
إشكالية الحداثة في الجزائر -التأسيس لحداثة محلية وتجاوز الحداثة الكونية- : مقاربة ابستمولوجية
د.وسيلة عيسات/جامعة عبد الحميد ابن باديس،مستغانم،الجزائر
مقال نشر في مجلة جيل العلوم الانسانية والاجتماعية العدد47 الصفحة 77.
ملخص:
تعتبر الحداثة من بين أهم المفاهيم التي تحتاج إلى مراجعة ومحاولة إعادة فهم دلالاتها بخاصة في المرحلة الحالية التي تشهدها المجتمعات العربية بهدف بناء حداثة خاصة بها في ظل مختلف التأثيرات الخارجية عامة، وتأثير الحداثة الغربية خاصة. لا تسعى هذه الورقة إلى إعادة تعريف المصطلح نظريا، بقدر محاولة قراءته ابستمولوجيا لإسقاط هذا المفهوم على واقع المجتمع الجزائري الذي يسعى كغيره من المجتمعات العربية إلى بناء نموذج حداثي خاص به يختلف عن النموذج الغربي للحداثة. ستقوم الورقة بإنجاز هذه المهمة من خلال قراءة نقدية في مدونة الأدبيات التي درست المجتمع الجزائري منذ الاستقلال مرورا بعملية حرق المراحل والنظرية التاريخانية ووصولا إلى ضرورة البناء على الخصوصية الثقافية، وغيرها والتي لم تصل إلى حد الساعة إلى فهم واضح لهذا الواقع.
الكلمات المفتاحية: الحداثة، التقليد، الصراع، القيم، التثاقف.Abstract:
Modernity is one of the most important concepts that requires reconsideration and a fresh look to understand their meaning, especially in the present phase witnessed by Arab countries in their aspiration to construct their own specific modernity. Such event is taking place under various external influences generally, and those of Western societies particularly. The present paper does not aim at redefining the concept theoretically, but rather through an epistemological reflection on the concept in order to adapt it to the realities of the Algerian society which endeavours, as other Arab countries, to reconstruct its own specific modernist model which differs from that of Western societies. The paper attempts to carry out this task through critical reading of a corpus of literature which studied Algerian society since its independence.
Key Words: Modernity, tradition, conflict, value, acculturation.
مقدمة:لا نسعى من خلال هذا المقال التركيز على تحديد مفهوم الحداثة بقدر ما نحاول تحديد الركائز الابستمولوجية التي ستمكننا من قراءة وفهم الواقع، ومن ثمة المناقشة النظرية والمنهجية إذا ما حاولنا إسقاط هذا المصطلح على الواقع المحلي المختلف والمغاير تماما للواقع الذي انتج فيه، وهو الواقع الغربي، هذا إذا اعتمدنا بطبيعة الحال الحداثة الغربية كنموذج فقط خاص بتلك المجتمعات وليس كحداثة كونية أو عالمية. فالحداثة في الجزائر تحيل –على لسان علي الكنز- إلى أربع مراحل تقريبا. أولا بداية محاولة التغيير الجوهري من خلال اكتساب الوعي السياسي والذي أدى بدوره إلى القضاء على الاستعمار وتحقيق الاستقلال. المرحلة الثانية وهي محاولة تحقيق التنمية الشاملة حتى وإن كانت تعتمد على سياسة الحزب الواحد. المرحلة الثالثة التي مست الجانب الاقتصادي في محاولة لتحديث هذا الجانب من خلال محاولة إعادة الهيكلة وسياسة التصنيع المعتمدة بعد الاستقلال. ثم الجانب السياسي من التغيير وبناء الحداثة وهي التعددية الحزبية[1]. وبالتالي فالحداثة ليس مفهوما محددا أو معرفا بطريقة مطلقة ونهائية وإنما معانيه تتحدد حسب الوضعيات المختلفة التي تعطيه معنا خصوصيا ومتميزا[2] وليس معنا كونيا أو عالميا كما يدعي الكثيرون وهذا ما سنتأكد منه في سياق هذه الورقة.
تعالج هذه الورقة إشكالية العلاقة الجدلية بين الحداثة والتقليد، والتي حاولنا من خلالها فهم كيف أن الشباب الجزائري يعيد إنتاج مجتمعه انطلاقا مما هو موجود. كيف يتحقق النموذجان القيميان التقليدي والحداثي في تصورات وسلوكات الشباب؟ كيف يحاولون التوفيق بين ما هو تقليدي وما هو حداثي؟ هل يمكن الحديث عن انبثاق وتأسيس وبناء مجتمع جديد يجمع بين التقليد والحداثة في الجزائر؟ إذ بدلا من الحديث عن ثنائية التقليدي /الحديث، هناك مجتمع جديد في طور التكوين والبروز رغم أن ثقافته لم يكتمل نموها بعد-وهذه هي الفرضية المعتمدة في تحليل هذه الورقة- مجتمع يتأسس ويُبنى على قاعدة القيم الاجتماعية الأصلية التي يتم تطويرها وإعادة صياغتها بما يتلاءم ومنطق الحداثة. يتحقق ذلك من خلال التعامل مع التاريخ، والتراث، والممارسات التقليدية بطريقة نقدية، بعيدا عن الصراع القيمي. إنها محاولة بناء منظومة قيمية جديدة تكون محصلة التوليف بين التقليدي والحديث. أي أن هناك “مجتمعا وواقعا جديدا في بزوغ”[3]. فالمجتمع الجزائري يبحث عن حداثة متميزة ومختلفة عن الحداثة الغربية، حداثة لا تلغي القيم التقليدية، بل تعيد صياغتها بشكل انتقائي، بعيدا كل البعد عن الحداثة المادية، على اعتبارها (الحداثة) ليست ثورة ضد التقليد، بل ثورة داخل التقليد.
فما افضت إليه التحولات اليوم في المجتمع الجزائري هو فعل تاريخي لبناء مجتمع جديد منتج لمجموعة من المعاني والقيم التي لا تلغي القيم الاصلية للمجتمع وإنما إعادة صياغتها بطريقة يتلاءم فيها الشكل مع المضمون، بمعنى أن الحداثة بمعناها الجدلي عبارة عن معادلة ذات حدين أو طرفين. الطرف الأول منها يمثل المضمون التقليدي، والطرف الثاني هو الشكل والمضمون الحداثي. والسؤال الذي يطرح نفسه في هذه الحالة كيف نوازن بين طرفي المعادلة المتناقضين تماما…؟ فالشكل الحداثي لا يمثل اشكالا وهو ما يطلق عليه تسمية الحداثة المادية، إذ يمكن للقيم التقليدية أن تأخذ الشكل الحداثي أي التحديث. ما يهمنا هو المضمون الحداثي لهذه القيم والمتعارض مع مضمون القيم التقليدية. في هذه الحالة لا نقول إلغاء القيم التقليدية وإنما إعادة صياغة هذا المضمون ومحورته بشكل يتناسب مع القيم الحداثية وجعل القيم الأصلية التقليدية كقاعدة يمكن الانطلاق منها والبناء عليها. هذا التمييز بين التقليد و الحداثة ما هو إلا من اجل العرض الواضح للأفكار فقط. لكن في الواقع ليس هناك فصل بين التقليد و الحداثة…
قراءة لبعض الادبيات المتطرقة لواقع المجتمع الجزائري
من بين أهم الدراسات التي تطرقت لإشكالية الحداثة في الجزائر دراسة الأستاذ جمال غريد من خلال مؤلفه الأول المعنون بالاستثناء الجزائري، الحداثة لاختبار المجتمعL’exception algérienne. La modernité à l’épreuve de la société. والذي يؤكد من خلاله وبصفة قطعية أن المجتمع الجزائري يعيش ثنائية المجتمع التقليدي والحداثي، بمعنى أن هناك مجتمعين وليس مجتمعا واحد، مجتمعا تقليديا ومجتمعا حديثا، خاصة عندما يربط هذه المسألة بعملية التصنيع والتنمية التي اعتمدتها الجزائر مباشرة بعد الاستقلال.
ثم مؤلفه الثاني المهم الذي صدر في 2013 وهو الدخول إلى علم الاجتماع، حدود الكونية (العالمية) الأوروبية، الممارسة الملموسة في عالم اليومL’entrée en sociologie, Les limites de l’universel Européen, Implications concrètes dans le monde d’aujourd’hui,
والذي حاول من خلاله الوصول الى وضع حدود للكونية الأوربية وإيجاد الحلول للمجتمع الجزائري والعربي بصفة عامة للمشاركة في التطور والتغيير لكن انطلاقا من الداخل، أي من خصوصية هذه المجتمعات، بالإضافة إلى الدعوة لضرورة استنباط نظريات ومناهج لدراسة واقع المجتمع الجزائري والعربي بدلا من استيراد نظريات انتجت في الغرب وتطبيقها في دراسة واقع يختلف تماما عن الواقع الذي انتجت فيه، كما يؤكد على أن المجتمع الجزائري والعربي عليه أن يساهم في بناء ما نسميه بالحداثة بدلا من استيرادها كما هي من الغرب وتطبيقها في مجتمعاتنا، ولهذا السبب فأي محاولة للتغيير لم يكتب لها النجاح… وهذا ما سنحاول فهمه في سياق هذه الورقة.
ودراسات بيير بورديوPierre Bourdieuعن الجزائر من خلال كتاب Les deux Algéries de pierre Bourdieu لصاحبه Martin Criado
فإذا أخذنا على سبيل المثال لا الحصر كتاب:
[4]Martin Criado فإنه يؤكد على أن BourdieuPierre كذلك يمكن اعتباره ممن درس واقع المجتمع الجزائري على أساس الثنائية الثقافية التي لا تزال موجودة في المجتمع الجزائر، الثنائية التي تقسم المجتمع وبطريقة صارمة الى مجتمعين: مجتمع تقليدي/مجتمع حديث، يقول الاستاذ عبد القادر لقجع[5]. والتي تتعمق بقبول الحداثة المادية اي الحداثة بمعناها الغربي، ورفض الحداثة الثقافية سواء بالنسبة لدراسة الاستاذ جمال غريد او بيير بورديو. فكل اعمال Bourdieu حول الجزائر تقوم على اساس التعارض والصراع بين مجتمع تقليدي ومجتمع حديث. وهي نفسها ثنائية الاستاذ جمال غريد[6] المعروفة. لكن Bourdieu في دراسته لتغير وتطور المجتمع الجزائري يتطرق الى العلاقة بين الحداثة والتقليد على اساس التناقض والتعارض اي الصراع، وفي ما معناه أنه لتبني مشروع الحداثة في المجتمع الجزائري وقيام مجتمع حديث فانه لابد من الالغاء التام للمجتمع التقليدي، يقول Martin Criado بحد تعبير الاستاذ عبد القادر لقجع[7].. لكن وفي حقيقة الأمر فإن الحداثة لا تقوم على هذا الأساس أو المبدأ. لكن ما هي علاقة الحداثة بنمط التحديث الغربي…؟ النموذج الغربي لأنه اطلق من فكرة الخلق الذاتي للمجتمع (…) إنها حركة تحول ذاتي، تدمير (هدم)، واعادة بناء واحياء الذات[8]. فالدفاع عن ثقافة المجتمع الجزائري والمحافظة عليها والوصول إلى الحداثة في نفس الوقت انطلاقا من هذه الثقافة، لا يكون بالانغلاق والتعصب ورفض الآخر، وإنما من خلال إعادة بناء التراث والقيم التقليدية المكون الأساسي لثقافة المجتمع الجزائري، أي وكما عبر عن ذلك محمد عابد الجابري بأن مفهوم الحداثة يتطلب تجاوز الفهم التراثي للتراث الى مفهوم حداثي (…) فالحداثة لا تعني رفض التراث ولا القطيعة مع الماضي بقدر ما تعني الارتفاع بطريقة التعامل مع التراث الى مستوى الحداثة ومواكبة التطور العالمي[9]. اي تجاوز فكرة فهم التراث والتقليد على انه مناقض للحداثة، وذلك من خلال فهمنا للحداثة على انها غربية الاصل والمنشأ. بيد ان الحداثة هي فعل لمرحلة تاريخية وفعل اجتماعي تختص به كل المجتمعات والشعوب في مراحل تحولها وتطورها. فالحداثة ليست مرادفا للغرب، وهي لا تعني التراثية او سيطرة وهيمنة التراث، وانما تهدف الى جعل المجتمع يملك تراثا ينطلق منه من خلال اعادة النظر والتفكير واحياء ذلك التراث، اي تحويل الفرد والمجتمع معا من فكرة هيمنة التراث الى فرد ومجتمع يملكان تراثا، والابتعاد قدر المستطاع عن الانبهار بالقيم الغربية المختلفة، والاهم من ذلك الغاء فكرة الحداثة او الاسطورة العالمية للحداثة الغربية بمعنى تجاوز النموذج الغربي للحداثة… فالحداثة فعل متواصل ليست من صنع مجتمع واحد او مرحلة تاريخية محددة وانما تختص بها كل المجتمعات.
مشكلة الحداثة في المجتمعات العربية والمجتمع الجزائري على وجه الخصوص تتمثل في اشكالية القدرة على تجاوز مفهوم النموذج الغربي للحداثة. “فهي تستوحي اطروحاتها وتتطلب المصداقية لخطاباتها من الحداثة الغربية التي تتخذها اصولا لها. والحداثة الاوروبية حتى وان سلمنا بانها عالمية الا انها تشكلت ضمن الثقافة الاوروبية المختلفة عن واقع وثقافة المجتمع الجزائري، فهي لا تنتظم بالتالي في تاريخ وثقافة المجتمع الجزائري”[10]. فتموقعها كما ذكر محمد عابد الجابري خارجها وخارج تاريخها يجعل الحداثة لا تستطيع التحاور والجدل مع ثقافة المجتمع الجزائري من الداخل لتحرك فيها الحركة وعملية التغيير من الداخل، وانما التأثير عليها من الخارج مما يجعل بالتالي رد الفعل هو الانغلاق والرفض. “و بالتالي فطريق الحداثة (…) يجب ان ينطلق من الانتظام النقدي في الثقافة العربية نفسها وذلك بهدف تحريك التغيير فيها من الداخل، لذلك كانت الحداثة تعني قبل كل شيء حداثة المنهج وحداثة الرؤيا (…) (و بالتالي خلق حداثة من واقع المجتمع الجزائري). و الواقع انه ليست هناك حداثة مطلقة، عالمية وكلية، وانما هناك حداثات تختلف من وقت لآخر ومن مكان لآخر. وبعبارة اخرى الحداثة ظاهرة تاريخية، وهي ككل الظواهر التاريخية الاخرى مشروطة بظروفها (…) فهي تختلف من مكان لآخر، ومن تجربة تاريخية لأخرى”[11].
فلو تمعنا قليلا في تراث العلامة ابن خلدون مثلا، لوجدنا ان الحداثة هي مرحلة تاريخية تمر بها كل المجتمعات وبطريقة الية، وان التغيير هو حتمية لا مفر منها. انه سنة الحياة والذي شرحه ابن خلدون في قوله “ان احوال العالم والامم وعوائدهم ونحلهم لا تدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقر، انما هو اختلاف على الايام والازمنة وانتقال من حال الى حال”[12]. اي ان التغيير حتمية دائما تؤدي الى تغيير الواقع، بما في ذلك الافراد. وبالنسبة لابن خلدون كذلك “اذا تبدلت الاحوال جملة، فكأنما تبدل الخلق من اصله وتحول العالم باسره، وكانه خلق جديد ونشأة مستأنفة وعالم مستحدث”[13]. وبالتالي فحتى ابن خلدون تحدث عن ظهور مجتمع جديد مختلف وحداثي ينتج من خلال حدوث عملية التغيير للواقع، وهذا هو المفهوم الواضح لابن خلدون وهو تعريف حيادي منهجي ناتج عن ملاحظة الواقع وفهمه وتفسيره وتحليله. هذا المفهوم الذي توصل اليه ابن خلدون والذي لا يزال اليوم مفكرو العصر الحالي الحديث يتنافسون ويتنازعون حوله. ولا نضن ان هناك من كتب مفهوما يضاهي عمق تفسير ابن خلدون سواء في العصر القديم او الحديث، والذي لا يزال صالحا للعمل به حاليا ولبناء منظومة معرفية حديثة. فهو يؤكد ويبين لنا انه ليست هناك اشكالية من الاساس بين الاصالة (التراث، القيم التقليدية، الدين) والحداثة، اي بين القيم التقليدية والقيم الحداثية… اما اشكالية فصل الدين عن الدولة عند ابن خلدون والتي هي من اهم مشاكل الحداثة تكمن في ان الاشكالية الصحيحة في علاقة الدين بأمور السياسة في الحرية. اي حرية التعامل مع النصوص الدينية، وهي ام الحريات والتي تتفرع منها كل الحريات الاخرى[14]. بمعنى تدخل العامل النفسي وموقف الفرد الشخصي في التعامل مع هذه الظواهر وفي مقدمتها علاقة الدين بالحداثة والتغير… “فلا وجود لحداثة الا باعتبارها تفاعلا متناميا للذات والعقل، للوعي والعلم”[15]و لكن بعيدين عن علاقة التابع والمتبوع التي حددها ابن خلدون[16].
فالحداثة هي تجربة ليست ضد التقليد وانما ضد منطق التقليد وهيمنته[17] من خلال منطق جدلي قائم على نوع من الصراع ليس لإلغاء أحد الطرفين وإنما محاولة محورته أو كما سماه هيجل بصراع الأضداد. فالحداثة يقول هابرماسHabermas لا يمكنها وليس بإرادتها ولا تقبل استعارة المعايير التي تسترشد بها من عصر لآخر، والتي بموجبها تأخذ وجهتها, فهي تستخرج بالضرورة معياريتها من ذاتها. وبالتالي تكون الحداثة بمثابة انبثاق وضع جديد، أي أنها مرتبطة بوعي ذاتي ينبع من رغبة الفرد المستمرة في التغيير[18]
أهم التقسيمات المحتملة في المجتمع الجزائري:
يمكن الحديث عن ثلاث تقسيمات يشهدها المجتمع الجزائري وهذا حسب ما درس.
الفئة الاولى: التمسك و التعصب وهناك اتجاه آخر ينادي بالانغلاق على كلية الثقافة التقليدية والقيم ورفض أي محاولة للتغيير بدعوى المحافظة على الهوية الوطنية للمجتمع الجزائري والخصوصية الثقافية.
الفئة الثانية: الإلغاء التام وتبني الجديد تؤكد على أن التحول من المجتمع التقليدي إلى المجتمع الحديث تتطلب القضاء كليا على البنية أو القاعدة القيمية والثقافية التقليدية والأصلية للمجتمع، واستبدالها ببنية جديدة حديثة مختلفة من أجل اللحاق بالدول المتطورة من خلال ما يسمونه باختزال المراحل.
الفئة الثالثة: والتي تختلف تماما عن سابقتيها. فالغرض من عرض هذين الاتجاهين النظريين للعلاقة بين التقليد والحداثة في المجتمع الجزائري هو من أجل التقييم والنقد في نفس الوقت من جهة، ومن جهة ثانية توضيح ومحاولة فهم الارضية النظرية والفكرية التي تشكلت من خلالها بعض المفاهيم المهمة كالحداثة، الثقافة، القيم… والوصول من جهة ثالثة وانطلاقا من هذين الاتجاهين إلى طرح فرضية أو اتجاه ثالث مختلف تماما عن الاتجاهين السابقين خاصة بالنسبة لفئة الشباب من خلال فهم وتوضيح تصوراتهم وتمثلاتهم لثقافة وقيم المجتمع الجزائري التقليدية. هذا الاتجاه الذي لا يلغي الخصوصية الثقافية والقيمية للمجتمع الجزائري ولا يحتفظ بها لدرجة الانغلاق والتعصب وإنما قراءتها وفهمها بطريقة نقدية في محاولة لإعادة خلقها.
وبالتالي فالاهتمام بظاهرة الحداثة في الوقت الراهن في المجتمعات العربية عامة والمجتمع الجزائري على وجه الخصوص يؤكد وقوف هذه الأخيرة على حافة من الصراعات القيمية بين فئتين من الأفراد إحداهما تدعي طابع الحداثة ظاهريا، وتحمل في طياتها طابع القديم، وبين أخرى تتناول الأمور بطابع القديم والتمسك به. وفي كيفية تجاوز نموذج الحداثة الغربية كنموذج عالمي موحد لكل المجتمعات والوصول إلى الحداثة بناءا على الخصوصية الثقافية والقيمية. وفي أحضان التطور التقني والتكنولوجي الحاصل في العالم خلال السنوات الأخيرة وازدياد توسع وتيرة الثقافة وتعاظمها، ازداد توسع هذه الفجوة في غياب الحوار والتفاعل بين الفئتين, وبدلا من أن تكون القيم والمعايير هي الضابطة لأي مجتمع أصبحت مضبوطة ومنمطة حسب احتياجات الأفراد المقيدين بها.
يعتبر المجتمع الجزائري من المجتمعات التي تعيش في حاضرها ما بين ماضيها ومستقبلها طامحة إلى الحداثة والنمو واللحاق بركب الدول المتقدمة. ويبدو واضحا أن محاولة إسقاط هذا النموذج تدفعنا إلى التساؤل عن مدى تطابقه مع واقع المجتمع الجزائري ونموذجه الثقافي ومدى قابلية الأفراد له مع وجوب الإشارة هنا إلى تلك التباينات والفروق بين المجتمعات في الثقافة والقيم, التاريخ والواقع. وبالتالي من الأجدر بنا البحث في تأثير هذا الإسقاط ومختلف تابعياته ومخلفاته على الثقافة والقيم.
كيف سنقوم بمقاربة هذا الموضوع المعقد والمثير للجدل، موضوع الحداثة والتقليد والجدلية الحاصلة بينهما…؟ هل بصفتهما مفهومين متعارضين او باعتبارهما مفهومين متكاملين…؟ فإخفاق الحداثة عربيا وفي المجتمع الجزائري على وجه الخصوص يعود اولا الى سوء الفهم والاستيعاب قبل التطبيق. فمنطق الحداثة هو منطق جدلي لأنه خاضع لاحتواء كل ما هو تقليدي قديم وكيفية تجاوزه. كما لابد من ان يتوفر على شروط ذاتية للتغيير، اي من خلال وعي جدلي مع التقليد.
فالحداثة في ابسط تعريفاتها هي عملية تاريخية معقدة في سياق عالمي تتم تدريجيا وببطء شديد. فهي ليست مجرد تغيير في أنماط العيش، إنها أسلوب وفلسفة في الحياة وتعبير عن ثقافة مجتمعية. فالتقاليد تعاد قراءتها في ضوء الحداثة, والحداثة تنطلق من التقاليد, اي ان تطبيق فكرة الحداثة غير ممكن ان تغرس خارج نطاق التقاليد. بمعنى ذوبان وانحلال التقليد داخل الحداثة فاذا اردنا تطبيق الحداثة بشكلها الصحيح يجب ان نأخذ منها روحها ومعناها الحقيقي, ونترك اشكال ممارستها لطبيعة المجتمع الاصلية.
فهذه التجربة العملية التي يعيشها الفرد الجزائري والتي أمدته بقيم جديدة تدفعنا إلى التساؤل حول ما إذا كان وراء هذا الخضوع لكل ما هو مستحدث خضوع ولو ضمني لقيمه الثقافية الأصلية التقليدية والتي يمكن أن تكون مناقضة تماما ومغايرة للقيم الثقافية للمجتمع الجزائري. وبعبارة أخرى أي نوع من المجتمعات هو المجتمع الجزائري؟ هل هناك تداخل بين التقليد والحداثة؟. إلى أي مدى تتوافر مؤشرات الحداثة داخله وما مدى تقبلها وتطبيقها من قبل الأفراد؟. ما مدى تفاعل ومرونة Flexibilitéالقيم التقليدية للمجتمع مع القيم الحداثية وتأثيراتها السوسيو-ثقافية على مختلف الميادين؟. هل من الممكن انبثاق وخلق مجتمع جديد يجمع ويحاول المزج بين المنظومتين ومؤسس على المنظومة القيمية الاصلية للمجتمع الجزائري؟. ما هو واقع الشباب الجزائري ضمن هذه الجدلية؟، كيف ان النمطين القيميين ( التقليدي و الحداثي ) يتحققان في تصورات وسلوكات الشباب؟. أي كيف يحاول الشباب التوفيق بين النمطين القيميين المختلفين…؟، كيف تتحقق الجدلية بين ما هو تقليدي و ما هو حداثي؟ وما هي تمثلاتهم للحداثة في علاقتها بالدين خاصة؟
وعليه فعوض الحديث عن مجتمع تقليدي/مجتمع حديث، هناك مجتمعا جديدا في طور التكوين والبروز بالرغم من أن ثقافته لم يكتمل نمها بعد إلا انه يحاول الانطلاق والبناء من القيم الأصلية للمجتمع وذلك بتطويرها ومحورتها واعادة صياغتها بشكل يتماشى مع المنظومة القيمية الحديثة والوصول إلى قيم جديدة هي محصلة المزج بين ما هو تقليدي وما هو حديث. اي ان هناك مجتمع وواقع جديد في بزوغ. Société en émergence[19].
الحداثة بهذا المعنى تقوم بالأساس على ما هو موجود. أي الانطلاق من المنظومة القيمية للمجتمع الجزائري بما في ذلك الدين الذي يعتبر أهم أسس تشكيل الهوية. وبالتالي ضرورة البناء انطلاقا من هذه الخصوصية الثقافية للمجتمع. فهناك نوع من الجدلية بين الحداثة والتراث تكمن في أن منطق الحداثة منطق جدلي وذلك من خلال عملية احتواء القديم وتجاوزه وليس إلغاءه، بما في ذلك التراث والدين. وهذا الجديد لا يلبث حتى يصبح في يوم من الأيام قديما ولابد من تجاوزه وهكذا. فالحداثة ليست مجرد مفهوم بل هي مرحلة تاريخية، مرحلة تحول تاريخي وفكري في الأساس. وهي لا تعني مجرد التطبيق وإنما معناها الاستيعاب قبل التطبيق، فهي نمط من المعرفة يصعب استيعابه دون فهم الشروط الذاتية للمجتمع. الطريق الى الحداثة يقوم على مجموعة من العناصر (خاصة القيم والثقافة) والتي يتلقاها الفرد (الذات) من مجتمعات أخرى. ومن مبادئ الحداثة أننا لا نصل كليا إلى الجديد انطلاقا من الجديد وإنما انطلاقا من القديم التقليدي[20]. لنصل إلى الجديد أي انطلاقا مما هو كائن وموجود وليس مما ينبغي أن يكون. بمعنى وصول الشباب بالمجتمع الجزائري إلى الحداثة لا يكون بتبني قيما جديدة حديثة خاصة بالغرب، وإنما من خلال القيم التقليدية والمنظومة الثقافية للمجتمع الجزائري. وهنا يكمن دور الشباب كفاعلين بقراءتهم للقيم التقليدية للمجتمع بمنطق تلك القيم الجديدة المختلفة أي بمنطق الحداثة. فالحداثة هي إعادة الخلق والبناء.
فالعالم اليوم والمجتمع الجزائري خاصة في حالة من التغير والتحول سريعة ومتواترة يكاد المرء أن يفقد القدرة على متابعتها، ومن ثمة استيعابها وإدراكها للكم الهائل من السرعة والتواتر (و التوتر[21] في نفس الوقت) الذي يتميز به تغير وتحول عالم اليوم (…) هذه التغيرات والتحولات المتسارعة في العلم والتقنية التي تؤدي إلى إعادة تشكيل المجتمعات، هذه التكنولوجيات هي التي تساعد في ديناميكية التواصل بين الثقافات المختلفة من خلال انتشار التقنية[22] والتي تؤدي بالتالي إلى إعادة تشكيل المجتمعات تشكيلا جديدا يأخذ شكل الجذرية، والفجأة في بعض الأحيان كما عبر عن ذلك G.Balandier[23]
الصراع بين ثقافتين:
هناك صراع بين ثقافتين، هذا الصراع أو بالأحرى فكرة الصراع هي التي أدت الى فكرة الثنائية.
في هذا الموضع يستوجب علينا ربما استعمال مصطلح مثاقفة: التحديث الغربي = مثاقفة. معناه إدخال ثقافة جديدة على المجتمع الجزائري، وهذا بطبيعة الحال ليس معناه حداثة وإنما التحديث الغربي هو بمثابة مثاقفة في المجتمع الجزائري. فتبادل التثقيف عملية تتم من الخارج، يعبر بشكل أفضل عن المراحل المختلفة لعملية التحول من ثقافة إلى أخرى، لأن ذلك لا يتمثل في مجرد اكتساب ثقافة أخرى ، وهو ما تعنيه فعلا كلمة Acculturation أي التثقف من الخارج، ولكن العملية تتضمن أيضا بالضرورة فقدان أو استئصال ثقافة سابقة.
يعرف المجتمع الجزائري عمليات واسعة للتغيير والتطور والتقدم. لكن التطور لا يشمل فقط الجانب الاقتصادي وإنما هناك جانب آخر مهم هو الجانب الثقافي والفكري. إنه مثاقفةAcculturation – يقول الاستاذ جمال غريد- إنها سيرورة أو عملية الانتقال من حقبة تاريخية إلى أخرى، من حضارة إلى أخرى (…) لكن بطريقة ولو ضمنية وكأنه إعادة متسارعة للنموذج الغربي من أجل تحقيق التقدم خاصة من الناحية المادية من خلال عملية حرق المراحل[24] أو التاريخانية… وفي هذه الحالة لابد من تطبيق النموذج الغربي كما هو في المجتمع الجزائري، وهذا للأسف ما قامت به دول العالم الثالث في مسيرتها من أجل الوصول إلى الحداثة وهو تطبيق نموذج واحد، وهو النموذج الغربي للحداثة وبطريقة غير مباشرة[25]. وكأن الحداثة ترادف مصطلح الحداثة الغربية أو بالأحرى الحداثة هي الغرب بكل بساطة… لكن التثاقف لا تعني فقط خلق الصراع القيمي، يل تحمل معاني التبادل الثقافي والتغير القيمي والذي يمكن ان يكون مبنيا على فكرة التلاؤم والانسجام والتكامل. بمعنى آلية المثاقفة Acculturation القائمة على نوع من التسوية والتي تسمح بعملية الانتقاء الثقافي الملائم (اي انتقاء القيم الثقافية الملائمة مع واقع المجتمع) بما أنها تحاول الوصول إلى خلق نوع من الاتفاق للتعايش بين الثقافة الحديثة والثقافة التقليدية الأصلية[26] للمجتمع الجزائري.
الخصوصية (المحلية) والكونية في الحداثة:
نريد من وراء هذا العنصر إثارة مسألة ابستمولوجية غاية في الأهمية وهي مسألة نسخ كل ما أنتج في الغرب من مفاهيم، قيم، ثقافة… وتطبيقها في مجتمعاتنا الغربية بدعوى الحداثة. أليس من الأجدر مساءلة تلك المفاهيم وتلك القيم وإعادة قراءتها بطريقة علمية، ثم محاولة إنتاج وإبداع مفاهيم خاصة بمجتمعاتنا تتماشى مع منظومتنا الثقافية والقيمية.
هنا ربما يكون التمييز بين الحداثة الآلية التي تلغي تماما الجانب الفكري والثقافي منها، هذا الجانب الذي لا يمكن أن يحدث إلا من خلال التجربة التاريخية والثقافية للمجتمع المعني بالتغيير، وهنا تكمن الخصوصية. والحداثة التي تعتمد على الجاني الفكري أولا والمصاحب للجانب المادي أين يحدث التكامل. فالحداثة الآلية تؤدي بالضرورة إلى نوع من الشيزوفرينياSchizophrénie، الفصام، اللاقيم والاغتراب… لأنها حداثة مادية فقط آتية من الغرب بالدرجة الاولى نحاول تطبيقها على مجتمعاتنا دون الأخذ بعين الاعتبار الأرضية التي ستطبق عليها إذا كانت مناسبة، هل ستتوافق معها أو لا، بينما الحداثة الرمزية فتنتج حسب الموروث التاريخي والمنظومة الثقافية والقيمية المفكر فيه من جديد حسب احتياجات المجتمع في الوقت الحالي. وأبسط مثالا على ذلك هو الجانب الديني. فالحداثة الغربية أنتجت بعيد عن الدين، وبالتالي عند استيرادها ومحاولة تطبيقها كما هي فستواجه بالضرورة الدين الذي يعتبر أساس وعماد الحياة في مجتمعاتنا، بمعنى أن جوهر المسألة مرتبط أساسا بإعادة صياغة ابستمية جديدة كليا وإلا فشل المشروع.
هناك تيار في الجزائر داعم لفكرة الحداثة والعصرنة في الجزائر، والأصل لدى هذا التيار هو التحديث والعصرنة وليس الحداثة، وهذا يختلف. التحديث هو الشطر المادي فقط من الحداثة لذا لابد لنا من التحديد الجيد والعميق للمفاهيم حتى لا نقع في الخطأ. يقوم هذا التيار على إمكانية نقل المجتمع الجزائري من النظام الثقافي التقليدي المحلي إلى النظام الثقافي الغربي بدعوى الحداثة، في حين أن الحداثة ليست عالمية ولا كونية، أي ليس هناك حداثة واحدة وإنما حداثات، من منطلق أن لكل مجتمع حداثته الخاصة. وبالتالي فالنظام الثقافي والقيمي الدخيل لا يمكن له أن ينجح إذا رفضه النظام المستقبل ولم يتوافق معه. وبالتالي إمكانية نشوء مجتمعين تقليدي وحداثي وظهور ما نسميه بالثنائية الثقافية بالمعنى الانتروبولوجي للكلمة، حتى وإن قلنا أن هناك مجتمعا جديدا في طور التكوين.
الدخول في الحداثة والوصول إلى مجتمع جديد، يكون من خلال الخصوصية. عن طريق تجاوز إذا لم نقل رفض، ليس النموذج الغربي وإنما تطبيق النموذج الغربي للحداثة كما هو في المجتمع الجزائري. وبالتالي فالحداثة لابد من أن تقوم على أساس الموروث الثقافي للمجتمعات الاسلامية وعلى رأسها الجزائر. فلقد حان الوقت لوقف عملية اللحاق (أي كتابعين لمن هو أقوى)، وبناء حداثة خاصة بالمجتمع الجزائري من خلال تجديد وابتكار وإعادة خلق الماضي[27] لا إلغائه، وهذا هو المعنى الحقيقي والأعمق لمفهوم “حداثة” والتي تقوم على تغيير الأفكار. بمعنى التغيير المادي الذي يصاحبه التغيير الفكري من خلال خلق شباب قادرين على إنتاج حداثة انطلاقا من التقليد. تقوم على صراع بين التقليد في التفكير وطريقة التفكير الجديدة.
لكن هل المنظومتين تبقيان على نفس الشكل؟ متباينتين؟ سنصل إلى مركب أين لا نجد لا التقليد ولا الحديث و إنما شيء جديد يجمع كلا المنظومتين. المنظومتين التقليدية والحداثية لا تبقيان على نفس الشكل، التقليد لا يبقى تقليدا، والحديث يصبح في مرحلة ما تقليدا. أي أن هناك نوع من التعايش والتداخل ومحاولة التوفيق والتوليف بين المنظومتين. لكن ماذا سينتج عن هذا التعايش؟ وهذا التداخل بين الثقافتين من خلال ملاحظة الواقع والذي لمسنا أنه موجود لدى كل فرد جزائري.
هناك حداثات مختلفة ولكن هناك أشياء مشتركة بين مختلف هذه الحداثات أهمها طريقة بناءها انطلاقا من الخصوصية الثقافية والقيمية لكل مجتمع. ما هو خاص في الحداثة بالنسبة لكل مجتمع هو الطريق المؤدي إلى بناء الحداثة، وهذه الفكرة مرتبطة بفكرة ما هو مشترك بين مختلف التجارب…
فإحداث ما نسميه بالقطيعة الابستمولوجية في الحداثة معناه التعامل مع هذا المصطلح من منظورين. عامل التجاوز، واعادة قراءة التراث والقيم التقليدية للمجتمع الجزائري. بهذا المعنى تصبح الحداثة علاقة تكامل جدلي بين ما هو موجود في الأصل وما ينبغي أن يكون. أي بين القيم التقليدية للمجتمع الجزائري والقيم الحداثية التي يرغب الشباب تبنيها، متجاوزين بذلك فكرة أن الحداثة لابد من أن تتم خارج التراث والدين والقيم التقليدية. بينما تطرح الحداثة من داخل التراث والدين. فالحداثة ليست مرتبطة عضويا بالمجتمعات الغربية الاوروبية، بل أنها نتاج تفاعل تاريخي وحضاري تختص به كل المجتمعات بما فيها المجتمع الجزائري.
فالنسب التالية[28]: 81% ترى أن ثقافة المجتمع الجزائري هي مزيج بين الثقافتين التقليدية والحديثة. كذلك 73% ترى أن الدين لا يتعارض أبدا مع الحداثة، 83,5% تقول أن الدين لا يمنع التغير الاجتماعي، 83% ترى أنه يمكن التغيير انطلاقا من أسس دينية، الحداثة معناها البناء انطلاقا من كل ما هو تقليدي مع مراعاة القيم الدينية للمجتمع الجزائري، و76% تؤكد أنه بالإمكان بناء وتأسيس حداثة على أسس دينية أسلامية. كل هذه النسبة إن دلت على شيء فإنما تدل بالدرجة الأولى على محاولة المجتمع الجزائري والشباب خاصة تجاوز أولا فكرة الثنائية، ثم تجاوز فكرة النموذج الغربي للحداثة وعالميته، والأهم تأكيد فكرة أنه استحالة بناء حداثة خارج نطاق القيم التقليدية، الدين والخصوصية الثقافية للمجتمع الجزائري، وعوض الحديث عن مجتمع تقليدي أو مجتمع حديث، هناك مفهوم آخر يعبر عن واقع المجتمع الجزائري في تصور الشباب وهو مجتمع جديد يبني على ما هو تقليدي للوصول إلى الحداثة. فالدخول في الحداثة والوصول إلى مجتمع جديد، يكون من خلال الخصوصية. عن طريق تجاوز إذا لم نقل رفض، ليس النموذج الغربي وإنما تطبيق النموذج الغربي للحداثة كما هو في المجتمع الجزائري وكأنه نموذج عالمي موحد.
من أهم التساؤلات التي لا يمكن أن لا تطرح من خلال ملاحظة واقع المجتمع الجزائري هي هل فعلا الأفكار تغيرت، هل أدخلت عقلية جديدة في تصورات الأفراد وخاصة الشباب… لنصل إذن إلى فكرة المحلية والكونية في الحداثة: فالحداثة الغربية ليست المعيار الوحيد للحداثة، ما هي إلا نموذج للحداثة يختلف عن نموذج آخر وذلك حسب الخصوصية الثقافية لكل مجتمع. وهذا هو الأهم.
لكن ما هي علاقة الحداثة بنمط التحديث الغربي Modernisation…؟ الذي هو بمثابة مثاقفة.النموذج الغربي لأنه أطلق من فكرة الخلق الذاتي للمجتمع، إنها حركة تحول ذاتي، تدمير وإعادة بناء وإحياء الذات – وهي نفس العملية التي يقوم بها الشباب في المجتمع الجزائري- هذا التحديث الغربي الذي يأخذ في مفهومه نوع من المثاقفة معناه أن إدخال ثقافة أخرى مختلفة على المجتمع الجزائري وإلغاء الثقافة التقليدية الأصلة ليس معناه الحداثة وبالتالي تغيير فكرة الحداثة الغربية على أنها نموذج لابد من تطبيقه، وإنما محاولة الإستفادة من الحداثة الغربية كنموذج وليس كحتمية مفروضة.
فمفهوم الحداثة الغربية – دمج مفردة الحداثة بالغرب- لا يأتي من جانب حشر الحداثة في انتمائها الثقافي وموطنها الأصلي على سبيل التشهي والتحكم، إنما يأتي من مفهوم أن هذه الحداثة ليست كونية، بل هي فقط غربية المنشأ والتكوين فقط. (أي أنها حداثة تخص المجتمعات الغربية فقط، ونشأت من مقومات ومرجعيات وخصوصيات تلك المجتمعات) وأنها تشربت قيم الغرب، بما هي قيم خصوصية لا كونية.
خاتمة:
إن ما نلاحظه في طروحات سوسيولوجيةوانتروبولوجية مختلفة هو إهمال تطلعات المجتمع الفعلية ومحاولة ربما تطويع هذا الواقع ولو بالقوة من خلال إسقاطات لثقافة وقيم تختلف تمام عن هذا الواقع وكذا قراءة هذا الواقع من خلال شبكات مفاهيمية ونظرية ومنهجية مستوحاة من الأدبيات السوسيولوجية الغربية والتي أنتجت بالدرجة الأولى من عمق واقع تلك المجتمعات.
لقد حاول المجتمع الجزائري منذ الاستقلال استرجاع ثرواته المادية والرمزية (الثقافية والقيمية) في محاولة لبناء مجتمع حديث، لكنه عرف بوضوح أو ضمنيا تقدم وتفوق النموذج الغربي للحداثة بمميزاته الخصوصية[29] أي نموذج حداثة غربي يتعلق بخصوصية ومرجعية الدول الاوروبية الغربية ومبني أساسا على ذلك الواقع لا غير. فالمقاربة من خلال “الكونية” أو “العالمية” تقوم على مبدأ “لا يوجد إلا” وفي هذه الحالة فإننا نتحدث عن النموذج الغربي للحداثة كنموذج عالمي وكوني واحد لابد من تطبيقه في كل المجتمعات، وبالتالي يبقى هذا النموذج الغربي في هذه الحالة النموذج الذي لا يمكن تجاوزه[30] وعليه فالتساؤل المطروح متى وكيف يمكن للمجتمعات الراغبة في التطور وعلى رأسها المجتمع الجزائري البناء انطلاقا من أصالتها ومن تراثها ومنظومتها الثقافية والقيمية وهويتها…؟ أي بناء وإنتاج حداثة خاصة بالمجتمع الجزائري، حتى ما يأتي من الخارج يحاول تكييفه مع ثقافته وحداثته المحلية. إذ لدينا القيم التقليدية والقيم الحداثية الجديدة المشكلة محليا. وعليه الحداثة المنتجة محليا ومقارنتها بالحداثة الغربية. أي أن هذه القيم المنتجة محليا هي التي يتم مقارنتها بقيم الحداثة الغربية. بمعنى هناك تقليد وهناك قيم حداثية محلية هي التي أصبحت تتصارع مع الحداثة الغربية. وما هو خاص بكل مجتمع هو الطريق المؤدي إلى بناء هذه الحداثة المحلية. وبالتالي كيف يتم التعامل مع الحداثة الغربية لإنتاج حداثته المحلية؟ بمعنى أننا امام مجتمع جديد: لدينا فاعلين (الشباب)، ولدينا المحتوى والحاوي بالرغم من عدم وجود انفصال، وإنما هناك نوع من العضوية بين هذا المحتوى الجديد ومجتمعه وهنا نذهب إلى مستوى آخر من الصراع وهو بين الحداثة المحلية والحداثة كنموذج غربي. وعندما قلنا إشكالية الحداثة فكان القصد هو عدم وجود ولو شبه اتفاق حول المفهوم وإنما تبقى الآراء مختلفة ومتعارضة.
قائمة المراجع :
باللغة العربية
- بشير محمد، إشكالية الحداثة في المجتمعات المحلية: مقاربة ابستمولوجية، مجلة المواقف، مجلة الدراسات والبحوث في المجتمع والتاريخ، كلية العلوم الانسانية والاجتماعية، العدد 11، ديسمبر 2016، جامعة معسكر، الجزائر.
- محمد عابد الجابري، التراث والحداثة، دراسات ومناقشات، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، لبنان، الطبعة الاولى، 1991.
- ناصيف نصار، ابن خلدون في منظور الحداثة، مجلة المستقبل العربي، العدد 334، ديسمبر، بيروت، 2006.
- جورج قرم، الاصلاح الديني في العالم العربي والاسلامي، مجلة الآداب، العدد4-5-6، نيسان، 2009.
- عبد الرحمان ابن خلدون, المقدمة, دار القلم, لبنان.
- عيسات وسيلة، جدلية التقليد والحداثة في المجتمع الجزائري الشبابي، مقاربة للتغير والصراع القيمي، اطروحة لنيل شهادة الدكتوراه في علم الاجتماع، اشراف الاستاذ عبد القادر لقجع، جامعة وهران، 2016.
Bibliographie
Livres:
- Alain Touraine, Critique de la modernité, Fayard, Paris,1992.
- Alain Touraine, Un nouveau paradigme pour comprendre le monde d’aujourd’hui, Ed Fayard, Paris, 2005.
- Ali Elkenz, L’Algérie et la modernité, Dhakiret El oumma, 2015,
- Georges Balandier, Le grand dérangement, Ed. P.U.F, 1ere Edition, France, 2005.
- Georges Balandier, Le détour, Pouvoir et modernité, L’espace du politique, Fayard, Paris, 1985.
- GUERID Djamel, L’entrée en sociologie, Les limites de l’universel Européen, Implications concrètes dans le monde d’aujourd’hui, Ed Publisud, Paris, 2013.
- GUERID Djamel, L’exception algérienne. La modernité à l’épreuve de la société. Edition Casbah. Alger. 2007.
- Jean-Marie Domenach, Approches de la modernité, Ed. Ellipses, Paris, 1995.
- Jean-Pierre Warnier, La mondialisation de la culture, Repère, Ed. La Découverte, paris,1999.
- Habermas ,Le discours philosophique de la modernité, Gallimard, Paris,1988.
- Ives Bonny, Sociologie du temps présent, Modernité avancée ou postmodernité ? Armand colin, Paris, 2004.
- MARTIN-CRIADO Enrique, Les deux Algérie de Pierre Bourdieu, Traduire d’Helene Bretin, Edition du Croquant, France, 2008.
- Noureddine Toualbi, Religion, Rites, et mutations, psychologie du sacrés en Algérie, Préface doc-Camilleri, Entreprise nationale du livre, N° Edition 1490/83, Alger, 1984.
Revues:
- Hervé Cellier, AblaRouag-Djenidi, Algérie-France, Jeunesse, Ville et Marginalité, Chihab éditions,2008
- 25 ans de transformation post-socialiste en Algérie, Revue Tiers Monde, N°210, 2012.
[1]Ali Elkenz, L’Algérie et la modernité, Dhakiret El oumma, 2015, P 7.
[2]بشير محمد، إشكالية الحداثة في المجتمعات المحلية: مقاربة ابستمولوجية، مجلة المواقف، مجلة الدراسات والبحوث في المجتمع والتاريخ، كلية العلوم الانسانية والاجتماعية، العدد 11، ديسمبر 2016، جامعة معسكر، الجزائر، ص308.
[3]Lakjaa Abdelkader, La jeunesse algérienne entre valeurs communautaires et aspirations sociétaire, in Hervé Cellier, AblaRouag-Djenidi, Algérie-France, Jeunesse, Ville et Marginalité, Chihab éditions,2008,P 45-61.
[4]MARTIN-CRIADO Enrique, Les deux Algérie de Pierre Bourdieu, Traduire d’Helene Bretin, Edition du Croquant, France, 2008.
[5]Lakjaa Abdelkader, Présentation du livre de Enrique Martin-Criado, Les deux Algéries de Pierre Bourdieu, in, 25 ans de transformation post-socialiste en Algérie, Revue Tiers Monde, N°210, 2012, P212.
[6] GHERID Djamel, L’exception algérienne. La modernité à l’épreuve de la société. Edition Casbah. Alger. 2007.
[7]Lakjaa Abdelkader, 25 ans de transformation post-socialiste en Algérie, Revue Tiers Monde, Op cit, P212.
[8]Alain Touraine, Critique de la modernité, Fayard, Paris,1992, P 123.
[9] محمد عابد الجابري، التراث والحداثة، دراسات ومناقشات، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، لبنان، الطبعة الاولى، 1991، ص15.
[10] نفس المرجع، ص16.
[11] نفس المرجع، ص15.
[12] ناصيف نصار، ابن خلدون في منظور الحداثة، مجلة المستقبل العربي، العدد 334، ديسمبر، بيروت، 2006.
[13] نفس المرجع.
[14] جورج قرم، الاصلاح الديني في العالم العربي والاسلامي، مجلة الآداب، العدد4-5-6، نيسان، 2009.
[15]Jean-Marie Domenach, Approches de la modernité, Ed. Ellipses, Paris, 1995, P212.
[16]عبد الرحمان ابن خلدون, المقدمة, دار القلم, لبنان.
[17]Ives Bonny, Sociologie du temps présent, Modernité avancée ou postmodernité ? Armand colin, Paris, 2004, p 157
[18]J.Habermas ,Le discours philosophique de la modenité,Gallimard,Paris,1988,p08.
[19]Lakjaa Abdelkader, La jeunesse algérienne entre valeurs communautaires et aspirations sociétaire, in Hervé Cellier, AblaRouag-Djenidi, Algérie-France, Jeunesse, Ville et Marginalité, Chihab éditions,2008,P 45-61.
[20]Alain Touraine, Un nouveau paradigme pour comprendre le monde d’aujourd’hui, Ed Fayard, Paris, 2005, P125.
[21]Georges Balandier, Le grand dérangement, Ed. P.U.F, 1ere Edition, France, 2005.
[22]Jean-Pierre Warnier, La mondialisation de la culture, Repère, Ed. La Découverte, paris,1999, P25.
[23]Georges Balandier, Le détour, Pouvoir et modernité, L’espace du politique, Fayard, Paris, 1985.
[24]Djamel Guerid, L’entrée en sociologie, Les limites de l’universel Européen, Implications concrètes dans le monde d’aujourd’hui, Ed Publisud, Paris, 2013, P217.
[25]Djamel Guerid, L’entrée en sociologie, Les limites de l’universel Européen, Ipid, P216.
[26]Noureddine Toualbi, Religion, Rites, et mutations, psychologie du sacrés en Algérie, Préface doc-Camilleri, Entreprise nationale du livre, N° Edition 1490/83, Alger, 1984, P27.
[27]Djamel Guerid, L’entrée en sociologie, Les limites de l’universel Européen, Implications concrètes dans le monde d’aujourd’hui, Ed Publisud, Paris, 2013, P201.
[28]عيسات وسيلة، جدلية التقليد والحداثة في المجتمع الجزائري الشبابي، مقاربة للتغير والصراع القيمي، اطروحة لنيل شهادة الدكتوراه في علم الاجتماع، اشراف الاستاذ عبد القادر لقجع، جامعة وهران، 2016
[29]Djamel Guerid, L’entrée en sociologie, Les limites de l’universel Européen, Op cit, P219.
[30]Ipid, P219.