
أصوات الوطن في رواية “لخضر ” للكاتبة ياسمينة صالح، الدكتور هامل شيخ المركز الجامعي بلحاج بوشعيب عين تموشنت الجزائر، بحث نشر بكتاب أعمال مؤتمر الرواية العربية في الألفية الثالثة ومشكل القراءة في الوطن العربي: الجزائر العاصمة 21-22|08|2016 ، ص 107. (للتحميل يرجى الضغط هنا)
ملخص:
تعتبر الرواية فنا نوعيا في عالم اليوم ،هي- بحق- تعبير عن واقع معين في فضاء سردي يشع بالتميز يجمع ما بين الألفة والغرابة ،هي حكي تتعدد فيه الأصوات ،تتوافق حينا وتتصارع في أحيان أخرى ، منتجة صيرورة من التصوير والتخييل والتحريك ،إن الرواية العربية الحالية جنس متميز يساهم –إلى ابعد حد- في صنع الفكر وتكوين الرؤى وصنع قيم بديلة متجددة .
تحليل الرواية العربية الحالية انطلاقا من وحداتها البنائية الكلاسيكية فقط، يجعلنا نهدر الكثير من التيمات المعرفية التي تتضافر في نسج الدلالات المشكلة لفضاءات الحكي الممكن والمتوقع .
فالرواية تمتلك قدرة خلاقة على استثارة أهواء الذات وانفعالاتها كما إنها تلتقط زمنية خاصة في عوالم السرد ،ففضاؤها المعرفي مبهر ،متجدد،لأنها تعتمد على تقنيات مستعارة من وسائط حالية (سينما-تواصل اجتماعي-نشر رقمي…) إن تقنيات الرواية العربية الحالية أفرزت معرفة جديدة ،تفضي –في كل حين ولحظة- إلى تنوع في الطرح وتجديد في بسط الأصوات والإفصاح عن التجنيس والتقمص والتشكيل والغيرية التي تفضي إلى التأمل ثم التأويل والإشارة إلى المفارقة بين التخييلي والواقعي ذو الدلالة المرجعية.
سنحاول في هذه المداخلة الإشارة إلى تعدد الاصوات في رواية ” لخضر” للكاتبة ياسمينة صالح تحليلنا سيكون معرفيا انطلاقا من تتبع معرفي مختلفة يحاول استظهار المخالف والشاذ ،الأطر الغيرية واللبنات القيمية في قاموس المجتمع الحالي،فالسرد الحالي هو طريقة حياة تشوبه انماط الصراع ، الابتهاج،الكيد،التأمل …
مقدمة :
يصعب عزل الرواية الجزائرية عن رحمها العربي، إلا استجابة لمتطلبات البحث العلمي ،فقد تميزت التجربة الجزائرية من مثيلاتها في الوطن العربي ،بسبب طبيعة التطورات السياسية والاجتماعية،الحاصلة في المجتمع الجزائري (الثورة-العشرية السوداء-التعددية..الخ)هذه الظروف أفرزت طيلة عقود تقسيما معينا في أنماط السرد يحيل إلى :السرد التاريخي ، الإيديولوجي،وسرد المحنة أو المرحلة وما يحمله من تراكمات معرفية يتجاذبها المجتمع والسياسة ،برزت بفعل ذلك تجارب روائية رسمت أبعاد الإنسان الواقع في ظل الصراع والفقر،مصورة-باقتدار- المعاناة والعذاب وما يحمله من تيمات للمقاومة والخوف والترقب والكولسة والمكيدة وما إلى ذلك من أنواع التناقض الذي ميزت الوطن ؛وفي المقابل هناك تجارب خاضت في المحرمات الثلاث (الجنس والدين والسياسة) مقدمة توصيفا فنيا لظواهر شتى ينبغي أن يرسمها الإبداع بريشته ،هذه التيمات كلها جعلت الرواية الجزائرية تتطلع أكثر من أي وقت مضى إلى فضاء أوسع تستنشق منه هواء الإبداع الصافي، وتتحرر من كل القيود ،لترسم بذلك صورة فنية عن الوطن وما يحمله من آمال وآلام،وتعد رواية لخضر لياسمينة صالح من الروايات التي تميزت بجدتها وفنيتها في معالجة قضايا الوطن والانسان بطريقة إبداعية مبهرة ،حيث يكتشف القارئ،قدرة ياسمينة صالح على تصوير المشاهد ووضع الأحداث في فتراتها بتوثيق بارع
وتحكمها في اللغة والمعجم المصاحب، وتطويعها لأدوار الشخصية المحورية “لخضر” لكي يلعب بين محوري الحب والقتل بتوازن ،هي كلها عوامل تحسب للرواية الجزائرية التي تجدد في كل حين ولحظة في بنياتها وسياقاتها المصاحبة .
تمهيد:
أساس فن الرواية عند بعض الدارسين مراقبة المؤلف أخلاق البشر لينبش عواطفهم وأسرار نفوسهم في حالات الرضا والغضب أو الحب والبغض أو الحزن والسرور أو سعة الصدر وضيقه إلى غير ذلك من الحالات التي تختلف باختلافها الأحداث النفسانية في الجنسين من النوع الإنساني[1]
فالأفكار والقيم ومختلف التمثلات التي تحفل بها الرواية تشكل سلطة مهيمنة في طبيعة الحركة أو الفعل أو رد الفعل للأفراد الذين ينتمون إلى هذا المجتمع ا والى شريحة منه بوصفها تشكل نسقا جاهزا للحركة ،فيأتي فعلهم أو رد فعلهم متساوقا أو منطلقا من هذه الأفكار .[2]
فالتجربة الإنسانية-ضمن الكثير من الأطر المتاحة في الإبداع-تتميز بالكلية ، فإذا كانت تقدم نفسها على شكل شاشة تتزاحم داخلها الأنساق وكل نسق يحيل إلى معرفة خاصة (خاصة بالشخص الشارح-وخاصة بالفترة التاريخية التي أنتجتها وخاصة بالمجموعة البشرية التي تتحدد عبرها )فإنها أيضا تدرك ككلية ولحمة وهو ما يخلق الانسجام بين مكونات الفعل والسلوك والقيم والأخلاق .[3]
تبدو رواية لخضر للكاتبة الجزائرية ياسمينة صالح استمرارية لتسلسل سردي متقن فهي الرواية الرابعة للمبدعة على نفس الخط الابداعي :بحر الصمت(2001)،أحزان امرأة (2002)،وطن من زجاج(2006)،وهذه الرواية التي صدرت سنة (2010)،الرواية حسب بعض النقاد تتوزع على محورين رئيسيين ،متوازيين مترابطين بإحكام عضوي لا ينفصم هما : الحرب والدم [4]من جهة ، والحب والتزاوج من جهة ثانية يهيمن على الرواية الصوت الذكوري ،فصوت السارد شخصية سياسية وامنية[5]
لقد نجحت الكاتبة في تقديم صورة حقيقية عن لخضر في كل مراحله الحياتية ؛حتى أنها قالت في إحدى الحوارات الصحافية ” لخضر لم يكن اسما وكفى إنه في النهاية كل الرواية بأبعادها التاريخية والجغرافية والسياسية .[6]
عندما نقرا الرواية تستفزنا السيرة الذاتية للخضر ” لقد لقد باع لخضر روحه لشيطان السلطة مثلما باع فاوست * روحه لفستوفيليس”[7]
شكلت هذه الصفقة خلاصا من الموت جوعا وقهرا خاصة بعد أن داس على رأسه ضابط في الشرطة بعد أن خطب حبيبته نجاة في الصفحات الأولى من الرواية تلفت الكاتبة انتباه القارئ بقولها :” أحداث وأشخاص الرواية من نسج الخيال” ، لكنها تعترف في إحدى الحوارات الصحفية أنه”من الصعب أن يكون الكاتب خياليا بالمطلق داخل نص روائي يتناول واقع بلد ما ،ولهذا نجد الخيط الرفيع بين الحقيقة الصادمة والخيال الصادم أيضا ،حيث لا يمكن الفصل بينهما ” فالرواية توثيق لواقع مرير انطلاقا من تخيييل استدعى رصف الكثير من التيمات الموجودة –فعلا- في المجتمع؛ فأسماء العلم الموجودة والأماكن ومختلف الأحداث الدقيقة التي وقعت تباعا في فضاء الرواية تنبئنا عن قمة البناء الفني والسردي لدى ياسمينة .رسم كلمات معدودة في الصفحة الأولى ” أحداث وأشخاص الرواية من نسج الخيال” لايدل على تخييل السارد بالمطلق لأن القارئ سيعيش الأحداث بوجدان المركز وانتباه المعني بما حدث ،الشيء الذي يجعله يتضامن مع لخضر في بداية الرواية ،في عديد المقاطع منها مأساة وفاة أمه وهو في أوج الحاجة لصدرها وعطفها ” يتذكرها كما لو انها ماتت البارحة يتذكر جسمها النحيف وابتسامتها التي لم تكن تفارقها قط ،ونشاطها في البيت حتى في حالة المرض ..يتذكر وجهها الذي كان يعيده الى البيت كل يوم ،ويجبره على الإصغاء والطاعة لينجح ويحمل العبئ عندما يكبر ….كان يصدق في وجهها تلك الأكاذيب الصغيرة والجميلة عن الغد والنجاح والفرح والمستقبل “[8]
لقد تفننت ياسمينة في رسم عواطف الطفل وهو يعايش وضعا اجتماعيا يدعو للتعاطف والحزن والبكاء في الكثير من المقاطع ،رسمت بؤس البراءة وهي تفقد تباعا. الأحبة ،وتفارق عينين جميلتين وديعتين (الأم والأخت).”سال بصوت مليء بالدهشة :
لماذا تتجمع النسوة في بيتنا؟
قالت الجارةبصوت غارق في الهدوء:
يا لخضر يا ابني،أمك المريضة،ارتاحت الآن..
هل أحضر لها أبي الدواء ؟
بل أخذها الله إليه. لأنه يحبها. الله يأخذ من يحبهم.[9]
يتكرر نفس المشهد مع الأخت الصغيرة ،يستحضر لخضر-بأسى- جسمها الصغير والنحيف وإحساسه بالعجز أمامها ،ترجى لخضر والده أن يأخذها إلى الطبيب، لكن لا مكان للفقراء في المشفى والمصحة ،فحالتها لا تستدعي ذلك .
ظلت أخته الصغيرة تصارع الحمى طوال أسبوع إلى إن استسلمت لها ..توقفت أنفاسها وتوقف جسمها عن الارتجاف..كان لخضر يريد أن يكون حاضرا في تلك اللحظة الأخيرة ،حين امسك يدها بقوة وظل يضغط عليها إلى أن تسربت برودة قاسية إلى جسمه …فهم أنها النهاية .انقطعت أنفاسها أمام عينيه ووجد نفسه يصرخ بقوة ليوقظ من في البيت.نهره أبوه ليكف عن الصراخ،وقبل أن يستوعب الجميع ما يجري ،كان جسم أخته يزداد هدوءا وبرودة ،وانغماسا في ذلك الصمت القريب من النهاية..”.[10]
تضامن القارئ مع لخضر يفتر بتوالي الفصول سيتحول لخضر من حمال في الميناء الى حارس ليلي فمخبر لدى بعض الجهات ،تدرجه في المناصب يمكنه من الاحتكاك بالكثير من الأشخاص مما يدخله في دوامة رهيبة ،تفصح المشاهد الكثيرة الواردة في الرواية عن شخص آخر ،يجر بتقاريره اليومية العديد من الأشخاص إلى الهاوية ،صور الرواية تخبرنا بفنية عالية عن حالة المجتمع في تلك الفترة ،فترة عصيبة راح ضحيتها الكثير من الأشخاص ،عاش الوطن بؤسا وعنفا وخوفا ،حاول لخضر أن يحصل على السلطة والأبهة والتميز في عالم حرمه الكثير من الأشياء،في فترات السرد الكثيرة يبرز- بخفوت- الضمير القابع خلف شخص لخضر ليلومه على أفعاله،لكنه يترنح بفعل بشاعة المشاهد التي يصنعها هذا الشخص مما يجعل الرواية حوارا داخليا مستمرا بين الخير والشر بين الحب والضغينة بين البساطة والسلطة من جهة ،ومن جهة ثانية صراع نفسي اجتماعي مكسو بايديولجيات هدامة ،أدخلت الوطن إلى نفق تعيس،عكسته اللغة السوداوية و المعجم المظلم .
في رحاب العنوان:
يفتح العنوان افقا توقعيا لدى القارئ بناء على كلمات النص المصغر (العنوان) فتكون لديه فرضيات،فهو لا يدخل فضاء القراءة صفحة بيضاء،وإنما لديه ذخيرة مكونة قبلا ،تدخل فيها معرفته بمقاصد الكلام. [11]
العنوان بنية مختزلة شديدة الاقتصاد لغويا ،هو مجموعة خطوط دلالية وتركيبية وايحائية وتمييزية ،تتقاطع طولا وعرضا مع خطوط النص .[12]
عنوان الرواية اسم علم بالإطلاق “لخضر” إحالاته تتعدد وتتوسع ضمن أطر وسياقات كثيفة ،حيث يحيل لخضر لغويا إلى دلالات كثيرة تتجاذبها معاني اللون – السعة والجمال والتميز والخضراء الخير و السعة ، لكن لا أظن أن العنونة ارتبطت بصفة فعلية بهذه الأوصاف السابقة ،لخضر اسم علم يطلق في المجتمع الجزائري بكثرة ويختلف الناس حول ربطه بدلالات مصاحبة ،حتى وان كانت جلها تحتفي بمعانيه الجميلة :الجنة الخضراء،الخضر الرجل الصالح ، الخصب والنماءو غيرها من الأوصاف الحسان ، لكن هذه الأوصاف الجميلة تتناطح وتناقض المتن فلخضر رسم بأفعاله سوداوية مقيتة تداخل فيها الذاتي بالإيديولوجي بصفة بائسة وهو ما شكل لوحة فنية بألوان داكنة في رواق معتم مصابيحه قليلة. فيمكن ان نربط الاسم ببعض المعاني التي وردت في المعاجم [13]،ففي اللغة العربية اخضر الجناحين هو الليل ،والخضراء هي السوداء، وكثافة الخضرة تدل على السواد، فتنبذ الشخصية كل المعاني الجميلة للخضرة.[14] “لتغرق ممارساتها في ظلمة تدمر تلك البذرة النقية التي تكمن في أعماق كل إنسان! وتفسح المجال لحياة متوحشة، تنتـزع منها معاني إشراق القيم، ونبض المشاعر التي تهب الحياة معناها، فتبتعد الشخصية عن كينونتها، حتى إنها لا تصغي لنداء الطبيعة والأبوة”[15]، يمكن ان نربط عنوان الرواية ببدلة القتال Tenue de combat فيكون الإسقاط مقبولا إلى حد بعيد لأن جل مقاطع الرواية تتجاذبها المشاهد العسكرية والأمنية بصفة إبداعية تخييلية ،في عديد الحوارات الصحفية ،لم تشر الكاتبة ياسمينة صالح إلى دلالة العنوان ،تاركة لنا المجال لربط السياقات المصاحبة للرواية –وهي كثيرة- باسم العلم الذي طبع في واجهة العمل التوثيقي المحكم .عتبة العنوان تعد اختزالا للكثير من التيمات التي تراهن عليها الكاتبة ،فالعنوان إشارة لما تحتويه الرواية وفق رؤية الكاتب وأهدافه ،وتختلف الرؤية مع اختلاف الهوية الثقافية ،وبالتالي فان هناك إشارة ومشارا إليه يخضعان للتحلي[16]ل السيميولوجي ،أي مقاربة الإشارات والعلامات والتي تحيل إلى أشياء بعيدة عن الإفهام لأول وهلة .
لذلك يمكن اعتبار العنوان –هنا- تثبيتا لقيمة السرد انطلاقا من حركية المفردة الوحيدة :”لخضر” داخله والتركيز عليه بصفته واجهة في البدء ثم تطوير مجالات اشتغالاته داخل بنيات السرد والواضحة التي سنشير إليها تباعا ،في بداية المقطع الثالث من الرواية يذكر “لخضر”لأول مرة تعيينا ،بعدما ذكر إحالة بضمير الغائب :”كان لخضر وقتها في سن يقال انه عنفوان كل الأعمار التي يمكن لشخص ما أن يعيشها ،لم يشعر قط انه يحمل عمرا يستحق أن يحتفي به داخل ما كان يحيط به من من فراغ مهول .”[17] ،هذه التيمة الوصفية التي تشير إلى الفضاء الذي ستسبح فيه كلمة لخضر” اسم العلم” ثم” لخضر” الشخصية المحورية التي تدور في فلكها كل الأحداث؛ فالعنوان يهيمن على النص بوصفه كتلة اقتصادية ، وهو يتموقع كسلسلة إحالة
chaine de référence،فحسب ماورد في معجم تحليل الخطاب نسمي بمصطلح سلسلة الاحالة في ملفوظ او نص كل متتالية من المفردات تحيل على مرجع واحد ،ويتعلق هذا بالمتتاليات المتكونة من مجموع اسمي وضمائر عائدية قبلية أو بعدية[18]
لخضر سيلقي بظلاله في كل مقاطع السرد بلا هوادة ضمن حركية تجعل التجدد والتغير من الذاتي إلى الاديولوجي السمة البارزة لهته السلسلة ،فعلى سبيل المثال نجد الإحالات التالية في البداية
فهم أن أمه ماتت. أخذها الله إليه ليريحها من مرضها وأنينها الليلي[19]
فكر أن أخته ذهبت إلى الله لأن الله يأخذ من يحبهم ….فكر أنها لن تجوع ولن تبرد ولن تمرض بعد الآن.[20]
أحس لخضر بحزن غريب وهو يتساءل: هل هذه الحياة التي نولد من اجلها ؟ شعر انه يكره هذه المهنة لأنها سبب في كل الغبن الذي ترعرع فيه.[21]
كان يشعر انه لن ينجح في التقدم في عمله ان تعاطف مع ضحاياه. [22]
فكر ان لخضر الذي كان مرتبطا بذاكرته قد مات، مات منذ زمن بعيد .[23]
ويتطور السرد بضدية رهيبة تجعل من الطفل الوديع لخضر (ضحية الفقر والمجتمع) إلى شخص يستبيح كل الصفات البشعة ،ويعيش قسوة الضمير وبطش الذكريات الموجعة . فالعنوان- لخضر-اختزال لوجع طفل وألم رجل قست عليه الظروف فكان قاسيا على ضحاياه وعلى نجاة وعلى سي الطيب وعلى حسين وعلى الوطن بدموع قلب عاش قهر الضمير في كل حين من حياته المليئة بالتساؤلات ومساحات الفراغ الداكنة ،لخضر فسيفساء الذات والاديولوجيات المتسارعة ،لخضر الحمال والحارس والضابط ،لخضر البدلة ،لخضر المحب(الأم –الاخت -نجاة-حسين )
الصوت في السرد :
ورد تعريف الصوت في بعض المعاجم المتخصصة بأنه إحدى مقولات الخطاب القصصي الثلاث .Genette1972بعد مقولتي الزمن والصيغة .ويعود الفضل إلى جونات نفسه في التمييز بين الصوت والصيغة ؛ففي الصيغة تقع العناية بجهات الخطاب كالمسافة والمنظور ،وفي الصوت يقع الاهتمام بالمستويات السردية متعلقة بالمستويات الحكائية .[24]
والصوت في السرد هو ارتداد المعنى واشتغاله داخل فضاءات الحكي الممكن والمتاح داخل المتن،وهو وجوده داخل مساحات السياق الرحبة ،والصوت أصوات تتماشى بنظام معين داخل الرواية تتجانس وتلتقي حينا و، ويمكنها الاختلاف والتناطح والتضاد في أحيان أخرى ،تعلو الأصوات على بعضها البعض ،فيظهر بعضها ويضمر الآخر حسب الحدث والرسم السردي لتطور فصول الحكي ،وكلما كانت المشاهد متقنة السبك كلما كان الصوت أوضح للمتلقي في رواية لخضر اصوات تصدح بالشيء الكثير من فنون القول الذي يعبر عن معارف مختلفة وحوادث .
صوت لخضر :
عندما نريد ان نتناول الصوت في هذه الرواية ينبغي أن نربطه بتيمات معينة كي يظهر أثره ويبرز دوره الفني و أول هذه التيمات تيمة الوطن وثانيها تيمة الذات هما تيمتان مهمتان في هذ العمل الذي سبق وان اشرنا انه يشتغل على محوري الحب والقتل وما يصاحبهما من قيم من جنسهما تكون بديلة أو مرسخة للكثير من الأفعال ،قبل ذلك ينبغي أن نشير إلى أن لخضر في تجلياته هو استمرارية لشخصية العربي الذي ولد بمعانة وقهر تشبه إلى حد بعيد بؤس لخضر .”يومها أحس العربي انه يحنق على الفرنسيين …يكرههم لأنهم حرموه من أبيه ،ولأنهم حرموه من أمه التي ماتت سنة من بعد تلك الحادثة …ماتت حاملة حسرتها معها والأسئلة التي لم تجد لها جوابا “[25]
بدا السارد الرواية من النهاية وفق تقنية الاسترجاع ، اختزل زمن أكثر من ثلاثين سنة ليظهر لخضر بعد ردح من الزمن .الرجل الذي لا يريد أن يرى نفسه في المرآة؛ “سيدي أنت من أمر بنزع المرايا من الجدران والأمكنة أنت من أمرنا بعدم ترك مرآة واحدة في البيت” [26]
لا يريد لخضر ان يرى نفسه مجسدا في ملامح فهو يرى ذاته في الآخرين ،حتى الحياة لم تعد تمثل له شيئا ،هو يحاكي كامي في روايته “السقوط” لسان حاله يقول: “أنها تفاهة بلا ضفاف،أقاصي غارقة، غياب لكل إشارة طوبوغرافية وزمنية ، انمحاء لكل الاختلافات المشخصة ،كل شيء ضاع في مدى زمني راكد؛هانحن أمام نهاية لكل نظير ” [27]
بدأت الرواية ببوح واعتراف فالفصلان الأول والثاني هما استمرارية زمنية للفصل الأخير ، أحداث كثيرة ستقع في فضاء التخييل المطلق-حسب الكاتبة-لكن إسقاطه على مرجعية واقعية يلقى قبولا،ضمن الأطر المتاحة في السرد.
لخضر صوت الذات: يقول فيليب هامون :”وقد يكون تحديد البطل من خلال تعليق ضمني ،وعلى التحليل أن يحدد الأماكن التي يقوم فيها النص بطرح منظوره الخاص ويسمى البطل بطلا والخائن خائنا وان يقوم هذا الفعل او ذاك كفعل خير أو كفعل شر ،باختصار فان النص يرافقه جهاز تقويمي ذو وظيفة ميتالغوية” [28]
المنظور الذي يتحرك فيه لخضر منذ البداية هو البحث عن الذات وجلدها كلما سمحت الفرصة بذلك ،ذات عانت الكثير من الفقر والحرمان الأسري،طفل فقد أمه في صغره،وأخته بسبب مرض بسيط ،عاش مع أب متسلط فارغ من الحنان ،لم يزرع فيه شيئا جميلا ،وبدل ذلك،سلبه براءته حنانه وكل جميل كان فيه،تحاول الساردة أن تبرر لنا جفاء الأب :”وان والده الذي لم يضمه قط إلى صدره،لم تكن له ذراعان ليضمه بهما بعد ساعات مميتة كان يقضيها في حمل الأكياس على ظهره ذهابا وإيابا ” الرواية ص.30. انطلاقا من العتبات التي وفرها لنا السرد منذ البداية ،لا ينتظر القارئ ان تكون الذات المحور –لخضر- ذاتا طامحة بشوشة ترسم مشاريع وتتبنى قيما وقناعات معينة ،فالعكس هو الصحيح،”لم يكن لخضر من هؤلاء الذين يحلمون بشيء ملموس…كان يرى نفسه فاقد للطموح ،مثلما كان عاجزا عن القول إنه سعيد بحياديته الضاربة بعيدا في الهباء” [29]
هذا المعطى يتيح لنا –بشكل من الأشكال- تبرير أفعال الشخصية فيما بعد أو نقدها ،فالحرية متاحة ضمن هذا السياق ،لكننا نتفق على التغير الذي سيمس جوهر الفعل السردي ويناقض الواقع بالتمام إذ لا يعقل ان يصير حمال بسيط ضابطا ساميا في الدولة ،إلا من قبيل أحلام اليقظة ،التي كان يرددها أحيانا وهو يتأمل شخصييات تأتي للميناء للإشراف على استلام حاوياتها المشحونة بسلع مختلفة .”وفجأة وجد لخضر نفسه يتخيل شكله لابسا تلك البذلة الخضراء والنجوم تلمع فوق كتفيه..تخيل نفسه واقفا أمام العمال بصمت يبعث على الرهبة ،ووقار يثير الخوف…كم سوف يحتاج من العمر ليقف تلك الوقفة الواثقة والصارمة ؟؟”[30]
نلاحظ أن المعطى الذاتي الموجود في كل فصول الرواية يتلون بقيم الوطن والايديولوجيا ؛إذ لا نعثر على بنيات منفصلة مكتفية بذاتها داخل الرواية وإنما ، تحاول ياسمينة صالح دائما ربط الصوت العالي الذي يصدح في الفصول الثمانية والعشرين ويفصح عن مواصفات سيكولوجية كثيرة ومتعددة ،بعضها متجانس يتماشى مع تطور السرد وبعضها الأخر يناقض الأفعال ،لتستمر العملية بهاته الوتيرة في جل الرواية .
المواصفات السيكولوجية:تتعلق بكينونة الشخصية الداخلية (الأفكار ،المشاعر،العواطف،الانفعالات [31]
أهم هذه المواصفات التي بنت عليها ياسمينة حركية الذات هي:1- الحزن،فهذه التيمة ما تنفك تظهر لتبطش بعاطفة لخضر في كل حين ولحظة ، قالت أنها مجرد كذبة يعيشها الأفراد في مجتمع لم يوفر لأفراده-حسب الكاتبة- ابسط شروط السعادة والعيش الرغيد:”لم يكن سعيدا،فلم يكن ثمة شاب يدعي السعادة ،كان الجميع يتفق على أن السعادة كذبة قومية”[32].
لم يكن يستحق السعادة لأنه لم يفلح في الدراسة،فشله فتح هوة سحيقة بينه وبين ابيه الذي اعتبره فاشلا بامتياز”[33]
“ومع هذا كان يصدق أن والده لا يكرهه،وان ما يفعله ليس أكثر من ردة فعل إزاء وضعه”[34].
“كانت تلك أول مرة يعانقه فيها والده، أحس بحزن اكبر وهو يتخيل شكل الحياة التي سينتهي إليها ..حمال ابن حمال”[35]
“كان يشعر بالانكسار في داخله،لأنه يؤدي عملا يعيده إلى البيت متعبا وفارغا من الفرح”[36].
تتطور هذه التيمة لتشكل هالة من الهواجس والخوف ولتشحن بأفعال ترسخ سوداوية الأفق لدى لخضر ،يجد نفسه يسمع ذالك الصوت الرهيب(صوت الأب،صوت الماضي التعيس،صوت الحقيقة)”لن تصبح محترما حتى ولو لبست أغلى الثياب،ستبقى بائسا وخبيثا دائما” [37]
في هذا الإطار يتعلق الأمر بدراسة الهوى باعتباره سابقا على الممكنات الدلالية المستترة فهو من حيث الطبيعة وممكنات التركيب يعد سلسلة من الحالات الانفعالية التي تتطور خارج البعدين المعرفي والتداولي (المكونين الرئيسيين في النص السردي) انه يشكل بعدا جديدا داخل المسار التوليدي .[38]
فتحققات الهوى وقدرته على توليد نسخ فرعية هي المدخل الأساس من اجل تحديد الحالات المشابهة او المناقضة ،فلا يظهر الحزن إلا في علاقته بالكآبة واليأس والبكاء والفشل والظلم والفقر من جهة ومن علاقته بالسعادة والأمل والنجاح والثراء و السلطة ،يتواصل المسار الحزين لهذه الشخصية المتناقضة ، حيث تفصح في كل فترة بالحزن والعزلة حتى في أبهى الفترات البهيجة (موعد عرسه) ؛” وجاء موعد العرس ،كان زواجه حدثا مهما في الحي ،فقد أحس بان الجميع فرح لأجل سي الطيب أكثر مما فرح لأجله”[39].في مقام السعادة والفرح والاحتفاء يستحضر لخضر ذكريات تزيده حزنا ، يتظاهر بالفرح ولا يعيشه ،يتذكر نجاة الحبيبة الباهتة مع الأيام :”تساءل هل هذا هو الزواج الذي كان يحلم به منذ سنين؟ قبل سنين أراد فتاة مستحيلة كالفرح.نجاة.هل فكرت فيه يوم عرسها ليفكر فيها هذه الليلة ؟،شعر بحزن دفين وهو يتخيل حياته لو كانت زوجته اليوم هي نفسها،تلك الصغيرة التي حركت مشاعره أول مرة[40]
بناء على ما سبق يمكن القول إن الرواية بحث في النفس البشرية وما تحيل إليه من أهواء ونوازع من حب وكره وحقد وحنان ..وان القصص التي لا تعنى ببحث مشكل النفس البشرية ستكون خارج حدود النوع الروائي.[41]
إن صوت الذات في رواية لخضر هو تمثل يميز تطور الشخصية وانبعاث الكثير من القيم التي تخرج للعلن عندما تتوفر الظروف،فسمة الحزن كان لها اثر في صنع الحدث الروائي .وكذلك سمة الحب التي تعد محورا مهما في الرواية.
2- الحب: عندما نفقد شيئا. نتذكره ونحن إليه ونضمه في أحلامنا ،نستحضره في الصور والشخوص ،في الذكرى وفي الواقع ،نعيشه عزاءا لعلنا نظفر ببعض أثاره الساحرة،تيمة الحب هي أيضا صوت يعلو في خشبة السرد ،ضوءه خافت في الرواية لكنه موجود للحفاظ على التوازن النفسي والفني للرواية فالسرد بدون حب جثة هامدة وعندما نريد تتبع هذه التيمة في الرواية نجدها تتعلق بمحورين ،المحور الأول هو حب عاطفي يحيل إلى الارتباط والشعور بالراحة اتجاه شخص عزيز ؛وهو الذي وجدناه خافتا بعض الشيء في الرواية لم يتجلى لنا لونه بصفة فعلية ،فلخضر قد صرح بحبه وعواطفه اتجاه نجاة لكن السرد صمت ولم يفصح عن عاطفة نجاة فحب لحضر كان هياما وحب نجاة كان تضامنا وشفقة ،لذلك لم يتطور وبقي أسير الذكرى ،وجهة لخضر اتجاه الحب كانت أمنية عصية التحقيق تراوده كثيرا ،طالما تمنى أن يجلس لأحدهم و يفصح له عن كل مكنوناته وأحزانه وشعوره الغارق في الأحزان والكآبة “كان يتمنى في قرارة نفسه لو كان له صديق حقيقي يشاطره أحزانه وآلامه كما يفعل أي شاب في مثل سنه…أو صديقة..؟ ابتسم بينه وبين نفسه وهو يتخيل شكله يصاحب فتاة ..فتاة تصغي إليه وتخرج معه في أيام العطل ..تمشي معه و تحكي وتسمع ما يقوله” [42]
لم يكن يحتاج إلى أجمل منها ليشعر أن قلبه يدق في أذنيه ،وانه يتحول من شاب بائس إلى شاب مرتبك،عندما يضع رأسه على المخدة ليلا يجد نفسه يفكر فيها “[43]
“محتاج أن يحبه الآخرون ليس عن حاجة بل عن حب …يحتاج إلى من يقول له :اعتن بنفسك.عن حب. [44]
بقيت تنظر إليه بعينيها الواسعتين المليئتين بشيء مختلف …ثم مدت يدها ولمست ذراعه وقالت : لا يهم ما يبدو لنا محزنا ، يبقى ذكريات نتذكرها ” [45]
باستثناء الحنين اتجاه الأم والأخت الصغيرة ،فان لخضر معبأ بالشكوك اتجاه جل الشخصيات الأخرى ،لذلك كان شعوره اتجاه نجاة خلاصا من الشك والخوف واحتضانا لحنين الأم ،لكن للأسف لم يكن الحب بمستوى طموحه وآماله الجميلة ،عالمه الوردي الذي رسمه بددته -فجأة- سطوة البشر ؛” كل الذي عرفهم خانوه،حتى الذين لم يكن يشعر نحوهم بشيء خانوه،لأنه فقير وجائع ولأنه يثير الشفقة في عيون كل من اعتبره تافها ” [46] فكر أن نجاة لم تخنه كان يجد لها الأعذار يوما بعد يوم .
حب نجاة 2: لم يكن حبا بالمعنى الشعوري المتبادل في البداية ،
لكن الأمر تغير في مرحلة حاسمة من حياة نجاة ولخضر ؛عندما كانا ينتظران مولودا ،هذا المولود الذي سيشكل خطرا على صحة الأم إلا أنها تضحي بحياتها لكي تبقى شعلة لخضر في هذه الحياة ،فالتضحية حب مقدس لايصل له كل الناس،فالكثير من الأقنعة تسقط عندما يصلون إلى مفترق التضحية بأشياء عزيزة ،فنجاة الجميلة المرغوبة لم تضح بشيء وآثرت بسهولة مغادرة حياة لخضر ،بينما نجاة -العرجاء_ ضحت بحياتها وأبقت الطفل حسين يرى نور الحياة ،وكأنها منحت لخضر جرعة فرح بالمولود القادم الذي ينير أنفاس النفس المتألمة بالذكريات والصور المعاشة .
شعر بحزن عميق يتسلل إلى قلبه ،ودون وعي وجد نفسه يجهش بالبكاء. هل كان يبكي ابنه أم نفسه أم زوجة أرادت أن ترضيه إلى اللحظة الأخيرة ،زوجة لم يعرف كيف يشكرها …زوجة تركت له ابنها وذهبت ..شعر فجأة بالفراغ” [47]
صوت الوعي بالوطن :
تقول ماجدة حمود: ” كان من المنطقي تحول الشخص المقهور الذي داسته الأحذية إلى آلة للقهر والدمار، يدوس الآخرين، وبذلك باع إنسانيته لشيطان السلطة والمال! وداس كل القيم، حتى إنه يتزوج (من فتاة عرجاء، مريضة القلب) من اجل أن يرضي رؤسائه في العمل”[48]
لكن هذا لا يمنع من وجود أصوات واعية بالحقيقة وبما يقع ،أصوات منتبهة ومتزنة حافظت على واقعية الحدث السردي بعدما أوغل في التخييل، “صحيح أن ثمة أصواتا في الرواية تعي حقيقة الصراع (المدير: الطيب، الصحفي:الباهي، السكرتير: جمال) تشكل بدلالات أسمائها وأفعالها نقيضا لـ(لخضر) الذي تصدمنا تصرفاته السوداء[49]، تحيل إلى الطيبة والبهاء والجمال ،قال سي الطيب للخضر في أول لقاء: ” أنا لا يهمني في هذه الحياة سوى كسب الرجال يا بني،الدنيا فانية،ولا يبقى إلا وجه الله”[50]،ويواصل السرد ذكر صفات هذا الرجل الشهم الوطني الذي تشبع بقيم ثورية جعلته يحاول التأثير في غيره ونصح أبنائه الطلبة ونبذ العنف والفرقة ؛ظل يصرخ كل شيء سيحل بالهدوء يا أبنائي العنف لا يغير شيئا ” *
كان يدرك أن الباهي يتحدث بمنطق الخبرة الكبيرة في عمله،فهو عاش مع الناس البسطاء والفقراء،عاش في المدينة العميقة ولم يعش على ضفاف المدينة”[51]
سي الباهي موسوعة كاملة،أنا احسده على معلوماته الكبيرة وثقافته العالية..ما يحرك الباهي هي وطنيته وحبه الشديد للبلد،لو لم يكن يحب هذه الأرض لغادرها أو لباع ذمته مقابل المناصب كما يفعل الآخرون.” [52]
إن شخصا مثل الباهي لا يمكن أن يكون مرحبا به،انه أشبه بضمير حي ،وذاكرة لا تموت.انه ثائر فريد من نوعه،لأنه لا يستعمل السلاح بل القلم: [53]
الوطن والسلطة :
يقترح ب.شارودو في معجم تحليل الخطاب تحديدات مهمة لما يسميه بالسلطة المظهرة autoritéوالتي تبرز عند المواجهة وترتبط بمصدر الرسالة بشفرات سيميولوجية متنوعة ( تعبيرية-سلوكية-لباسية) ومثلها ومثل السلطة المبنية على الهيبة والمكانة المرتبطة بالأشخاص وببعض الأدوار الاجتماعية ،والتي تفعل فعلها ضمنيا مع توجيه إلى الأعلى أثناء التفاعل ، الأفعال الواردة لتعيين صيغة السلطة في الخطاب تتعلق بمبدأ الإلزام،وهو مبدأ السلطة في صورته القصوى ،تحيل إلى الانصياع بدون أن يرافقه تبرير ،بناء على الجملة المشهورة : إن من يتلقى أمرا عليه أن يطيعه؛هي سلطة جعلية. [54]
تتجلى لنا السلطة وعلاقتها بالوطن في رواية لخضر ضمن عاملين اثنين
العامل الأول هو عامل الطموح الذي حرك الشخصية مدفوعا بظروف قاسية مما جعلها ترى في السلطة والهيبة خلاصا من الفشل والازدراء والنكسات المتتالية ،تمثل السلطة في نظر البطل لم يكل مجسما في كيان معين ( سلطة أمنية –أرباب عمل-مرتبة اجتماعية..) وإنما في فضاء يمنح له العزاء والخلاص من وضع بائس (فقير-حمال-حارس ليلي-مخبر بسيط) ،وهو الذي حدث بالفعل ،حيث أصبح لخضر يرتقي في سلم الرتب والمناصب حتى وصل إلى مسؤول سام ،ارتقاء لخضر برره السرد ،أكثر من مرة ،حيث نلاحظ الترسيمة التي تجسد الطموح والتسلق فالتسلط والجبروت
“لأول مرة يشعر أن ما ينقصه أهم من المال ومن الحب ومن الخبز واللباس…تنقصه السلطة التي تجعل المال والحب والخبز واللباس في متناوله..السلطة التي تجعل الجميع يبتسم له ،حتى أكثر الناس كرها له واشمئزازا منه يبتسمون له عن خوف ،وعن حاجة إلى نيل رضاه” [55]
كانه يقول للمارد اجعلني سيدا على الاخرين ،فيجعله سيدا على الاخرين”[56]
اعرف انك تحت امرناولهذا عليك ان تعرف اننا نعرف كيف نحمي رجالنا جيدا.
نعم يا سيدي !
قالها بصوت مرتعش ،وبدا المسؤول منتصرا وهو يتململ فوق كرسيه بهدوء [57]
استطاع في السنوات الماضية ان يستوعب ان الدولة اكبر بكثير من هؤلاء الاشخاص،الا انه لم يكن قادرا على الاعتراف بذلك علانية ،لقد استطاع ان يكتشف جيلا جديدا ،يرفضون الخطأ ويؤمنون بالعدالة والقانون،مثلما اكتشف جيلا جديدا يرفضون الظلم ويرون ان لكل جريمة عقابا ،وه بهذا يشكلون الدولة الحقيقية ،التي يكن بامكانه الانتماء اليها ..” [58]
والعامل الثاني كما لاحظنا هو السلطة مجسدة في اقطاب معينة تحاول السيطرة على الوطن ،جسدتها الكاتبة في صراع ايديولوجي ،بين الاسلاميين والاشتراكيين في فترة ما قبل التسعينيات ،ومراقبة امنية حاولت القضاء على انفلات الامور ،لكن بعض المخططات الامنية ،التي انخرط فيها لخضر مدفوعا بظروفه في البداية ،ثم اختيارها كمهنة منحته الابهة ،ساهمت في وضع الوطن في مفترق طرق خطير ،دخل بعدها في مرحلة دامية ،فكان الشعب ضحية ايديولوجيات مقيتة ،
تقول ياسمينة صالح لا يمكن أن الفصل بين الثورة والعنف السياسي واليأس والفراغ، والخسائر المعنوية والبشرية، والخيبات.. كلها وقائع نتلمسها في يومياتنا، ولهذا “استثمارها” داخل النص الروائي يكون مرادفا لماهية الخيال الذي من خلاله تتحول الأشياء إلى قصة، وأبطال وأسماء ومراحل و فلا أحد سيحاكم كاتبا يتخيل الفجائع الواقعية في رواية! [59]
فالكاتبة وثقت بعدستها السردية صراع الايديولوجيات المقيتة ،في فضاء لخضر السابح بين ضمير محب لكل ما هو جميل، وشخصية اعتادت على التقارير والمكائد ،فالرواية توثيق لمسار اجتماعي وسياسي للفترة السوداء ضمن تخييل فني جعل من شخض لخضر يعزف سمفونية متدرجة الالحان فكلما علا صوت الاحتفاء، طغا صوت اخر يخفيه ويضمره هو صوت القتل والصراع والتطاحن الذي جعل تعدد الاصوا ت في الرواية سمة بارزة ومهمة.
،لكن هذا لم يمنع من وجود صوت الامل في الرواية ،جسدها كل من حسين بن لخضر وخطيبته حياة،” ومع ذلك ستجدين شبابا مثل حسين يؤمنون به واخرين يكفرون به،لكنهم سيعودون دائما ،لأنه وطنهم الذي لن يجدوا غيره في الدنيا ![60]
،فاسم العلم في الرواية لم يختر اعتباطا وانما كان له دور دلالي في توجيه المعاني حيث يشير حسين الى الحسن الخلقي والى الامل ونفس الشيء بالنسبة لحياة التي توحي بالشباب والتطلع والاحتفال والبهجة .
الامنيات الجميلة في خريف العمر:
في الفصل الثالث و العشرين تتهاوى قوى الجبروت ويتسرب صوت الضمير الحي ليطلق العنان للاماني الجميلة التي اختفت طيلة عقود من العيش المليء بالعنف والقسوة تحت وطأة السطوة والجبروت “تمنى لوكان يستطيع ان يشعر بالحب دون ان تتساقط جدران قلبه ” [61]
” خيل اليه ان اضاع الكثير من الاشياء الجميلة التي كانت قابلة للاحتفاءبها في خريف العمر”[62].
“كان يريد ان يتصالح مع نفسه عبر ابنه ،دون ان يبرر ماضيه الغريبوما فعله في طريق المشي الى المجد”[63]
كنت اتمنى ان اكون شيئا مهما في قلوب من احببتهم “[64] الشعور بالحب ،تضييع الكثير من الاشياء الجميلة،تبرير الماضي ،هي امنيات في نهاية المسار ،لم يستطع لخضر –للاسف- ان يجمع في قلبه الشر والحب ،الحب كان مؤجلا وكل الاشياء الجميلة،طغى صوت الموت والمكائد على الامال النبيلة التي ترفرف في كل قلب ليعيش بها حياة سعيدة ،الامنيات التي كانت في شباب لخضر رسمت طموحا معينا ،كن ذلك الطموح على حساب كل ما هو طيب ونبيل ومثالي ،لخضر هو في النهاية –كما قالت ياسمينة-هو كل الرواية لأنه لا يمثل شخصه بل يمثل قلب الكثير ممن تلونت نفوسهم بالوان داكنة ،يصعب مع الوقت ازالة عتمتها ،لكن رغم كل ذلك يبقى الامل متاحا ومشروعا في حياة تتسع للجميع .
ختام السرد:
على الساعة السابعة ،في الصفحة الثانية والثلاثين بعد المئة الثالثة ينتهي السرد نهاية فاترة ، باعتراف والم التذكر والانتظار،(انتظار شفاء حسين على امل زواجه بحياة؛ “المهم بمجردشفاء حسين سوف نحيي زواجه بحياة،لاوقت للانتظار.يجب ان نفرح بهما !”[65]. النهاية مفتوحة ،تتطلع لمستقبل مشرق ،لكنها لم تكن مبهجة ،لأن الرواية كانت حبلى بالحزن والملاحم المتتابعة، افضت الى غيرية رهيبة وتسلط بين الذوات ، وتمجيد للانتصار العبثي في الكثير من المشاهد، فجاء الختام سليل فصول الرواية التي ، شهدت على براعة سبك الكاتبة لاحداث الرواية .
قائمة المصادر والمراجع:
:المصادر:
- ياسمينة صالح، رواية لخضر،المؤسسة العربية للدراسات والنشر ،بيروت لبنان،ط01 ،2010.
- ياسمينة صالح ،رواية وطن من زجاج ،الدار العربية للعلوم ناشرون ،منشورات الاختلاف ،الجزائر ، ط01 ..2006.
المعاجم:
- ابن فارس أبو الحسينِ أحمد ، مقاييس اللغة، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، 1979، ج3 .
- باتريك شارودو ، دومينيك منغنو ، معجم تحليل الخطاب، ترجمة: عبد القادر المهيري، حمادي صمود، دار سيناترا المركز الوطني للترجمة، تونس، 2008.
- محمد القاضي وآخرون،معجم السرديات،دار محمد علي للنشر تونس .ط01.2010.
المراجع:
- الجيرداس جيليان غريماص،جاك فونتني،سيميائيات الاهواء،من حالات الأشياء إلى حالات النفس،ترجمة سعيد بنكراد،دار الكتاب الجديد المتحدة،بيروت لبنان، ط 01،2010.
- سعيد بنكراد،النص السردي ،نحو سيميائيات للايديولوجيا،دار الامان .الرباط.المغرب.ط01.1996 .
- عادل ضرغام ،في السرد الروائي ،منشورات الاختلاف.الجزائر،الدار العربية للعلوم ناشرون.لبنان،ط01.2010.
- عبد الله ابراهيم السردية العربية الحديثة ،الؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت لبنان ،ط1 .2013. .
- عدنان الظاهر ،لخضر: قمة الإبهار في النص السردي عند ياسمينة صالح،مجلة عمان،العدد 173،اوت/سبتمبر.2010
- عزوز علي اسماعيل ،عتبات النص في الرواية العربية ،دراسة سيميولوجية سردية،الهيئة المصرية العامة للكتاب ،القاهرة .مصر ،2013.
- فيليب هامون سيميولوجية الشخصيات الروائية ،تقديم عبد الفتاح كيليطو .ترجمة سعيد بنكراد،دار كرم الله للنشر والتوزيع،الجزائر،ط.د.ت،.
- محمد البازي ،العنوان في الثقافة العربية ،التشكيل ومسالك التأويل ،منشورات الاختلاف .الجزائر ندار الامان .المغرب ،ط01. 2012،
- محمد بوعزة تحليل النص السردي تقنيات ومفاهيم،منشورات الاختلاف الجزائر الدار العربية للعلوم ناشرون لبنان .ط01.2010.
المواقع الإكترونية:
45 – خضر عواد خزاعي،رواية لخضر للكاتبة ياسمينة صالح،النص الروائي في ورشة العمل السردي.الرابط
http://www.elwatandz.com/r_ation/etude/22559.html
6- حوار مع الكاتبة نشر بيومية النصر ،يوم 09نوفمبر 2010
7 – ماجدة حمود،رواية لخضر لياسمينة صالح ،سيرة ذاتية لآلية الفساد الرابط:
http://www.thakafamag.com/index.php?option=com_content&view=article&id=455:-qq-&catid=4:2010-05-31-17-34-55&Itemid=22
[1] – قصطاكي الحمصي منهل الوراد في علم الانتقاد، تحرير احمد ابراهيم الهواري القاهرة ص381.نقلا عن :عبد الله ابراهيم السردية العربية الحديثة ،الؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت لبنان ،ط1.2013،صص180-181.
[2] – عادل ضرغام ،في السرد الروائي ،منشورات الاختلاف.الجزائر،الدار العربية للعلوم ناشرون.لبنان،ط01.2010.ص.66.
[3] – سعيد بنكراد،النص السردي ،نحو سيميائيات للايديولوجيا،دار الامان .الرباط.المغرب.ط01.1996.ص.19-20.
[4] – عدنان الظاهر ،لخضر: قمة الإبهار في النص السردي عند ياسمينة صالح،مجلة عمان،العدد 173،اوت/سبتمبر.2010،ص46
[5] – خضر عواد خزاعي،رواية لخضر للكاتبة ياسمينة صالح،النص الروائي في ورشة العمل السردي منشور على النترنيت .الرابط
http://www.elwatandz.com/r_ation/etude/22559.html
[6] – حوار مع الكاتبة نشر بيومية النصر ،يوم 09نوفمبر 2010
* فاوست أو فاوستوس (باللاتينية:Faustus) هو الشخصية الرئيسية في الحكاية الألمانية الشعبية عن الساحر والخيميائي الألماني الدكتور يوهان جورج فاوست الذي يُبرم عقداً مع الشيطان. وأصبحت هذه القصة أساساً لأعمال أدبية مختلفة لكتاب مختلفين حول العالم لعل أشهر هذه الأعمال هي مسرحية فاوست لغوته وعمل كريستوفر مارلو، كلاوس مان، توماس مان، كلايف باركر، تشارلز غونود، هيكتور بيرليوز، أريغو بويتو،أوسكار وايلد، تيري براتشيت، ميخائيل بولغاكوف، فرناندو بيسوا ومن العرب علي أحمد باكثير في فاوست الجديد، كريم الصياد في منهج تربوي مقترح لفاوست.
تدور قصة فاوست في شكلها الأساسي حول سعيه إلى اكتشاف الجوهر الحقيقي للحياة، ما يقوده إلى استدعاء الشيطان ويمثله مفستوفيليس ليبرم معه عقداً يقضي بأن يقوم بخدمته طوال حياته ليستولي على روحه بعد مماته، لكن الاستيلاء على روح فاوست مشروط ببلوغه قمة السعادة . https://fr.wikipedia.org/wiki/Faust
[7] – ماجدة حمود،رواية لخضر لياسمينة صالح ،سيرة ذاتية لآلية الفسادرابط المقال: http://www.thakafamag.com/index.php?option=com_content&view=article&id=455:-qq-&catid=4:2010-05-31-17-34-55&Itemid=22
[8] – ياسمينة صالح، رواية لخضر،المؤسسة العربية للدراسات والنشر ،بيروت لبنان،ط01 ،2010،ص.20.
[9] – .. ياسمينة صالح،لخضر ،ص.21.
[10] – الرواية، ص.23
[11] – محمد البازي ،العنوان في الثقافة العربية ،التشكيل ومسالك التاويل ،منشورات الاختلاف .الجزائر ندار الامان .المغرب ،ط01. 2012، ص.74.
[12] – المرجع نفسه ،ص.73.
[13] -ابن فارس،مقاييس اللغة،تحقيق عبد السلام محمد هارون،دار الفكر،مصر،1989،ج2/ص.195.
[14] -المصدر نفسه.
[15] – ماجدة حمود،رواية لخضر لياسمينة صالح ،سيرة ذاتية لآلية الفسادمنشور على الانترنيت
[16] – ينظر ،عزوز علي اسماعيل ،عتبات النص في الرواية العربية ،دراسة سيميولوجية سردية،الهيئة المصرية العامة للكتاب ،القاهرة .مصر ،2013،ص.75.
[17] – الرواية ص.18
[18] – ينظر باتريك شارودو.دمنيك منغنو،معجم تحليل الخطاب ،ص96
[19] – الرواية ص.21.
[20] – المصدر نفسه ،ص23.
[21] – المصدر نفسه ص.30.
[22] – المصدر نفسه ص180.
[23] – المصدر نفسه ،ص200
[24] – محمد القاضي وآخرون،معجم السرديات،دار محمد علي للنشر تونس .ط01.2010، ص.276.
[25] – ياسمينة صالح ،رواية وطن من زجاج ،الدار العربية للعلوم ناشرون ،منشورات الاختلاف ،الجزائر ، ط01 ..2006 ص15.
[26] – رواية لخضر ص.09.
[27] – الجيرداس جيليان غريماص،جاك فونتني،سيميائيات الاهواء،من حالات الأشياء إلى حالات النفس،ترجمة سعيد بنكراد،دار الكتاب الجديد المتحدة،بيروت لبنان، ط 01،2010.ص76.
[28] – فيليب هامون سيميولوجية الشخصيات الروائية ،تقديم عبد الفتاح كيليطو .ترجمة سعيد بنكراد،دار كرم الله للنشر والتوزيع،الجزائر،ط.د.ت،ص.103.
[29] – رواية لخضر، ص ص .19-20.
[30] – المصدر نفسه، ص.69.
[31] – ينظر،محمد بوعزة تحليل النص السردي تقنيات ومفاهيم،منشورات الاختلاف الجزائر الدار العربية للعلوم ناشرون لبنان .ط01.2010،ص.40.
[32] – المصدر السابق، ص19.
[33] – المصدر نفسه ص19.
[34] – نفسه ص22.
[35] – نفسه ص.31.
[36] – نفسه ص35.
[37] – نفسه ،ص80.
[38] – ينظر، الجيرداس جيليان غريماص،جاك فونتني،سيميائيات الأهواء،من حالات الأشياء إلى حالات النفس،ص12.
[39] – الرواية ص.239
[40] -المصدر نفسه ،ص239.
[41] – ينظر ،عبد الله ابراهيم ،السردية العربية الحديثة،المؤسسة العربية للدراسات والنشر ،ط01. 2013،ص173.
[42] – الرواية ،ص48.
[43] – المصدر نفسه،ص.49.
[44] – المصدر نفسه، ص.50.
[45] -المصدرنفسه، ص ص.57-58.
[46] – المصدر نفسه،ص.89.
[47] – المصدر نفسه ص.255.
[48] – ماجدة حمود رواية “لخضر” لياسمينة صالح، سيرة ذاتية لآلية الفساد.
http://www.middle-east-online.com
[49] -المرجع نفسه.
[50] -رواية لخضر، ص.144
* أظن أن العنف غير الشيء الكثير في الوطن ،غير الطباع والنفوس والأفكار،انعدمت الثقة وكثرت الماسي والذكريات الحزينة ،أجبرنا على الأنانية المقيتة ضاعت الحقوق وغابت الألفة والاجتماع ،لقد غير العنف الوطن وفكك كل لحمة بناءة ،أصبح الوطن يتصايح بأنين الذكرى وهو يأمل ويتمنى .
[51] -المصدر نفسه، ص.214.
[52] – المصدر نفسه،ص.222.
[53] – المصدر نفسه،ص.223.
[54] – ينظر،ب.شارودو،دمنيك منغنو،معجم تحليل الخطاب،ص.87.
[55] – الرواية، ص.108
[56] – المصدر نفسه،ص109.
[57] -المصدر نفسه، ص. 233.
[58] – الرواية ص.269.
[59] – حوار مع الكاتبة ياسمينة صالح
[60] – المصدر السابق،313.
[61] -رواية لخضر، ص283.
[62] -المصدر نفسه،ص289.
[63] – المصدر نفسه،ص. 297.
[64] – المصدر نفسه،ص.330.
[65] – المصدر نفسه،ص.332