
تجريب تداخل السردي ـ التاريخي في رواية ( تاء الخجل ) للكاتبة “فضيلة الفاروق”
أ.إيمان مليكي ـ باحثة في مرحلة الدكتوراه ـ جامعة العقيد الحاج لخضر باتنة
مقال نشر في مجلة جيل الدراسات الادبية والفكرية العدد 34 الصفحة 103.
الملخص :
يهدف هذا البحث إلى معرفة كيفية توظيف التاريخ في رواية ( تاء الخجل) للكاتبة “فضيلة الفاروق” ،و كيف تجاوزت هذه الرواية السرد التقليدي في خصوصية كتابية تجريبية للتاريخ ، استطاعت من خلالها مزج المرجعية بالجمالية ، أي مزج ما هو تاريخي بما هو سردي .
لذا جاءت خطة البحث مرتسمة من خلال ثلاثة عناصر ، تناولت في العنصر الأول : كتابة التاريخ الاجتماعي ، و من ثمة عرجت إلى : كتابة النص التاريخي عن طريق المحافظة على بنيته و شكله ، و في العنصر الأخير عولج : النص التاريخي المتماهي مع النص الروائي.
و خلص هذا البحث إلى مجموعة من النتائج ، أهمها أن الكاتبة “فضيلة الفاروق” استطاعت أن تكتب التاريخ دون أن تنتسب إليه أجناسيا ، عن طريق مزج التاريخ بالسردي ،و هذا من أجل إضاءة مرحلة تاريخية في الجزائر : العشرية السوداء ، و الكشف عن الآلام و الظلم الذي تعرضت لهما المرأة الجزائرية جرّاء هذه الأحداث الدامية .
الكلمات المفتاحية : التجريب / العشرية السوداء / مزج المادة التاريخية بالنص الروائي.
مقدمة :
التاريخ هو خطاب نفعي له وظيفة مرجعية في نقل الأحداث وفق تتابعها بأمانة تامة،و لهذا فالمؤرخ يلتزم الصدق في سرد الأحداث ، فتأتي حقيقية و شفافة ، في حين يلتزم معظم الروائيين التخييل في سردهم للأحداث ، فتأتي مزيجا بين الواقع و الخيال ، أي أن الرواية لم تتخل نهائيا عن الوظيفة المرجعية عندما أخرتها من اهتمامها في تقديم الوظيفة الجمالية عليها، فالرواية الجديدة مثلا توظف التاريخ ليبقى في خدمة مآربها ،و تبقى وفية لمادتها فلا تجعل من التاريخ هاجسا ، بل تقنية لتوخي الوعي النقدي ،و البعد الجمالي ،و بذلك فهي تجمع بين الهم في مرجعيته الواقعية و الهم الابداعي في وظيفته الجمالية.
و منه تأتي رواية (تاء الخجل )[1] للكاتبة “فضيلة الفاروق” وفية لمادتها، فلم تفقد خصائصها الجمالية حين استقت موضوعها من واقع ( العشرية السوداء في الجزائر) ،وبالتالي فإن استحضارها للمرجع الواقعي لم يقيدها بالتسلسل الزمني عند توظيفها للمادة التاريخية ،و على الرغم من طغيان الجانب التاريخي فيها على مستوى العناصر السردية ، فهي تبقى رواية غير تاريخية ، بل هي رواية تخضع الخطاب التاريخي لسلطانها وفق ما تقتضيه متطلبات الخطاب الروائي ،أي أنها تجعل من الوقائع التاريخية أداة لبناء متخيلها السردي ،عكس الرواية التاريخية التي تعتمد على المراجع التاريخية المباشرة في نقل أحداثها .
ليس هدفنا في هذا البحث توخي ماهية الرواية التاريخية وفق دلالتها التقليدية التي مثلها “جورجي زيدان ” عربيا ،و ليس مبتغانا عرض الجانب النظري بخصوص علاقة الرواية بالتاريخ ،و علاقة التاريخ بالواقع و غير ذلك ، بل الهدف هو الوصول إلى كيفية توظيف التاريخ في رواية ( تاء الخجل ) وأهدافه؟ و تبيان كيف تجاوزت هذه الرواية السرد التقليدي نحو خصوصية كتابية تجريبية للتاريخ ، تساير بها الواقع المأزوم و تتوافق معه؟ ،و كيفية تمازجهما أيضا ؟
و بالتالي سوف نهتم في هذا التحليل بأشكال حضور التاريخ في النص الروائي ،و كيف انتمى النص لزمان مأزوم بموضوعه و لغته ،و لكن ليس بمقارنة الوقائع التاريخية في النص كما هي في وجودها المادي ، أي أن اهتمامنا ليس برصد مدى مصداقية الكاتبة في سوق الأحداث التاريخية ، لأن ما يهمنا هو خصوصية العمل السردي ،و معيار الفن الروائي في توظيفه للتاريخ و ليس معيار الصدق التاريخي .
و عليه سنولي اهتماما واضحا لكيفية تمازج التوثيق بالفن و المرجعية بالجمالية ،و التاريخي بالروائي،و قد انصب اهتمامنا في رواية (تاء الخجل) لأننا لمحنا فيها طغيان هذه الظاهرة في نصها ، حتى على مستوى السير ذاتي فيها ،و هو الدافع الذي حفزنا لاتخاذها كنموذج تحليلي لمقاربتها من هذا الجانب.
العرض :
أولا ـ كتابة التاريخ الاجتماعي:
تحكي القصة في الصفحات الأولى في الرواية عن سيرة ذاتية للساردة ،و التي تحيل إلى الكاتبة بشكل غير مباشر ،لكن هذه السيرة لم تكن معنية بالقدر الذي كانت فيه وسيلة من أجل كتابة التاريخ، في الصفحات المتبقية في الرواية ،و من أجل عرض وضعية المرأة المهمشة و المضطهدة داخل أسرتها و خارجها ،و العنصر الضحية دائما في جميع المآسي ، تقول في مستهل السرد : ” منذ العائلة … منذ المدرسة … منذ التقاليد… منذ الإرهاب كل شيء عني كان تاءً للخجل، كل شيء عنهن تاءً للخجل ، منذ أسمائنا التي تتعثّر عند آخر حرف ، منذ العبوس الذي يستقبلنا عند الولادة ، منذ أقدم من هذا ، منذ والدتي التي ظلت معلقة بزواج ليس زواجا تماما ، منذ كل ما كنتُ أراه فيها يموت بصمت ، منذ جدتي التي ظلت مشلولة نصف قرن من الزمن ، إثر الضرب المبرح الذي تعرضت له من أخ زوجها و صفقت له القبيلة ،و أغمض القانون عنه عينيه. منذ القدم ، منذ الجواري و الحريم ، منذ الحروب التي تقوم من أجل مزيد من الغنائم ،منهنّ … إليّ أنا ، لا شيء تغيّر سوى تنوع في وسائل القمع و انتهاك كرامة النساء. لهذا كثيرا ما هربت من أنوثتي ، و كثيرا ما هربت منك لأنك مرادف لتلك الأنوثة.”[2]
في ( تاء الخجل ) تشتبك خصوصيات الذات الساردة الحميمية مع ماهو عام وماهو تاريخي ،و تتجاوز سيرتها في الخوض في تفاصيل ذهنية عائلتها الصغيرة والكبيرة ،و اعترافات ضحية تعاني القمع الاجتماعي ،وتشكيل مصيرها صورة لذلك التاريخ ،و التطلع إلى تقارير صحفية و غير ذلك ، فالرواية هي في آن واحد سيرة وتاريخ اجتماعي ، دون أن تنتسب إلى واحدة منهما ، لكنها تميل إلى الطرف الثاني كونها تشتغل في إبراز القيم و العادات و التقاليد ،و رصد ذهنيات المجتمع الذكوري التي شكلت معوقات المرأة و ساهمت بالدرجة الأولى في قمعها و تهميشها. و بهذا تكون الكاتبة قد نقلت رؤية جديدة عالجت فيها التاريخ الاجتماعي المأساوي للمرأة المهمشة ،و مثل هذا العمل لا تلتفت إليه كتابات المؤرخين و تتجاوزه بادعائهم الموضوعية و الحياد ، فـ “التاريخ الاجتماعي الذي تقوم عليه كل رواية يكون سعيها قائما على تأمل المجتمع الذي انكتبت فيه و له ، هو فعل راهني يشكل أحد تجليات الحداثة”[3].
و بهذا تكون الكاتبة أدت دور مؤرخ الحياة اليومية للتقاليد الجماعية ،و التمزقات النفسية التي سببتها الأزمات الاجتماعية في حقبة التسعينيات،و بهذا التحديد الزماني تضعنا الرواية في قلب فاجعة العشرية السوداء ،وقد تم إدخال المادة التاريخية في الرواية داخل السياق النصي ،وفق شكلين :
ثانيا ـ كتابة التاريخ عن طريق المحافظة على بنيته و شكله :
يقول السارد :
” ثم ابتداءا من عام 1995 أصبح الخطف و الاغتصاب استراتيجية حربية ، إذ أعلنت الجماعات الاسلامية المسلحة “GIA” في بيانها رقم 28 الصادر في 30 نيسان (أفريل) أنها قد وسّعت دائرة معركتها:« للانتصار للشرف بقتل نسائهم ، و نساء من يحاربوننا أينما كانوا، في كل الجهات التي لم نتعرض فيها لشرف سكانها،و لم نحاكم فيها النساء(…) و سنوسع أيضا دائرة انتصاراتنا بقتل أمهات و أخوات و بنات الزنادقة اللواتي يقطن تحت سقف بيوتهن و اللواتي يمنحن المأوى لهؤلاء…»” [4]
إن هذا النص التاريخي ورد كما جاء في مصدره ، فحافظت الكاتبة عليه عن طريق قطع السرد الروائي و تبيانه على شكل بنية سردية مستقلة بحصره بين مزدوجتين في المتن الروائي ،و أشارت إليه في ملحق الهوامش، كالتالي : (* الخبر الأسبوعي ، العدد 75من 9 إلى 15 أوت 2000.) [5]
إن ذكر النص التاريخي مستقلا لا يعني أنه يحدث قطيعة مع فنية النص الروائي ، بل قد جاء وفق هذا لتناسبه و المحتوى ،و بغية إثباته أيضا ، تأكيدا للمتلقي أن المتخيل السردي في جانبه التاريخي يستند إلى حقائق موثقة ،و نلاحظ أن (تاء الخجل) تمكنت من مزج ماهو تاريخي بما هو متخيل ، بسبب كفائتها على الامتصاص ،و يرجع هذا إلى انفتاح بنيتها السردية .
و مثل هذا ما نجده في الآتي :
” وحدهن المغتصبات يعرفن معنى انتهاك الجسد ،و انتهاك الأنا ،وحدهن يعرفن وصمة العار ،وحدهن يعرفن التشرد ،و الدعارة ،و الانتحار ،وحدهن يعرفن الفتاوى التي أباحت “الاغتصاب” : « الأمير هو الذي يهديها. لا يقبّلها إلا من أهديت له ،و بإذن الأمير . لا تجرد من الثياب أمام الإخوة. لا يجوز النظر إليها بشهوة . لا تضرب من الأخوة بل ممن أهديت له، فعليه أن يفعل بها ما يشاء في حدود الشرع. إذا كانت سبية و أمها ، دخلت على أمها ، فلا يجوز أن تدخل على ابنتها . إذا وطأها الأول فلا يجوز وطؤها إلا بعد أن تستبرئ بحيضة ، و تجوز المداعبة (مع الغزل). إذا كان الأب و ابنه فلا يجوز الدخول على نفس السبية و أختها ، لا يجوز الجمع بينهما مع مجاهد واحد. »”[6]
أما توثيق هذه المعلومة التاريخية الموظفة في متن الرواية ورد كالآتي : ” * وثيقة عُثر عليها بعد مجزرة بن طلحة و اجتياح الجيش الوطني الشعبي لمنطقة أولاد علال ، وثيقة توضح أدبيات “الوطء” حررت يوم 5 جمادى الأولى 1418هـ كما هو واضح . ومصدر الفتوى مجهول تماما.”[7]
الكاتبة لا تستمد أحداث هذه الواقعة من كتاب تاريخي موثق ، لذا فإنها قد لجأت للتوثيق / الهامش بغية تقديم مصداقية أكثر عن كلامها ،و إضافة إلى مهمة الهامش في كسب يقين المتلقي ،و القيام بدور التوضيح ،و ربط الواقع بالنص ، فهو يتخذ بعدا آخر كونه ” النص الموازي ، نص الواقع بواقعيته مقابل نص الرواية بفنيتها ،و الرواية التي يرويها واقعها هي غير الرواية التي يرويها الكاتب ، رواية الكاتب كتابته ،و كتابته هي استكشاف طاقة اللغة على التغلغل في النفس،و بيان أثر الواقع و الوقائع في تلك النفس،من هنا نستطيع القول إن النص قد جاء مفتوحا على الواقع من زاويتين ، رواية الواقع كما هو و قد جاءت في الهامش لتبيّن هامشيّة النص الذي ينقل الواقع كما هو ،ورواية الشخصية الكاتبة ، الذات الكاتبة ، متأثرة بهذا الواقع.”[8]
لقد نقلت الكاتبة أحداث العشرية السوداء من زاوية الاغتصاب الارهابي للمرأة ،واستنطقتها ـ الأحداث ـ بلغة احصائية و تقريرية ،و قامت بتهميش ما دونته ، حتى لا يبقى الكلام مجرد انطباعات دون أدلة ،و لكي تثبت علاقة النص بالواقع المرجعي أيضا ،فالكاتبة كانت تستطيع تدوين ما جاء في الهامش على المتن دون أن يختل البناء و دون أن يكون عبئا على العمل السردي ، لكنها أرادت استغلال فضاء الهامش بغية نقل النص من شكله التقليدي إلى شكل جديد.
ثالثا ـ النص التاريخي المتماهي مع النص الروائي:
يغلب على الرواية تلك الأحداث التاريخية الممزوجة مع نصها ،و المشتقة من مجموع أحداث العشرية السوداء ،و هنا لا تنقل الكاتبة النص بحرفيته و لا توثقه، كون النص التاريخي متماهي مع النص الروائي، مثل : ” 550 حالة اغتصاب (لفتيات و نساء) تتراوح أعمارهن بين 13 و 40 سنة سجلت تلك السنة. تضاربت الأرقام بطريقة مثيرة للانتباه في حضور قانون الصمت . 1013 امرأة ضحية الاغتصاب الإرهابي بين سنتي 1994 و 1997، إضافة إلى ألفي امرأة منذ سنة 1997. و البعض يقول إن العدد يفوق الخمسة آلاف حالة . و لا أحد يملك الأرقام الصحيحة ، إن السلطات مثل الضحايا تخضع لقانون الصمت نفسه.
جاءت هذه السنوات متلاحقة لنصنع سجني الذي لم اتوقعه ، سجني الانفرادي ، داخل وطن مليء بالقضبان.إذ لم تعد أسوار العائلة هي التي تستفز طير الحرية في داخلي للهروب ، صار الوطن كله مثيرا لتلك الرغبة ، مثلي مثل الملايين الشباب الحالمين بالهجرة إلى حيث النوم لا تقضه الكوابيس، صرت أخطط للهروب . أريد هواء لا تملأه رائحة الاغتصابات”[9].
نلاحظ هنا أن الكاتبة أفادت من أسلوب الكتابة التاريخية بحيث تذكر السنة ثم تذكر ما جاء فيها من أحداث ،و بالتالي فقد أفادت منه ليس كجنس فقط بل كلغة أيضا ،لكنها تسعى من وراء هذا بالدرجة الأولى إلى رصد التاريخ ،و نقده بنزعة ذاتية منفعلة و الكشف عن المسكوت عنه و انتقاد الواقع ،و تعرية حقائق كانت و لا تزال موجودة في المرجع الواقعي ،إذ ” لا يكفي أن يمتلك الكاتب الجرأة في طرح القضايا بحماس ،و نقد الأوضاع بعنف ،بل لا بد من رصد مرجعي ثري بالمعارف الكفيلة بإضفاء سمة موضوعية على نقده حتى يجد مصداقية في التاريخ ذاته ،و لا يكون معزولا عن سياقاته و حتى لا يتحول ذلك النقد إلى تجن على التاريخ”[10].
يقول السارد :” ثم أشارت إليّ أن أسكت ، و واصلت الحديث :
هل تعرفين ماذا يفعلون بنا؟ إنهم يأتون كل مساء و يرغموننا على ممارسة “العيب” ،وحين نلد يقتلون المواليد ، نحن نصرخ و نبكي و نتألم و هم يمارسون معنا “العيب” ،نستنجد ، نتوسلهم، نقبّل أرجلهم ألا يفعلوا ذلك و لكنهم لا يبالون.
علّت كمّيْ جلبابها و قربت معصميها المشوهين مني :
ـ انظري … ربطوني بسلك و فعلوا بي ما فعلوا ، لا أحد منهم في قلبه رحمة ،و حتى الله تخلى عني مع أنني توسلته. أين أنت يا رب ، أين أنت يا رب؟
صار صوتها يرتفع شيئا فشيئا ، ثم صارت تصرخ و بدأت تشد شعرها و تمزق ثيابها ،وصراخها يعلو.”[11]
إن هذه الأحداث التاريخية المتماهية مع النص الروائي ، نقلتها الشخصية الرئيسية بوصفها شاهدة عليها ،وعايشت فترة الأحداث. و قد تسنى للكاتبة المزج بين ما هو تاريخي و ما هو تخييلي عن طريق الجمع بين الزمنين الماضي و الحاضر ، فالماضي ينفتح على الحاضر ،و يستمر الماضي في الحاضر . و هذا التداخل هو الذي كسر التسلسل الزمني الذي يتميز به النص التاريخي و أدى بالأحداث أن تتماشى وفق منطق السرد الروائي الذي يتلاعب بالزمن ، فيقدم أحداث و يؤخرها ،و بهذا فهو يتصرف في المادة التاريخية و يخضعها للبناء الفني ،و بالتالي فمبتغى الرواية هو تحقيق الممهاة بين الماضي و الحاضر في خطابها الفني.
كما أن الرواية تأخذ من خصائص النص التاريخي توظيفها للضمير الغائب ،فيتموقع السارد خارج السرد و لا يشارك في الأحداث بصفته شاهدا عليها ، مثل : ” بقيت مذهولة ، عاجزة عن التصرف ، دخلت ممرضتان طلبتا مني الخروج ، لم أخرج ، بقيت واقفة قرب الباب ، أزاحتا الغطاء فإذا برقعة كبيرة من الدماء تغطي ساقيها ، أزالتا حفاض القطن المشبع بالدم ،و اللحاف مع قطعة بلاستيك ، كان المنظر مفزعا ، أغمضت عيني و ابتعدت، بعد لحظات خرجت الممرضتان ، استوقفت إحداهما و سألتها : ما بها ؟”[12]
أما السرد الروائي فينوع في الضمائر ، لأن الرؤية السردية فيه تتميز بالعمق و الولوج إلى أعماق الأشياء[13] ، مثل : ” كان الموت يحاذيها تماما ،و قد صمّمت على ألا أبكي أمامها أبدا ، اقتربت منها ، لمست يديها المييتتين ، قالتا البرد بصيغة مخيفة جدا. قالتا الموت بالأحرى. ارتبكتُ ، فتوجهتُ نحو النافذة لإغلاقها ، و لكنها بادرتني:
ـ لا تغلقيها أريد هواء.
ـ لكن يديك كقطعتي ثلج.
ـ نار الغضب لا يطفئها الثلج . لا يطفئها شيء.
لم أجد ما أقوله لها ، فأدرت الراديو حتى لا يزيد ارتباكي.
قالت المذيعة :
ـ يومكم كذب اليوم ، حضروا أكاذيبكم الجميلة ، و اتصلوا بنا ، سنختار أجمل و ألطف كذبة و لكم منا هدايا جميلة .”[14]
إن الوقائع التاريخية التي وظفتها الرواية هي أحداث سقوط شهدتها الجزائر إثر فترة العشرية السوداء ،” ها هي أيام الثورة تعود ، الموتى في كل مكان ،و القبور كالمقاهي يزورها الناس أكثر من مرة في اليوم “[15].سردت من خلالها معاناة المرأة المغتصبة من طرف الارهاب و همجية هذا الأخير ،و عرضت كيف يتبرأ الآباء من بناتهن المغتصبات و كيف ينتحرن أو ينقلن إلى المصحة العقلية .
كما أن النص الروائي استدعى الشخصيات التاريخية عن طريق ذكر أسمائها مثل : المناضلة النسوية “خالدة مسعودي ” ،أو عن طريق ذكر أقوال تلك الشخصيات التاريخية ، مثل :
ـ قول الرسول صلى الله عليه و سلم : “رفقا بالقوارير”[16]
ـ ” قال “غي دي كار” امرأة و ” المرأة تعشق السرد لأنها تقاوم به صمت الوحدة “[17]
ـ ” و قفزت إليها منقادة بمقولة لفاطمة المرنيسي ” إن الحلم أساسي بالنسبة للذين لا يتوفرون على السلطة”[18].
ـ “وحده الصمت له الموهبة ” عبارة للكاتب الجزائري مالك حداد”.[19]
تحيل هذه الأقوال المتناثرة في النص و المنسوبة إلى شخصيات تاريخية إلى إفادة الخطاب الروائي من اللغة التاريخية ، كصوت آخر ، ساهم جنبا إلى جنب مع الأصوات الأخرى التي سمحت لها الكاتبة بالظهور ، إلى خلق تعددية صوتية ، جعلت من الرواية حوارية و منفتحة على الآخر ، مما يجيز لنا الحكم عليها ـ من هذا الجانب ـ بأنها رواية تنتمي إلى تيار التجديد.
الحديث عما هو خارجي يتيح فرصة أكبر و أعمق لدراسة أبعاد الرواية في علاقتها بالتاريخ [20] ،و من هنا فإن (تاء الخجل) بتوظيفها للمادة التاريخية جسدت رؤية وموقف تجاه هذا التاريخ ،و أرادت من ذلك تلمس عدة أبعاد ، أهمها موقف الشخصية النسوية من العشرية السوداء ،و تحطم حاضرها ،و وصف العنصر الارهابي بأنه وحش غابة و همجي ،و هو دعوة لإعادة النظر عبر كتابة جديدة في معاملة المرأة ، عن طريق لسان السارد : ” لكنني وجدت نفسي في مكتبي بمقر الجريدة في آخر النهار ، كتبتُ الكثير و قلتُ في النهاية رفقا بالقوارير”[21] ،و بالتالي ما نقلته الرواية هو استنطاقها للواقع المأساوي للمرأة ،و قد تسنى لها ذلك فقط عند استضافة الرواية البعد التاريخي لها ،و من هنا يتأكد أهمية الربط بين النص التخييلي و الواقع ، يقول “فيصل دراج” مأكدا هذه الفكرة: “المتخيل الخالص ، المبرأ من خارجه ، لا وجود له ، إلا إن كان هذيانا أو ثرثرة فارغة . يتكشف الأدب ، مرة أخرى ، ممارسة اجتماعية ، و تستبين العلاقة الأدبية علاقة اجتماعية تعطف على علاقات أخرى “[22].
الخاتمة :
تم تحليل هذه رواية ( تاء الخجل ) للكاتبة “فضيلة الفاروق” عن طريق استبيان التقاطعات الكثيرة على مستوى بنية خطابها السردي مع وقائع فترة العشرية السوداء ،و كانت الغاية منذ البداية هو الكشف عن كيفية تمازج المادة التاريخية بالنص الروائي ،و قد تم الوقوف عند ذلك في قدرة الكاتبة على المزج بينهما في لحمة واحدة ،و هذا التمازج هو ما انزاح بـرواية (تاء الخجل) نحو الرواية التي تستمد مادتها من الواقع ،و هدفها كانت من أجل إضاءة مرحلة تاريخية عانت فيها المرأة الويلات بشدة و على كافة المستويات ،و قد جرتها هذه الأحداث المأساوية والدامية إلى توظيف التاريخ في نصها الروائي وفق شكلين : الأول عن طريق المحافظة على بنيته و شكله ،و الثاني عن طريق تماهي النص التاريخي مع النص الروائي .و هنا تبرز مهارة الكاتبة في تحويل المادة التاريخية الجاهزة إلى تقنية حداثية لبناء خطابها السردي ،و هذا ليس من أجل استعادة الماضي فحسب ، بل من أجل خدمة الحاضر و عرض همومه أيضا،و المتمثل في مآسي المرأة الجزائرية وقتها ،و من هذه الزاوية تتخذ خصوصيتها في الحداثة ، ذلك أن مثل هذه الكتابات أزاحت وظيفة الأساليب الواقعية التي لم تعد قادرة على التعبير عن الواقع ، و عبّرت عنه وفق أسلوب حداثي قادر على إثراء الواقع نصيا ،عن طريق تداخل ماهو سردي بما هو تاريخي .
قائمة المصادر و المراجع :
ـ بوشوشة بن جمعة ، سردية التجريب و حداثة السردية في الرواية العربية الجزائرية ، المطبعة المغاربية للطباعة و النشر و الإشهار ، تونس ، ط1 ، 2005.
ـ حكمت النوايسة ، وعي الكتابة ، دراسة في تجربة إلياس فركوح السردية ، أمانة عمان ، الأردن ، ط1، 2008.
ـ سليمة عذاوري ، شعرية التناص في الرواية العربية ، الرواية و التاريخ ، تقديم واسيني الأعرج ، دار رؤية للنشر و التوزيع ، القاهرة ، ط1 ،2012.
ـ فضيلة الفاروق ، تاء الخجل ، منشورات ضفاف ، منشورات الاختلاف ، بيروت ، الجزائر، ط3 ، 2013 .
ـ فيصل دراج ، الرواية و تأويل التاريخ ، المركز الثقافي العربي ، الدار البيضاء ، ط1 ، 2004.
ـ مجموعة من المؤلفين ، المحكي ، الروائي العربي أسئلة الذات و المجتمع ، تقديم سعيد بوطاجين ، تحت إشراف منى بشلم ، دار الألمعية للنشر و التوزيع ، الجزائر ، ط1 ، 2014.
ـ محمد رياض وتار ، توظيف التراث في الرواية العربية المعاصرة ، منشورات اتحاد كتاب العرب ، دمشق ، د.ط ، 2012 .
[1] فضيلة الفاروق ، تاء الخجل ، منشورات ضفاف ، منشورات الاختلاف ، بيروت ، الجزائر، ط3 ، 2013 .
[2] الرواية ، ص 09 ، 10.
[3] مجموعة من المؤلفين ، المحكي ، الروائي العربي أسئلة الذات و المجتمع ، تقديم سعيد بوطاجين ، تحت إشراف ، منى بشلم ، دار الألمعية للنشر و التوزيع ، الجزائر ، ط1 ، 2014،ص 219.
[4] الرواية ، ص 38.
[5] ينظر هامش الرواية ، ص 38.
[7] ينظر هامش الرواية، ص 59.
[8] حكمت النوايسة ، وعي الكتابة ، دراسة في تجربة إلياس فركوح السردية ، أمانة عمان ، الأردن ، ط1، 2008، ص 145 ، 146 .
[10] بوشوشة بن جمعة ، سردية التجريب و حداثة السردية في الرواية العربية الجزائرية ، المطبعة المغاربية للطباعة و النشر و الإشهار ، تونس ، ط1 ، 2005، ص 281.
[12] الرواية، ص 48.
[13] محمد رياض وتار ، توظيف التراث في الرواية العربية المعاصرة ، منشورات اتحاد كتاب العرب ، دمشق ، د.ط ، 2012 ، ص 112.
[14] الرواية ، ص 75.
[15] الرواية ، ص 40.
[16] الرواية ، ص 96.
[17] الرواية ، ص 12.
[18] الرواية ، ص 43.
[19] هامش الرواية ،ص 71.
[20] سليمة عذاوري ، شعرية التناص في الرواية العربية ، الرواية و التاريخ ، تقديم واسيني الأعرج ، دار رؤية للنشر و التوزيع ، القاهرة ، ط1 ،2012، ص 208.
[21] الرواية ، ص 96.
[22] فيصل دراج ، الرواية و تأويل التاريخ ، المركز الثقافي العربي ، الدار البيضاء ، ط1 ، 2004 ، ص 22.