
نقد الحداثة الغربية في فكر المسيري، أ.لندة واضح ـ جامعة الجزائر ـمقال نشر في العدد 26 من مجلة جيل الدراسات الأدبية والفكرية الصادر في شهر يناير 2017، ص 25، ( إضغط هنا لتحميل العدد كل العدد).

مقدمة:
إذا كانت معظم الآراء الفكرية في العالم العربيّ و الإسلامي حول موضوع الحداثة الغربية تتوّزع غالبا بين الرّفض المطلق، الذي مثّله الإصلاحيون الإسلاميون عموما، خاصّة بدعوى المحافظة على الهوية العربية الإسلاميّة، والتي من شأن الحداثة أن تقضي نهائيّا عليها، والترحيب والقبول المطلق، الذي تبنّاه الكثير من التنورين العرب، المتأثّرين بالناجز الحضاري الغربي؛ حيث وجد هؤلاء ضالتهم في تبنيها كخيار وحيد للنّهوض. فإنّ هناك اتجاها تبلور حاليا يجمع بين الاتجاهين الاثنين يستوعب الثقافتين: العربية الإسلامية والحداثية الغربية، و يحاول الخروج بمشروع يزاوج بينهما في إطار إنسانيّ عالميّ مشترك، انطلاقا من النقد المعرفي المؤسّس للحداثة الغربية والفارغ من الأيديولوجيا وظاهرة التعصّب الفكري و هذا ما يحاول المسيري بناءه من خلال نقده للحداثة الغربية، وبما أنّه عاش زمنا في أمريكا، و درس الكثير من الفلسفات الغربية استطاع أن يكشف خبايا، و عيوب و أزمات الحداثة الغربية، فقدّم لنا دراسات معرفيّة لمختلف جوانب الحداثة الغربيّة. و الإشكال الذي يستوقفنا في هذا الموضوع هو: هل كان نقد المسيري للحداثة الغربية مؤسّسا وفق منهج معرفي ورؤية معرفية، أم كان نقدا مصبوغ بطابع الأيديولوجيا؟.
أولاـ تعريـــــف المسيــــري للحداثــة:
لم يشذّ المسيري كثيرا عن الدارسين الغربين والعرب حول البدايات الأول للحداثة كمفهوم ومشروع؛ حين أجمعوا على أنّها إنتاج غربي أوروبي، انطلقت هناك، و تبلورت هناك و استحالت هناك أيضا؛ حيث أكّد هو الآخر أنها: “ظاهرة غربيّة انطلقت من أوروبا مع الثّورة الفرنسية عام 1789 م، واستطاعت أن تحدث التّغيير في النّظام السّياسيّ من النّظام الملكيّ إلى الدّيمقراطيّ الّذي يقوم على سلطة الشّعب، والمجالس الممثّلة للشّعب، واعتماد الليبراليّة نظاما اقتصاديّا، والمساواة بين الجنسين على الصّعيد الاجتماعيّ، وإلزامية التّعليم للأطفال، والانتقال من نموذج الجماعات والطّوائف الدّينية المتحاربة إلى المواطن. لا ابن الطائفة أو الدين، وتذوب بذلك الطوائف والأديان في بوتقة مدنيّة علمانيّة واحدة لا تمييز فيها على أساس عرقيّ أو دينيّ، وبهذا تكون علاقة المواطن بالدّولة لا بسلطة أخرى”[1]. لذلك ستأتي انتقاداته مركّزة حول الإنسان الغربي باعتباره الحامل للمشروع و المجتمع الغربي باعتباره الأرضية الخصبة التي طبّق عليها.
يذهب مفكّرنا إلى الاعتقاد أنّ مصطلح “الحداثة“ الغربيّ الوارد من الغرب ليس بريئا، خاصّة أن الاعتقاد السائد لدى الكثير من النّخب العربية أنّه محايد ومحدّد المعنى والدلالة، وأنّه ليس له تاريخ على الإطلاق، أو أنّ تحوّلاتها لا تختلف من حضارة لأخرى، أو من حقبة تاريخيّة لأخرى، وأنّ هناك حداثة واحدة، ونحن عادة ما نعود للمعاجم الغربيّة لنعرف المعنى لأيّ مصطلح، وما المقصود منه على وجه الدقة، وبعد أن نقرأ كلّ التّعريفات تصبح الإشكاليّة التي تواجهنا هي كيف نترجمه؟، دون أن نختبرها أو أن نعرف مدى مطابقتها للواقع[2]، وبالرغم من كثرة و تنوّع التعريفات لمصطلح الحداثة إلاّ أن هناك:” ما يشبه الإجماع على أنّ الحداثة مرتبطة تماما بفكر حركة الاستنارة الّذي ينطلق من فكرة أنّ الإنسان هو مركز الكون وسيّده، وأنّه لا يحتاج إلاّ إلى عقله سواء في دراسة الواقع أو إدارة المجتمع أو للتّمييز بين الصّالح والطّالح…هذا التّعريف يبدو جامعا مانعا أو على الأقل كافيا. لكن في الحقيقة أنّه لا يفي بالغرض شأنه شأن جلّ التّعريفات الأخرى. لماذا؟. لأنّه إذا عرّفناه بأنّه: استخدام العقل والعلم والتّقنية في التّعامل مع الواقع، فإنّنا بذلك نستبعد البعد المعرفيّ الكلّيّ والنّهائيّ، ولكي نعرّفه تعريفا دقيقا مركّبا لا بدّ من استعادة البعد المعرفيّ له”[3]. بمعنى أنّه خلف كلّ مصطلح و مفهوم هناك بعد معرفي خفّي يختبئ خلف المعنى الظاهري المعروف، لذلك فإن إدراك كنهه يحتاج منا إلى الكثير البحث.
و من خلال التّحديد الغربيّ للمفهوم يتّضح أنّ جوهر الحداثة الغربية هو تنميط الواقع (الطّبيعة والإنسان)، وفرض الأحادية الماديّة عليه، بهدف إدارته وتوظيفه على أحسن وجه باعتباره مادة استعمالية. فالأحاديّة المادية تعبّر عن منحى إدراكيّ ماديّ حسّيّ، يستوعب الواقع من خلال مقولات إدراكيّة وتحليليّة وتصنيفيّة ماديّة، واختزال الواقع بأسره إلى مستوى ماديّ واحد لا يعرف أيّ شكل من أشكال الثّنائيّة.[4] أيّ: إنّ له زاوية واحدة يُنظر إليه بها دون باقي الزّوايا الأخرى، لذا لابدّ لنا من البحث في زواياه غير المبحوث فيها لنعرف حقيقته وماهيته. وبعد أن فعل ذلك اكتشف المسيري أنّ الحداثة الغربيّة ليست مجرّد استخدام العقل والعلم والتقنيّة. وإنّما استخدامها خارج نطاق إنسانيّ أو أخلاقـي.[5] أيّ: إنّها وعلى وجه الدّقة والتّحديد “استخدام العقل والعلم والتّقنية المنفصليـن عن القيمة (*)value-free في التّعامـل مع الواقـع“. هذا ما يحيلنا إلى البعد المعاديّ للإنسـان الّذي تمّ إخفـاؤه عن وعي تامّ أو غير وعيّ. وفي هذا الإطار أصبح العالم الغربيّ منفصلا عن القيمة بمعنى لا توجد معايير إنسانيّة أخلاقيّة أو دينيّة تحكم مختلف التعاملات والمعاملات الإنسانيّة، بحيث أصبح من الصّعب التّمييز بين العدل والظّلم وبين الحقّ والباطل بل وبين القبيح والجميل.[6] بل و بين الجوهريّ والنّسبي بل وبين الإنسان والطّبيعة، أو بين الإنسان والمادة.
فالحداثة إذن: في المجال التّداولي الغربيّ تعني حقيقة إزاحة كلّ ما له علاقة بالقيمة الأخلاقيّة ـ الرّوحية لصالح المادة المتضمّنة كلّ الخصائص البيولوجيّة الإنسانيّة كالتّركيبة الجنسيّة والجسمانيّة. لتصبح التّكنولوجيا هي الآلية الّتي توسّل بها الإنسان الغربيّ لتحقيق مشروعه الحداثي.
وهذه هي الحداثة الّتي تبنّاها العالم الغربيّ والّتي تجعله ينظر إلى نفسه على اعتبار أنّه هو( وليس الإنسان والإنسانية) مركز العالم، وأن ينظر إلى العالم على أنّه مادة استعماليّة، يوظّفها لصالحه باعتباره الأكثر تقدّما وقوّة، ولذا فإنّ منظومة الحداثة الغربيّة هي منظومة إمبريالية داروينيّة، وهذا هو التّعريف الحقيقيّ للحداثة كما تحقّقت تاريخيا.[7] بمعنى أنّ المسيري يختزل كلّ التعريفات للحداثة في المفهوم ىالدارويني وكأنّ أراد أن يقول بأنّ الحداثة الغربية ما هي إلاّ فلسفة داروين المادية محقّقة تاريخيا، كما أنها تلغي جميع العقول لصالح العقل المادي، حيث يقول:” المشكلة أنّ التعريفات النّبيلة السّهلة هي التي كُتب لها الذيوع، والّتي أصبحت إطارا للحوار بخصوص هذه الحركة الفلسفيّة الغربيّة. وكلّ ما تدعو إليه هذه التّعريفات نبيل للغاية، ولا يمكن للإنسان أن يختلف معها، فمن ذا الّذي يرفض حقّ الاجتهاد والاختلاف، وتحكيم العقل في جميع القضايا. كما لا تكمن في استخدام العقل أو عدم استخدامه وإنّما في نوع العقل الّذي يستخدم (عقل ماديّ/ أداتي أم عقل قادر على تجاوز المادة)، وفي الإطار الكلّي الّذي يتحرّك فيه هذا العقل والمرجعية النّهائية الّتي تصدر عنه”.[8] نفهم من هذا أنّ العقل الحداثي الغربيّ المادي يقف في مقابل الروح، الأخلاق، والإله. و أنّها ـ الحداثة ـ قامت على أساس استبعاد الرّوح و المطلق لصالح المادة والنسبيّ.
وبعد أربعة قرون من الاستنارة اكتشف الإنسان الغربيّ أنّ الأمور ليست بهذه البساطة، لأنّها لو كانت كذلك لكنا قد قضينا على الشّر والأشرار (أو معظمهم على الأقل) منذ زمن بعيد، ولما ظهرت في العالم الغربيّ (الّذي طبّق مُثل الاستنارة منذ أمد بعيد) حركة عنصريّة كاسحة في القرن التّاسع عشر، وتشكيل إمبرياليّ شرس أباد الشّعوب وأذلّها، ولما اندلعت حربان عالميتان (غربيتان)، ولما ظهر الحكم الاستاليني والنّازي اللّذان لم يدمرا العقل وحسب بل دمرا الرّوح والجسد، ولما ظهرت حركات ثوريّة تدافع عن الإنسان، وتحوّلت إلى حكومات إرهابيّة تبيد الملايين، ولما استيقظنا في الصّباح نسأل عن أخبار التّلوّث والانفجارات النّووية، التّطهيرات العرقيّة، الرّشاوى، عمولات السّلاح، الفساد، الإباحيّة، الإيدز، أخبار النّجوم، فضائحهم، معدلات تفكّك الأسرة، مدى نهب الشّمال للجنوب، وحسابات حكام العالم الثّالث في بنوك سويسرا، ولما ظهرت حركات عبثيّة لا عقلانيّة تناصب العقل العداء، وتعلن بفرح وحبور تفكيك الإنسان ونهاية التّاريخ، ولما شعرنا بالاغتراب حتّى أصبح رمز الإنسان في الأدب الحداثي هو “سيزيف(*) الّذي يحيا حياة لا معنى لها“ وأصبح رمز العصر الحديث هو الأرض الخراب.[9] وهذا ما يشكّل أزمة عالميّة حقيقيّة ويخلق هوّة واسعة، وعميقة بين شعوب العالم، و يؤجّج الصّراع والتّصادم الحضاريّ والثقافيّ بدل الحوار والتفّاهم والتّعايش.
إذن: فالمضمون الحقيقيّ و المعنى الخفيّ للحداثة، هو كما تحقّقت تاريخيّا، فعليّا، وواقعيّا، وليس كما تعرّف معجميّا، ففي السّابق كان يرى أتباع الحداثة الغربيّة من الليبراليين ، والماركسيين والإسلاميين أنّ الحداثة الغربية تؤكّد أنّها حضارة إنسانيّة هيومانية، لكن تلك النّظرة لم تكن مؤسّسة علميا، ومعرفيا، وتاريخيا لأنّهم لم يبحثوا في مكنونها بل اكتفوا بالظاهري الجليّ منها، وكان من الصّواب، والحذر أن يبحثوها أوّلا قبل تبنيها دون دراية أنّها في النهاية ليست بريئة كما تبدو لنا.[10] فمشكلة الحداثيين أنّ الصدمة الحداثية خلّقت لديهم انجذابا لا محدودا، جعلتهم يغترفون منها دون سابق دراسة، فمنتجات الحضارة الغربيّة وحدها كانت كفيلة لإقناعهم بجدواها، وضروريتها لمجتمعاتهم.
اكتشف المسيري الوجه الخفيّ للحداثة الغربيّة، وهو الوجه الدّارويني تحت شعار:“الصراع من أجل البقاء، والبقاء للأقوى“، استنادا إلى فلسفته الماديّة الّتي تدعو إلى العنف، العنصريّة والإيمان بالمادي فقط، وهذا ما ورد في كتابه“ أصل الأنواع “، ونحن نفهم من هذا أنّ الحداثة ظلّت طوال تاريخها مجرّد وسيلة، يبسط من خلالها الإنسان الغربيّ نفوذه ويحقّق بها أطماعه التّوسعيّة نحو العالم الثالث، حيث يذهب الكثير من المحللين والدارسين، إلى الربط بين الحداثة والإمبريالية الغربيّة.[11] واستنادا إلى التاريخ يمكن أن نتبيّن فعلا أنّ الحداثة الغربيّة كانت واضحة الأهداف و المعالم منذ البداية فالحروب التي شنّها الإنسان الغربيّ ضد العالم الثالث كان ظاهرها نقل حضارة التمدّن و التطوّر عن طريق مساعدة تلك الشعوب و تعليمها أبجديات الإنسان المتحضّر لكن في الواقع أثبت مدى وحشيّته و تطلّعه للسيطرة ونظرته الحقيرة و المحقّرة لغيره من الشعوب و جلّ الممارسات القمعية و الإبادة التي حصلت في حقّ شعوب القارات الأخرى كان كفيلا بتعرية الوجه الخفيّ. فالهدف كان واضحا منذ البداية: الهيمنة، السيطرة، وبسط النفوذ، ولم تكن هناك إنسانيات يحملونها كما ادّعوا بل إنّ تاريخهم الاستعماريّ يبيّن مدى الإجرام النابع من سيطرة العقل الماديّ على كل جوانب الإنسان الغربيّ.
وبما أنّ الإنسان في الحضارة الغربيّة قد تحوّل بفعل حداثته إلى كائن طبيعيّ محض، اعتزل كلّ ماله علاقة بالميتافيزيقا، والأخلاق والقيم الّتي من شأنها أن تسدّد خطاه و توجّه سلوكيّاته فإنّه قد فقد خصوصيّته الإنسانيّة في إطار ما أسماه المسيري ب”المرجعية الكامنة“(*)، فالإنسان بطبيعته يتكوّن من تركيبتين أساسيتين، أو ثنائيتين تحددان خصوصيّته، وهما: المادة والرّوح، حيث اكتسب مفهوم المادة أهميّة بالغة في الفلسفات الماديّة الغربيّة الّتي تركّز على هذا الجانب الكامن في الإنسان وتردّ كلّ جوانبه إليه، وعلى أساسه تتحدّد مرجعيّته. رافضة بذلك جانبا آخرا للطّبيعة البشريّة متجاوزا لها، وغير خاضع لقوانينها مقصورا على عالم الإنسان و على إنسانيته، وهو يعبّر عن نفسه من خلال مظاهر عديدة من بينها نشاط الإنسان الحضاريّ ( الاجتماع الإنسانيّ، الحسّ الخلقيّ، الحسّ الجماليّ، الحسّ الدّينيّ)، هو الجانب الرّوحيّ، الّذي يحدّد مرجعيّته المتجاوزة للمادة.[12] بمعنى أنّ فكرة المرجعيّة الكامنة مصدرها الفلسفة المادية الداروينيّة، التي تنفي عن الإنسان أيّ مرجعية أخرى.
وهذه النّزعة الماديّة التي سادت المجتمع الغربيّ يسمّيها المسيري “النّزعة الجنينيّة“ الّتي تعني“: الرّغبة في الهروب من عبث الهويّة والتّركيبة، والتّعدديّة والخصوصيّة والإنسانيّة المشتركة، والقيم الإنسانيّة والأخلاقيّة العالميّة والحدود. والمقدرة على التّجاوز، حيث يعود الإنسان إلى ما قبل الطّفولة الأولى، حينما كان جنينا في عالم سائل بسيط، لا يوجد فيه أيّ حاجة للتّجاوز. إذا: لا أبعاد له، ولا توجد فيه كلّيات، ولا مطلقات أو ثوابت، عالم يهبط الإنسان فيه ويستقر في قاعه، لا يوجد فيه زمان أو ثغرات، أو جدل أو حدود أو صراع أو فارق بين المثير والاستجابة، عالم بلا ذاكرة لا قيمة فيه، ولا قداسة ولا دناسة ولا عدل ولا ظلم، ولا حق ولا حقيقة، عالم من الصّيرورة، الّتي تشكّل الثّبات الوحيد، عالم من الأيقونات المكتفية بذاتها ولا تشير إلى إله فهي تجسدُ بلا لوغوس، وبلا عقل أو غاية”.[13] وبالمختصر كائن طبيعي محض، لا ملامح له يمكن أن تجعله يختلف عن بقية الكائنات الأخرى بل هو يشبهها و لا يمكن أن يخرج عن إطارها.
فالحداثة الماديّة الغربيّة تنكر كل المرجعيات المتجاوزة للإنسان، وكل ما له علاقة بما وراء الطّبيعة، وتصبّ في مرجعية واحدة هي المرجعية المادية /الطبيعية التي تخضع لكلّ قوانين الطبيعة الفيزيولوجية من حركة وتغيّر، حيث يقول المسيري:“ فهذه المنظومات الحلوليّة الكمونيّة الماديّة الّتي تقول بوحدة الوجود المادية يتمّ الاستغناء تماما عن لغة روحيّة أو مثاليّة، ويسمّى المبدأ الواحد قوانين الطّبيعة أو القوانين العلميّة، أو “القوانين المادية“ أو “قوانين الحركة“ (ولذا فنحن نسمّيها حلوليّة بدون إله)، هذا القانون هو قانون شامل يمكن تفسير كلّ الظّواهر، ومن بينها الظّاهرة الإنسانية من خلاله”[14]. أي: إنّ الإنسان شأنه شأن أي ظاهرة طبيعية، كالظاهرة الجيولوجية، أو الفلكية، أو الكيميائية.
و النّزعة الجنينية الّتي تحدّث المسيري عنها هي في مقابل “النزعة الربانية“ التي تفرض وجود مسافة بين الإنسان والطبيعة/ المادة وتؤمن بوجود حيّز إنساني مستقل عن الحيّز المادي تماما كما تعتقده العقائد السماوية التي تؤكّد أنّ الله خلق الإنسان من مادة ثم نفخ فيه من روحه فأصبح مختلفا عن المادة التي خلق منها، بحيث أصبح كائنا يمكنه التمييز بواسطة عقله بين كلّ القيم المختلفة كالخير والشرّ.[15] لكن الملاحظ على الحداثة الغربية أنها تخلّت و بشكل نهائي عن هذه النزعة واستعاضت بالنزعة الجنينيّة لتجعلها هي المحدّد الوحيد لهويّة الإنسان.
بما أنّ الإنسان الغربيّ هو إنسان مادّيّ محض، حسب توصيف المفكّر له فقد ارتأى أنّ هناك نموذجين اثنين يصنّف وفقهما، و هما:
1ـ الإنسـان الاقتصــــادي:
ويقصد به على وجه التّحديد والتّخصيص”: إنسان آدم سميث (Smith Adam ) الّذي تحرّكه الدوافع الاقتصاديّة والرّغبة في تحقيق الرّبح والثّروة، وإنسان كارل ماركس ( (Karl Marxالمحكوم بعلاقات الإنتاج. وهو يعبّر عن مبدأ المنفعة بحيث لا يعرف سوى مصالحه الاقتصاديّة، وبالتّالي فهو إنسان منفصل تماما عن القيمة شأنه شأن الطّبيعة دوافعه الأساسيّة اقتصاديّة بسيطة، وهو يمثّل في النّظم الرّأسماليّة (دافع الضّرائب) أمّا في النّظم الاشتراكيّة فيمكن أن يكون (بطل الإنتاج)”[16]. هذا النموذج ماديّ لأنّه في تعاملاته الاقتصادية يفكّر في تحقيق رغباته البيولوجية الطبيعية المرهونة بالربح والإنتاج مع استبعاد كل القيم والأخلاق، فهو خال تماما من المعنى .
2ـ الإنســان الجسمــاني أو الجنســي، الّذي نجد معناه عند العديد من الفلاسفة و علماء النفس، والماديين عموما، أبرزهم عالم النّفس النمساوي، سغموند فرويد ( Freud Sigmund ) ، حيث يُعتبر الإنسان هنا”: مجموعة من الأعضاء والأعصاب والانفعالات القويّة المباشرة، ولكنّها جميعا موجّهة لتحقيق اللّذة”.[17] ولا يعرف سوى متعته ولذاته، إنسان الاستهلاك والتّرف والتّبذير، إنسان أحاديّ البعد خاضع للحتميات الغريزيّة متجرّد من القيمة ولا يتجاوز قوانين الحركة، لديه الكثير من المكبوتات الجنسية يسعى إلى إرضائها.
و رغم اختلاف المضامين بين النموذجين إلاّ أنّه يتّضح لنا أنهما يمثّلان البنية نفسها أي: إنّ الإنسان الاقتصادي و الإنسان الجنسي ما هما إلا وجهان للمعنى نفسه، والذي هو الإنسان الحداثيّ المادي، يقول المسيري: “ولو أنّنا وضعنا كلمة “اقتصاد” أو كلمة “جنس” بدلا من كلمة “طبيعة” لظلّ كلّ شيء على ما هو عليه“.[18] وبالتّالي فإنها أعلنت عن ثورة في تركيبة الإنسان، وتمّ تحديدها وفق توجّه واحد يدور في إطار المادّيّة.
إذن: فالحداثة قد صنعت وشكّلت إنسانا جديدا مختلفا تماما عن الإنسان السّابق، فهو إنسان منفصل عن القيمة خاضع للطّبيعة البيولوجيّة، وللحتميات الاقتصاديّة. ومن خلال تعقّب التاريخ الحداثي الغربي بإمكاننا استنتاج ثلاث مراحل تقوّمت عليها الحداثة، خرج بها المسيري كحوصلة عامة لتشكّل الفعل الحداثي: مرحلة تمهيدية، مرحلة التحقق الفعلي للحداثة، ثمّ مرحلة انقضاء الحداثة، لخّصها المسيري فيما يلي:
1ـ التّحديث: “تقع حقبة التّحديث منذ عصر النّهضة في الغرب، وما يسمّى(عصر الاكتشافات) حتّى الحرب العالميّة الأولى وهي مرحلة التّراكم الامبرياليّ والمادية البطوليّة”[19]. وتدور منظومته في إطار ما يسمّيه الرؤية الطّبيعيّة/ الماديّة، والحلولية الكمونية الماديّة أو المرجعيّة الكمونيّة، فالعالم حسب الرّؤية الكامنة في منظومة التّحديث يذهب إلى أنّ المبدأ الواحد المنظّم للكون ليس مفارقا أو منزّها عنه، متجاوزا له، وإنّما هو كامن(حال) فيه، ولذا فالكون يصبح مرجعيّة ذاته”.[20] أي: إنّها مرحلة اكتشاف الواقع، الطبيعة، و القدرة العقلية البشرية على الخلق والإبداع، كما يمكن أن نسميّها مرحلة إزاحة المركزية الإلهية في الكون و استبدالها بالمركزية الإنسانيّة .
2ـ الحداثة: في هذه المرحلة بدأ العالم المتمركز حول اللوغوس يتآكل وهذه هي مرحلة الحداثة العبثيّة وبداية ظهور اللاعقلانيّة الماديّة، والمادية الجديدة، والّتي تتّسم بالاحتجاج والغضب على إخفاق المشروع التّحديثي.[21] فالحداثة هي:” الإدراك المأساوي لفشل المشروع التّحديثي، وإمكانيّة معرفة الإنسان قوانين الطّبيعة والسّيطرة عليها”.[22] إنّها مرحلة انتقالية في مسار العمليّة التحديثيّة أعلن فيه الإنسان الغربيّ لأوّل مرّة عن تراجع إمكاناته الوجودية أمام مختلف الإشكالات والأزمات الناجمة عن منظومة مرحلة التحديث، ممّا شكّل صدمة لديه آلت به إلى مرحلة أخرى جديدة.
3 ـ مابعد الحداثة: وفي هذه المرحلة رضخ الإنسان الغربيّ تماما لإدراكه إخفاق مشروع التّحديث، ولكنّه بدلا من أن يحتجّ ويتمرّد فإنّه يقبل بل و يرحّب بهذا الإخفاق و التراجع دل أن يتدارك أخطاء الماضي ويعيد قراءة شروعه التّحديثيّ وتصحيح مساره، والبحث عن الحلول داخله، فإنّه بكلّ بساطة يعلن عن تمرّده واستمراره في التخلّص والتّحرّر من الإله بل وانتقل إلى ما هو أخطر و هو إلى التّحرّر من مركزية الإنسان.[23] ففكر مابعد الحداثة هو فكر يحاول الهروب تماما من الميتافيزيقا و مركزيّة الثّبات حتّى يغرق كلّ شيء في الصّيرورة، وبذلك يختفي المركز وتمحى كلّ الثّنائيات. وبعد عرض هذا التّحليل لمصطلح الحداثة وبيان أهمّ ميزاته الّتي ستشكّل لدى المسيري منطلقا لبيان آفات المشروع التّحديثيّ الغربيّ نعرض الآن أهمّ الانتقادات الموّجهة من قبله لمبادئ ومجالات الحداثة الغربيّة.
و انتهاء فإنّ مختلف التعاريف الغربيّة التي قدّمت لنا الحداثة قدّمتها من زاوية ظاهرية، دون ان تطلعنا على سرّها، ومكنوناتها الدّاخلية، التي تتوارى خلف المعنى الظّاهري، لذلك توصّل المسيري من خلال تحليله العميق للمفهوم إلى نتيجة مفادها أنّ جوهر الحداثة الغربية هو استعمال العلم والتقنية والتقدّم ومختلف المظاهر المشهودة منفصلة عن كلّ القيم، والأخلاق، فانفصال القيم والأخلاق عن المشروع الحداثي الغربيّ هو دعامة من الدعائم التي قامت عليها الحداثة الغربية، خاصّة حين نقلت الإنسان من مرجعيّته المتجاوزة إلى مرجعيـه المادية الكامنة.
ثانياـ نقد المسيري لمبادئ الحداثة الغربيّـة:
تأسيا بمدرسة فرانكفورت انطلق المسيري في نقده للحداثة الغربيّة، وغرضه من ذلك هو جعل هذه المدرسة التي ينتمي إليها المجتمع الغربيّ شاهدا من أهلها على فشل وضياع المشروع الحداثي الغربيّ ذاته، فقد أدّت الحداثة إلى التشيؤ Refication))(*)، والاغتراب الّلذين نشأ في ظل النّظامين: الرأسماليّ والاشتراكيّ، تسبّبت في تحوّل الإنسان في هذه الأنظمة إلى إنسان أحادي البعد، و في ظلّ هذه الظروف تصاعدت معدّلات الترشيد، واختفت القيم الثّقافية والرّوحيّة والعقل النّقديّ القادر على (التّجاوز حتى أصبح الإنسان كائنا ذا بعد واحد..)[24]. يحمل توصيفا واحدا لا غير هو التوصيف المادي؛ بحيث إذا ماعرفنا الإنسان منطقيّا نقول: الإنسان كائن ماديّ. فيورغن هابرماس Y.Habermas)):” أنّ السّمة الدّائمة للتّنوير، هي السّيطرة الممارسة على طبيعة خارجيّة مموضعة، وعلى طبيعة داخليّة مقهورة”[25]. ويعترف المسيري أنّ نقده للحداثة جاء متأثّرا بنقد الفلاسفة الغربين لها حيث؛ يقول:” نقدي للحداثة الغربيّة متأثّر إلى حدّ كبير بالنّقد الغربيّ لهذه الحداثة، هو نقد أفدت منه أيّما إفادة”. ومن بين المبادئ الحداثيّة الغربيّة الّتي تعرّض لها المسيري بالنّقد نجد:
1ــ الفرديّـــــة والنّسبيّـــــة:
الحضارة الغربيّة في اعتقاد المسيري هي حضارة النّموذج العقلانيّ المادّي، أيّ: إنّ العقل الماديّ هو المتحكّم في التوّجّه العامّ لهذه الحضارة، و كلّ منجزاتها تدل على ذلك، حيث أحدثت ثورة علميّة وتكنولوجيّة سيطرت من خلالها على العالم. وهذا ما جعلها “تستبعد وتلغي الكثير من العناصر الأخلاقيّة والإنسانيّة، (غير المادّيّة) لتبسيط الواقع بهدف التّحكّم به”[26]. وهذا الاستبعاد أدى إلى تضييق رقعة القيم الأخلاقيّة والجماليّة، و اتّساع نطاق الحرّيّات الفرديّة، وتجاوز القيم المطلقة النّهائيّة ونزع القداسة عن الإنسان والقضاء على الثّوابت، ممّا أسقط البشريّة في حالة من النّسبيّة، فأصبحت هذه الأخيرة مبدأً لتفسير الكثير من المسـائل، وقد كانت بمثابة اللّغة الّتي تستعملهـا الكثير من الفلسفات كالبراغمـاتيّـة، النيتشوية، و الّداروينية في تفسير الواقع و تحريكه، فهذه الرّؤية النّسبيّة، (تنزع القداسة عن العالم بما فيه ـ الإنسان والطبيعة ـ وتجعل كلّ الأمور متساوية، ومن هنا فالظّلم مثل العدل والعدل مثل الظلم، والثورة ضدّ الظلم لا تختلف عن الاستسلام له)[27]، بمعنى أنّ كلّ المفاهيم لم تعدد محدّدة، مضبوطة وثابتة وفق الخصائص المنطقية، بل صارت متغيّرة حسب الاستعمال النفعي لها. ممّا يؤكّد بأنّ النّسبية قوّضت الإنسان وضيّقت عليه حتّى أنّه لا يستطيع أن يتّخذ أيّ قرار أو أن يصوّغ نموذجا معيّنا لحياته، وهذا بالطّبع أدّى إلى جملة من النتائج الّتي ورّطته في مختلف المجالات الأخلاقيّة والجمالية، عن طريق قلب نظامها فما كان قبيحا أخلاقيا سلفا أصبح اليوم جميلا، بل و مطلوبا و محبّبا ومفروضا أيضا، مثل:” تزايدت معدّلات الإباحيّة والعنف، ثمّ جاوزتهما عمليّة التحرّر إذ أصبحت تحرّرا من أيّ قيود أو معايير”.[28] و فالإباحية كفعل مناف للقيم الأخلاقية لما قبل الحداثة أصبحت اليوم قيمة أخلاقية مفروضة أدّت إلى شيوع و انتشار الكثير من الأمراض التي تقضي على الجنس البشرين وكذلك العنف الذي صار مبرّرا في عالم الإنسان كما هو مبرر تماما في عالم الحيوان كنوع من الصراع من أجل البقاء، يقول:” الحقيقة نسبيّة (…) فكلّ القيم الأخلاقيّة نسبيّة (…) غياب المعياريّة واختفاء أيّة إنسانيّة مشتركة ومن ثمّ سقوط مفهوم الإنسانيّة نفسه،(…) وكلّ هذا يعني نزع القداسة عن العالم…”[29]. فالنسبية هي احد أهمّ سلبيات الحداثة الغربية، لأنّ عدم الأيمان بمطلق ما يقود إلى صعوبة تحديد المفاهيم، واستحالة تمييزها، مثلا مفهوم الصدق إذا كان نسبيّا فإنّه سيكون نافعا مرة، وضارا أخرى، وبالتالي يخضع لمقولة: الإنسان مقياس الأشياء جميعا، ممّا يخلق فوضى أخلاقيّة في المجتمع، وهذا ما حصل في أوروبا تماما.
2 ـ التقــــدّم:
يستدعي الحديث عن مبادئ و قيم الحداثة من جهة أخرى، الحديث عن مفهوم التقدم والإيمان به، من حيث هو إيمان بتصور جديد للزمان والتاريخ، ومصير الإنسان فيه. ذلك أنه وحتى العصر الحديث، لم يكن هناك نظريات عن الزمان والتاريخ ومصير الإنسان سوى أصداء تلك الأفكار البسيطة المرتبطة بالأساطير الوثنية، التي ترد أسعد عصر للبشرية وأفضله إلى ماض ذهبي بعيد، أو تلك الأفكار المعقدة والمختلفة، التي سادت العالم الإغريقي الروماني، عن مسار التاريخ، وخاصة تلك النظريات التي ترى التاريخ دورات في الزمان، وأشهر هذه النظريات وأكثرها تداولا تلك التي ترى أن التاريخ يبدأ “بعصر ذهبي يعقبه عصر فضي ثم يليه عصر حديدي تحل بعده كارثة، ثم تبدأ الدورة من جديد بالعصر الذهبي. وهكذا عود على بدء”[30]. وهي النظريات التي ظلت سائدة إلى مطلع العصر الحديث، وتحديد إلى مطلع عصر التنوير؛ حيث أصبح للزمان التاريخي مفهوما مختلفا ليس دائريا ولا منكسرا ولا يتوقف في مرحلة ما، وأصبح للتقدم وجودا في المستقبل، وليس في الماضي الذهبي كما رأى، قديما، أصحاب فكرة التدهور.
لقد أدخل التقدم المستمر للعلوم والتقنيات، وثورة التكنولوجيا، إلى الحياة الاجتماعية عامل التغيير المستمر والصيرورة الدائمة التي أدت إلى انهيار المعايير والقيم الثقافية التقليدية. وفي ظل هذه الصيرورة الاجتماعية بمختلف اتجاهاتها تحدد السياق العام لمفهوم الحداثة بوصفه ممارسة اجتماعية ونمطا من الحياة يقوم على أساسي التغيير والابتكار. وغني عن البيان أن أكثر اللحظات في التاريخ أهمية وإبداعا اللحظات التغييرية الحداثية، وهي اللحظات التي يتم فيها الكشف عن منطق خاطئ مضلل وإبداع منطق جديد؛ حيث نجد في الفلسفة نقدية كانط ( kant ) التحليلية، ومثالية هيغل ( Hegel) الكلية، ومادية ماركس (Marx) الجدلية، وبنيوية فوكو M.Foucau)) التفكيكية.[31] و غيرها من النماذج النقدية التغيرية التي كانت تمثّل دائما جديدا أمام ما هو قديم لم يعد قادرا على تحقيق خطوة أخرى نحو التقدّم، لذلك ارتبط مفهوم التقدّم دائما بالثورة على نموذج قديم.
أما المسيري فيصوّر لنا خطورة التقدّم الغربيّ في صورة مجازيّة عالية الدّقّة، حيث يقول:” الرّؤيّة المعرفيّة العلمانيّة الشّاملة لها سفر التّكوين الخاصّ بها، (الكتاب المقدّس عندهم)، عنوانه أصل الأنواع لداروين، أنبياؤهم: بنتام، داروين، ماركس، نيتشه و فرويد، قصّتهم الكبرى التقدّم المستمرّ، وخيرها إمتاع الذّات، وشرّها قمعها، وجنّتها اليوتوبيا التكنولوجيا، وجهنّمها التخلّف المادي، وثمّة إيمان بمقدرة الإنسان على هزم الطّبيعة”[32]، أي: إنّ التقدّم كمطلب غربي مستمر عبّر عن حالة انفصال الإنسان عن علاقاته الاجتماعية التي تربطه ببعضه البعض، و عن كلّ قيمه الروحية والأخلاقيّة، و خضع خضوعا تامّا لسيطرة النظريّة الداروينيّة التي جعلت منه كائنا طبيعيّا خاضعا لمبدأ التطوّر، يسعى دائما نحو التقدّم الماديّ عن طريق تطوير التكنولوجيا بشكل مستمر، و إشباع رغباته.
لكن هذه الثقة التي وضعها الإنسان الغربيّ في التّقدّم بدأت تتراجع تدريجيّا، حين اهتزّ الشعور بعدم الثّقة بالمطلق، والكلّ و المتجاوز، فتراجعت بعض المفاهيم مثل: السببيّة الصّلبة، وأنّ الطّبيعة تحكمها الصّدفة لصعوبة وتعقّد فهمها. و في ذلك يقول المسيري:” أدرك الإنسان الغربيّ أن تزايد الترشيد والتحكّم الإمبرياليين، لا يؤدّي بالضّرورة إلى السعادة”[33]، وهنا تحديدا أدرك أنّ التطوّر الحاصل في مجال العلم والتكنولوجيا لم يحقّق له ما يبتغيه من الرّفاهيّة الماديّة والسعادة، لأنّ هذا التّطوّر حصل على حساب الإنسان ذاته الّذي راح ضحيّة ما صنعت يداه، وكمثال حيّ يذكر المسيري قصّة مكتشف القنبلة النووية هوبرهايمر، أنّه حينما التقاه وسأله عن موقفه الآن من اكتشافه هذا، وماذا فعل بعد أن اكتشف المعادلة الرّياضيّة الّتي أدّت إلى نجاح التفجير النّووي، فكان أن أجاب أنّه تقيئ بمعنى أنّه كعالم منفصل عن القيمة يدور في عالم الأشياء والمعادلات، ظلّ يطوّر حتّى وصل، ولمّا وصل أدرك خطورة ما فعل فتقيئ، وبعد تلك اللّحظة قضى بقيّة حياته يحارب هذه القنبلة، فكان نموذجا لإدراك الغرب لثمن هذا التقدّم، ممّا جعلهم في حيرة من أمرهم بخصوص التّخلّص من العالم النّووي وانتهى بهم الأمر إلى أنّه قد يدمّرهم ويدمّر كرتهم الأرضيّة أيضا[34]. بمعنى أنّ الإنسان الغربيّ المعاصر يعي تماما خطورة مسألة التقدّم التي استنّها يوما، و هو غير راض عنها تمام الرضا، خاصّة أولئك الذين تسببت اختراعاتهم، وإنجازاتهم في هلاك البشر، وانتشار العنف، والشرّ.
ورفض المسيري لفكرة التقدّم لا يعني أنه ينكرها إنكارا قاطعا ونهائيّا بل هو فقط يرفض الجانب المنفصل عن القيمة، لذلك يقول:” كلّ هذا جعلني أتحفّظ بعض الشيء بخصوص مقولات أصبحت مطلقة بالنّسبة للبعض مثل التقدّم التكنولوجي والتجريب العلميّ”[35]. ذلك أنّه باعتبار مآله شكّل خطرا و تهديدا للإنسان أينما كان في العالم لأنّ باقي الشّعوب الأخرى تتأسى بالتقدّم الغربيّ دون أن تبحث كلّ جوانبه وإذا تبّنته كما هو ستعمّم الكارثة وتصبح عالميّة.
وفي الأخير يجدر بنا أن نذكر أنّ المسيري رصد العديد من مظاهر الحداثة الغربية فبالإضافة للمظاهر الّتي أتينا على ذكرها هناك الكثير من المظاهر التي لم يسعنا المجال لذكرها غير أنّها تشترك مع المذكورة في كونها تبقى وجه من أوجه الحداثة الداروينيّة، وبما أنّ هذه المبادئ تعتبر الأساس الّذي قامت عليه الحداثة الغربية فإنّه كان ولابدّ أن توجد لها مجالات تطبيقية، و التي هي الأخرى لم تسلم من النقد المسيري.
ثالثاـ نقد المسيري لمجالات الحداثة الغربيّة:
حدد المسيري للحداثة عدّة مجالات بيّن في كلّ مجال رؤيته التّفسيرية التّحليليّة والنّقديّة كما سبق أن ذكرنا، حيث بدأ بالمجال الاقتصادي المحدّد، ثمّ إلى المجالين الاجتماعي والسياسيّ الأقل تحديدا، لأنهما متداخلين، أي لا يمكن فصل الجانب الاجتماعي عن السياسي، إذ لا يمكن تصوّر مجتمع خارج نطاق السياسة، أو العكس ثم المجال الدولي الأكثر عمومية، ثم المجال الفلسفيّ المجرد، فالمجال الأخلاقيّ وأسلوب الحياة الذي يمتاز بالجدل حول مكوناته وأثارها في الحياة عامة، وأخيرا مجال عالم المنظومات الدلالية والجمالية، والصور المجازية وعليه سوف نعرض هذه بعض هذه المجالات بنوع من التحليل والتفصيل كالآتي:
1 ـ المجـال الدّولــي:
تبدأ مرحلة التحديث في المجال الدولي” بإبادة شعوب الأمريكيتين (الهنود الحمر وسكان أمريكا اللاتينية)، وتسخير الشعوب الإفريقية كعبيد لخدمة الرجل الأبيض الغربي (إحضار العبيد من الدّول الإفريقية المستعمرة)، ثمّ ظهرت الامبريالية العالمية، وهي عالمية لكونها حوّلت العالم بأسره إلى مادة استعمالية كما شهدت أوروبا حروب عالميّة غربيّة، وأخرى صغيرة في آسيا وأفريقيا”[36]؛ حيث بدأت تظهر ملامح ما يسمّى ب ( Globalization) أوالعولمة، واّلتي تهتمّ بتحويل العالم إلى وحدات متجانسة ليس لها أي: خصوصية، الأمر الّذي أدّى إلى ظهور نظام عالميّ جديد تراجع فيه الغرب من نمط الاستعمار التقليدي إلى الاستعمار الجديد، المتمثّل في الحرب الباردة فتحوّل الاجتياح العسكريّ المباشر إلى آخر غير مباشر.
ويؤكّد المسيري أن “العولمة هي تصاعد عمليات الترشيد على مستوى العالم بحيث يصبح العالم كلّه مادة استعمالية، ويصبح كل البشر كائنات وظيفيّة أحادية البعد يمكن التنبؤ بسلوكها، ومن خلال تصاعد معدلات التدويل يتحوّل الكون بأسره إلى شيء متجانس، يتّسم بالواحدية الدّولية، لا خصوصيات له، لا ثنائيات، ولا تنوّع”[37]، فمع العولمة تحوّل الإنسان إلى مادة استعمالية ذات بعد واحد، هو البعد المادي الاقتصادي أو الجنسي الذي هو الدافع المحرّك له. ممّا يعني أنها ـ العولمة ـ النّظرية الاقتصادية الإمبريالية في حدّ ذاتها بعد أن تجمّلت قليلا فأصبحت تدعى العولمة. كان من نتائجها ظهور النظام العالي الجديد، الذي يعد امتداد للنظام العالمي القديم ،ويمكن الحديث عن عولمة بعض القضايا، مثل: الطّاقة النووية، التلوّث البيئي، الإيذر، أنفلونزا الطيور.[38] إي: إنّ العولمة لا تعترف إلاّ بالثقافة الغربيّة كثقافة إنسانيّة قابلة للتعميم لإزاحة كلّ الثقافات الأخرى، التي ترى أنّها تهدّد كيانها في إطار إيمانها بالصراع، و عدم جدوى التعايش لذلك تكرّس الو،م، أ سياستها لفرض أيديولوجياتها في مختلف المجالات للقضاء على المقابل الآخر، الذي تمثّله شعوب العالم الثالث خاصّة الشعوب الروحيّة، فإذا كانت الأمراض الجنسية كالإيدز ناجمة عن التحديد المادي للإنسان بالمفهوم الفرويدي، فإنّها بدل أن تبذل مساعيها للبحث عن حلول تحدّ من الأزمة نرى أنها تسعى لتعميمها، ممّا يهدّد الوجود البشري في العالم ككلّ.
2 ـ المجـــــال الأخلاقـــــي:
يرى المسيري أنّ الأخلاق في هذه المرحلة ـ مرحلة الحداثة ـ هي”: ما يجرده العلم الطبيعي من تجاربنا الحسية أو المادية، و لا يمكن أن نتصوّر أخلاقا خارج نطاق هذه التجارب، بمعنى أنّ الخير و الشّر ليس وصفا لمقولات مطلقة أو شبه مطلقة متجاوزة للدوافع المادية للبشر، و إنّما هي وصف لسلوك بعض الناس، و ردودهم الفردية الواردة من تجاربهم المختلفة. لذلك فالخير أو الشر في الأخلاق، يشكّلان نقطة اتفاق بين الناس، لكنها قابلة للتفاوض” [39]، بمعنى أنّها قيم نسبية، تتغيّر من إنسان إلى آخر، و من مكان إلى آخر، و من موقف إلى آخر، بحيث لا يمكن إعطاء مفهوم مستقرّ، نهائي لقيمة أخلاقيّة معيّنة، بل إنّها تخضع للنفع المادي الواقعي المتغيّر، و الإنسان في هذه الحالة هو مقياس أفعاله.
وهكذا تظهر المنظومـة الدّارونيـة باعتبارها المنظـومة الأخلاقيّة الوحيدة الواقعيـة، أو الممكنـة ؛ ففيهـا يتراجع التّفـاهم، المبني على قيم التراحم الإنسان، المحرك الفعليّ للجماعات الإنسانية، ويحل محله الصراع والتنافس بين الأفراد، وهذا يمثل الوضع الطبيعي للإنسان الطبيعي، فيترتب عنه تفاقم الإنتاج وفصل من لا كفاءة مادية له عن العمل، فهذه المرحلة توصف بالمرحلة البطولية المادية[40]، كما ظهرت أخلاقيات المنفعة المادية، التي تجلّت بوضوح في المدرسة البراغماتية (*)( Pragmatiseme ) مع ممثّليها. و مع التّزايد التّدريجي للنّسبيّة المعرفيّة، والأخلاقيّة أصبح من المستحيل الإيمان بأيّة قيم، وهو ما يعني اختفاء النّزعة النّضاليّة، وتلاشي النّزعة الطوباويّة، وكلّ الأحلام المثاليّة. كما تسارع تآكل الأسرة إلى أن تأخذ في الاختفاء تماما وتظهر أشكال بديلة من الأسرة[41]، فتمّ تغيير نمط العلاقات داخل نواة المجتمع، وهي الأسرة. فالحداثة الغربيّة كشفت عن آفاتها الأخلاقيّة في نظام الأسرة الغربيّة بوصفها وريثة التّطبيق الغربيّ لروح الحداثة بسبب لجوئها إلى التفصيل المطلق، إذ حصل انقلاب كبير للقيم الأخلاقيّة داخل الأسرة الغربيّة، فتمّ استبدال القيم الأخلاقية الدينية بالقيم الحداثية، وعملت المدارس والمؤسسات التربوية على غرس تلك المبادئ وتلقينها للفرد الواحد، والذي سيكون مسؤولا على تطبيقها داخل الأسرة. فانفصلت الأسرة في الغرب عن القيم التّقليديّة، واعتبرتها رجعيّة تجاوزها الزمن، قضت فيما مضى على أهمية الإنسان، و مركزيته لصالح الإله، وكرّست بذلك الأخلاق اللادينية، لكنّ أخلاق الأسرة الحداثية المنفصلة عن القيم التقليدية الدينية، و المتنوّرة بأنوار الحداثة لم يدم ظلها طويلا فقد شهد عصر ما بعد الحداثة ثورة على قيم الحداثة ككل، وشملت هذه الثورة جميع مجالات الحياة بما فيها الأسرة، التي أوصلها نور الحداثة إلى مفترق طرق حتّم عليها الوقوع في أزمات أخلاقيّة قيميّة أضحت هي ذاتها تمثّل تقليدا وجب التخلّص منه والإتيان ببديل عنه. وبالتالي فالتغيير الحداثي في القيم والأخلاق نجم عنه غياب الأسرة كمنظومة تربوية أولى للفرد حيث فقد على إثرها الفرد كلّ مقوّمات شخصيّته السليمة.
كما ساهمت وسائل الإعلام ووسائل الاتصال البعيد في صنع الرأي العام بجعله يدور في فلك واحد لا تنفكّ عنه وبالتالي ستساهم في تشكيل تصورات وثقافة الجمهور حول المرأة والأسرة بما يثير الحواس ويشد الانتباه فتُهلّل لكل شاذ من أخبار الأسر، و كل غريب من أفعال البشر.[42] فانقلبت حياة الأسرة ما بعد الحداثية من سعادة متوهمة إلى شقاء وتعاسة واقعة، وكأنها جسد بلا روح و لا يمكن لهذه الأسرة أن تحفظ نفسها من هذه الآفات، و غيرها.
و كانت المرأة المستهدف الأوّل في الأسرة فلم تعدّ ترضى بمكانتها في البيت و أصبحت ترى نفسها مساوية للرجل، من حقّها أن تعمل، و تنتج، و تستقلّ ماديّا، و اقتصاديّا، فتمّ إنتاج خطاب نسوي هدفه في النهاية ممارسة نوع من الاستغلال باسم الحرية، و المساواة، و تمّ الزجّ بها في الوضع السّياسيّ، والاجتماعي، واستثمارها من خلال ذلك كورقة ضغط على المجتمعات، و الحكومات، و استغلال المؤتمرات الدولية التي تعقد بشأن المرأة ، مثل: النمو الديموغرافيّ، و المرأة، مؤتمرات الأسرة، و محاولات استصدار توصيات، أو توجيهات تبيح الإجهاض، و تدعو إلى الإفراط في حرية المرأة دون حدود أو قيود، هو خير دليل على الاستغلال السّي، و الهدّام لمثل هذه الدّعوات في المجتمعات و الدول الأخرى غير الغربية.[43] و كنتيجة لهذا التفكّك الداخلي للأسرة و غياب الأخلاق الدينية التي كان ينبغي أن تستند إليها في توجيه علاقاتها و أخلاقياتها تراجعت أخلاقيات المجتمع، و ألغت الحداثة أبرز ما يميّز الجانب التجاوزي للإنسان و هو: الأخلاق، و القيم الأسريّة، و الاجتماعية.
تميّز الرؤية التعاقديّة(*) المجتمع الغربي الحديث، خاصة الأمريكي منه، عن بقية المجتمعات، خاصة التقليدية منها، ويقوم جوهر التعاقد على فلسفة الصراع والتنافس بين الأفراد و المؤسسات، و هي قيمة لا تعترف بأيّ مكان للرحمة، و قيم المحبة التي تميّز المجتمع التقليدي التراحميّ(**)، بل كل شيء بمقابل مادي، و هذه الفلسفة اخترقت أصغر الوحدات الاجتماعية مثل الأسرة، كما طبعت أكبر تلك المؤسسات ، مثل : الدولة، حيث لا مكان لأي علاقات تراحمية في أيّ منهما، و التعاقد لا يتوقف عند الحياة العامة للمجتمع، بل يتغلغل في الحياة الخاصة للأفراد، سواء داخل الأسرة، أو في علاقة الفرد مع شركات التأمين، فالزوج لا يمكن أن يتحمل زوجته إذا كانت مريضة و غير مؤمّن عليها، حيث تعمل شركات التأمين على تعميق الاتجاه التعاقدي، تحت غطاء حقوق الإنسان، و التحديد الدقيق للحقوق والواجبـات المختلفة. و يذهب هذا التصور إلى أن أي مجتمع لا يمكن أن تقوم له قائمة، إذا لم تحترم فيه مقتضيات التعاقد بما يعنيه من تحديد دقيق للواجبات والحقوق [44]. فالواجبات و الحقوق تتحدّد وفق المنظور القانوني التعاقديّ لا الإنساني التراحمي، فالواجب والحقّ هو ما يمليه القانون لا الأخلاق، و كلّ المعاملات تسير وفق هذه النظرة.
غير أنّ المسيري ينبّه إلى أن تغلغل قيم التعاقد، وهيمنتها لا يعني أنّها اكتسحت كل جيوب المجتمع الأمريكي، لأن ثمة جيوب تراحمية لا يمكن أن تنتفي أو تموت، إن انتشار العبادات الجديدة وسط المجتمع تشكّل ثورة و رفضا للنموذج التعاقدي السائد، وهي ضد هيمنة المجتمع التعاقدي الحديث بمختلف مظاهره، مجتمع الترشيد، الحداثة الماديّة، و الحوسلة(*)، كما تؤكد في الأخير على أنّ حياة الأفراد أكثر تركيبا وأكثر إنسانية من النموذج الإدراكي الحاكم، حتى لو تم استبطانه، لأن الإنسان يحب، ويكره بفطرته[45]. أي: رغم انتشار هذه القيم إلاّ أنّ الإنسان يبقى تحرّكه دوافع غيبيّة، يستمد منها صلاته التراحميّة الاجتماعيّة، حتّى و لو فرضت عليه قوانينه الوضعيّة التعامل وفق منطقها، فدائما هناك أمور متجاوزة له و انتشار المنظمات الإنسانيّة داخل المجتمع الغربيّ، التّي تهتمّ بالإنسان ـ الإنسان دليل على رفضها لواقع كان مآلا لزمن مضى لم تساهم الأجيال الحاليّة في صنعه بل كانت إحدى ضحاياه.
ومن خلال هذا يتّضح أنّ المسيري قد أحاط علما بكل فصول ما يعرف بمبادئ و مجالات الحداثة، و استطاع خلال فترة وجيزة عاشها في أمريكا أن يفهم ويحلّل تركيبة، بنية، و هوية هذه المجتمعات، بحيث مكّنته قدرته التحليليّة، النقديّة من التأسيس للنقد الحداثي البنّاء في الفكر العربيّ المعاصر، و بعد أن توصّل إلى سلبيات و عيوب المبادئ الحداثيّة و مجالاتها خرج بنتيجة هي مآل الحداثة الغربية.
2 ـ مـآل الحداثــة الغربيـة:
وككلّ مشروع له مبادئ، أسس، و سائل وأهداف له مآلات أيضا، هي عبارة عن نتائج نهائيّة غير متوقعة، ناجمة عن خلل في مبدأ ما. و من بين أهمّ المألات التي آلت إليها الحداثة الغربية بمبادئها ومجالاتها نجد :”مآل نزع القداسة عن الإنسان و العالم“.
انطلاقا من التّموضع الّذي يحتلّه الإنسان الغربيّ ضمن المرجعيّة الكامنة، كما أوضح المسيري في العديد من مؤلّفاته يتّضح أنّ المنظومة الحداثية، الغربيّة، أدّت في نهاية المطاف إلى إزاحة الإنسان عن المركز، وتفكيكه، ونزع القداسة عنه، واختَزاله في إطار المرجعية الكامنة بحيث يرد إلى الطبيعة/المادة، و يصبح إنساناً طبيعياً (مادياً)، غير قادر على تجاوز ذاته الطّبيعية المادية، و لا يتجاوز الطبيعة/المادة؛ بحيث يسري عليه ما يسري على كلّ الظواهر الطّبيعية من قوانين وحتميات، وهذا يعني أنّ الإنسان يفقد إنسانيته المركبة، و تُنزَع عنه القداسة تماماً. فبدلاً من مركزية الإنسان في الكون، تظهر مركزية الإنسان الأبيض في الكون و بدلاً من الدفاع عن مصالح الجنس البشري بأسره يتمّ الدفاع عن مصالح الجنس الأبيض، وبدلاً من ثنائية الإنسان والطبيعة، وأسبقية الأوّل على الثّاني تظهر ثنائيّة الإنسان الأبيض من جهة، مقابل الطبيعة/المادة وبقية البشر الآخرين من جهة؛ و يصبح همّ الإنسان الأبيض هو غزو الطبيعة المادية والبشرية و حوسلتها و توظيفها لحسابه، و استغلالها بكلّ ما أوتي من إرادة وقوّة، و هكذا تحوَّلت الإنسانية الهيومانية الغربية إلى إمبريالية[46].بمختلف أشكالها العنصريّة، و تمّ من خلالها تصدير نموذج بشري واحد إلى العالم و تصنيفه بمنزلة المتفوّق و الأقوى، أو السوبرمان، حتى في لون بشرته .
و أصبح الإنسان الّذي يعيش تحت سقف الطّبيعة يربطه بها حبل سرّي، بمعنى هو جزء منها، و لا يمكن له أن ينفصل عنها بأيّ شكل من الأشكال شأنه شأن كل الكائنات الطّبيعيّة الأخرى،[47] وبالتّالي يصبح منطق الحاجة الطّبيعيّة المباشرة هو الّذي يتحكّم في الأخلاق الإنسانيّة تماما مثلما تتحكّم في الجاذبية في سقوط التّفاحة، ولذا تنادي المذاهب الأخلاقيّة الماديّة بأنّ الشّيء الوحيد الّذي يجدر بالإنسان أن يسعى إليه هو الخيرات المادية الّتي تجود بها الحياة، و الشّيء نفسه ينطبق على المعايير الجماليّة، فالشّعور والإحساس بالجمال وكلّ الأحاسيس الإنسانية يمكن فهمها بردّها إلى المبدأ المادي الواحد، فهي مجرّد تعبير عن شيء ماديّ يوجد في الواقع الماديّ.[48]
و لمّا كانت المرجعية الكامنة تتّسم بالواحدية الماديّة، أيّ توحّد الإنسان، الطّبيعة و التاريخ، حول الأساس المادي الكامن، فإنّ العالم كلّه قابل لأن يعرّف وفقا للقانون المادي، لأنّ المعرفة مسألة تستند إلى الحواس فقط، و يمكن تطبيق الصيغ الكمّية والإجراءات العقلانيّة الأداتية على الإنسان، كما يمكن إدارة العالم بأسره حسب هذه الصّيغ، ويتحوّل العالم إلى واقع حسي مادي نسبي خاضع للقوانين العامّة للحركة.[49] كما يمكن أن تكون المرجعية النهائية كامنة في العالم (الطبيعة أو الإنسان(، ومن هنا جاءت تسمية المسيري لها بالمرجعية الكامنة. و في إطارها يُنظر للعالم باعتبار أنّه يحوي داخله ما يكفي لتفسيره دون حاجة إلى اللّجوء إلى أي شيء خارج كلّ النّظام الطّبيعي و متجاوز له. و لذا، لابدّ أن تسيطر الواحدية المادية على هذا العالم، وإن ظهرت ثنائيات فهي مؤقتة ، يتمّ محوها نهائيّا ، وفي إطارها أيضا ـ المرجعية الكامنة ـ لا يوجد سوى جوهر واحد في الكون، مادة واحدة يتكوّن منها كلّ شيء، و يخضع لها، ويدور في إطارها، و كلّ ما تعلّق بالإنسان في هذا العالم من مجالات يعود إليها بعيدا عن كلّ تجاوز لها، و تمّ نهائيّا تحرير العالم من قبضة المقدّس(*). ونحن نذهب إلى أنّ كلّ النّظم المادية تدور في إطار المرجعية الكامنة، و لا يمكن الخلاص منها أو تجاوزها في المجتمع الغربيّ.[50]
و المفارقة الكبرى في الحداثة الغربيّة أنها ابتدأت بالإعلان عن الإنسان، وانتهت بالقضاء عليه، فالعالم الغربي يعيش تقدّما تكنولوجيّا وعلميّا مذهلا، وفي الوقت نفسه يعاني الفراغ الروحي والأخلاقيّ والوجدانيّ. ذلك أنّ التقدّم في سلّم السلع والاستهلاك كان على حساب سلّم القيم والأخلاق، وهو بذلك كسب وفقد في الآن نفسه؛ كسب الرفاه المادي، وفقد الراحة الروحية والقيم الأخلاقيّة، وهذا ما أفقده الغربيّ بوصلته الإنسانيّة، فتشاكلت عليه الاتّجاهات وتاهت منه الطّرق[51]. فعاش تائها، فاقدا، يعاني الوهن في طاقاته الروحية، و لم يجد طريقة للتنفيس عن نفسه إلا بنقل وهنه هذا إلى العالم ككلّ، دون أن يسعى إلى البحث عن حلول لدى شعوب أخرى قد يجد لديها ما فقد دون اللّجوء إلى إفقادها هي الأخرى خصوصياتها. كما أنّ مقولة النّسبية الّتي كانت من المفروض أن تحرّر الإنسان، وتفسح له المجال لتأكيد فرديّته، أدّت إلى عكس ذلك تماما؛ حيث أن “النسبيّة تنزع القداسة عن العالم الإنسان والطّبيعة، وتجعل كلّ الأمور متساوية. فقوّضت الإنسان/الفرد من الدّاخل وجعلت منه شخصيّة هشّة، غير قارة على اتّخاذ أيّ قرار، وإن كانت في الوقت ذاته قادرة على تسويغ أيّ شيء، وكلّ شيء”[52].
إنّ المتمعّن في مسار الحداثة الغربيّة سرعان ما يكتشف أنّها أحدثت انقلابا على المرجع النّهائيّ أو المطلق، والّذي نعبّر عنه نحن في ثقافتنا الإسلاميّة بـ “الله“، حيث انقطعت الصّلة بين الله والإنسان، وهذا التحوّل يُعتبر من أهمّ نتائج و مآلات الحداثة المشروع التحديثي المادي الغربيّ[53]. فقد سلب الإنسان جوهره، وإرادته، وبعثره وجزّأه بحيث أصبح لا يتطلّع نحو المطلق، ولا يرغب في الاعتراف بأصله الإلهي، ومرجعيّته النّهائية، وبالتّالي طغت على ذاته سمة الاغتراب، وتمّ تحرير القيم، و الغائيات الأخلاقيّة، والإنسانيّة، وساد التّصوّر بأنّ العالم خلق صدفة، أو خلق نفسه بنفسه[54]، هذه الصدفة هي التي جعلت الإنسان يؤمن بعبثية الحياة، والكون، و الوجود و كلّ شيء، و بالتّالي فلا شيء يستحقّ الاهتمام، والتضحية غير الحياة التي يعيشها، التي ينبغي أن تكون ميدانا، لإشباع رغباته المادية المتنامية يوما بعد يوم.
ومن هذا المنطلق لم تتحقّق سيادة الإنسان، الّتي ظلّت الحداثة تحلم بها على مدار قرون، وإنّما راحت تختزل المسافة بين الإنسان والطبيعة/المادة، وفقد الإنسان على إثرها مكانته، ومركزّيته إذ لم يعد يرغب في هذه السيادة، فأعلن موته، وكل هذه السلوكيات تعبّر عن حقيقة واحدة هي همجية وعنصريّة، ولا إنسانية النّموذج المادي، التحديثي الغربي، الّذي هيمن على كلّ مجالات الحياة المهمّ منها وغير المهمّ، المركزي منها والهامشي، وأحكم قبضته وأصبح هو أساس الخريطة الإدراكية للإنسان الغربي الحديث.[55] بمعنى أدقّ فإنّ الحداثة أراد إحياء الإنسان فقتلته.
ليصبح العقل الحداثي الغربيّ “جزأ لا يتجزأ من المادة، وهو صفحة تنعكس عليها صورة الأشياء”[56].إي: إنه يستمدّ قوّته وكينونته من المادة/ الطّبيعة لا من مقولات الإنسان، والحريّة والفردانية ليقضي على كلّ الثنائيات، ليكشف القناع عن وجهه البراغماتي لمن جهة أخرى، فهو يهدف إلى السيطرة على الإنسان والطبيعة وجعلهما في خدمته، فالحداثة الغربية أدركت الإنسان من خلال مقولات العلوم الطبيعية البسيطة، أي الموضوعية المنفصلة عن الذات.[57]
خاتمــة
إذن: فإنّ المسيري أوصله حسّه النقدي النفّاذ إلى عمق الإشكاليات الغربيّة المعاصرة، والتي ماهي إلاّ مآل لزمن الحداثة بمختلف مقوّماته بدءا من المبادئ إلى المجالات انتهاء بالتحيزات و ما نجم عنها من آفات إنسانية كونية، ومن هذا المنطلق ومادامت الحداثة الغربية حسب المسيري قد عبّرت عن عدم صلاحيتها، وأهليتها لتكون أنموذجا يحتذى به في العالم العربيّ والإسلامي، نظرا لمآلاتها الهدّامة، وسلبياتها التي دمّرت وقضت على الإنسان نهائيّا، حُقّ لنا أن نتساءل عن البديل الّذي يطرحه المسيري للخروج من هذه الأزمة: هل هناك من المشاريع العالمية غير الغربية يصلح ليطبّق في العالم العربي والإسلاميّ؟، أمّ هل من جديد يأتي به المسيري؟. وإلى أي مدى يمكنه أن يصبح واقعا؟.
[1] ـ عبد الوهّاب المسيري وفتحي التريكي، الحداثة وما بعد الحداثة، ط1، دمشق، دار الفكر، 2003م، ص 349.
[2] ـ عبد الوهاب المسيري، دراسات معرفية في الحداثة الغربية، ط1، القاهرة، مكتبة الشروق الدولية ، 1427هـ ـ 2006م، ص ص 33، 34.
[3] ـ عبد الوهاب المسيري، دراسات معرفية في الحداثة الغربية، المصدر نفسه، ص 34.
[4] ـ عبد الوهاب المسيري، التعددية والترشيد العلماني“، مجلة قراءات سياسية، بيروت، عدد صيف بيروت، 1995م، ص 105.
[5] ـ سوزان حرفي، العلمانية والحداثة والعولمة، ( حوارات عبد الوهاب المسيري)، ط1، دمشق، دار الفكر، 1430هـ ـ 2009م، ص 190.
(*) ـ مصطلح استخدمه المسيري للدلالة على انفصال العلم عن القيم.
[6] ـ سوزان حرفي، العلمانية والحداثة والعولمة، مصدر نفسه، ص 191.
[7] ـ عبد الوهاب المسيري، دراسات معرفية في الحداثة الغربية، مصدر سابق، ص 35.
[8] ـ عبد الوهاب المسيري، فكر حركة الاستنارة وتناقضاته، ط1، القاهرة، دار نهضة مصر للطباعة والنّشر والتوزيع، 1998م، ص 4.
(*) ـ سزيف Sisyphe) )، شخصية أسطورية يونانية وردت في أدبيات هوميروس، وسيزيف هو بطل محارب ابن الإله أبولوس إله الرياح و صوّره هوميروس بأنه أخبث الكائنات والمخلوقات على وجه الأرض أجبره الإله زيوس على دحرجة صخرة عملاقة إلى قمّة جبل و ما إن يصل إلى قمّته حتّى تتدحرج مرّة أخرى و هكذا يظل في هذا العذاب الأبدي. ألبير كامو، أسطورة سيزيف، تر: أنيس زي حسين، ط1، بيروت، منشورات دار مكتبة الحياة، 1983م، ص 40.
[9] ـ عبد الوهاب المسيري، فكر حركة الاستنارة وتناقضاته، مصدر سابق، ص 7.
[10] ـ عبد الوهاب المسيري، موسوعة اليهود واليهودية و الصهيونيّة، نموذج تفسيريّ جديد، مج1، ط1، القاهرة، دار الشروق، 1999، ص 163.
[11] ـ عبد الوهّاب المسيري، دراسات معرفيّة في الحداثة الغربيّة، مصدر سابق، ص ص 35، 36.
(*) يقصد بها المسيري التركيبة المادية للإنسان المتعلّقة بحياته البيولوجية أو الفيزيولوجية دون غيرها.
[12] ـ عبد الوهّاب المسيري، الفلسفة الماديّة وتفكيك الإنسان، ط1، لبنان، دار الفكر المعاصر، 1423هـ ـ 2002م، ص ص11، 12.
[13] ـ عبد الوهاب المسيري، موسوعة اليهود واليهودية و الصهيونية، نموذج تفسيريّ جديد، مج1، مصدر سابق، ص 82.
[14] ـ عبد الوهّاب المسيري، دراسات معرفيّة في الحداثة الغربيّة، مصدر سابق، ص 18.
[15] ـ المصدر نفسه، ص ص 22، 23..
[16] ـ المصدر نفسه، ص 24.
[17] ـ عبد الوهاب المسيري وفتحي التّريكي، الحداثة وما بعد الحداثة، مصدر سابق، ص 38.
[18] ـ المصدر نفسه، الصفحة نفسها.
[19] ـ عبد الوهّاب المسيري، دراسات معرفيّة في الحداثة الغربيّة، مصدر سابق، ص 101.
[20] ـ عبد الوهّاب المسيري، اللّغة والمجاز بين التوحيد ووحدة الوجود، ط1، مصر، دار الشروق، 2002/1422هــ ، ص 232.
[21] ـ عبد الوهّاب المسيري، اللّغة والمجاز بين التوحيد ووحدة الوجود، مصدر سابق، ص 102.
[22] ـ المصدر نفسه، ص 233.
[23] ـ عبد الوهّاب المسيري، دراسات معرفيّة في الحداثة الغربيّة، مصدر سابق، ص 102.
(*) ـ التشيؤ Refication)): هو أن يتحول الإنسان إلى شيء تتمركز أحلامه حول الأشياء، ولا يتجاوز السطح المادي وعالم الأشياء، وتصبح العلاقات بين البشر مثل العلاقات بين الأشياء، ويتمّ من خلاله نزع كلّ قداسة عن الإنسان. عبد الوهّاب المسيري وفتحي التريكي، الحداثة وما بعد الحداثة، مصدر سابق، ص ص 342، 343.
[24] ـ عبد الوهاب المسيري، رحلتي الفكرية في الجذور والبذور، سيرة غير ذاتية غير موضوعية، ط6، مصر، دار الشروق، ص 209.
[25] ـ يورغن هابرماس، القول الفلسفي للحداثة، مرجع سابق، ص 177.
[26] ـ عبد الوهاب المسيري، رحلتي الفكرية في الجذور والبذور، المصدر نفسه ، ص 191.
[27] ـ عبد الوهّاب المسيري، رحلتي الفكرية في الجذور والبذور، مصدر سابق، ص 195.
[28] ـ المصدر نفسه، ص 204.
[29] ـ عبد الوهّاب المسيري، دراسات معرفيّة في الحداثة الغربيّة، مصدر سابق، ص 64.
[30] ـ كرين برنتون، تشكيل العقل الحديث، مرجع سابق، ص 178.
[31] ـ بومدين بوزيد، الفكر العربي المعاصر وإشكالية الحداثة، مجلة قضايا التنوير والنهضة في الفكر العربي المعاصر، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربيةـ، العدد 18، ص19-31، ص21.
[32] ـ عبد الوهّاب المسيري، دراسات معرفيّة في الحداثة الغربيّة، مصدر سابق، ص 114.
[33] ـ عبد الوهّاب المسيري: دراسات معرفيّة في الحداثة الغربيّة، مصدر سابق، ص 115.
[34] ـ عبد الوهاب المسيري، رحلتي الفكرية في الجذور والبذور، مصدر سابق، ص 274.
[35] ـ المصدر نفسه، ص 979.
[36] ـ عيد الوهاب المسيري، دراسات معرفية في الحداثة الغريية ، المصدر نفسه، ص 111.
[37] ـ سوزان حرفي، العلمانية والحداثة والعولمة، مصدر سابق، ص 295.
[38] ـ عبد الوهاب المسيري، دراسات معرفية في الحداثة الغربية، مصدر سابق، ص 112.
[39] ـ عبد الوهاب المسيري، دراسات معرفية في الحداثة الغربية، مصدر سابق، ص 255.
[40] ـ المصدر نفسه، ص 118.
(*) ـ البراغماتية ( Pragmatiseme) ، نسبة إلى براغما (Pragma)، وهي كلمة يونانية معناها العمل وهي مذهب ظهر في أواخر القرن التاسع عشر على لسان “تشارلز بيرس“، و”وليام حيمس” الأمريكيين، وفحواه أن المعرفة مجرد ذريعة إلى العمل، وأن الصدق تابع للخبرة، وأن مقياس الصواب في المعرفة والعمل، هو الاستفادة، محمود یعقوبي، معجم الفلسفة -أھم المصطلحات و أشهر الأعلام ـ ، مرجع سابق، ص 161.
[41] ــ عبد الوهاب المسيري، دراسات معرفية في الحداثة الغربية، المصدر نفسه، ص 119.
[42] ـ المصدر نفسه، ص 111.
[43] ـ سالم القمودي، جرأة الفكر بين التلقائية والتوجيه القسري،د.ط، بيروت، مؤسسة الانتشار العربي، 2006، ص 199.
(*) ـ الرؤية التعاقدية، ترى المجتمع بحسبانه تركيبا بسيطا تتسم عناصره بالتجانس، أي: مجتمعا تعاقديا العلاقات بين الأفراد فيه علاقات بسيطة، وغير متشابكة يمكن التعبير عنها من خلال عقد قانوني نصوصه واضحة، والرؤية الكلية للإنسان هنا تقوم على أنه كائن فرد بسيط ذو بعد واحد، أي إنسان طبيعي ومن ثم فإن الطبيعة تسبق الإنسان. عبد الوهاب المسيري، الدفاع عن الإنسان، دراسات نظریة و تطبیقیة في النماذج المركّبة، ط 1، القاهرة، دار الشروق 2003 ، ص 360.
(**) ـ المجتمع التراحمي: الرؤية التراحمية ترى المجتمع بحسبانه كيانا مركبا، تتسم عناصره بالتجانس، والتنوع أي مجتمعا تراحميا، العلاقات بين الأفراد فيه علاقات مركبة متشابكة لا يمكن التعبير عنها من خلال عقد قانون واضح، وينظر إلى الإنسان هنا على أنه كائن جماعي، مركب متعدد الأبعاد إنسان، المصدر نفسه، ص 361.
[44] ـ عبد الوهاب المسيري، رحلتي الفكرية في الجذور والبذور، مصدر سابق، ص 65ـ 68.
(*) ـ الحوسلـة (Instrumentalization ) ، نستخدم في هذه الدراسة اللفظة المنحوتة “حوسل” اختصارا لعبارة “تحويل الشيء إلى وسيلة” والنحت هو اشتقاق كلمة من كلمتين أو أكثر على أن يكون هناك تناسب في اللفظ والمعنى بين المنحوت له والمنحوت منه. وقد أجازت المجامع اللغوية في الوطن العربي النحت عندما تلجئ الضرورة إليه، وقد وجدنا أن من الضروري نحت كلمة “حوسلة” لدواعي الإيجاز اللغوي، ذلك لأن عبارة “تحويل كذا إلى وسيلة” عبارة طويلة ولا يمكن توليد مصطلحات منها. و”حوسل” فعل متعد بمعنى حول الشيء أو الإنسان إلى وسيلة، ومنها “الحوسلة”. عبد الوهاب المسيري، الصهيونية والنازية ونهاية التاريخ: رؤية حضارية جديدة ، ط3، القاهرة، دار الشروق، ص 252.
[45] ـ عبد الوهاب المسيري، رحلتي الفكرية في الجذور والبذور، المصدر سابق، ص71.
[46]ـ عبد الوهاب المسيري، دراسات معرفية في الحداثة الغربية، مصدر سابق، ص79. .
[47] ـ رنيه دوبو، إنسانيّة الإنسان نقد علمي للحضارة المادية، تر، نبيل صبحي الطّويل، ط2، بيروت، مؤسّسة الرسالة، 1984م، ص 11.
[48] ـ عبد الوهاب المسيري، الفلسفة الماديّة وتفكيك الإنسان، مصدر سابق، ص 18.
[49] ـ المصدر نفسه، ص 39.
(*) ـ مقدس (sacre)، هو الظاهر المنزّه عن العيوب و النقائص، الذي يجب احترامه وإجلاله لما له من قيمو دينية، محمود يعقوبي، معجم الفلسفة ـ أهمّ المصطلحات و أشهر الأعلام ـ مرجع سابق، ص 131.
[50] ـ عبد الوهاب المسيري، موسوعة اليهود واليهودية والصهيونيّة، مج1، ص 57.
[51] ـ أحمد عبد الحليم عطيّة وآخرون، عبد الوهاب المسيري في عيون أصدقائه ونقّاده، ط1، دمشق، دار الفكر بدمشق، 2007م، ص 332.
[52] ـ عبد الوهاب المسيري، رحلتي الفكريّة في الجذور والبذور، مصدر سابق، ص 195.
[53] ـ محمّد عمارة، مستقبلنا بين التجديد الإسلاميّ والحداثة الغربية، ط2، مصر، مكتبة الشروق الدّولية، 2007م، ص 39.
[54] ـ عبد الوهاب المسيري، دراسات معرفية في الحداثة الغربيّة، مصدر سابق، ص256.
[55] ـ المصدر نفسه، ص 255.
[56] ـ المصدر نفسه، ص 210.
[57] ـ عبد الوهاب المسيري، المادية وتفكيك الإنسان، مصدر سابق، ص 132.