
الشباب والتنمية المفاهيم والإشكاليات
الباحثة وفاء كردمين جامعة قابس و المعهد العالي للعلوم الإنسانية بمدنين-تونس
مقال نشر في مجلة جيل الدراسات السياسية والعلاقات الدولية العدد 11 الصفحة 125.
ملخّص الدراسة
يقدّم هذا البحث تعريفا للمفاهيم الأساسية: “الشباب” و”التنمية”، مبرزا في ذلك الإشكاليات المثارة عنها ومعرفة العلاقة القائمة بينهما. كما يقف علىدور الدولة لتأهيل الشباب وإدماجه اجتماعيا ومهنيا،ومدى تحقيق الأهداف التنموية. ومن أهمّ النتائج البحثية التي يخلص إليها هذا البحث هي: صعوبة تحديد مفهوم الشباب، الناتج عن كثرة التعريفات له. أمّا مفهوم التنمية فهو بدوره لم يحقق اجماعا حول مضمونه رغم إلتقاء المشتغلين عليه في نقطة مفادها: بأنّ التنمية عملية تغيير اجتماعي إرادي وهادف. فهي استراتيجية لتحسين وضع الشباب، ولا تستقيم دون المشاركة الفعّالة للشباب. ويعود فشل التنمية في البلدان العربية لإتباعها للنموذج الغربي، وعدم الفهم العلمي للتنمية، وتنفيذ الحكومات في الغالب لمشاريع تنموية، دون استشارة حقيقية لأفراد المجتمع،وتملّص الدولة من دورها تجاه الشباب. فلكي تتحقق النهضة التنموية بالبلدان العربية فعليها الاهتمام بالشباب حتى يتمكّن من تخطي المشاكل المتنوّعة التي تحول بينه وبين الشراكة الفعّالة في التنمية، مع ضرورة التوصّل إلى خطّة تنموية تتفق مع كافة الأبعاد في المجتمع حتى تحقق النقلة والإقلاع التنموي الهادف.
الكلمات المفتاحية
الشباب، التنمية، تأهيل الشباب، استراتيجيات التنمية، مشاركة الشباب.
الشبابوالتنمية،المفاهيموالإشكاليات
تمهيد
تمثّل فئة الشباب من أهم الموارد البشرية، وتعتبر رأسمال كل المجتمعات التي تريد تحقيق نهضتها وتنميتها، خاصة لدى المجتمعات النامية التي ترتفع بها نسبة الشباب مقارنة بالبلدان المتقدمة التي تشكو من تهرّم سكاني رهيب. ولهذا يطرح موضوع الشباب مسألة المكانة والأفاق داخل كل المشاريع التنموية في المجتمع.
ومن خلال الاهتمام بموضوع الشباب في منظومة تنمية الموارد البشرية واستثمارها، ندرك منذ وجود العديد من الإشكاليات المتعلّقة بالشباب والتنمية. ويتحول هذين المفهومين إلى موضوع جدير بالبحث والاهتمام من قبل الدارسين والباحثين. فما هي طبيعة العلاقة القائمة بين الشباب والتنمية؟ وما هي استراتيجيات وأفاق التنمية للنهوض بالشباب العربي؟ وما مدى تحقيق الأهداف التنموية مقارنة بالاستراتيجيات والبرامج المعلنة لها؟
- الجهاز المفاهيمي:
للمفاهيم أهمية بالغة في البحوث الاجتماعية إذ لا يمكن للباحث أن يحصر مجال بحثه إلا بتحديد المفاهيم وتعريفها تعريفا علميا حتى تكتسب سياقا اجتماعيا. وقد أكّد هذا الأمر عالم الاجتماع الفرنسي “إميل دوركايم” Emile Durkheim حين أعتبر تحديد المفاهيم وتعريفها تعريفا علميا إجرائيا من القواعد الأساسية التي تكوّن المنهج في علم الاجتماع.[1] ويقع الانطلاق من تحديد المفاهيم الأساسية التي يقوم عليها البحث حتى ينتفي ولو نسبيا الغموض الذي يكتنفها.
- تعريف مفهوم الشباب:
- التعريف النظري:
- التعريف اللغوي: الشباب: شبب. شب. يشيب. شبابا وشبيبة: الغلام أدرك طور الشباب شبّ عن الطوق، تعدى مرحلة الطفولة.[2] فـ”الشباب هو جمع مذكر ومؤنث معا، وتعني الفتاء والحداثة، ويطلق لفظ شبان، وشبيبة، كجمع لمذكر مفرد شاب، ويطلق لفظ شابات، وشائب، وشواب، كجمع مؤنّث على مفرد شابة. وأصل كلمة شباب هو شبّ بمعنى صار فتيا، أي “من أدرك سن البلوغ ولم يصل إلى سن الرجولة”.[3]
- تعريف مفهوم الشباب من خلال عديد الاتجاهات
- الاتجاه البيولوجي: يعتبر الشباب مرحلة عمرية أو طور من أطوار نمو الإنسان، الذي يكتمل فيه نموّه العضوي الفيزيقي، وكذلك نضجه العقلي والنفسي. وقد حددت هذه الفترة بين سن 15-25 وهناك من يحددها بين 13-30 سنة.
- الاتجاه السيكولوجي: يرى بأن الشباب حالة عمرية تخضع لنمو بيولوجي ولثقافة المجتمع بداية من بلوغ الإنسان إلى سن رشده. وقد تطول هذه المرحلة العمرية أو تقصر وقد تنعدم في بعض الأحيان وذلك حسب الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وأيضا حسب الاختلاف داخل المجتمع الواحد أو من مجتمع لآخر. “ففي المجتمعات البدائية قد تنعدم فترة المراهقة بينما في المجتمعات الغربية الحديثة قد تطول، بل وتمتدّ إلى ما يقارب أو يتجاوز عشر سنوات”.[4]
- في علم النفس: يستعمل علم النفس كلمة المراهقة Adolescence كمرادف لمفهوم الشباب. والمقصود بها التدرّج نحو النضج البدني والجنسي والعقلي والانفعالي.[5] فمفهوم الشباب في علم النفس لا يقصد به مرحلة عمرية محددة بقدر ما تشير إلى مجموعة من الخصائص النفسية والجسمية التي تكون في حالة نشاط وقوّة وفي حالة من التهوّر والاندفاع.
- في علم الاجتماع: بالاعتماددائما على المجتمع كإطار مرجعي “يعرّف السن حسب علم الاجتماع السنsociologie des âges، بتعاقب الأدوار الاجتماعية في دورة الحياة،ويسند لها بعدا للوضعية الاجتماعية statut وبعدا معياريا يتجلى في جملة السلوكيات المحددة التي ينتظرها المجتمع والتي تتناسب مع كل وضعية”.[6]
فحسب علماء الاجتماع تبدأ مرحلة الشباب من خلال دخول الفرد إلى المجتمع الذي يسعى بدوره إلى إدماجه وتأهيله ليقوم بمهامه المختلفة داخله. وإنّ من الصعوبات التي تواجه أيّ باحث هي تحديد مرحلة الشباب في أيّ سن تبدأ وأي سن تنتهي فهو مفهوم ليس له حدود مضبوطة وواضحة فحسب بيار بورديو Pierre Bourdieu الحدود بين الأعمار أو الشرائح العمرية هي حدود اعتباطية، ونحن لا نعرف من أين ينتهي الشباب لتبدأ الشيخوخة مثلما لا يمكننا أن نقدّر أين ينتهي الفقر ليبدأ الغنى”.[7] فالفئات العمرية حسب بورديو هي نتاج بناء مجتمعي يتحدد بشروط اجتماعية معينة ويتطوّر عبر التاريخ ويتخذ أشكالا ومفاهيم في ارتباط وثيق بالأوضاع والحالات الاجتماعية.
إذن الشباب حسب علم الاجتماع هو حقيقة اجتماعية وليست ظاهرة بيولوجية فقط. فهو ظاهرة اجتماعية تشير إلى مرحلة من العمر تبدو من خلالها علامات النضج الاجتماعي والنفسي والبيولوجي واضحة المعالم. ويصفها علماء الاجتماع بمرحلة التعليم وتبلور شخصية الفرد وصقل مواهبه من خلال اكتسابه للمهارات والمعارف، كما يتميز الشاب بدرجة عالية من الديناميكية والحيوية والمرونة المتسمة بالاندفاع والانطلاق والتحرر والتضحية. ولكل مجتمع شباب يختلف نوعا ودرجة عن شباب أيّ مجتمع آخر حسب تنوع المجتمعات. والعلاقة بين الشباب والمجتمع تمرّ أساسا عبر مؤسستي العائلة والمؤسسة التربوية فيتم تأطيرهم من قبل المجتمع ويحدد لهم حقوقهم وواجباتهم فعبرهما تتحقق اجتماعية الفرد”la sociabilisation d’individu” على حد تعبير إميل دوركايم. ويصبحوا بذلك قوّة تغيير مجتمعية لأن الشباب هي الفئة الأكثر طموحا في المجتمع، والأكثر تقبلا للتغيير والمواكبة والتكيّف مع المتغيرات بشكل مرن، والتمتع بالحماس والحيوية والنشاط فكرا وحركة.
لقد تعددت وتنوعت المحاولات لتعريف مفهوم الشباب، ويعود هذا التنوع إلى دقّة المفهوم وكثرة الإخصائيين لتعريفه فكل من موقعه واختصاصه يقدّم تعريفا للشباب. وأمام هذا التراكم الهائل لتعريفات مفهوم الشباب، نجد البعض من المختصين في علم الاجتماع، مثل “قالان” Galland[8]يعطي أهمية للبعد التاريخي لمفهوم الشباب. إذ يلحّ على ضرورة العودة إلى التاريخ لتحديد هذا المفهوم وخاصياته ويجب أن نبحث في تاريخ طرق التفكير في الشباب.[9] لوضع المفهوم في سياقه التاريخي والاجتماعي والفكري. فالشباب بالنسبة له لا يمثّل وحدة منسجمة، إنّها فئة واسعة ذات مشارب فكرية وثقافية ودينية مختلفة ومتناقضة وانتماءات طبقية متضاربة. لهذا فإنّ الشباب بالمعنى السوسيولوجي، هو إفراز اجتماعي، تتطوّر وتتغيّر تعريفاته مع تغيّر المجتمع.[10]وهو مرحلة انتقالية بين الطفولة والكهولة ويمرّ الشاب بثلاث مراحل هامة: الخروج عن العائلة الأصلية، الدخول في الحياة المهنية، وتكوين أسرة.[11]
ولو تجاوزنا الوصف التاريخي للظاهرة الشبابية فإننا نجد أنفسنا مجبرين على التفكير في الصلة بين الشباب والتربية. ويمكن أن نذكر هنا مساهمة عالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركايم في مؤلّفه Education et sociologieحيث يقول “التربية هي التنشئة الاجتماعية الممنهجة لجيل الشباب”[12] ومن هنا بدأ اهتمام علم الاجتماع بالشباب.
- المفهوم الإجرائي للشباب:
يرتكز المفهوم الإجرائي للشباب على شروط المرور أو الدخول في سن الكهولة هذه الشروط هي الاستقلال المادي والاستقرار الاجتماعي. وتقترح الجهات الرسمية وبعض الباحثين، أن يتواصل تعريف الشباب إلى حدود سن الثلاثين. نذكر لذلك التعريف الذي صاغه علي الحوات عندما اعتبر “الشباب فئة اجتماعية ومرحلة عمرية وتجاوز ذلك إلى تدقيقه انطلاقا من الدراسات النفسية فيرى بأن فترة الشباب تمتد من بداية الحلم أو البلوغ أي سن 12-13 سنة إلى سن 30 سنة وهو يعيش في ذلك بالتشريع الإسلامي والقوانين الوضعية”[13]
كما يمكن أن تتواصل مرحلة الشباب إلى ما بعد سن الثلاثين فتكون الفئة العمرية للشباب بين سن 15 سنة أي السن الذي غالبا ما يكمل فيه الشباب تحولاته البيولوجية والفيزيولوجية ويصبح له احتياجات الكهول إلا إنّه لا يستطيع تحقيقها فيبقى يعيش “الزمن الميّت” إلى حدود 34 سنة السن الذي تنقص فيه العزوبة والبطالة والتبعية للعائلة. وهذا التحديد ليس قطعيا وإنّما تفرضه الضوابط العلمية والمنهجية ويبقى المجال مفتوحا للدخول والخروج من فئة الشباب لأنه يمكن لبعض الأفراد أن يخرجوا من الكهولة ويعودوا إلى فئة الشباب نتيجة الطلاق أو الترمّل أو الانقطاع والطرد من العمل.[14]
ويختلف تصنيف الشباب من مجتمع إلى آخر فقد صنف الشباب العربي وفق تميز جامعة الدول العربية بالفئة العمرية المتراوحة ما بين 15و29 سنة. بينما حددته الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي وبرنامج الأورو-متوسطي حددها بالفئة العمرية 16و35 سنة.
انطلاقا من هذه التعريفات فإن الشباب هو فئة عمرية ذات مرحلة ضبابية في انفصالها عن مرحلة الكهولة وأيضا هي فئة اجتماعية حاملة لقيم جديدة. ومن هنا تتجلى الصعوبة على مستوى الفهم والإدراك والضبط لهذا المفهوم. وذلك لعدم الاتفاق على وجود تعريف واحد وشامل له. فكل من موقع اشتغاله يحاول تقديم تعريف للشباب فتتعدد بذلك معانيه ومقاصده.
- تعريف مفهوم التنمية:
- التعريف النظري لمفهوم التنمية:
لا يقلّ مفهوم التنمية قيمة وأهمية عن مفهوم الشباب، فوجوده دائم ضمن المشاغل السياسية والاجتماعية والإعلامية… ونظرا لهذه الأهمية أصبحت التنمية، موضوعا للدراسات العلمية والأكاديمية التي تتناولها مختلف العلوم الاجتماعية والاقتصاد والبيئية… فتعددت بذلك التعريفات بتعدد واختلاف الاختصاصات.
- التعريف اللغوي: التنمية مأخوذ من النماء بمعنى الزيادة، نمى ينمي نميا ونميّا ونماء، زاد وكثر وربّما قالوا ينمو نموا، وأنميت الشيء ونميّته جعلته ناميا، ونمى الحديث ارتفع، ونميته رفعته، ونمية النار تنمية إذ ألقيت عليها حطبا وذكيّتها به، ونميّت النار، رفعتها وأشبعت قودها، والنامي الناجي.[15]
- التمييز بين النمو والتنمية: لقد وقع الخلط بين مصطلحي النمو والتنمية في الدول النامية، لهذا علينا أن ندرك الفرق بينهما: “إنّ النمو تلقائي يحصل مع مرور الزمن باستمرار وجود تشكيلة اجتماعية معينة، وسعيها الدائم للعيش… وبذلك ارتبط النمو بمعدل نمو الناتج القومي الإجمالي، ومعدّل نمو متوسّط لكل فرد…أمّا التنمية فهي فعل يستوجب التدخّل والتوجيه من قبل الدولة التي تملك القدرة على أن تنمي المجتمع، وتكون مسؤولة عن مدى نجاح تدخّلها أو فشله باستعمالها إمكاناتها المادية والمالية والتشريعية كافة… وتعمل على إحداث التغييرات المؤسسية والتنظيمية والتقنية اللازمة لذلك.[16]أي: التنمية فعل إرادي تقوم به الدولة بقرار سياسي واع، بينما النمو تلقائي يجري مع مرور الزمن وينتج عن الحركة الدائمة للمجتمع. كما إنّ التنمية هي تراكم نوعي يطال مختلف جوانب الحياة، والنمو هو تراكم كمي. أيضا فالتنمية هي تغيير بنيوي في الوضع القائم، ويتمّ النمو في إطار المؤسسات والبنى القائمة. ولهذا التنمية هي مشروع شامل ومتكامل وتتطلّب تغيّرات سياسية وثقافية واقتصادية… في حين النمو لا يتطلّب مثل هذه التغييرات.
- من الناحية الاجتماعية: يأخذ مفهوم التنمية معاني عدّة ويحمل مضامين متنوّعة ويعود ذلك لاختلاف التوجهات الفكرية والإيديولوجية لكل باحث. فالتنمية هي “تحوّل المجتمع الثابت STATIC إلى المجتمع المتغيّر DYNAMIC وفق احتياجات جماهير الشعب.[17]وهي “عملية شاملة معقّدة تضمّ جوانب الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية والأيديولوجية.[18] ” كما إنّ التنمية هي تغيير اجتماعي إرادي ومقصود… فهي بهذا المعنى تكون تطوّرا، حيث انتقالها بالمجتمع من طور إلى آخر، وتأخذه بيده إلى الأمام إلى الطور الأحسن والأفضل.[19] لهذا فهي ليست عملية اقتصادية بحتة وإنما هي عملية إنسانية تهدف إلى تنمية الإنسان في المجالين المادي والمعنوي.
ونحن اليوم في حاجة ماسة إلى صياغة تنمية تحقق لنا جملة من الغايات والأهداف وتشتمل على أبعاد مختلفة للتنمية دون الاقتصار على البعد الاقتصادي، وذلك بالتركيز على الجانب الكيفي لا الكمي. ومراعاة التفاعل بين الأبعاد المختلفة interactive، والتوافق بين الحركة الذاتية والدفع الخارجي للفعل التنموي، الذي عليه أن يرتبط بالإنسان دون الاقتصار على الجانب الاقتصادي المادي البحت، ووجود معايير للتقييم والتوجيه والتصويب تقوم على الشفافية والكفاءة. فالتنمية يجب أن تشمل إلى جانب العنصر المادي الجوانب المعنوية والمنظومة الثقافية التي توفر للفرد حاجاته الذاتية وتحدد له شبكة علاقاته مع المجتمعات المحلية والوطنية والعالمية. وتعمل على توسيع نطاق الخيارات المتاحة أمام الأفراد، كالتمكن من تعليم جيّد والعلاج الصحي والبيئة النظيفة الخالية من الأخطار، والحصول على الموارد التي تكفل مستوى عيش كريم، والمشاركة في الحياة السياسية، والثقافية… كما يجب أن يكون الإنسان هدف كلّ تنمية اجتماعية ووسيلتها الفعّالة ويجب أن تحقق جهود تلك التنمية للفرد مزيدا من الكرامة والأمن النفسي والاقتصادي والسياسي وتعمل على تمكينه من المعارف الصالحة والمهارات النافعة… فعملية تنمية الإنسان عملية تربوية بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى.[20]
- نظريات التنمية:
عندما يهتم الباحث الاجتماعي بموضوع التنمية لا يستطيع أن يتجاهل تغلغلها في النظرية السوسيولوجية، الاتجاه المحافظ بكافة أشكاله ومداخله والاتجاه الثوري بكافة أشكاله ومداخله وأهدافه”.[21]ضمن هذا الإطار فقد شهد القرن العشرين نقد وتهذيب وحتى مناقضة آراء الرواد الأوائل لعلم الاجتماع لتتأسس في الأخير مدرستان فكريتان بارزتان في مجال التنمية.[22]
- نظرية التحديث Modernisation- Theory
ظهرت في الخمسينات والستينات وتنهض على تحاليل كل من إميل دوركايم في مؤلّفه “تقسيم العمل الاجتماعي”[23] وماكس فيبر في مؤلّفه “الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية”[24]. وقد شكّلت ثنائية مجتمع تقليدي مجتمع حديث، وعملية الانتقال بينهما، الإطار العام لنظرية التحديث. وتمّ النظر من خلال هذه النظرية إلى التطوّرات التي حدثت في المجتمعات الأوروبية إثر قيام الثورة الصناعية نظرة إيجابية تفاؤلية باعتبارها الركيزة التي قامت عليها الانجازات الكبرى في الميادين الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. وعلى ضوئها حاولت معالجة التنمية في الدول المتخلّفة من خلال المنظور الغربي.[25] الذي يتمثّل في استبدال القيم التقليدية والتخلي عنها واعتناق القيم الحديثة المبنية على المنطق العملي والعقلانية.
- نظرية التبعية:Nderdeveloment Theory أوDepenency Theory
ظهرت هذه النظرية في الستينات من القرن الماضي، كردّ فعل على فشل السياسات التنموية التي اعتمدت على تحاليل مدرسة التحديث، وتنهض هذه النظرية وتستمدّ أفكارها من الإسهامات التي قدّمها كارل ماركس في تحليله للنظام الاقتصادي الرأسمالي، وتفسيره للنظم السياسية والاجتماعية بإرجاعها إلى الظروف المادية. وقدّمت هذه النظرية نفسها كبديل نظري لنظرية التحديث، وأسست لخطاب تنموي جديد متحرّر من هيمنة النموذج الغربي، الذي يسعى لإعادة إنتاج تجربته التاريخية الرأسمالية في الدول النامية.
- المفهوم الإجرائي للتنمية:
يعتبر المفهوم الإجرائي للتنمية بمعنى التنمية كاستراتيجية لتحسين وضع الشباب، أي من جهة أولى تكون بمثابة المشروع المادي والملموس ذو الأهداف القريبة المدى والمباشرة والتي تتلخّص في مساعدة الشباب على الاندماج في الحياة المهنية وتحقيق الاستقلال المادي والإقامي والاستقرار الاجتماعي، والمشاركة في الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية… وذلك عن طريق استقبال الشباب بالمنابر الحوارية للإعلام السمعي والبصري، ووضع الاستشارات الشبابية وإحداث القنوات التلفزية والإذاعية الموجهة للشباب. ومن جهة ثانية على التنمية أن تضمن للشباب الأهداف البعيدة المدى أو الاستراتيجية التي تسعى إلى تحقيق اندماج الشباب في المشروع التنموي الوطني والدولي.
إذن، مفهوم التنمية هو مفهوم مرن لم يحقق اجماعا حول مضمونه وأبعاده الأساسية، وتتنوّع الرؤى حوله بتنوّع المشتغلين عليه، وتنوّع انتماءاتهم واختصاصاتهم العلمية والمعرفية. إلا إنّ هناك نقطة إلتقاء بينهم جميعا تتمثّل في أن التنمية عملية تغيير اجتماعي إرادي وهادف.
- دور الدولة في تأهيل الشباب وإدماجه اجتماعيا ومهنيا عبر المشاريع التنموية
تعتبر فئة الشباب من أبرز وأهم فئات المجتمع خاصة فيما يتعلق بعملية التنمية. فهي عنصر هام لتنمية المجتمع وتغييره نحو الأفضل، والقادرة على تحمّل المسؤوليةفيالمستقبل والقادر أيضا على الاستثمار في المجالات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية. ولندرك جميعا بأنّ التكلفة الاجتماعية التي قد تنجم عن عدم الاستثمار في هذه الفئة غالباً ما تكون عالية، وإبعاده وإقصائه من كافة هذه الميادين سيعود بالضرر على المجتمع.
منهنالابدّمنالعملمعقطاعالشباب، وتعزيز قيم الاحترام المتبادل والتفاهم في الأوساط الشبابية، وتشجيع وتطوير السياسات التي تستهدف تنمية الشباب وادماجها في خطط التنمية الوطنية وتخصيص الموارد المالية لإنجازها، عبر اللجان الإقليمية والمنظمات الحكومية وغير الحكومية والدولية، والمنظمات المعنية بالشباب.
ويحتاج الشباب كذلك إلى إشراكه للمساهمة في مشروعات التنمية وفي كل المراحل التي تمرّ بها سواء من ناحية التخطيط أو التنفيذ، والبرامج والاستفادة من الخدمات التي تقدمها تنظيمات التنمية أو المشاركة في الخدمات العامة التي تزيد من وحدة وتماسك المجتمع أو الوعي بالقيم التي تسعى تنمية المجتمع إلى تحقيقها ويكون لديه الفرصة في أن يشارك في وضع أهداف التنمية، لأنّ تحقيق التنمية في المجتمع يتوقّف على مدى انخراطه في الفعل التنموي. يتطلب هذا الأمر تفهم ظروف الشاب وطريقة عيشه وتلبية حقوقه والتعاطي مع آماله وتطلعاته، لكونه العنصر الحيوي والفاعل الذي لن تتحقق التنمية والتغيير من دونه، ابتداءً من الأسرة إلى المؤسسة المدرسية ومروراً بمؤسسات العمل ومنظمات المجتمع المدني، ومشاركته في اتخاذ القرار في قضايا التنمية. ولا يمكن أن تكون التنمية منتجة إلا إذا توفّرت لها الجهود والوعي من كافة الأفراد، وإذا لم تنتهج المجتمعات هذا المنهج فإن الخطط القومية لن تحقق غاياتها وأهدافها المنشودة وسيضعف ذلك من مقوّمات التماسك الاجتماعي.
- المشاركة في التنمية :
تعتبرمشاركةالشبابفيالتنميةقيمةاجتماعية. ولاتكون هذه الشراكة فاعلة وناجحة من دون أن تكون هناك مشاركة حقيقية وفعلية لهم. فمشاركة الشباب يجب أن لا تقتصر على أحدفروع التنمية دون غيرها، ويجب أن تكون المشاركة في جميع النشاطات والمجالات. وإنّ أهمية مشاركة الشباب في العملية التنموية تمكن في تحقيق الفرد لذاته و شعوره بأهميته وقيمته، كما يشعر بحجم المشاكل التي يمكن أن تواجهه. وبعملية المشاركة تتحقق الرقابة على الأداء الحكومي وأجهزة الدولة المختلفة مما يحسّن من أدائها على الوجه الأفضل. وهو ما من شأنه أن يساهم في تعزيز فرص نجاحا لمشاريع التنموية.
- آليات مشاركة الشباب في النشاطات التنموية:
لا بدّ من وجود آليات لتحقيق المشاركة الفاعلة للشباب في التنمية: كضرورة وجود مؤسسات وقوانين يستطيع الشباب أن يمارس من خلالها حقوقه وحرياته، وايجادالمناخ الديمقراطي للمشاركة في إدارة شؤون البلاد، ووجود آليات الحوار والنقاش ومدى إطلاع الشباب على المعلومات وحريتهم في الوصول إليها، وإشراك المؤسسات الشبابية في عمليةالتنمية، وأن يتسم عمل المؤسسات سواءأ كانت حكومية أوغيرا لحكومية بالشفافية والمساءلة، وأنتعكس عملية التنمية احتياجات الشباب، والعمل على إزالة كل المعيقات التي تحول دون مشاركة الشباب سواء أكانت سياسية أواجتماعية أوثقافية أوإدارية أو اقتصادية…، وإيجاد الدعم الحكومي للمشاريع الشبابية بتوفير الدعم المادي والمعنوي لها. كما إنّ سياسة التعايش السلمي من شأنها أن تسهّل قيام المشاريع التنموية في البلدان العربية وتتيح لها إحراز التقدّم في عملية إعادة البناء الاقتصادي والاجتماعي.
- مدى تحقق الأهداف التنموية مقارنة بالاستراتيجيات والبرامج المعلنة لها
- التبعية المطلقة للأسلوب الغربي:
إن معظم بلدان العالم العربي عملت على تطبيق النموذج الغربي في جلّ مشاريعها التنموية دون الأخذ بعين الاعتبار للظروف الاقتصادية والاجتماعية المختلفة التي تسود في دول العالم العربي. فالاقتصاديين (العربي والغربي) مختلفين من حيث القدرات والإمكانيات ومن حيث ظروف النشأة. ولهذا فشلت بسبب التبعية المطلقة لمنظومة النظام الرأسمالي، وبسبب عدم الفهم العلمي لقضية التنمية. فالمجتمع العربي لا يمكن أن ينمي نفسه مع استمرار تبعيته لأسلوب الاقتصاد المطبّق في الدول الغربية.
- إقصاء الدول العربية لدور الشباب في البرامج التنموية:
إنّ الحكومات في الغالب تحدد برامج وأماكن تنفيذ مشاريع التنمية دون الرجوع إلى أفراد المجتمع والأخذ بآرائهم ومعرفة وجهات نظرهم قبل الإقدام على تنفيذها. وكثيرا ما يؤدي ذلك إلى التعارض بين المشاريع التنموية والقيم الاجتماعية والثقافية والأوضاع المجتمعية. وهو ما نتج عنه رفض الأفراد ووقوفهم موقفا عدائيا من هذه المشاريع التنموية، فتندلع الحركات الاحتجاجية الشعبية وتتأجج، ويهتز المجتمع وتكثر صراعات التي ينخرط فيها الشباب المتمرّد على الأوضاع القائمة بقوّة فهو بمثابة الوقود الذي يزيد من تأجيجها. وتتواصل هذه الظاهرة وتحتدّ مع تفاقم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية وبروز فئة الشباب كقوّة ضاغطة في المجتمع، لأنه قد تمّ إقصائه من قبل الدولة للمساهمة في تشكيل البرامج التنموية.
- ملّص الدول العربية من دورها تجاه تأهيل الشباب وادماجه اجتماعيا ومهنيا:
أصبحت الدول العربية في السنوات الأخيرة تتملّص من أدوارها شيئا فشيئا تجاه عملية تأهيل الشباب وادماجه اجتماعيا ومهنيا عبر المشاريع التنموية. وهو ما عمّق من زيادة تأزّم الفئة الشبابية، وعجز الدولة عن استيعابها واحتوائها لتحسين أوضاعها المزريـة. فيأس الشباب من الدولة ومن مشاريعها وبرامجها التنموية، وانصرف إلى مألات ومتاهات أخرى كالعبث والاستهتار ولم يعد من مشاغله بناء وطنه ونهضته والتضحية في سبيله، واختفى عنده الشعور بالمسؤولية وحلّ محلّها اللامبالاة… وهذا ما سيؤدي بالمجتمعات العربية إلى عيش حالة من التوترات الاجتماعية الحادة.
يمكن القول إذن، بأنّ استراتيجيات التنمية وخططها في البلدان العربية لم تتمكّن من تحقيق الاستقلالية الاقتصادية والاجتماعية للشباب، التي تحولت اليوم إلى حلم وطموح يسعى إليه الشاب بكل الوسائل لإدراكه وتحقيقه. كما إنّ الشباب بإمكانه أن يتبّع استراتيجيات متنوّعة ومختلفة يوفّرها بنفسه بمجهوده الخاص وبمعزل عن البرامج التنموية المحلية والوطنية للمرور إلى مرحلة الكهولة والاندماج في دائرة الفعل الاجتماعي.
الخاتمة
لقد تبيّن لنا من خلال تعرضنا لمفهومي الشباب والتنمية أنهما على علاقة وطيدة، كما انّهما يلتقيان ويختلفان في عديد المسائل. فمفهوم الشباب رغم عمقه التاريخي، فإنّ التحليل السوسيولوجي لم يتناوله بالتحليل إلا حديثا، مع ظهور الظاهرة الشبابية في البلدان الصناعية في فترة الخمسينات من القرن الماضي، وحديثا أيضا في البلدان النامية وخاصة العربية منها. أما التنمية فهي مفهوم مرن صعب التحديد نظرا لتعدد واختلاف النظريات والمقاربات وتنوع التجارب في مختلف الميادين، وقد طرأت عليه العديد من التغييرات والتحولات نتيجة التغيرات الطارئة على المجتمعات.ولنا أن نتساءل في هذا المستوى من البحث، عن أيّ نهضة عربية تنموية مستقبلية؟ فعلى ضوء الفكر التنموي المعاصر وواقع التنمية العربية، من البديهي القول بأنّ أيّ نهضة تنموية عربية مرتقبة منوطة بتحقيق العديد من الشروط، كتطوير الإطارات الشبابية في المجتمع اقتصاديا واجتماعيا، والتركيز على نوعية النمو وليس فقط على معدّلاته، والسعي لسياسة فاعلة في تنوّع مصادر الدخل الوطني، والاهتمام بقضايا البيئة، وتطوير القاعدة التكنولوجية والعلمية، وتنمية الثروة البشرية بمختلف جوانبها. كما إنّ العالم العربي لا يمكنه أن يغيّر من أوضاعه الاقتصادية إلا بقدر ما يطبّق خطّة تنموية تتفّق مع مختلف أبعاده الاجتماعية والنفسية والثقافية والتربوية والاقتصادية، ويكون هدفها الأساسي الارتقاء بالإنسان بجميع أبعاده في كلّ خططها واستراتيجياتها. وهذا يتطلّب من البلدان العربية جهدا كبيرا لانتهاج واتّخاذ المسار الصحيح في تنفيذ استراتيجيات التنمية العربية وتعزيز فرص نجاحها.
_______________________
[1] Durkheim (Emile) :Les règles de la méthode sociologique, Paris, éd PUF,1937, P.21.
[2] مجموعة من اللغوين العرب،المعجم الأساسي، لبنان، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم،1991، ص 665.
[3] مجموعة من المؤلفين، معجم الوسيط، اسطنبول، دار الدعوة، الطبعة الثانية، 2004ص 470.
[4] عباس (محمود عوض)، مدخل إلى علم النفس النمو: الطفولة- المراهقة- الشيخوخة، الإسكندرية، دار المعرفة الجامعية،1999، ص 139.
[5] فهمي (مصطفى)، سيكولوجية الطفولة والمراهقة، مصر، مكتبة مصر، 1998، ص 162.
[6] الزايدي (منجي)، ثقافة الشباب في مجتمع الإعلام، الدار البيضاء المغرب، مجلة عالم الفكر، العدد الأول، مجلّد 35، 2006، ص 203.
[7] Bourdieu (Pierre):La jeunesse n’est qu’un mot, in questions de sociologie, Paris, Ed Minuit, 1984, P.143
[8] G Galland (Olivier) : Sociologie de la jeunesse, Ed Armand Colin, Paris.1997.
[9] G Galland (Olivier):Sociologie de la jeunesse, Op. Cit. P.7.
[10] Galland (Olivier) : les jeunes, Paris, ed la découverte, 1987, P 6-7.
[11]جميعي (توفيق)، الشباب والتنمية في الشمال الغربي: دراسة ميدانية حول علاقة شباب عين دراهم بالبنك التونسي للتضامن والصندوق الوطني للتشغيل، أطروحة دكتوراه، تونس، قسم علم الاجتماع، كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية، 2004، ص 30.
[12] Durkheim (Emile) : Education et sociologie, édition P.U.F.Paris,1922.
[13]بشوش (محمد)، ملامح الشبيبة العربية في الخطاب العلمي العربي، ورد في مؤلّف الشباب والتغيير الاجتماعي، تونس، مركز الدراسات والأبحاث الاقتصادية والاجتماعية، سلسلة الدراسات الاجتماعية 10، 1984، ص11.
[14]جميعي (توفيق)، الشباب والتنمية في الشمال الغربي، مرجع سابق الذكر، ص 35.
[15] ابن منظور،لسان العرب المحيط، بيروت، دار لسان العرب، 1997، ص 825.
[16] فتح الله (سعد حسين)، التنمية المستقلّة المتطلّبات والاستراتيجيات والنتائجدراسة مقارنة في أقطار مختلفة، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 1990،ص22.
[17]بدوي (أحمد زكي)، معجم المصطلحات الاقتصادية إنكليزي، فرنسي، عربي، القاهرة، دار الكتاب المصري، 1987، ص 66.
[18] الحسيني(السيد)، التنمية والتخلّف، دراسة تاريخية بنائية، القاهرة، دار المعارف: سلسلة علم الاجتماع المعاصر، الطبعة الثانية، 1982، ص 5-6.
[19] الجوهري (عبد الهادي) و آخرون،دراسات في التنمية الاجتماعية، مدخل إسلامي، القاهرة، مكتبة نهضة الشرق،1986، ص8.
[20] بوعزيزي (محمد العربي)، 1991، “دور الثقافة في التنمية الاجتماعية”، تونس، في العنصر الثقافي في التنمية، مركز الدراسات والأبحاث الاقتصادية والاجتماعية، عدد17، ص 301-3003.
[21] السمالوطي( نبيل محمد توفيق)، 1987، علم اجتماع التنمية، دراسة في اجتماعات العالم الثالث، الإسكندرية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، الطبعة الثانية.
[22] ويبستر (أندرو) ، 1986. مدخل لسوسيولوجية التنمية، بغداد، دار الشؤون الثقافية العامة، الطبعة الأولى، ص62.
[23] Durkheim (Emile) : De la Division du travail social, Presses Universitaires de France, première édition, Paris, 1983.
[24] Weber(Max) : L’Éthique protestante et l’esprit du capitalisme, Gallimard, Paris2004.
[25] الرشدان (عبد الفتاح علي)، “رؤية في التنمية العربية نحو الحد من التبعية وتحقيق التنمية المستقلّة”، القاهرة، شؤون عربية، عدد 98، 1999، ص79.