
الجســـد الأنثــــوي وكشوفــــات التحليــــل الثقـــــــــافي قراءة في خطاب عبد الله إبراهيم النقدي
هاجر حويشي ـ طالبة دكتوراه/ تخصص أدب حديث ومعاصر/السنة الرابعة/جامعة قسنطينة1 ـ الجزائر
مقال نشر في مجلة جيل الدراسات الادبية والفكرية العدد 42 الصفحة 41.
ملخـــــص الدراســـــة:
ينهض السّرد النّسوي بمهمة تمثيل عالم المرأة جسديا وثقافيا ونفسيا، غير أنّ جلّ هذه الإبداعات تحتفي بالجسد الأنثوي بوصفه هوية أنثوية خالصة، وتنشغل بتفاصيله وجمالياته في سياق لغوي متخيل، مفعم بالإيحاءات الّتي تتصل أساسا بحرية المرأة، وما تتعرض له من استبعاد، طمس وتهميش في عالم تسوده الثقافة الأبوية. ويراهن هذا التناغم بين اللّغة والجسد الأنثوي في الرّواية النّسوية على تشييد مركزية جديدة ذا صبغة أنثوية تضاهي مركزية الذكورة. لكنّ طموح هذه الورقة البحثية المتواضعة ينصرف إلى مناقشة بعض القراءات والآراء النّظرية التي خلص إليها عبد الله إبراهيم إثر تتبعه لتخريجات الجسد الأنثوي في سرد حواء العربية، والمحمولات الدلالية التي يشيعها هذا المكون، والنتائج المترتبة عن الاحتفاء به، لاسيما وأنّه يعمل على إقصاء الهوية العلائقية للمرأة، ويجعلها تتقوقع على نفسها في نوع من التعالي، فهو -والحال هذه- يمرّر أيديولوجيا أنثوية خالصة، ويخرم أي تواصل بنّاء مع الجنس الآخر، وقد يؤدي في سياق آخر إلى تغذية رغبات الذكورة على اعتبار أنّه جسد مغر في نوع من الأنوثة الطيّعة، وكثيرا ما يتحول في مجتمعات محافظة إلى تابو يخترق القيم ويهددها.
الكلمات المفتاحية: الجسد الأنثوي، السرد النسوي، القراءة الثقافية، السلطة الأبوية، الأنوثة.
1-السرد وإمكانات الجسد الأنثوي
يمثّل الجسد في الرّواية النّسوية الصورة السردية المحفّزة والمهيمنة داخل التشكيل اللّغوي، فهو سيل الكتابة المدرار، ووهجها الّذي لا يخبو، فمن خلاله تقبض المرأة على لحظات جمالية يزدان بها السّرد بعد أن يتزيا جسدها بأنواع الوشي اللفظي، فتمتطي بمعيته أحصنة البيان، وتبارك نيرانه المستعرة، غير مكترثة بالأسوار التي يخترقها، ففي حضرة الجسد ينحت الســرد صــورا مدهشة، وتتـداعى الجمل الّتي تعانق تموجاته، فتكتسب الألفـــاظ دلالات غير مسبوقـــة، ويتّجه التلقي صوب مناح جديدة، ويعاد ترتيب عالم الأشياء وفق أبجديات الجسد، فالسّرد لا ينفصم عن هذا المعطى، بل يبعث بوصفه مكافئا لغويا لمزاج الجسد، فلا شك أنّ التّكثيف الجمالي الحاصل يبثّه هذا الأخير، الّذي يعدّه عبد الله إبراهيم إحدى الركائز الأساسية في مضامين الرّواية النّسوية العربية، وفي سياق هذا الموقف النقدي، يورد فرضية تتعلّق بالأدب النّسوي تقوم على: «تقريظ الجسد الأنثوي وتمجيده والاحتفاء به، أو كشف تحوّلاته في ظل ثقافة قامعة لحريته أو منتقصة لها. ومن الصعب تحديد إطار ناظم لصور الجسد في تلك الرّواية، فبين ضروب التمجيد والاحتفاء من طرف وضروب الانتهاك والإهانة من طرف آخر، اندرجت سلسلة طويلة ومتداخلة من الصور المتنوّعة، الّتي جعلت الجسد الأنثوي موضوعا خصبا وقع تمثيله سرديا بكيفيات متعدّدة»([1]).
وعلى غرار هذه الفرضية الّتي يتنزل بموجبها الجسد الأنثوي بوصفه مقوّما أساسيا لا يضاهى، يؤكّد عبد الله إبراهيم تفاوت السّرود النّسوية في مقدار استحضاره وتشكيله لغويا، إذ يردف قائلا: «مثّل الجسد الأنثوي أحد المحاور الأساسية في السّرد النسوي العربي، واختلفت درجة الاهتمام به بين نص وآخر، وفيما لم توله بعض الرّوايات سوى اهتمام عابر حينما نظرت إليه بتعال وتجريد، احتفت به أخرى وانهمكت في رسم تفاصيله واستيهاماته، فكان مثارا للإعجاب والحفاوة والرّغبة، وهي حفاوة قادت إلى ظهور نوع من السّرد الكثيف الّذي انشغل بالجسد، دون أن يدمج ذلك في سياق الحكاية؛ إذ قام السّرد في كثير من الأحيان بالاهتمام بالجسد على حساب البناء العام للحكاية، بحيث تبدو الأجزاء الخاصة بذلك وكأنّها ألصقت بالنّص، وهذا النّوع من السّرد هو سرد كثيف، يشتغل فيه الرّاوي/الرّاوية بتفصيلات الجسد، ويهمل إلى حد ما مسار الحكاية، قبل أن يعود/تعود إلى سياق النص»([2]).
ويمكن أن نظفر من خلال هذا الموقف النّقدي باتجاهين أساسين في التّعاطي مع الجسد الأنثوي على مستوى السّرد النسوي: يرتبط الأول بالنّظرة التجريدية الّتي لا تنصت إلى الإيقاع الجسدي، ولا تلقي له بالا، فلا تستدعيه بوصفه بؤرة يدور في فلكها الحكي، بينما يرتبط الثّاني بالنّظرة الاحتفائية، الّتي تقوم على تبجيل ومركزة تيمة الجسد على حساب المسار العام للحكاية، ممّا يعكس الأثر السلبي غير الوظيفي لهيمنة الجسد، لكنّنا يمكن أن نرجّح موقفا وسطا، ينشغل بالجسد دون أن يضيع مسار الحكي باستطردات جسدية غير مجدية.
هذا، ويبتعد مفيد نجم عن هذا التقسيم، عندما يقترب إلى جوهر العلاقة (جسد/كتابة)، وما يرافقها من تناغم إثر التحام الواقع بالخيال؛ ذلك أنّ «الجسد الأنثوي من خلال النّص السردي، يجعلنا مقتربين من الجسد النّصي الّذي ينوب عن المرأة، ويكتب عالمها بصدق، ذلك من حيث العلاقة الحميمة الحاصلة بين الجسد المكتوب وموضــوع الكتــابــة، تلك العلاقــة التي تتحدد أسـاســا مــع وصـف الواقــع وهــو يتجلّى في عــــالم الخيــــال»([3])، فالجسد الأنثوي -والحال هذه- يغدو من العناصر المكتنزة الّتي تستنير بها العوالم التخييلية للرواية النّسوية، بالنّظر إلى الأبعاد اللانهائية الّتي يمرّرها تماسّه مع واقع المرأة، فهو «مشبع بتنامي العلامات، يتأوّد سافرا ومعروضا للملاحظة والمراقبة والتأثيم، وهو موضوع يتمّ عرضه على مدركاتنا، ممزوجا بالأشياء العادية والمألوفة في حياتنا اليومية، فهو من خلال العمل الفنّي مفتوح على كل الاحتمالات الممكنة للتأويل. ومن ثمّ تتعدّد قراءاته بتعدّد زوايا رؤيته، فبين الجسد الفاتن والجسد الآثم تكمن أجساد عدة تحمل من الدّلالات بحجم تعدّدها، الشّيء الّذي يجعلنا مقتنعين بأنّ فعل إدراك الجسد ينبني أساسا على عملية بناء مسبقة، تعكس الصّورة النّمطية المترسّخة في المخيال العام، كما تعكس علاقة الفرد بجسده والعالم المحيط به»([4])، فالجسد الأنثوي -وفق هذا التصوّر- ينهل من معطيات السّياق الثّقافي قيمه ومعانيه، وتغتني مقاربته بالمنطلقات الفكرية الّتي ينتسب إليها كل ناقد.
وغير بعيد عن هذا المنحى حاول ابن السايح الأخضر تحديد فعل الكتابة عند المرأة في ضوء تحوّلات الجسد، فهي -بحسبه- لا تعدو كونها «استجابة لنداء الحضور الّذي يشخّص بين الجسد وظلّه عبر نص المرأة الّذي يبقى شغله الشّاغل وصورته النموذجية المفضّلة رفع الجسد من الحس إلى التجريد والانتقال به من عالم الأسرار إلى عالم الأنوار، وقد يبقى الاتّصال والانفصال بين الجسد والذّات قطب الرواية ومضخّتها الحرارية الّتي لا تنضب»([5])، فالمرأة تكتب نصّها، بناء على «آلية الاشتغال العضوي للجسد، وإسقاطاته، ولكنّ الجسد، حين يدخل عالم الكتابة، ينفلت من معناه المعجمي المنغلق، إلى دلالات احتمالية مضاعفة، يفرضها السّياق وتفرضها القرائن المصاحبة المنفتحة على قنوات محايثة للجسد، تحقّق الاستبطان والتمثّل من كون الأشياء، كما تتحوّل أعضاء الجسد إلى كائنات حبلى بالتحوّلات الدّلالية المتشعّبة الّتي تغني السّرد وتشحنه بالخصب والنّماء»([6]).
ولما كان الجسد الأنثوي لا يتورّع عن ضخّ المعاني والدّلالات الّتي تسمح بتشييد دعائم متينة للقراءة والتأويل، فإنّ المرأة وعبر ما تخطّه من تخريجات جمالية، فإنّها بطريقة أو بأخرى «تفرغ ما يحمله هذا الجسد ظاهرا وباطنا، فكتابة المرأة هي كتابة المحو بالمعنى الصحيح لتتجسد عبر النّص صورة حيّة نابضة بالحياة»([7])؛ ذلك أنّ الجسد البشري -عموما- «بعد يدلّ على بنية الشّخصية الإنسانية من خلال ما تقوم به من أفعال، أو من خلال ما تظهره أو تضمره من رغبات، ولا يمكن فصل الجسد عن الروح، لأنّهما بنيان متكامل. وفي العمل الرّوائي يعتبر الجســد محــورا رئيسيـــا في عمليــة بنــاء النّص الروائي؛ لأنّــه يعبّر عــن كــل ما يــطرأ على شخــوص العمــل مــن تحــوّلات، ويتتبع مراحــل تطوّرهــا ونموّهــا…»([8])، فالجسد من منظــور هذا الأفق يمثّل «تحــوّل الحياة، وديمومــة الحــركة، كما يمثّل الجسد الأنثوي شجون الرّغبة، بين ما يرسله النّص من مفردات لغويّة، وما يبحث عنه المتلقي لتبقى سلطة الرّغبة في التأويل والكشف قائمة وفق تلك المسافة بين الجسد وظلّه. هذه المسافة الّتي تحسنها الكتابة النّسائية بامتياز»([9]).
ومـن امتيــازات الجســد في الكتـابة النســائية أنّــه: «يمدّها بفــاعلية التّجسيم، بوصفه كائنــا حسيــا مرئيا موجودا، تتذوّق طعم الأشياء من خلاله، ليتحوّل بعد ذلك من الجسد إلى الإحساس بالأشياء، والاندماج فيها. فالجسد في الكتابة النّسائية عنصر محفّز لإثارة الأحداث، وتشغيل الذّاكرة، باعتباره المرجعية الّتي تثبت الكينونة والوجود»([10])، فالمرأة من على هذه الشّرفة «تكتب بجسدها قبل أن تنقل جسدها على الورق حيث يعكس الجسد براعة رسمها وبراعة اختيارها قبل المباشرة برسم متن سردها الرّوائي وما يحمله من تساؤلات وإحالات إلى الواقع والتّاريخ»([11])، فيتحوّل فعل الكتابة من منطلق هذه الهواجس الّتي تعبر عنها العلامات اللّغوية إلى «قراءة تطلّ من الجسد وإليه، وحركة النّص حركة الجسد الّذي يمدّ النص بتفجير هائل للدّلالة، بمقتضاه ينساب السّرد عن طريق الحركة الدّاخلية الّتي يحدثها الجسد، بحيث تغدو تداعيات الرّؤية محصورة في هذا الجسد أو في جزء منه»([12]).
من هنا، لا يكاد يخرج الفضاء اللّغوي للمرأة عن مدارات الجسد الأنثوي بأبعاده المطرّزة بالإغراء والإثارة، بل إنّ جغرافيته «تتداخل مع فضاء النّص وفضاء المكان إلى درجة التّماهي، فالمرجعية الثّقافية لدلالة الجسد تحتوي تمفصلات المعنى المكتنزة فيه، تثريه بخصوبة المجاز، ومضاعفة الدّلالة، كما أنّ السّياق سيحوّله إلى نسيج النّص ورؤيته الكلية»([13])، فمن دعائم اللّذة في الكتابة النّسوية استعانتها بإمكانات المجاز الّتي ينتجها الخيال المتّقد، فهي تومئ من غير تصريح، فتتواطأ جلّ المكوّنات مع هذا المطلب الجمالي بما في ذلك الجسد، الّذي يمثّل «فضاء عنكبوتيا، تمتدّ خيوطه إلى جميع العوالم السّردية الأخرى، فجغرافية الجسد هي جغرافية النّص، واستبطان الجسد الأنثوي هو استبطان للفضاء النصيّ، وتمثّل لخصائصه»([14]).
هــذا، وتتنــزّل كــوكبـــة الدّوال الّتي يتيحهــا السّرد النّسوي بــوصفهــا «امتــدادات نــورانيــة مــــن الجســــد إلى الــذّات، ومن الجسد إلى العالم الخارجي، ذلك أنّ الجسد تمثيل حي للنّص، يؤطّر جسور العبور بين الدّاخل والخارج، كما يتميّز بسحر الملاحقة عند المرأة المبدعة الّتي توظّفه كطاقة أكثر دلالة وترميزا. فحلم المرأة المبدعة مخبوء في جسدها، من هنا، نلمس موضوعيّة (الجسد) بدلالاتها المنفتحة على النّص»([15])، فالمرأة تصغي مليا إلى تراسيل جسدها، وتستجيب لقيمه التحريضية، فحاله أشبه ما تكون باللّوحة الفنيّة، تستطيع المرأة من خلاله «رسم تمثيلات البشر الّذين يدخل معهم في تفاعل، وكذا أحلامهم وكل ما يحمله جسد الشخصية من رموز وعلامات أيقونية يشكل دالا ثقافيا يجب الوقوف عنده وتحليل أبعاده الثّقافية والرّمزية»([16])؛ نظرا لكثافة لغته، الّتي تستدعي استقراء لفضاءاته، وبحثا عن حمولة رموزه، وإشعاع إشاراته، فالنّص النّســائي «مشحــون بطاقة توتــر عــالية، فيه خرق وتجاوز وانزياح لكثير من الرّموز المستمدة من الجسد. هذا الجسد الّذي ينفث بركانه، وصواعقه مزلزلة على الورق. تسفر بعد الهدوء، جملا سردية تحمل من العلامات والدّلالات والرّموز ما يحتوي عالم المرأة الشّاسع المجهول»([17])، وإذا كان الجسد جمهرة علامات يحمل في طيّاته عتبات حاسمة للتّأويل، فإنّ المرأة «حين تكتب بجسدها فهي تفرغ ما يحمله هذا الجسد ظاهرا وباطنا، فكتابة المرأة هي كتابة المحو، وكتابة (المحو) كتابة مصاحبة للذّة التشكيل ومتعة الابتهاج، وإرادة الحضور، نلمس من خلالها صوت المرأة يقول: “أنا هنا..أنا موجودة…”»([18]).
إذا، على منوال الكوجيتو الديكارتي “أنا أفكر، إذا أنا موجود” يمكن أن تطمئن الأنثى إلى إيقاع هذه المقولة، فتصوغ على غرارها شعارها: “أنا أكتب بجسدي، إذا أنا موجودة”، فالمرأة تلج عالمها الكتابي بتوقيع جسدين: «جسد بيولوجي محسوس، وجسد لغوي، فتحمل نصّها مجنحا بحسيّته وتجريده فقد نلمس مفردات جسديّة المرأة وبيولوجيتها، كما نلمس رمزيّة هذا الجسد ومجازاته الّتي تتركها الألفاظ المشعّة في النّص»([19])، هذا المذاق الاستثنائي يمتزج فيه الحسّي بالمجرّد في فضاء لغوي أنثوي، فالمرأة وعبر تلوينات الحرف استطاعت أن «تستعمل التقطيع الفيزيولوجي لجسدها وتنيبه في الكتابة عن نفسها، حيث ناب جسد المرأة وانكتب عنها داخل النّص، نظرا للعلاقــة الخــاصــة والمتشكّلــة بين المــرأة الذّات والمــرأة الكاتبــة ومــابين جسدهــا ومــوضــوع الكتــابــة، بعدما كانت حاضرة في الأشكال الرمزية منذ ولادة الأسطورة كجسد يكتب عنه الرجل فقط ويتكفّل بوصفه وإخراجه إلى عالم الموجودات»([20]).
فالجسد الأنثوي في سرد حواء يملك قدرة على الترحال في عالم الأشياء، لكن برصيد معتبر من الأقنعة الّتي تمثّل مصابيحا للقراءة، ليبقى الجسد-وبلا منازع- «القابض على خيال القارئ وفكره، وتبقى اللّغة الّتي تعمل على تفجير أشياء الجسد هي السّائدة، نظرا للتوتّر الكائن الّذي تمثّله المجازات والصّور والإيحاءات. فالرّواية النّسائية تحسن الإنصات إلى الجسد الّذي يفعل الشبكات الدّلالية واللّغوية، بحيث تصعد بالكائن الحسي إلى كائن علوي مجنح، مزوّد بالمعاني الإضافيّة المبثوثة، تحقّق للنّص سلطة دلالية موجّهة للمعنى»([21])، بيد أنّ هذا الميثاق الجسدي «يفترض وجود خصوصيّة من حيث الموضوع واللّغة داخل النّص الأدبي النّسائي حيث يلتقي الرّجل الكاتب والمرأة الكاتبة في اللّغـــة التعبيريــة، وقـــد لا يلتقيــــان في اللّغـــة المرتبطـــة بالذات ببعدهـــا الميثولـــوجي»([22])، فكتابة المرأة هي في نهاية المطاف «أسئلة الأنثى مع ذاتها ومع العالم المحيط بها، كما تبقى اللّغة هي لبوس المرأة وفضاؤها الّذي لا يخرج عن مدار الجسد المؤنّث، حيث نصيب الأنثى مخبوء في نسقها اللّغوي المتقن لآليات التورية والمواربة عند التّعبير عن الحقيقة، ذلك أنّ اللغة حجرة مغلقة، لكنّها النّافذة الّتي تسمح لها أيضا في الخروج من العتمة»([23]).
فمن دهاليز الصمت إلى باحة البيان، تتحول المرأة إلى لبوسات تمثل عنفوانها، وتنطق بلسان حالها عبر سرد مخصوص، لا يعبأ بالمسلّمات الراسخة، ويشتغل على تنشيط طاقات الجسد الأنثوي وتفعيلها، والنّظر إليه بوصفه تحققا جماليا لهوية الأنثى داخل النّسق اللغوي، فقد أصبح بمقدور المتلقي-والحال هذه- أن «يلج بوابة الجسد الأنثوي من خلال لغته الخاصة، وانفعالاته المتفردة، وصوته المتميّز دون وساطات»([24]).
2-الجسد الأنثوي بين الحجب والإغراء
وفي هذه المحطة سنتناول الجسد بوصفه دالا ثقافيا يتعدّى التجريد إلى مظاهر أخرى كاللّباس أو الزيّ الّذي لا تقتصر وظيفته على إخفاء الجسد، بل تتناوله الدّراسات الثّقافية والأنثروبولوجية بوصفه «علامة سيميائية هامة في التعبيرات الثّقافية، فكل مجموعة بشرية تسعى إلى الانفراد بخصوصيّة معينة على مستوى اللّباس وتسعى جادّة إلى الحرص على هذه الخصوصية والحفاظ عليها عبر تغذيتها باستمرار بالمنتجات الثّقافية لمجموعة بشرية ما وتطويرها تبعا لما تمليه السياقات الحضارية ولا أدلّ على أنّ اللّباس رمزا ثقافيا مهما في حياة الشّعوب أكثر مما تلحظه من التنافسية بين الشركات والمهتمين والإشهاريين حول الترويج لمنتجاتهم اللّباسية والاجتهاد في الإتيان بالجديد على مستوى الموضة والديكور»([25])، من هنا لا يعدّ الحديث عن اللباس ترفا فكريا بل هو شكل من أشكال الحراك الثّقافي، ومما لا شك فيه أن هذا النمط الثقافي يختلف من مجتمع إلى آخر، فعبر الأزمان كان الزي ثقافة وتعبيرا عن الذات والمجتمع والميولات والأفكار.
وإذا تعلّق الأمر بالثقافة الإسلامية، فإنّ الحجاب من أشهر أنماط اللّباس الّذي يستر جسد المرأة، إذ يعدّ من أحد الفروض الواجبة عليها في شرائع معظم الطّوائف والفرق الإسلامية. غير أنّ حديث عبد الله إبراهيم عن الحجاب جاء في معرض مناقشته لكواليس ثنائية الحجب/التّعري، إذ يقول: «يخفي هذا الحديث عن الحجب والإباحة في طياته ضربا من التّفكير المضمر، بما ينبغي أن يباح ويستمتع به، أي بالجسد الّذي كلما بولغ في حجبه ازدادت الرّغبة في كشفه. فتبرز هنا ظاهرة “الحجاب” بوصفه ظاهرة اجتماعية تتّصل بثقافة المجتمعات التقليدية الّتي تعيش فيها المرأة، فتدرج ثلاث أسباب للتحجّب، الأوّل: يتم بموجبه الأخذ بأنّ أمر الحجاب منصوص عليه في الدّين، وتنبغي مراعاة تلك الأحكام الدّينية. والثّاني: اجتماعي يتم بموجبه ارتداء الحجاب مراعاة لنسق اجتماعي ضاغط تصعب مخالفته، فتجاري المرأة سواها من النّساء فيما يرتدين. والثالث: يتّصل بالسّلوك الشّخصي للمرأة في مجتمع تقليدي شبه مغلق في علاقاته الإنسانية، فالحجاب-والنّقاب على نحو أكثر دقّة-وسيلة للتنكّر والتّمويه في مجتمعات تحول دون ممارسة الحرية الفردية، وهذا أقرب إلى ما يصطلح عليه عالم الاجتماع بـ”الاحتجاج بالصمت”، فارتداء الحجاب يمكن أن يكون ممارسة “الحرية بالتنكّر” عند بعض النّساء في المجتمعات التّقليدية»([26]).
فأوّل ما يتبادر إلى الذّهن عند مطالعة هذا الموقف أنّه يستحضر مثلا شائعا كثيرا ما نردّده في حياتنا: “كل محجوب…مرغوب”، فالحجاب الّذي يلفّ جسد الأنثى، ويستر مواطن الإغراء فيها درءا للفتنة، واتقاء للفاحشة من منظور الشريعة الإسلامية، يزيد تأجّج رغبات الرجال في هتك أسواره حسب عبد الله إبراهيم، في تناس تام للضوابط الدّينية الّتي أطّرت سبــل الاستمتــاع به في حدود الحلال والمباح. وبالنّظر إلى درجة الامتثال لسلطة الدين، تدرّجت الأسباب الّتي تبرر شيوع الحجاب، ومع كل سبب تتحدّد العلاقة الخفيّة بين الدّين والقناعات الشخصيّة، فإذا كان المبرّر دينيا تضاعف مقدار الامتثال، وتلاشت الرّغبات الفردية، أما إذا كان مسوّغ التحجّب اجتماعيا أو شخصيا فإنّنا سنشهد تغييبا للأحكـــام الدّينية، في مقابل تضخّم غيره من الرّهانــات، فيزيغ الحجاب عن الدّين إلا ظاهريا، ويستجيب لتقاليد وضعية أو نزوات محرّمة.
فالحجاب من منظور هذه القراءة يذعن لسلطة التّقاليد أكثر من استجابته لنداء الدّين، كما أنّ التعري تغذيه ذات الطّقوس والأحكام؛ ذلك أنّ الثقافة الأبويّة حسب ما يذهب إليه عبد الله إبراهيم «تعيد…إنتاج صورة المرأة تبعا لحاجاتها وتصوّراتها، وفي بعض المجتمعات يفرض الحجاب على جسدها استجابة لرغبة الثّقافة الذّكورية، وفي أخرى يبالغ في كشف الجسد استجابة للرّغبات نفسها»([27])، فلا يرجّح عبد الله إبراهيم إلا سببا واحدا يفسّر ظــاهــرة التحــجب بعيــدا عــن الفرائــض الدّينيــة، ألا وهــو: «الخــوف من الرّجــال أو استجــابة لرغبـــــاتهم، فالثّقافة الذّكورية مصمّمة لكي يتمتّع بامتيازاتها الرّجال، أما النّساء فخارج مجال اهتمامها، وحينما تتصلّب ثقافة الذّكور، وتتحوّل إلى جملة من الرّوادع القاهرة، تلجأ المرأة إلى التنكّر لعبور هذه الحواجز»([28]).
وفي السياق ذاته يؤكّد عبد الله إبراهيم أنّ قضية الحجاب «اختراع ذكوري موضوعه المرأة، ولا يخفى أنّ الثّقــافة الأبويـّـة الّتي أقصت المــرأة وحجبت جسدهـــا، جعلتهـــا من جهــة أخــرى تتوهم نفسهــا جسدا مثيرا فحسب، وصارت تسعى إلى إبرازه، فمبدأ كل محجوب مرغوب، مماثل للمبدأ الاقتصــادي الاستهــلاكي القــائــل بأنّــــه كلمــــا قــــل العــــرض زاد الطــلب، وعلى هــــذا تكــــون الثّقــــافــــة الذّكــوريــــة قــــد احتكــرت تصــــــوّرا خاصــــــا للمــــــرأة، وجعلت من جسدها سلعة استهلاكية، ولم يقتصر الأمر على جعله سلعة يتلاعب بها عبر ثنائية الاحتجاب والكشف والعرض والطلب، إنمّا أسهمت حركات تحرير المرأة بالإعلاء الهوسي من قضيّة الجسد على أنّه برهان الحرية الوحيد. وكل هذا تسرّب بصورة أو بأخرى إلى التخيّلات السردية»([29])، يبدو أنّ الجديد في هذا الموقف، التوصيف المتّصل بالجــانب الاقتصادي الّذي يدعّم مســاعي الثّقــافة الســائدة، ويذهب إلى تشييء وجود المرأة، واختصارها في جسد طيّع يمتثل لقانون العرض والطلب، فوجوده «مرتبط بفضاء التوقّعات الّتي يحمــل عليهــا كقــراءة للنّسق الثّقــافي المسبــق، وإذ هــو يخضع للسّكــون، ينتظــر المعنى من العين الّتي ترى، المعنى الّذي يأتيه من النّسق، المعنى الّذي يحمله ويبعده عن الجسد المحسوس، وتستعمل المرأة كل أنواع الحجب لإخفاء المعطى الوظيفي المحسوس من الجسد لتلائم تصورات الثّقافة الذكورية»([30]).
ومن العلامات اللباسية المرتبطة بالتحّجب: “العباءة” الّتي تتراكم بشكل ملفت في الروايات المشرقيّة على وجه التحديد نظرا لأهميتها البالغة؛ ذلك أنّها «تكاد تكون علامة مقدّسة في المخيال الشعبي للرّجل الشرقي الّذي يحرص بشكل يجاوز منطق العقل أحيانا؛ على أن تلبسها المرأة في كافة الأمكنة والأزمنة؛ فهي رمز مقدس للسّتر والشّرف والكرامة والحصانة، وكل من تخلّت عنها فهي عاهرة، داعرة مستحقة لكلّ أنواع الشتائم لدى الرّجل الشرقي الّذي تحكمه خلفيات تقليدية تستمد قوّتها من التأويل الخطّي للنّص الدّيني»([31])، وعلى هذا الأساس تغدو العباءة بالنّسبة للمرأة «قيدا ينضاف إلى قاموس المصادرة والإقامة الجبرية المفروضة على الأنثى بوصفها معادلة للشيطان ومغرية للرجل بارتكاب الفاحشة ومخرجة له من الجنة (خطيئة حواء، الأم الأولى للبشرية). وبالتالي، فهي تسعى، بكل ما تملك، إلى رفض العباءة باعتبارها رمزا، والتمرد عليها بوصفها ستارا يحجب عنها الحياة»([32]).
والحاصل تأسيسا على هذا الفهم أنّ «كثيرات ممن يفعلن الفاحشة في الظّلام أو في السّير يخرجن إلى العراء وهن متمنطقات بالعباءة. فالجسد الأنثوي أقدر على فك الحصار، وكلما يقع عليه الخناق يؤهّل أكثر لارتكاب الخطيئة، وكلما فسح له المجال كي يشارك ويعبر ويخالط الحياة العامة، تشكّلت لديه مناعة الوقوف ضدّ الهلاوس الإغرائية والسلوك الانتقامي من الرّجل والقيم والذّات هذا بالنّسبة للمرأة الشرقيّة، أما المرأة في رواية الغرب الإسلامي، فغالبا ما تميل إلى الألبسة الضيّقة الّتي تكنز الجسد وتبرز مفاتنه وتضاريسه بشكل أكثر فداحة مثل الجينز والسترات اللاصقة»([33]). يبدو أنّ القراءات النّقدية تتجه صوب إغفال سلطة الدّين -لأنّ الثقافة الذكورية تستمد شرعيتها من الدين في المجتمعات المحافظة- في مقابل الاحتفاء بهواجس التحرّر من خلال إضفاء طابع الــــردّع والحصـــــار على الحجـــــاب كفــــرض؛ لأنّ دعــــوات التحــرّر تعلــن عــن قطيعتهــا الحــاسمة مــع الشــرائع السمــاويـــة، فالحجاب يكتسب بعدا تمويهيا لدى الشريحة المارقة الّتي تتجه إلى استباحة المحرّم وتمريره عبر التنكّر بسواد العباءة، فتكون وفق هذه الصيغة دعوة إلى عدم الانخداع بما قد تراه العين، فالامتثال يــضمــر استجــابــة لرغبــات الجســد المحــرّمــــة، ومــن الــواضح أنّ هــذه الاستخدامــات تخــلع عــن العبــاءة رداء القــداســـــة، وتطــوّعهــا لتحقيق مـــآرب مدنّسة. لكــن هنـــاك نمـــاذج أخرى تعجّ بتخريجات مائعة تحيــد عن مطــالب الدين إجمـــالا وتفصيــلا، وتعلن سفورا ملفتا نتيجة الانفتاح غير المشروط على الآخر/الغرب، والتّماهي المطلق الّذي لا يعترف بالخصوصيّة، فالمرأة العربية في سردها تنسج على منوال نظيرتها الغربية في إطار مسعى كسر التابو، والتعاطي السّاخر مع التّعاليم الدّينية.
هذا، ويمكــن أن تتخذ العبــاءة بعدا روحيــا وفكريــا يحرص على تغليفهــا بشيء من القدسية فتراهــا لا تغادرهــا، فتكون معيارا للعفة والوقـــار في بعض المجتمعات المحافظة، لكــن سرعـــان ما تتنــاغم مع إغــراءات جسد الأنثى عند بعضهــن، وترصّع بمــا يكسر عتمتهــا، ويحوّر وظيفتها؛ ذلك أنّ «ارتداء العباءة الخليجية وسيلة لستر الأنثى في المجتمع الخليجي والعراقي والإيراني فحسب، فتلك وظيفة العباءة الجوهرية، لكنّها بالتّأكيد ليست الــوظيــفــة الــوحيــدة، إنّمــا صــارت العبــــاءة مصــدرا مـــن مصــادر تــوليـد الجمــاليــات الجســديــة عنــدهــا تلــجــأ المصمّــمـــة، مثلا، إلى خلق تناسق وانسجام توافقي بين طيات الجسم الأنثوي ومفاصل شكل العباءة»([34])، ليس هذا فحسب، بل كثيرا ما تلجأ مستخدمات العباءة إلى «إضافة مكملات معدنية وفسفورية برّاقة إلى بعض أطراف العباءة لغرض احتواء سواد العباءة من جهة، ومحاولة أنثوية لإظهار جسدية مضافة»([35]).
هــذا، ويمكــن أن تظفــر القــراءة النقديــة الفــاحصة لرمزيّــة العبــاءة في الروايــة العربيــة بجــملــة مــن المنــافــذ الــدّلاليــة، والمعاني الرمزية الّتي تتّصل أساسا بدعوات التحرّر، والخروج السّافر على المنصوص عليه دينيا، فتكون في أحايين كثيرة «تلميحا إلى المرأة التي لا تظهر إلا من خلال عباءتها، وسخرية من الوضع البئيس الّذي تعانيه المرأة في بعض المجتمعات المحافظة من ضيق وحصار، إذ تحيط بها العبــاءات حقيقة ومجازا لتسجن الجسد وتقبر أسراره خلف الحجب والأستار»([36])، فالتعري والسفور بالنّسبة للشخصية الروائية هو في الحقيقة «تمرّد وعصيان على منظومة القيم السّائدة في المجتمع الّذي تعيش فيه»([37]).
ومن الطبيعي وسط نسق ثقافي يرى الجسد الأنثوي من هذا المنظور، ويتعامل معه وفق هذه القاعدة أن «تظهر حاجة ماسة إلى الترغيب بالجسد استنادا إلى ثنائية الحجب والإظهار، المنع والإباحة، وحب الطلب، لكي يظل مثار رغبة وبحث، فثمة استراتيجية تنظم العلاقة بين مانح الجسد ومستعمله، وبمقدار ما يتم اختراق الحواجز لامتلاك جسد المرأة، فإنّ ثمّة رغبة باستكشاف غموض الآخر الّذي هو جسدها، وهنا تتفاقم الرّغبة وتأخذ بعدا حسيا مجردا»([38])، فتتسع دائرة العلاقات الحميمة في الرواية من منطلق الخروج على المؤسسة الدّينية، فلطالما «غلّف الجسد الإنساني بالطّابع الأخلاقي في الفلسفة الإسلامية، فهو شهواني غريزي معرض للوقوع في الرّذيلة في أيّة لحظة يغيب فيها العقل الإنساني أو الوازع الدّيني، الأمر الّذي يجعل منه جسدا إغوائيا غافلا عن القيم الثّقافية. بل إنّ الفقهاء أكّدوا على ضرورة خضوع الجسد للإيمان كما الطهارة تخليصا له من الشهوة، فالجسد هو مصدر الأخطاء والمنزلقات الأخلاقية، لذا لابد من التحوّط في إطلاق العنان له»([39]).
ولما كان الثالوث المحرم أو التابوهات الثلاثة (الدين-الجنس-السياسة) في عهد ليس ببعيد، لا يتم تناولها في الكتابة السردية إلا عبر التلميح والترميز والأقنعة البلاغية الّتي تتمنع عن الكشف والتصريح بالمحظور أو المحرم في نظر المجتمع، فإنّ موضوع كسر التابو في الأدب يأتي في طليعة الظواهر الّتي تكرّرت بشكل ملفت في السّرد العربي الحديث والمعاصر، وبمنطق إباحي صادم، يدفعنا إلى التّساؤل عن جدوى توظيف الثيمات المتعلّقة بالتّابو، هل تستجيب لتطلعات شريحة عريضة من المتلقين تأكيدا لمسعى كسر الرتابة، أم أنّها تغذي أغراضا تجارية بحتة؟، هل تجهز على منظومة القيم والتّعاليم والتّقاليد والذّوق العام في إطار إعادة الاعتبار للجسد المقموع؟، كل هذه الإمكانيـــات واردة لاسيما إذا تعلّق الأمر بالسّرود النّسوية المعاصرة، حيث «كسرت الكـــاتبة العربية نطاق الخــوف، واقتحمت مناطق التّابو في جرأة تصل في بعض الأحيان أن تكون مقصودة لذاتها، وكثرت الكتابات التي تتخذ من الجسد موضوعا لها»([40]).
وهذا يعني أن الجرأة في استهداف الجسد الأنثوي في السّرد النسوي، وإفشاء أسراره، وملء مساحات البياض الّتي استأنس القـــارئ بمخاتلتهـــا قلبت الموازين جذريـــا، فحضر الغــائب، وصدح الصـــامت عـــاليــا بعــد همس مكتــوم، فتحوّلت الكاتبة عبر هذا المرتكز إلى «ذات بعد أن كانت موضوعا، فنجد كثيرا من النّصوص الإبداعية تحتفي بالجسد، تتّخذه وسيلة ودالا لإنتاج معنى مغاير، فيصبح الجسد وثقافته وسيلة من وسائل التّعبير، ومعطى ينتج دلالاته، وربما تكون الكتابة السّردية هي المنطقة الأكثر قدرة على تمكين المرأة من ذلك، فمن خلال السّرد يمكن للمرأة أن تعيد إنتاج الأحداث كيفما تشاء من زاوية رؤية مختلفة عن تلك الرّؤية الذّكورية الّتي شكّلت عبر التّاريخ»([41])؛ ذلك أنّ «الحرية الّتي يتمتع بها الجسد الأنثوي عبر تسريده، أعمق من تلك الآداب والفنون الّتي تنوب عن الجسد في التّعبير عن نفسه، وهو يخترق المحظورات الأخلاقيّة، وتطالب بتحريره من سجن المجتمع وتضع له معجما لغويا ونفسيا واجتماعيا للإفصاح عن هويته وكينونته»([42]).
وتحدّد عبر هذا الميثاق الجديد علاقة الجسد الأنثوي بالكتابة، بوصفه «تقنية مثلى تنجلي فيها ذات الكاتبة وتطفو معها مكبوتات الوعي العقلية والجسديّة»([43])؛ فالنّص النّسوي ينضح بروح التّجاوز والخرق والتوتّر والانزياح لحزم الرّموز المألوفة الّتي تتعلّق بالجسد الأنثوي الّذي «ينفث بركانه وصواعقه وزلزاله على الورق فور الكتابة فتخرج جملا سردية تحمل من العلامات والدّلالات والرّموز الشيء الكثير. وقد يتلاشى هذا الجسد عبر الكتابة ذرّات صغيرة مجزّأة يستطيع القارئ الحاذق لملمته وإخراجه من تحت الرّماد شهابا مشتعلا»([44])، عبر ممارسة أفعاله بلا رتوش خلف أبواب الأعراف الموصدة، ومن خلال تحدي المحرم؛ ذلك أن «الجرأة التي بدت عليها بعض المبدعات في الآونة الأخيرة من استكناه بعض المناطق المحظورة والمسكوت عنها إبداعيا قد بدأت تدريجيا في الظّهور على الساحة وفرض صيغة جديدة ونسق تجريبي جريء متحرّر، بدأت ملامحه تظهر في الأفق وتحدد ردود فعل قوية عند التّلقي والتأويل»([45]).
هكذا، استطاعت الكاتبة العربيّة على الرغم من عهدها القريب بالكتابة، أن تقطع أشواطا معتبرة قادت منتجها الكتابي بخطى سريعة نحو هاوية الإباحية، فالمرأة هنا «تكتب عن نفسها، عن لقائها بالآخر، عن شبقها وحرمانها، المضاجعة ولونها، هي امرأة تتقمص دور العاهرة، أو عاهرة تتقمص دور الكاتبة، فتستنطق الجسد وتكشف عن مفرداته، في لغة خاصة هي لغة حقيقية، جــاءت كمــا هي دون رتوش أو بهرج، تخرجهــا المرأة للعيــان، إنه (النص البصمة) الذي يعبر عنها أمام القارئ»([46])، حيث «بدت بعض الكاتبات سافرة ومكشوفة…وليس معنى ذلك أن هذا النوع من الكتابة قد أصبح هدفا في ذاته، أو مطلبا جماعيا لــدى الكــاتبــات، بل نرى تجارب أكثر نضجا والتزاما تعبر عن ذواتنا، دون الوقوع في دائـــرة الجســد ومفرداتــه الخبيئـــة»([47])، فالتعرّي حسب ما تذهب إليه شهلا العجيلي لم يعد «مدهشا، أو دليل تحرر فكري، بل صار طريقة مستهلكة في كتابة النساء، لأنه لم يعد أكثر من رد فعل على قدرة الرجل في مقاربة جسد المرأة، ومحاكاته في ذلك، كما لم يعد اختراق التابو مدهشا ودليل تحرر على المستوى العام للكتابة، نتيجة الالتصاق بالجذور الثقافية في وجه محاولة ثقافة القطب الواحد درسها، لذا اعتمدت الكاتبات استراتيجية أخرى في الكتــابــة تقــوم على مقــاربــة الثــوابت والالتزام بهـــا، والكتــابــة تحـت سقفــهــا مــع الحــوار والمســاءلــة المستمريــن»([48])، ليتحوّل الجسد الأنثوي في مراحل متقدمة من التجربة السردية النسوية من «قيمة ثقافية سلبية إلى قيمة ثقافية إيجابية»([49]).
غير أن هذا الموقف لا يمكن التسليم به، ما دامت النّصوص النسوية تختلف من حيث استراتيجيات التمثيل الجسدي، وتتضارب بشأنها الآراء النقدية، ففي الوقــت الــذي تنــظر إليــه بعــض الأقلام بوصفــه ضرورة بنائيــة جماليــة، تعتبره أخرى مراهقة إبداعية تفصح عن بذاءة وتسطيح وعدم اكتراث علني ولهاث متواصل قد لا نعثر له على مثيل في التّمثيلات النسوية الغربية، ولا يعبر في بعض نماذجه إلا عن «نفس مجهدة، وعقول ذات خواء ضحل، تعيش عالم الانغلاق على الــذّات، في بــرج لا تــرى منــه النّــور، أغلقته على نفسهــا بإحكـــام، فلــم تــر غيره، حتى تفتّق عن نوع من النرجسية والشّذوذ، فأخرجته غثاء للنّاس، متوهّمة غير ذلك»([50]).
3-في حضرة النصوص
في إطار متابعته لتمثّلات الجسد في الرواية النّسوية العربية، يتناول عبد الله إبراهيم رواية “امرأتان في امرأة” لـ”نوال السعداوي”، حيث استطاع أن يكشف في مستهل قراءته لهذه الرواية عن مشكلة البطلة “بهية شاهين” الّتي تكمن في «وعيها بأنّ جسدها منقسم إلى جسدين أحدهمــا ملك الأعــراف والتّقــاليد الثّقــافية، بمــا فيهــا الأســرة والمجتمع، والآخر ملك لها، وفعلها طوال الرواية يتمثل في السّعي للانتقال به من دائرة ملكية الآخرين له إلى دائرة الانتهاك الرّمزي الّذي قام به الآخرون ضده، جعله في نهاية المطاف جسدا معطّلا»([51])، من الواضح أنّ نوال السعداوي تعلن من خلال هذه الرواية عن رفضها لنموذج المرأة الخانعة المستسلمة الّتي تختزلها الثّقافة المهيمنة في مجرّد جسد يسخّر لإمتاع الرجل وإشباع غرائزه ونزواته، فجوهر الأنوثة بالنّسبة لها من منظور عبد الله إبراهيم يتعلّق أساسا بـ: «معرفة تضاريس الجسد ووظائفه، لكنّ التربية الأسرية تحرّم الجسد، وتحوّل عملية معرفته إلى فعل محرّم»([52]).
لكن يبدو أنّ ازدواجية الجسد الّتي عبر عنها عبد الله إبراهيم من خــلال العنــوان، لم تسفــر عــن نتائــج إيجابيـــة؛ ذلك أنّ البطلة انشطرت إلى: «شخصيتين شائهتين وناقصتين، فصارت “امرأتان في امرأة”، الأولى ما تريده هي طبقا لشروط هويتها الأنثوية الأصلية، والثّانية ما يريده الآخرون لها طبقا لشروط هويتها الاجتماعية المكتسبة»([53]). وفي إطار هيمنة قيم الولاء المطلق للنّظام الأبوي، فإنّ “بهية شاهين” «كانت تنظر ببرود إلى الأجساد الّتي يقوم طلاب كلية الطب بتشريحها، باعتبارها عاطلة وفاقدة لوظائفها على نحو يناظر حالة جسدها المشدودة إلى عالم غريب عنه»([54]).
ورغم أنّ المقارنة بين الجسد الحي والجسد الميت تبدو عبثيّة للوهلة الأولى، إلا أنّ هذا التحليل الثّقافي يجد مسوغا رمزيا لها، يتعلّق أساسا بمستوى التّعطيل أو عدم الجدوى، فالجسد الأنثوي عطّلته الثّقافة الأبوية، في حين عطّل المــوت الجســد الهــامــد الممــدّد على منضــدة التّشريــح في المستشفى، ليخلــص عبد الله إبراهيم إلى نتيجة مفادهـــا أنّ: «الجسدين ما هما إلا موضوعا لبحث الآخريــن، فلا قيمــة لهمــا إلا في كــون الآخــرين يسعــون لتحليلهمــا ووصفهمــا، دون تقدير كينونتهما، والاعتراف بهويتهما الخاصة. تكمن القيمة في موضوع البحث وليس في قيمة المبحوث. هذه المماثلة خربت الحسّ الأنثوي في أعماق “بهية” وعطلت التحاقها بجنسها، فكانت تراه غريبــا عنهــا، فهو وعاء حامل لها، لكنّه ليس تكوينا مشكّلا لهويتها النّسوية»([55]).
وفي غياهب هذا الموت الرمزي، من المتوقع أن يتـــورط الجســد في الحكــايــات التي تسردهــا المـــرأة حـــول ذاتهـــا، بحيث تجعله مركزا للعالم الّذي تشيّده، ويبعث من جديد مع تعالي صيحات التحرر، يقــول عبد الله إبراهيم: «ينبغي ألّا تفهم هذه الأثيرية على أنّها رغبة في الفناء والتلاشي، إنما يقصد بها امتلاك الجسد، وحيازة حريته، بحيث تتفكّك السلسلة المقيدة لها، فحينما يتحرّر الجسد من قيوده يحلّق في أثير الحرية، كما كانت تحلم “بهية” وتريد، فالذّوبان كناية عن حال من نشوة التوحّد بالعالم حيث يصبح الجسد حرا من القيود كافة الّتي فرضت عليه، وذلك يحقّق الانسجام مع الذّات حينما يتخطّى الجسد هوّة الانقسام على نفسه. ولكنّ وعي “بهية” بذاتها كان دون كل ذلك، فقـــد جــرّ تخريــب عــلاقتهـــا بجســدها منـــذ الطفــولـــة، وتــأتّى عــن ذلك عــجز فــعلي، تحوّل إلى أمنيـــات مجـــرّدة، يصعب تحقيقها»([56])، وبالتّوازي مع هذا المحتوى الّذي يركّز على حرية الجسد أو على نحو أدق تحرير مفاتن المرأة، بحيث يصبح جسدها ملكية شخصية لا ينازعها فيها أحد، وفي هذا الصنيع ضرب من الحرية المطلقة الّتي تقترب إلى الإباحية، فالجسد الأنثوي يتم التعاطي معه وفق أبعاد أخلاقية تستمد شرعيتها من الدين في المجتمعات المحافظة، فحريته محدودة ومؤطّرة سلفا، أما التعرّي والفضاءات الفاضحة فهي بالنسبة للشريحة المارقة الّتي لا تراعي الخصوصيات الثّقافية والعرقية والدينية مكافئا موضوعيا لحرية الكلمة، وكل ما سوى ذلك يصبح تضييقا على الحرية والإبداع.
يبدو أنّ هاجس البحث عن الهوية الأنثوية الحقيقية عبر التنكّر لرغبات الجسد الأنثوي من خلال محاولة الخروج على الفطرة السويّة، جعل البطلة تصل إلى انسداد الأفق وتعيش حالة من الشّتات الذّريع حسب ما انتهى إليه عبد الله إبراهيم في قوله: «عاشت “بهية” سلسلة من ردود الأفعال التي قادت إلى تهديم الجانب الطبيعي من جسدها، وجعلتها تندرج في وضعية رفض تامة لكل شيء إلى درجة قامت فيها بتأويل رغباتها عل نحو غير صحيح، فالبحث عن تأكيد الذات تم على حساب البعد الإنساني للشخصية وإذ خسرت الرهانين معا، فلم تفلح في تأكيد ذاتها وعاشت عاطلة جسديا»([57])، بيد أن البديل الّذي استحسنته البطلة للخروج من هذا المأزق الوجودي لا يخلو من التناقض؛ ذلك أنها لما أخفقت في بعث الحياة لجسد عطلته الثقافة الأبوية، اتجهت عكسيا إلى مقاطعة هذه الهوية الاجتماعية المكتسبة، والإعراض الكلي عن أنوثتها وجاذبيتها، عبر تقمّصها لشخصية الرجل في حركاته وسكناته من خلال ظاهرة الاسترجال أو التشبّه بلبوس الآخر/الرجل، بل إنّها تتفوق عليه في نوع من التحدّي، «كان اليوم هو الرّابع، وكــان الشّهر هو سبتمبر، وكانت تضــع قدمهـــا اليمنى على الطاولـــة الرّخاميـــة، وقدمها اليسرى فوق الأرض، وقفة لا تليق على الإطلاق كونها امرأة (لم تكن امرأة بعد في نظر المجتمع) كانت لا تزال فتاة في الثّامنة عشرة، ولم تكن ملابس الفتيات في ذلك الــوقت تسمـــح لهن بـــأن يقفــن هذه الوقفــة، كن يرتين شيئا اسمه “الجيب” يلتفّ حول الفخذين بشدة ويضيق عند الركبتين، فإذا بالسّاقين ملتصقتين دائما. أثناء الجلوس وأثناء الوقوف، بل وأثناء السير، لم تكن السّاقان تنفصلان أبدا في حركة الخطوات المألوفة للآدميين، وإنما هي حركة دورية غريبة، تنتقل بها قدما الفتاة فوق الأرض وتظلّ ساقاها ملتصقتين وركبتاها ملتحمتين كأنّما تضغط بين فخذيها على شيء تخشى سقوطه»([58]).
وفي هذا السياق يبدي عبد الله إبراهيم اعتراضا واضحا على هذا الخيار في قوله: «وللتعويض عن هذا كانت تسترجل، وتقوم بمحاكاة الرّجال في مشيهم وملابسهم وتصرفهم، فكأنّ التخلص من الآثار ثقافة الذّكور يتحقّق بالامتثال لها ومحاكاتها والتّماهي معها، وهذا هدف يتعارض مع المبادئ الأساسية للتمرّد على تلك الثّقافة الذكورية، فلكي تكون الأنثى نفسها بهويتها الخاصة، ينبغي أن تكون مختلفة وليست شبيهة، فالاختلاف والمشابهة أمران يقرّران طبيعة الهويّة الإنسانية، وعليه فلا هوية لامرأة تريد تأكيد ذاتها بمماثلة الرجال، ولا كينونة لأنثى تتوهّم مشابهة الذّكر، فالتميّز يحقّقه الاختلاف والاتصال بالطباع الأصلية، وليس في تحريفها، ويحصل ذلك بإغناء الذّات وإثرائها، وليس باختزالها إلى مثيل»([59]).
وفي قراءة تقترب إلى ضرب من التّحليل النّفسي، يؤكّــد عبد الله إبراهيم انفصاما صارخــا في شخصيــة البطلــة، فهي حسب ما يذهب إليه: «تريد طمس الأنثى بمحاكاة الذّكر، لكنّها أيضا تريد أن تستقل بجسدها عن عالم يشدها نحو الأسفل، فحريتها مقرونة بانفصال جسدها عن ذلك العالم، وهكذا تتصادم المتناقضات في وعيها وسلوكها فلا تستطيع تجاوز هذه الإشكالية المدمّرة الّتي بمقدار ما تدفع بها إلى الأمام، فإنها تشدها إلى الوراء في حركة متأرجحة بندولية، فظهر الإعلان عن الأنوثة من خلال الاحتفاء بالجسد وكأنّه شعار مفرغ من أيّة دلالة»([60])، فعبر هذا الانسلاخ العنيف عن فطرتها الإنسانية، والكظم التعسّفي لرغباتها كأنثى، ظلّت “بهيّة” حسب ما يقرّره عبد الله إبراهيم: «تكوينا شائها مزدوج الوجود والهويّة، فهي امرأتان في إهاب امرأة واحدة؛ لأنّها انتمت في وقت واحد إلى رؤيتين ثقافيتين وإلى عالمين لا سبيل إلى ردم الهوّة الفاصلة بينهما»([61])، وهكذا تفكّكت الهويّة الأنثويّــة في زحمــة رهــانــات فــاشلــة، فالتشبّث بالاسترجــال كبديــل تحــرّري عمّــق أوهــام الذّات وكبـّـل تطلّعــاتهــا، فانقلبت حرّية الجسد الأنثوي من هذا المنظور إلى تصعيد عبثي لواقع لم تفلح في تجاوزه.
تقع رواية “بيروت 75” لـ “غادة السمّان” ضمن النّماذج الّتي استوقفت النّاقد عبد الله إبراهيم، ولا شك أنّ هذا الاختيار يرتبط أساسا بهيمنة الاشتغال الجسدي على هذه المدوّنة، إذ يكتسب أهميته بوصفه محفّزا وموضوعا للحكي، بيد أنّ العلاقة الإشكاليّة بين الجسد الأنثوي المتحرّر والتّقاليد الاجتماعية الضّاغطة لا تفارق هذه التجربة أيضا، وفي هذا المقــام يقول عبد الله إبــراهيم: «وقد توزّع الجسد بين قطبين متناقضين يشدّه كل منهما إليه، فمن جهة كان يطلب حريّته ويتمسّك بها، باعتبارها شرطه الإنساني، ومن جهة أخرى كان يمتثل لأطر ثقافية واجتماعية تسقط عليه قيودا رادعة تحول دون ذلك، وقد عرضت تلك المدوّنة السّردية الكبيرة هذه المنازعة بمزيد من تعميق رغبات الجسد الأنثوي، حيث تكون المتعة لازما من لوازم حيويته، وتعبيرا عن شغفه باللّذة، ثم فضح الكوابح الاجتماعية التي مثلت دور الكابح الرمزي العائق لتلك الرّغبات، وثمّة توتّر واختصام، وسوء تفاهم بين المرأة والعالم المحيط بها، فلا مصالحة بين تناقضات تتقوى ركائزها يوما بعد يوم»([62])، وفي ضوء هذا الأفق «تناولت غادة السمان مأساة الإنسان في المجتمع الذّكوري الّذي يسعى لامتلاك المرأة فيحاول اضطهادها لأنّه يخشى أنوثتها، فيلجأ إلى التّعامل معها بازدواجية كما لو كانت ملكه وله الحق في التصرّف بها كما يشاء وفي هذا حرمان لها من الإحساس بإنسانيتها»([63]).
وعلى الرّغم من محاولة الكاتبة إعادة صياغة العلاقة الجسديّة بين المرأة والرجل، بحيث تتوسّع لتشمل إلى جانب الانشغال بعنصر المتعة عناصر أخرى تخصّ وجود المرأة ككيان، فإنّ البطلة ياسمينة لم تتقدّم في اتجاه هذا المطلب، بل أخذت «تستغرق في أنوثتها الّتي ترمز إلى الضّعف وبدل من أن يعبّر موقفها من جسد الرّجل عن تطوّر في وعيها فإنّ هذا الموقف يتحوّل إلى سلطة طاغية تفرض حضورها القوي عليها بشكل تظل معه أسيرة رغبتها واشتهائها له، وبالتّالي فإنّ مفهوم الحريّة والتبدّل في العلاقة يبقى دون مضمون حقيقي، إن لم نقل إنّه ينــــضـــاف إلى جمــــلــــــة العــــــوامـــــل الّتي تعـــــزّز السّلـــــطـــــة الذّكــــوريـــــة، وتـــؤكّـــد هــزيمــــــة الأنـــــثى وضعـــفــــــهـــا أمـــــــامــــــهـــا»([64])، فينخرط الجسد الأنثوي في سلسلة من العلاقات العابرة الّتي لا تجد مبرّرا لها سوى المتعة ولا شيء غيرها، فتتفوّق بذلك الأهواء على المثل العليا، فالبطلة تبرّمت من المؤسّسة الدّينية، وأعرضت عن الأعراف عندما تنكرت لرصيدها القيمي، كما يعبّر عن ذلك هذا المقطع: «…وانطلق مثلها يركض على سطح الزّورق عاريا كسمكة…وأحسّت بأنهما يعيشان أسطورة الخلق الأولى واليخت الصغير صدفة لؤلؤية اللون، والسماء الشاسعة لم تكن قط أكثر صفاء…وثلوج أعوامها السبعة والعشرين تذوب..الثلوج التي هطلت فوقها طيلة عشرة أعوام من قبعات الراهبات حين كانت تعمل مدرسة…إنها لا تستطيع أن تصدق كيف تركت جسدها يتحرك طيلة هذه الأعوام دون أن تكتشفه..كانت لها مغامرات سريعة وعابرة. وكان جسدها يتجنب التجربة..كيف حملت جسدها طيلة هذه السنين كعبء، كجثة، كمجرد أداة للتنقل وحمل الطباشير..جسدها الثمين تكتشفه لأول مرة كعالم من اللّذات»([65]).
ومع انغماس الأجساد في متعها، ولهاثها وراء رغباتها تبعثرت مصائر الشّخصيات إثر تماسها مع القيم الرّادعة، فلاحت في أفق السّرد حسب عبد الله إبراهيم: «معالم الفكرة الأخلاقية حول الثّمن الّذي ينبغي دفعه من أجل ذلك، فكان العقاب مكافئــا للمتعــة، والمــوت مصيرا للشخصيــات البــاحثة عنهــا، وكــأن الجسد مــأوى للآثـــام، وسجـــل للعقــاب، فيحز رأس “ياسمينة” في مشهد بالغ القسوة، ويهرب “فرح” بصعوبة بالغة من “مستشفى المجانين” حاملا معه اللوحة الدالة عليه، فيضعها عند مدخل “بيروت”، وبذلك يبرهن على ما كان يردده، حينما دخل المدينة: “يا من تدخل إلى هنا، تخل عن كل أمل”. وهي عبارة “دانتي” المنقــوشـة على بوابــة “الجحيم”»([66])، يبدو أنّ المنظومة الأخلاقية -أو بالأحرى الدّينية- صفّت حساباتها مع هذا الجسد الّذي تصل نيران نشوته إلى أبعد مدى، غير مكترثة بالقيم الّتي تخترقها من خلال التّمادي في العلاقات الحميمة غير المؤطّرة.
هذا، ويتوقع عبد الله إبراهيم هذه النهايات المأساوية والمآلات القاتمة (الجنون، الشذوذ، العهر…إلخ)؛ لأن تلك الأجساد المحمومة أعلنت تمردا سافرا على القيم المتواضع عليها في غمرة التحامها، إذ يقول: «حينما يتعلق الأمــر باللــذة تــوضع الأجســاد البشريــة في منطــقة معتمة، وكــل خروج على السنن الثقــافية ينبغي أن يكافــأ بعقــاب، كأن يكون القتل أو الخبل؛ لأن الثقافة النمطية تصادر الجسد، وهي تسقط عليه نظامها القيمي، فلكي يكون جسدا سليما فيجب عليه أن يكون امتثاليا، وإلا جرت معاقبته، كأن يتحول شاذا يجد لذته في مثيله، أو يقتص منه بالقتل. فقد سكن “ياسمينة” شبق معطل طوال ألف سنة عن ممارسة المتعة الحقيقية، وما إن اقتربت إلى المنطقة المحذورة حتى حولها السرد إلى عاهرة يستمتع بجسدها هذا الرجل أو ذاك، ثم يقع الاقتصاص منها، فلا يعبر الجسد الأنثوي عن حاجته إلا ويكون مصيره القتل فيما أصبح “فرح” شريكا في اللّذة لمثيل وجد فيه وسيلة لمتعته»([67]).
وقد مثّلت تجربة “زهرة” في رواية “حكاية زهرة” لـ “حنان الشّيخ” وجها آخر لتعطّل الفعل الحميمي للأجساد جراء فوبيا القيم الأبويّة، ففي هذه القراءة الثّقافية استطاع عبد الله إبراهيم أن يرصد الآثار السّلبية الّتي يخلّفها وسط أسري مشروخ أخلاقيا واجتماعيا على جسد ناشئ، إذ يقول: «رسمت الرّواية تدرّجا متواصلا للنّشأة التربوية المغلوطة الّتي عاشتها “زهرة” في وسط أسري متمزّق بين أم لها علاقات جسدية على هامش الرابطة الزوجية، وأب مسكون بهاجس ذكورة هتلرية، فيمارس عنفه على أسرته بأسلوب نازي، ومجتمع يغطس في انتهاكات نفسية وأخــلاقيــة متواصلــــة، الأمــر الذي حــدد طبيعــــة نشــــأة الأخــويــن “زهــرة” و”أحمــد” في سيــاق اجتمـــاعي غير طبيــعي، فينتهيان إلى شذوذ سلوكي وجسدي، فالرّواية عبر تراكم الأحداث وتوتّرها، حدّدت الإطار المشوّه الّذي تكونت الشخصيات فيه، فقد عرفت “زهرة” علاقات متعددة حكمها التوتر والخذلان، ولم تستطع أن تكتشف أنوثتها إلى النهاية، حتى الخداع الذي تخيلته في نهاية الرواية لا يعدو أن يكون وهما دفعت ثمنه الباهظ»([68]).
وقد انتهى التحليل إلى إضاءة الجراحات النفسية والجسدية التي أثقلت كاهل البطلة؛ ذلك أن التجارب السلبية والمحرّمة الّتي انخرطت فيها «تركت بصماتها في جسد “زهرة” إلى درجة ظهرت وكأنّها جرباء تحفر جلدها دائما، فيما الجرب لحق كل شيء فيها، حينما انتهك جسدها كثيرا، وأصبحت كائنا شائها لا ينتمي إلى جسد معين، تعيش ضروبا من الكراهية لنفسها وغيرها»([69])، بعد أن صرحت برغبتها الجامحة في امتلاك جسدها في قولها: «أريد أن أكون لنفسي، أن يكون جسدي لي، حتى المسافة الأرضية والفضائية من حولي يجب أن تكون ملكي. وإذا رضي زوجي أن يبتعد عن جسدي لا أريده أن يتنفس ضمن هذه المسافة. “مسافتي” لا أطيق أنفاسه، لا أطيق حتى وجوه»([70]).
ومن المناسب وضع ما أشاعه الجسد الأنثوي من تمثّلات في ضوء النّصوص الّتي اشتغل عليها عبد إبراهيم في الجدول الآتي:
الرواية | تمثّلات الجسد الأنثوي |
“امرأتان في امرأة” لـ”نوال السعداوي” | ازدواجية الجسد والسرد بالمحاكاة |
“نخب الحياة” لـ”آمال مختار” | الاحتفاء بالجسد |
“بيروت 57″ لـ”غادة السمّان” | رهانات الجسد |
ثلاثية أحلام مستغانمي | كتابة الجسد |
“الخباء” لـ”ميرال الطحاوي” | جدلية الجسد والسرد |
“من يرث الفردوس” لـ”فاطمة الدليمي” | الجسد والمكافئ السردي |
“حكاية زهرة” لـ”حنان الشيخ” | فوضى الجسد |
“اسمه الغرام” لـ”علوية صبح” | غرام الجسد |
استطاع عبد الله إبراهيم من خلال عينات مختارة أن يظفر بجملة من التمثّلات الجسدية التي تنوعت بالنظر إلى ثراء النصوص، فاتسم الجسد الأنثوي على سبيل المثال بالازدواجية والالتفاف حول مسعى الاسترجال تثمينا لحرية زائفة في “رواية “امرأتان في امرأة” لـ “نوال السعداوي”، واتجهت “آمال مختار” إلى الاحتفاء به في روايتها “نخب الحياة”، وتعددت رهاناته في رواية بيروت 75 لــ “غادة السمان”…إلخ، لكن لا يمكننا التعامل مع نتائج هذه القراءة على نحو شمولي؛ لأنها اقتصرت على نماذج بعينها، فلا ريب أن الاشتغال على نصوص أخرى سيحيلنا إلى تجليات مغايرة، لكن ما يحسب لعبد الله إبراهيم أنه انطلق من النص، ولم يطوّعه لخدمة معايير أو مفاهيم نظريّة جاهزة، فمدد المعاني والدّلالات تجاوز الوصف إلى الاستنباط والكشف والتّفسير في الكثير من المواضع عبر النّفاذ إلى البنية العميقة لتلك الرّوايات الّتي تستبطن أنساقا تتراوح بين الامتثال والثّورة على التقاليد الضاغطة.
[1]-عبد الله إبرهيم: السرد النسوي، الثقافة الأبوية، الهوية الانثوية، والجسد، ط1، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت،2011 م، ص215.
[2]– المرجع السابق، ص223.
[3]– عبد النور إدريس: التمثلات الثقافية للجسد الأنثوي، الرواية النسائية أنموذجا،ط1، منشورات دفاتر الاختلاف، مكناس-المغرب، 2015م، ص6.
[4]– المرجع نفسه: ص5-6.
[5]– الأخضر بن السايح:نص المرأة وعنفوان الكتابة،مجلة الراوي،العدد18،النادي الأدبي الثقافي بجدة ، ص40.
[6]– الأخضر بن السايح: سرد الجسد وغواية اللغة، قراءة في حركية السرد الأنثوي وتجربة المعنى،ط1،عالم الكتب الحديث، إربد-الأردن، 2011م، ص128.
[7]– الأخضر بن السايح: نص المرأة وعنفوان الكتابة، ص40.
[8]– منى الشرافي تيم: الجسد في مرايا الذاكرة، ط1، منشورات ضفاف، بيروت، 2015م، ص130.
[9]– الأخضر بن السايح: سرد الجسد وغواية اللغة، قراءة في حركية السرد الأنثوي وتجربة المعنى، ص134.
[10]– المرجع نفسه، ص127.
[11]– الأخضر ابن السايح: نص المرأة وعنفوان الكتابة، ص39.
[12]– الأخضر بن السايح: سرد الجسد وغواية اللغة، قراءة في حركية السرد الأنثوي وتجربة المعنى، ص121.
[13]– المرجع نفسه، ص123.
[14]– المرجع نفسه، ص128.
[15]– الأخضر بن السايح: تيمة الجسد وإنتاج المعنى.. متعة النص ولذة التأليف، مقاربة تحليلية في الرواية النسائية، www.arrafid.ae.10/01/1017
[16]– إبرهيم الحجري: المتخيل الروائي العربي، الجسد، الهوية، الآخر، ط1، الشركة الجزائرية السورية، الجزائر، 2013م، ص57.
[17]– الأخضر بن السايح: سرد الجسد وغواية اللغة، قراءة في حركية السرد الأنثوي وتجربة المعنى، ص1.
[18]– المرجع نفسه، ص8.
[19]– المرجع نفسه، ص122.
[20]– عبد النور إدريس: النقد الأدبي النسائي والنوع الاجتماعي(الجندر)، تمثلات الجسد الأنثوي في الكتابة النسائية،د.ط،سلسلة دفاتر الاختلاف، مكناس-المغرب، 2011م، ص38-39.
[21]– الأخضر بن السايح: سرد الجسد وغواية اللغة، قراءة في حركية السرد الأنثوي وتجربة المعنى ، ص132-133.
[22]– عبد النور إدريس: النقد الأدبي النسائي والنوع الاجتماعي(الجندر)، تمثلات الجسد الأنثوي في الكتابة النسائية، د.ط، سلسلة دفاتر الاختلاف، المغرب، 2011م، ص39.
[23]– ابن الأخضر السايح: لذة السرد النسائي وعوامل الإثارة والإغراء، متاح على الشبكة: www.nizwa.com، 13/01/2017.
[24]– إبرهيم الحجري: المتخيل الروائي العربي، الجسد، الهوية، الآخر ، ص32.
[25]– المرجع نفسه، ص58-59.
[26]– عبد الله إبرهيم: السرد النسوي، ص221.
[27]– المرجع السابق، ص221-222.
[28]– المرجع نفسه، ص221.
[29]– المصدر نفسه، ص222.
[30]– عبد النور إدريس: التمثلات الثقافية للجسد الأنثوي، ص35.
[31]– إبرهيم الحجري: المتخيل الروائي العربي، الجسد، الهوية، الآخر، ص60.
[32]– المرجع نفسه، ص61.
[33]– المرجع نفسه، ص61.
[34]– رسول محمد رسول: الجسد المتخيل في السرد الروائي، ط1، الناية للدراسات والنشر والتوزيع، سورية، 2014م، ص51.
[35]– المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
[36]– إبرهيم الحجري: المتخيل الروائي العربي، الجسد، الهوية، الآخر، ص59.
[37]– المرجع نفسه، ص66.
[38]– عبد الله إبرهيم: الرواية النسائية العربية، مجلة علامات، ع17، النادي الأدبي الثقافي بجدة، ص18-19.
[39]– رشيد عوبدة: الجسد شرارة حراك…الجسد أيقونة تغيير، متاح على الشبكة:www.maaber.org 13/01/2017.
[40]– هويدا صالح: نقد الخطاب المفارق، السرد النسوي بين النظرية والتطبيق، ط1، رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة، 2014م، ص160-161.
[41]– المرجع نفسه، ص161.
[42]– عبد النور إدريس: التمثلات الثقافية للجسد الأنثوي، ص78.
[43]– المرجع السابق، ص46.
[44]– ابن السايح الأخضر: نص المرأة وعنفوان الكتابة، ص44-45.
[45]– هويدا صالح: نقد الخطاب المفارق، السرد النسوي بين النظرية والتطبيق، ص160.
[46]– عبد العاطي كيوان: أدب الجسد بين الفن والإسفاف، دراسة في السرد النسائي، ط1، مركز الحضارة العربية، القاهرة، 2003م، ص56-57.
[47]– المرجع نفسه ، ص56.
[48]– شهلا العجيلي: الخصوصية الثقافية في الرواية العربية، ط1، الدار المصرية اللبنانية، القاهرة، 2011م، ص167.
[49]– المرجع نفسه، ص167.
[50]– عبد العاطي كيوان: أدب الجسد بين الفن والإسفاف، ص58.
[51]– عبد الله إبرهيم: الرواية النسائية العربية، ص20.
[52]– المرجع نفسه، ص20.
[53]– عبد الله إبرهيم: السرد النسوي، ص224-225.
[54]– المرجع نفسه، ص224-225.
[55]– المرجع نفسه، ص225.
[56]– المرجع نفسه، ص226.
[57]– عبد الله إبرهيم: السرد النسوي، ص227.
[58]– نوال السعاوي: امرأتان في امرأة…، ط7، دار الآداب، بيروت، 1998م، ص9.
[59]– عبد الله إبرهيم: السرد النسوي، ص227.
[60]– المرجع نفسه، ص228.
[61]– المرجع نفسه، ص228.
[62]– المرجع السابق، ص232.
[63]– هنادة الحصري: غادة السمان ..دمشق مرفئي الأخير، متاح على الشبكة:thawra.sy.
[64]– مفيد نجم: المرأة في مرايا الذات والآخر، متاح على الشبكة: www.startimes.com،23/01/2017
[65]– غادة السمّان: بيروت75، ط6، منشورات غادة السمّان، بيروت، 1993م، ص14.
[66]– عبد الله إبرهيم: السرد النسوي، ص232-233.
[67]– المرجع نفسه، ص235.
[68]– المرجع نفسه، ص251.
[69]– المرجع السابق، ص251.
[70]– حنان الشيخ: حكاية زهرة، ط2، دار الآداب، بيروت، 1989م، ص112.