِمَا جَرَى مَعَ أوكتافيا يُحَاوِلُ زيدان أَنْ يُبْرِزَ مَعْنَى السُّقُوطِ وَالسُّفْلِيَّةِ ، فَقَدْ كَان هيبا أثْنَاءَ لِقَائِهِ الجِنْسِيِّ الأوَّلِ مَفْعُولاً بِهِ ، لا َيَمْتَلِكُ صِفَةَ الفَاعِلِيَّةِ ، إذْْ أَنَّ المَشْهَدَ المُثيرَ يَجْعَلَهُ مَرْكُوبًا عَلَيْهِ لاَ رَاكِبًا على غيْرِ ما كَانَ يَتَصوَّرُ : ” مَالَتْ بِوَجْهِهَا ، بلْ بِجِسْمِهَا كلَّهِ ، ناحِيَّتِي . حتى أَعَدَتْنِي إلى اسْتِلْقَائِي الأَوَّلِ ، بارْتِمَاءَتِهَا المُتَوَهِّجَةِ بالاشْتِيَاقِ . كنْتُ أَظُنُّ قبْلَهَا أَنَّ الرَّجُلَ إذَا خلاَ بالمَرْأَةِ ، فَإِنَّهُ يَعْتَلِيهَا . لَكِنّ الذي جَرَى لَحْظَتَهَا ، هوَ أَنَّهَا اعْتَلَتْنِي (…) لَيْلَتُنَا الأُولَى هذه … لَيْلَتُنَا … كانت حَافِلَةً بالشَّهَوَاتِ المُحَرَّمَةِ التي أَهْبَطتْ آدم من الجنّةِ …” (ص90). وَيُصْبِحُ تَأْوِيلُنا لِرَمْزِ السُّقُوطِ أَكْثَرَ وُضوحًا ، حِينَ يَسْتَنِدُ لِرِوَايَةِ الأَحْدَاثِ المُتَعَلِّقَةِ بِلِقَاءِ الشَّهْوَةِ المُحَرَّمَةِ عنْدَ نُزُولِ الدَّرَجِ . فَقَدْ بَدَأَتْ مُغَامَرَةُ الجَسَدِ عنْدَ أَعْلَى السُلّمِِ ذِي الدَّرَجَاتِ العَشْرَةِ، وَتَدرَّجَتْ إلَى آخَرِ دَرَجَةٍ نُزُولاً ، وَفي ذَلِكَ رَمْزيّةٌ شَفَّافَةٌ . فَكَأَنَّ رِحْلَةَ الجَسَدِ قَادَتْ “هيبا ” من السّمَاءِ إلَى الأَرْضِ ، من عُلْوِيَّةِ الطُّهْرِ وَالصَّفَاءِ وَالأُلُوهِيَّة إلى العَالَمِ السُّفْلِيِّ بِشُرُورِهِ وَدَنَسِهِ ، من كَوْنٍ مُقَدَّسٍ إلَى آخر مُدَنَّسٍ . وَيَبْدُو ذلك من خِلاَلِ المَشْهَدِ الحِوَارِيِّ الذي جَمَعَ هيبا وَعزازيل ، الذي يُصِرُّ على إغْرَاقِ هيبا بارْتِكَابِ المُحَرَّمِ أَوَّلاً ، ثمّ بِتَدْوِينِهِ لاَحِقًا :
” – عزازيل ! جِئْتَ …
– وَمَاذَا تُرِيدُ الآنَ ؟
– أُرِيدُكَ أَنْ تَكْتُبَ يا هيبا . أكْتُبْ كَأَنَّكَ تَعْتَرِفُ، وَأَكْمِلْ مَا كُنْتَ تَحِكِيهِ ، كُلُّهُ …
أُذْكُرْ مَا جَرَى بَيْنِكُمَا وَأَنْتُمَا تَنْزِلاَنِ الدّرَجَ . (…) سَأَعْتَرِفُ إلى هَذِهِ الرُّقُوقِ ، و لَنْ أُخْفِي سِرًّا ، لَعَلَّنِي من بَعْدَ ذَلِكَ أَنْجُو : السُلَّمُ الوَاصِلُ بين سطح البيتِ وَطَابَقهُ الأَعْلَى ، كَانت دَرَجَاتُهُ عَشرَةً . كَأنَّهَا على عَدَدِ العُقُولِ السَّمَاوِيَّةِ الوَاصِلَةِ بين اللّه و العَالِمَ (…) عِنْد الدَّرَجَةِ العُلْيَا ، الْتَصَقَتْ بي ” أوكتافيا ” وَأَخَذَتْ شَفَتِي السُّفْلَى بين شَفَتَيْهَا (…) حتّى أوشَكْتُ مع ارْتجافة اللَّذة أنْ يُغْمَى عليَّ(…) وهي تَقُولُ لي إنّ تلْكَ ، كانت القُبْلَةُ الأُولى من القُبَلاَتِ العَشْرِ التي سَتَغْمُرُنِي بِهَا ! بَيْنَمَا أَهْبِطُ إلى الدّرَجَةِ التَاليةِ …” (ص101) . هذا المشْهَدُ الوَصْفِيُّ الذي يَعْرِضُهُ هيبا كان في شَكْلِ اعْتِرَافٍ ذي قُوَّةٍ تَطْهِيريَّةٍ :(force purificatrice) . لِذلك اعْتَنَى فيه الوَاصِفُ بِتَفَاصِيلِ المَوْصُوفَاتِ تَأْمِينًا لِمِصْداَقِيَّةِ الحِكَايَةِ المُطَهِّرَةِ للنَّفْسِ (الاعتراف ) ، وَرَغْبَةً في التَّخَلّصِ ممَّا يَحُولُ دُونَهُ وَالسّمَاءَ ، وَقَدْ حَدَثَ ذلك فِعْلاً عنْدَمَا فرَّ هيبا من الإسْكَنْدريّة وَقَامَ بِتَعْمِيدِ نَفْسِهِ تَطْهِيرًا للجَسَدِ وَالرُّوحِ ، بما أَنَّ طقْسَ التّعْمِيدَ : (Le Babtême) يُحَقِقُ وَظِيفةَ التّعالي: ( la fonction transcendante ) . وَقِيَامُ هيبا بِتَعْمِيدِ نَفْسِهِ اعْتِرافٌ ضمْنِيٌّ بخطايا مَرْحَلَةِ السُّقُوطِ ،التي رَافَقَتْ الرِّحْلَةَ الإسْكَندريَّةَ، وسعْيٌ للتَّخلّصِ من وِزْرِها . تِلْكَ الرِّحْلَةُِ القَاسِيَةُ التي عَمِلَ هيبا على مَحْوِ آثَارِهَا ، وَاهِبًا نَفْسَهُ للمُتَعَالِي عن الخَطِيئَةِ وَالإثْمِ ، عَازِمًا على خِدْمَتِهِ وَالانْصِهَارِ في مَلَكُوتِهِ بَقِيَّةَ حَيَاتِهِ . بَيْدَ أَنَّ ذلِكَ لَمْ يَتَحَقَّقّْ لهيبا الذي عَاشَ السُّقُوط مرَّةً ثَانية وَكَانت تلكُ قَاسِمَةً ، فقدْ جَعَلَتْهُ يُفَكِّرُ في مُغَادَرَةِ الدّيرِ وَحَيَاةِ الرّهْبَنَةِ بَعْدَ أَنْ شَعُرَ بِفَشَلِهِ نَتِيجَةَ قَلَقِهِ وحَيْرَتِهِ في أمُورٍ دينيّةٍِ وَدُنْيَوِيّةٍ عَدِيدَةٍ. وَلَعَلَّ سُقُوطَهُ في تَجْرِبَةِ الجَسَدِ الثَّانية مع مرتا كَانَ أَعْمَق وَأَََشَدَّ أَثَرًا ، فهو يَكْشِفُ لَهُ عَجْزَهُ عن مُقَاوَمَةِ الشّهَوَاتِ المُحَرَّمَةِ ، وَيَفْضَحُ تَمَزُّقَهُ بين رُوحٍ مُتَعَالِيةٍ وَجَسَدٍ مُنْحَطٍّ ، شَهْوَانِيٍّ ، فَانٍ . وَقَدْ كَانت الحَرَكَةُ التي تُهَيِّئُ لِوُقُوعِ الخَطِيئةِ تَنَازُلِيَّةً ، أَيْضًا ، فَكَأنّ زيدان يُرِيدُ أَن يُؤَكِّدَ عَلى أَنَّ السُّقوطَ يَكُونُ دَوْمًا نَحْوَ الأَسْفَلِ ، لِأَنّهُ مُرْتَبِطُ بالخَطيئَةِ و العِقَابِ . فالرَّاوِي حِينَ يُخْبِرُنَا بِقِصَّتِهِ مع مرتا ، يُؤَكِّدُ على حَرَكَةِ النُّزُولِ التي تَرْتَبِطُ بِفَكِّ قُيودِ الشّهْوَةِ المُحَرَّمَةِ . فالصَّوْمَعَةُ التي يُقِيمُ بها هيبا في الأعْلَى ، وَهْيَ جُزْءٌ من الدِّيرِ مَرْكَزِ العِبَادَةِ ، أَمَّا الكُوخُ الذي تَسْكُنُهُ مرتا ، فهو عِنْدَ أَسْفَلِ التَلَّةِ ، وهو المَكَانُ الذي ارْتَبَطَتْ بِهِ الخَطِيَّةُ ، وَ مَسْرَحُ انْتِهَاكِ الجَسَدِ (السُّقُوطِ) . كَذَلِكَ يُمْكِنُ أَنْ نُؤَوِّلَ هذه الحَرَكَةِ في صِلَتِهَا بِمَيْدَانِ نَشَاطِ عزازيل الذي هو العَالَمُ السُّفْلِيُّ بَعْدَ أنْ أُطْرِدَ من العَالَمِ العُلْوِيِّ . يَتَحدَّثُ هيبا عن مُغَامَرَتِهِ مع مرتا ،مُبْرِزًا هذه الحَرَكَةِ، مُسْتَجِيبًا لِنِدَاءِ عزازيل ، قَائِلاً : ” بَعْدَ انْتِهَاءِ الصّلَوَاتِ و انْصِرَافِ الزُّوَارِ ، نَزَلْتَُ إلى كوخ مرتا (…) كنْت أَشْعُرُ بِضِيقٍ شَدِيدٍ يَجْثُمُ فَوْقَ صَدْرِي ، و كانت مرتا تَنْظُرُ إلى السُّهُول البَعِيدَةِ ، شَارِدَة البَالِ . بَعْدَ لَحْظَةِ صَمْتِ مَدِيدَةٍ ، قَامتْ مرتا فَجْأَةً لِتَجْلِسَ بِجِوَارِي . وَحين وَضَعَتْ كَفَّهَا على كَتِفِي ، تَلَفَّتُّ حَوْلِي خِشْيَةَ أنْ يَكُونَ هُنَاكَ مَنْ يَرَانَا . لَمْ يَكُنْ حَوْلَنَا أَحَدٌ (…) من دَاخِلِي انْبَعَثَ صَوْتٌ هَـامِسٌ ، يَدْعُونِي لِوَضْعِ يَدِي عَلَى فَخِذِهَا والغِيَابِ مَعَها في سَكْرَةٍ من سَكَرَاتِ العِشْقِ(…)كَان الصَّوْتُ الهَامِسُ ذَاتَهُ،الذي عَرَفْتُ بَعْدَهَا بِأَسَابِيعَ ، أَنَّهُ صَوْتُ عزازيل …” (ص333/334). إنَّ رَمْزَ السُّقُوطِ من الرُّمُـوزِ الدّينيّةِ التي تَعَلَّقَتْ مُبَاشَرَةً بِعزازيل ، فهو مَصْدَرُهُ مًنْذُ بَدْءِ التَّكْوِينِ ، بَلْ هُوَ سَبَبُ وُجُودِهِ على الأَرْضِ بِأَمْرِ اللّهِ : يَفْتِنُ ، ويغْوِي ، و يُزَيِّنُ الرَّذَائِلَ والمَعَاصِي ، وَيَزْرَعُ الشّر في كُلِّ مَكَانٍ . وَلَعَلَّ رِوَايَة ” عزازيل ” ليوسف زيدان قَدْ عَبَّرَتْ أَصْدَقَ تَعْبِيرٍ عن مَعْنَى الشّر وَرَمْزِهِ : عزازيل . فَرَاوِيهَا هيبا نَمُوذَجٌ للإنسانِ في كْلِّ الأَزْمَانِ ، يَخُوضُ صِرَاعًا مَرِيرًا بيْنَ الخَيْرِ والشّر ، بَيْنَ اللّه و الشّيطان ِ. فَتَارَةً يَنْتَصِرُ الخيْرُ ، وَتُشْرِقُ الرُّوحُ ، وَيَنْهَضُ الإِلَهُ الكَامِنُ فِيهِ ، فَيَطْمَحُ إلى الكَمَالِ وَالخُلُودِ . وَطَوْرًا تَرْجَحُ كَفَّةُ الشّرِ ، وَتَنْطَفِئُ أَنْوَارُ الفَضِيلَةِ ويَحِلُّ ظَلاَمُ الدَّنَسِ وَالرَّذائِلِ ، فَيَسْقُطُ الإنْسَان في فَخِّ الشّيطان الفَتَّان ِ . وَلَمْ نَجِدْ تَعْلِيلاً مَنْطِْقِيًا ، في الرّواية ، لارْتِبَاطِ المَرِأَةِ بالغِوَايَةِ والشّيطان : فهل أنَّ جمالَها وجاذِبيَّتِها هما سببُ اعتِمادِها من طرفِ عزازيل ، وسيلةً لإغْواءِ الرّجُلِ وإثارةِ غرائِزِهِ وحثِّهِ على ارتِكابِ المعاصي ؟.. ، وإنْ أقْررْنا بذلك ، فهذا يدُلُّ على أنَّ المرأةَ ، دائمًا ، تكون في موْضِعِ الجاني لا المَجْنِيِّ عليهِ ، وفي هذا تَجَنٍّ،ولا نظُنُّ أنَّ عَدالَةَ السّماءِ تُبيحُ ذلك،ألمْ يكنْ النّبيُّ يوسفُ مصْدَرَ الفتْنَةِ والغِوايَةِ لامرأة العزيز ونساءِ فرعوْنَ؟!..
قد يحْمِلُنا تأويلُ رواية “عزازيل” ليوسف زيدان إلى أبْعد من ذلك ، فعزازيل رمزُ الشرِّ، يبدو كمُحَرِّكِ الدُّمى في المسرحِ (الأراجوز) ،لا نراهُ، إلاَّ أنّنا نُدْركُ أثَرَهُ، فهو يَخْتفي في كلِّ شخْصيَّةٍ من شُخصِيّاتهِ التي تُعبِّرُ عنه، وتَنْطِقُ بلسانهِ . وما يُرْبِكنا حين نَتَقصَّى أثَرَ عزازيل في رواية زيدان ،هو هذه الصِّلةُ الوثيقَةُ له بالجَمالِ ، فقد ارْتَبَطَ فعْلُهُ ،وإنْ كان قبيحًا أحيانًا ، بكلِّ جَميلٍ : (جمال أوكتافيا /سِحْرُ مرتا/عقلُ وجمال هيباتيا/سماحة والد هيبا/إخلاصُ زوجِ أوكتافيا/طيبةُ هيبا…).
فهلْ أنَّ عزازيل رمز الشرِّ يسْكُنُ كلَّ جميلٍ فاتِنٍ ؟..أمْ أنّه الجمالُ، نفسه، ؟..وإنْ كان جَمالاً، فلِمَ هو شرٌّ؟..، أمْ أنَّ على الإنسانِ أنْ يَتَّقِيَ الشرَّ ، فيَجْتَنِبَ كلّ َجَميلٍ ؟.. ، أليْسَ الخيرُ جمالاً ، فهل نهجُرُ الخيرَ؟..، أمْ أنّ للخيْر حُدودًا إنْ تجاوزها أصبحَ شرًّا ، كما للجَمالِ موَاقِعُ إنْ غيّرَها أصبَحَ قبْحًا ؟؟…
تلك أسئلةٌ يُثيرُها الرّمزُ الدّينيُّ : عزازيل في رواية زيدان ، التي تُحرِّكُ السّواكِنَ وترْفُضُ الرّكودَ وتُغري بتعدّدِ القراءاتِ والتّأويلاتِ .
*الهَـوَامِـــــشُ :
– (*)- زيدان (يوسف) ، “عزازيل” ، مصر(القاهرة) ، دار الشّروق ، الطّبعة الثّانية عشرة (2009) .
– (**)- يُقَدِمُ” مُعجم الرّموز ” تَعْرِيفًا وَظِيفِيًّا فَنيًّا للتّعارُضِ القَائِمِ بَيْنَ رَمْزِيّةِ الشّيْطَانِ وَمَاهِيَّةِ الله : “حَيْثُ يَرْمُزُ الشّيطانُ إلى جَميعِ القُوَى التي تُحْدِثُ الاضطِرَابَ ، وَ تُظْلِمُ الكَوْنَ ، و تُضْعِفَ الوَعْيَ و تَجْعَلَهُ يَرْتَدُّ نحْوَ اللاَّمَحْدُودِ
و المُتَضَادِّ، فهو ( الشيطان ) مَرْكَزُ الظَّلاَمِ، عَكْسَ اللَّه مَرْكَزُ النّورِ. الشّيطان يَحْتَرِقُ في العالمِ السُّفْلِيِّ وَاللّه يُشِعُّ في السَّمَاءِ … ” .
« Le diable symbolise toutes les forces qui troublent, affaiblissent la conscience et le font régresser vers l’indéterminé et l’ambivalent : centre de nuit, par opposition à dieu, centre du lumière ; l’un brûle dans un monde souterrain ; l’autre brille au ciel … » . -Chevalier (Jean) ,Gheerbant (Alain) ; ’’ Dictionnaire des symboles’’ ed. Robert Laffont ; Paris 1982 p .277(diable) .– (***)- تُمَثِّلُ قَضِيَةُ حُرِيَّةِ الاخْتِيَار بين الخير والشّر أو مبدأ ” المُدَاولَةِ ” كَمَا يَحُدُّهَا أرسطو ، من أهمّ القضايا التي أثَارَتْ جَدَلاً في الفِكْرِ الإنساني ، فقد اعْتَبرتْ الفلسفة الهندية أنَّ : ” الشّر الكونيَّ هو أصْلُ الطّبيعة الإنسانيّة ؛ وهو وليدُ التّعلَقِ بالحياةِ ” و اقْتَرَحَتْ حُلُولاً للتّخلُّصِ من الدَّورة الأبديّة للشرّ (sâmsara ) . التي تُعَرِّضُ النَّفْسَ للتّناسُخِ بما قَدَّمَت في حَيَاتِهَا . أَمّا الفلسفة اليُونَانية ، فقد تَبَايَنَتْ مواقِفُ فلاسِفتِها في النّظر إلى هذه المسألة التي تُعْتَبَرُ إشكاليّةً ،
فقدْ بَيَّنَ أرسطو أَنَّ للإنسان إمكَانيّة “المداولة”، بما أَنَّهُ : “يَخْتَارُ بين أَنْ يَفْعَلَ الخَيْرَ و بين أَنْ يَقُومَ بالرّذيلة …” ، فأَفْعَالَهُ
إرَادِيَّةٌ تَقُومُ على مَبْدإ التّفكير و الاخْتِيَار ، إذن الخير و الشّر عنده (أرسطو ) مُحَدَّدَانِ بمِيزَةِ العَقْلِ ، وقد سَلَكَ المُعْتَزِلَةُ
هذا المسْلَكِ ، إذ يَرَوْنَ أنَّ ” العبْدَ خَالِقٌ لِأَفْعَالِهِ خَيْرهَا وشرّها (…) و الربُّ مُنَزَّهٌ أنْ يُضَافَ إلَيْهِ شَرٌ وظُلْمٌ … ” ، وقد اخْتَلَفُوا في ذلك مع الأشاعرة ، حيث أنّ إمامهم الغزالي يرى : ” أنّ فعل العَبْد ( الخير والشّر ) وإن كان كَسْبًا لَهُ فلاَ يَخْرْجُ عن كَوْنِهِ مُرَادًا لَهُ ، فلاَ يَجْرِي شيءٌ إلاَّ بِقَضاءِ اللّهِ و قُدْرَتِهِ …” .
– للتّوسُّعِ في هذه المَسْأَلَةِ يُرْجى النَّظَرُ إلى :
– مرحبا (محمد عبد الرّحمان ) ؛ “من الفلسفة اليونانيّة إلى الفلسفة الإسلامية ” ، بيروت / باريس ؛ منشورات بحر المتوّسط و منشورات عويدات ، الطّبعة الثّانية (1981) ،ص ص 66/67 و ص ص 636/ 654 .
-التّريكي (فتحي) ؛ ” العقل و الحرّية ” ؛ تونس ؛ منشورات تبر الزّمان ، (فيفري 1998) ، ص ص 72 /73/74 .
-(****)- لقدْ أَفْرَدَ ” جيرار جيتات ” كتابًا مُسْتَقِلاًّ سَمَّاهُ “عتبات ” (seuils) ، اهْتَمَّ فيه بالمُصاحِبَاتِ النَّصِّيَّةِ :
(les para textes) ، ” التي عَدَّهَا من أُسُسِ اعْتِبَارِ النَّصِّ كِتَابًا ” ، وقدْ قَسَّمَ هذه المُصَاحِبَاتِ النّصِيّةِ إلى صِنْفَيْنِ :
– المُصَاحباتِ النَّصّيةِ الخارجيّة (les épi textes) :وهي تَتَعلّقُ بمَا قِيلَ حَوْلَ الأَثرِ و لَمْ يَشْتَمِلْ عليْهِ فَضَاؤُهُ المَادِيُّ (الأثَرِ ) مِثْلَ الحِوَارَات و الشّهاداتِ و المُذَكّرَاتِ التي اعْتَنَتْ بالأَثَرِ و مُؤَلِّفِهِ .
– المُصَاحِبَاتِ النّصيّة الدّاخِلِيّةِ : (les péri textes) : وهي التي اهْتَمَمْنَا بها في عَمَلِنَا ، لِأَنَّهَا تَشْمَلُ العَنَاصِرَ المُنْتَمِيةَ إلى فضاء الكتاب المَطْبُوعِ مثل ( العنوان/ التّصدير / الهوامش / الإهداء / العناوين الفرعيّة الدّاخليّة …).
« Le para texte est donc pour nous ce par quoi un texte se fait livre … » p,7.
– للتَوسُّعِ في ما يتَعَلَّقُ بما وَرَدَ ، اُنْظُرْ:
-Genette (Gérard) ;Seuils ; Paris ;éd. du Seuil ;1987.
-(*****)- يَعْتَبِرُ ” جيلبار دوران ” أَنَّ الصُّوَرَ تَنْتَظِمُ في كوْكَبَات :(constellations ) تَسْتَقِرُّ بِهَا الرّمُوزُ ، لذلك قَسَّمَ الصّور الرّمزيّة إلى نِظَامَيْنِ :
– النّظام النّهَاريُّ للصّورَةِ :(le régime diurne de l’image) الذي تضمَّنَ في قِسْمِهِ الأَوَّلِ دِرَاسَةً عن أَوْجُهِ الزَّمَنِ :(les visages du temps) ،اهتمَّ خِلاَلهَا “دوران ” برَمْزيّةِ نسَقِ السُّقُوطِ :(schème de la chute) ، الذي َتَضَمَّنُ معنى السُّقُوطِ كَعُقُوبَةٍ :(la chute comme punition ).
-النّظام اللّيلي للصّورةِ : (le régime nocturne de l’image ) وهو نظام تَغْلُبُ عليه معاني السّكون و الأُلْفَةِ ،
وتتَحوَّلُ خِلاَلَهُ بَعْض الرموز النّهاريّة إلى مَعَانٍ جَدِيدةٍ تَتَميّزُ باللُّطْفِ و الهُدُوءِ ، فالسُّقُوط يَتَحَوَّلُ إلى نُزُولٍ “Euphémisation de la chute en descente “.وقد بيّن “دوران ” أنّ :” السُّقُوط يَتَجَلّى كعَلاَمَةٍ للعُقُوبَةِ ، ففي الدّيانة اليهوديّة، سقوط آدم يتَكَرَّرُ بسُقُوطِ الملاَئِكَةِ الأَشْرَارِ (…) هَؤُلاَءِ المُتَمرّدُون الذين يَقُودُهُم عزازيل والشّيطان…”.
. Ce thème de la chute apparaît comme le signe de la punition (…) . dans la tradition juive “- La chute d’Adam se répète dans la chute des mauvais anges (…) ces anges rebelles sont commandés par AZAZEL et Sémiazas… » p.125.– للتّوسّع اُنْظر :
– Durant (Gilbert) ;les structures anthropologiques de l’imaginaire ; Paris ;ed. Dunod ; 11 edition ;1992.
[1] ريكور(بول) ، صراع التّأويلات : دراسات هيرمينوطيقيّة ، ترجمة : منذر العيّاشي ، بيروت(لبنان) ،دار الكتاب الجديد المتّحدة ، (2005)، ص 348 .
[2] ابن منظور(أبو الفضل جمال الدّين) ، لسان العرب ، بيروت ، دار صادر ، الطّبعة الثّالثة ،(1994) ، المجلّد (13) ، ص 238 .
. ريكور (بول) ، صراع التّأويلات ، ص 317 .[3]
[4] ابن منظور ، لسان العرب ، المجلّد (6) ، ص 29 .
[5] يُعرِّفُ مالك الشّبل “إبليس” في كتابه “معجم الرّموز الإسلاميّة” من خلال رمزيّتهِ المُرْتبطةِ بالإسلام والدّعوة المُحمّديّةِ ، يقول :
« Iblis , appelé aussi : Ach-chaytan al-marjoum (…) C’est l’incarnation principale du démon en I slam ,la figure emblématique du Diable dans l’univers fortement cloisonné qu’est la prédication Mohamédienne . Pour avoir refusé de s’incliner devant la Majesté divine (…) Il fut alors banni du Paradis et privé des bienfaits célestes qui l’accompagnent … » – Chebel (Malrk) , Dictionnaire des symboles Musulmans , Paris , ed. Albin Michel , (1995) ;p 132/133[6] قد يكونُ التّعريفُ الذي وضعه “شوفالييه” و”جيربرانت” في كتابهما “معجم الرّموز” أبلغَ تعبيرا عن مفهوم الشّيطان رمزًا للشرِّ ، لأنّه يُقدّم معنى لفظ الشيطان من حيث وظيفتُه ، ودلالتُه عن كلِّ سيّءٍ وشرّيرِ، ويُبرِزه كنقيضٍِ للخيرِ .
– للتّوسّعِ ،اُنظرْ :
– Chevalier(Jean) et Geerbrant (Alain) ,Dictionnaire des symboles , Ibid , p 671[7] زيدان (يوسف) ، عزازيل ، مصدر سابق ، ص 339 . “تجنّبا للتّكرار ، سأذكر الصّفحات المُتعلّقة برواية “عزازيل” من هنا فصاعدا في المتن بين قوسين ” .
[8] زيدان (يوسف) ، “من حوار أجراه سامح سامي مع المؤلّف” ، نُشِر بالموقع الالكتروني : www.metransparent.com
[9] فرويد (سيغموند) ، إبليس في التّحليل النّفسي ،ترجمة:جورج طرابيشي ، بيروت (لبنان) ، دار الطّليعة للطّباعة والنّشر ، الطّبعة الأولى ، فيفري 1980 ، ص 22 .
[10] ترى صوفيّة السحيري بن حتيرة ،في كتابها “الجسد والمجتمع” ،أنّ أكْلَ آدم وحوّاء من ثمار الشّجرة المُحرَّمة كان ناتِجًا عن بحثهما عن سبب منعهما من ذلك الفعْلِ ،إذن، فهما “قد مزّقا حاجز الجهلِ” ،وأصبح صنيعهما نُشْدانًا للمعرفةِ ، فهما “أكلا فعرفا وأوّل ما عرفاه هو الجسد” ، لذلك، سُمّيت الشّجرة المَنْهيّ عنها في التّوراة ،”شجرة المعرفة”.
– اُنظرْ :
– بن حتيرة (صوفيّة السّحيري) ، الجسد والمجتمع :دراسة أنتروبولوجيّة… ،صفاقس(تونس) وبيروت(لبنان)، دار محمد علي الحامي ودار الانتشار العربي ، الطّبعة الأولى ، 2008 ، ص ص 45/46 .
. قرآن كريم ، سورة الأعراف ، الآية 22 [11]
. بن حتيرة (صوفيّة السحيري) ، الجسد والمجتمع ، مصدر سابق ، ص ص 41/42 [12]
. زيدان (يوسف) ، النّبطي ، القاهرة(مصر) ، دار الشّروق ، الطّبعة الأولى ، نوفمبر 2010 ، ص 34 [13]
. بن حتيرة(صوفيّة السحيري) ، الجسد والمجتمع ، مصدر سابق ، ص 48[14]
[15] ينطلق “فرويد” في تعريفه للشّيطان من المجال النّفسي الذي يشتغلُ عليه ،حيث أنّ إبليس بالنّسبة إليه لا يعدو أن يكون غير رغباتٍ مكبوتةٍ تتعلّق بجانب لاوعي الإنسان . وقد عرضَ قصّة الرسّام البافاري “كريستوف هايتزمن” ، التي دارت وقائعها في القرن السّابع عشر ،وادّعى فيها هذا الرسّام أنّه وقّعَ عهدًا مع الشّيطان ،لمْ يتخلّصْ منه إلاّ بمساعدة العذراء المباركة في كنيسة “ماريازل” ،حيث استردَّ عهْده من الشّيطان ،بعد أن تجلّى له على هيئة تنّين مجنّحٍ . وقد أثبت “فرويد” أنّ ما رواه هذا الرسّام هو تهيّؤات ومزاعم . فالشّيطان لا وجودَ له إلاّ في لاوعْيهِ (رغباتُهُ المكبوتةُ) .
– لمزيد التّوسّع، اُنظرْ :
– فرويد(سيغموند) ، إبليس في التّحليل النّفسي، مصدر سابق ، ص 6 .
. ريكور(بول) ، صراع التّأويلات ، مصدر سابق ، ص 347[16]