
صورة المرأة في الرواية الجزائرية المعاصرة رواية (( تلك المحبة)) للحبيب السايح نموذجا، د. حفيظة طعام- المركز الجامعي – تيسمسيلت.
بحث نشر بكتاب أعمال مؤتمر الرواية العربية في الألفية الثالثة ومشكل القراءة في الوطن العربي: الجزائر العاصمة 21-22|08|2016 ، ص 61. (للتحميل يرجى الضغط هنا)
تمهيد:لعلّ من أشهر التعريفات التي خصت بها الرواية على أنهافنّ الشخصيّة.والروائي الناجح هو من يستطيع تقديم شخصيات مقنعة للقارئ، لا تشوبها شائبة السذاجة من جهة، أو شائبة الابتذال من جهة أخرى، شخصيات بواقعية الأحداث التي تتفاعل معها، وحتّى عنصرا الزمان والمكان فهمايوّظفان في تشكيل نموّ الشخوص مع الأحداث.
إن جنس الرواية أقدر الأجناس الأدبية على تصوير الواقع تصويراً حيّاً ومتحركا، أو بخلق عالم بديل عما هو واقع، يفر ويلجأ إلى أكنافه القارئ الباحث عن عالمآخر يلبي ذائقته الفنية، ورغباتهوتصوراتهلعالم يريده وفق مقاس أمنياته، وداخل هذا العالم أو ذاكلم تنفك المرأة أن تشكل الجزء الكبير والأهم فيه، فهي نقطة تمركز تجربة ثرية في المجتمع،إن لم تكن هي أساسها وهيكلها، ومدارها أيضا، فهي التي تتفاعل مع سمات التعبير،باعتبارها تشاطر الرجل حياته، لهذا نراها حاضرة في سرده وحكيه،فمثلما يخلو عالم بدون الرجل، كذلك يستحيل أن يوجد عالم بدون المرأة، وهي ليست فيه تيمة فقط، بل هي أساس مهم لتكوين الحبكة السردية، فبدونها سيكون العمل غير مكتمل بما يكفي لدفع القارئ لمواصلة قراءة العمل والعيش فيه، أو التفاعل معه على اعتبار أن السارد القوي يجعل من بعض القراء طرفا في هذا العالم، وإن لم تحضر المرأة جسدا،فلا مناص من أن تحضر روحا، وحلما يهرب إليه الرجل كلما شعر بالوحدة، أواشتد به الألم.
وليس حضور المرأة بالحدث الجديد، فهي حاضرة منذ الأزل، منذ ولادة الأدب مع الإلياذةوالأوديسةوالأعمال الخالدة، فمع بدايات الرواية العربية حملت كثيرمن الروايات عناوين بأسماء نساء، كرواية زينب لحسين هيكل، وهي الروايةالمؤسسة للرواية العربية -كما هو معروف-وما تلاها من أعمال روائية كثيرة،وفي الكثير منها كانت تعكس معاناة المرأة والغوص في إشكالياتها داخل المجتمع الذكوري،ولأن المبدعين يدركون مدى أهمية المرأة وقدرتها على دفع عجلة المجتمع دفعا قويا إلى الأمام،منتجة أو محفزة أو متطلعة، أو ملهمة، فقد سعوا إلى استحضارها، إما رمزا، أو أسطورة، أو شخصية داخل نصوصهم، لها وزنها ودلالاتها العميقة، تضفي على النص جمالية لا يمكن الاستغناء عنهابأية حال من الأحوال ..
ولكون الفضاء والمكان أحد أهم العناصر التي تتفاعل مع الإنسان، فقد كان الفضاء الصحراوي عاملا مهما في إبراز خصوصية الإنسان فيه، وتشكيل المجتمع داخله وفق نمط عيش يختلف في الكثير من التفاصيل عن مجتمعات الفضاءات غير الصحراوية، وإن كانت تجمعهم قيم الإسلام والعروبة، أو ما يسمى بالأساس المشترك لدى كل أمة أو شعب من الشعوب.
وباعتبار المرأة الصحراوية من أهم ركائز هذا المجتمع، فقد حظيت باهتمام الكثير من الكتّاب والأدباء على اختلاف اتجاهاتهم وتعدّد اهتماماتهم ومشاربهم. وشغلت حيزاً بارزاً في نتاجهم الأدبي، سواء كان شعراً أو نثراً. وكانت الوتر الحساس الذي يتأثر بحركة الواقع، ويؤثر فيه.فمنهم من هو من أبناء المنطقة ومن شبابها الذين ظهروا في السنوات الأخيرة بتجارب سردية ملفتة، صوروا من خلالها الفضاء الصحراوي بكل تجلياته في، التجربة الإبداعية كالمبدع القاص “عبد الله كروم” في مجموعته القصصية “حائط رحمونة” والروائي الحاج أحمد الصديق في روايته “مملكة الزيوان” فقد نقل لنا هذان الكاتبان من خلال تجربتيهما الإبداعية كل حيثيات وتفاصيل حبات الرمل، وكيف اتحدت لتشكل عالم الصحراء الذي نجهل كثيرا من أسراره.
إن قارئ هاتين التجربتين، القصصية والروائية، يلاحظ حتما أنهما تمتازان بالمحلية، وهي ميزة ترفع من شأن النصوص وتمجدها، خاصة أنها أولى تجارب الكاتبين الإبداعية .كأنهما أرادا من خلالها التعريف بمنطقة أقصى الجنوب الجزائري، فقدما بطاقة فنية إبداعية يوظفان فيها قاموسا لغويا محلّيا، ويشيدان فيها بأخلاق سكان المنطقة وبتقاليدهم وعاداتهم، كما يعرفان فيها ببعض الأمكنة والفضاءات التي تكاد تكون مغمورة ومجهولة في الوقت نفسه، منطلقان في ذلك من مخيلتهما المنفتحة، معتمدان على رؤيتهما الخاصة للإنسان وللأشياء والمكان، وقد استحوذت المرأة في هذين العملين على مكانة مرموقة، وانعكست صورتها بشكل جلي وواضح، فلقد وسم بها عبد الله كروم مجموعته القصصية (حائط رحمونة) كما استحضرها الروائي الحاج صديق بطريقة رمزية جمالية، فكان لها دورها الجلي في تحريك الأحداث وتطورها.
بالإضافة إلى هذين العملين، هناك أعمال سردية أخرى سابقة لهما زمنيا، ومن خارج البيئة الصحرواية، وقد يأتي على رأس هؤلاء الكتاب والمبدعين كاتب مكرس هو الروائي (الحبيب السايح)الذي شغفته الصحراء حبا، وانبهر بمكنوناتها،وسحرته المرأة الصحراوية فاستحضرها وصاغها في رائعته الروائية(تلك المحبة) التي تكشف النماذج النسائية فيها عن صورة ثقافية يمكن أن نقرأ فيها وعبرها صورة المجتمع الأدراري بأدق تفاصيله، من عاداته وتقاليده، تاريخه وحاضره، نمط عيشه وطريقة لبسه، أفراحه وأحزانه، أكله وشربه….
لقد قدَّم(الحبيب السايح) في هذه الرواية صورة للمرأة باعتبارها بنية ثقافية صلبة، تخدم حركة السرد بالدرجة الأولى في تركيزه على وصف عوالمها الداخلية والخارجية،وعلى غرار المرأة في الشمال الجزائري فقد حظيت المرأة الصحراوية من خلال هذه البطاقة الفنية التي رصدها لها الكاتب بعناية، لذلك لم يكن حضورها باهتا في مجتمع ذكوري يكسبها صورة متكلسة،بل كان لها وزنها ودلالاتها وقيمتها التي ورثتها من قبل.
صورة المرأة في رواية “تلك المحبة”:
1_من خلال العنوان الرئيسي:
إن العنوان هو مدخل أساسي لعالم النص، يـُفضي إلى غياهبه، ويـقود إلى فكّ الكثير من طلاسمه وألغازه، لكنه أحيانا، قد يلعب دورا تمويهيا، إذ يجعل القارئ في حيرة من أمره، يربكه ويخلق له تشويشا قهريا، وقد يقوده إلى متاهة حقيقية، لا مهرب منها سوى إلى النص ذاته. إنه البداية الكتابية التي تظهر على واجهة الكتاب كإعلان إشهاري محفز على القراءة، « وهو العلامة التي تطبع الكتاب أو النص وتسميه وتميزه عن غيره، وهو كذلك من العناصر المجاورة والمحيطة بالنص الرئيس، إلى جانب الحواشي والهوامش والمقدمات والمقتبسات والأدلة الأيقونية» (1)،وهو بدوره، يطرح كثيرا من الأسئلة، ويعتبر عتبة مهمة لا يمكن تجاوزها، أوعدم الوقوف مطولا عندها، فهو واجهة النص وهويته، والعنوان (تلك المحبة) من العناوين المصاغة بطريقة جمالية.
وتزداد أهمية هذا العنوانمن خلال قراءة النص، وذلك لأن القارئ يتوجه إلى النص وقد علقت في ذهنه إيحاءات العنوان ورموزه، وهو يقوم بربط كل هذا بما يلاقيه أثناء عملية القراءة والتأويل. الحديث يدور عن قصيدة بشكل خاص،باعتبار أن العنوان يتخذ أهمية أكبر بعد عملية القراءة، ليصير أكثر عمقا في سياق ثيمات، هذا بالإضافة إلى أن العنوان -في حالات كثيرة- يمكنه إعادة خلق نص جديد (2).
يحيل عنوان هذه الرواية إلى المرأة بصورة ظاهرة ومستترة، كما يحيل إلى المكان الذي يعادل بدوره المرأة، فقد شكلا معا بعد توحدهما في ذهن السارد محبة خاصة،أرخ لها بطريقة إبداعية في “تلك المحبة“والسؤال الذي يمكن أن يطرح هو : أي محبة يشير إليها الكاتب؟ومن المحبوب يا ترى ومن المحبّ؟فنحن لا نؤرخ للأشياء التي تطفو على السطح، وإنما نؤرخ لتلك التي تترك في قلوبنا وفي نفوسنا أثرا فلا ينمحي أبدا، لنكتشف بعد قراءة النص أن (تلك المحبة) كانت عميقة فعلا، وكانت جديرة بأن يحفظها الكاتب ويؤرخ لذاكراتهاولتراثها، ويستوعب روح فضائها الذي تجسد في منطقة توات بأدرار،في صحراء الجزائر القاصية،وقد جاء هذا العنوان مصرحا به عبر المتن الروائي في أكثر من موضع، كما تجلت معانيه أيضا، فوافق بذلك العنوان المتن.
نشير إلى أن هذه الرواية من الروايات القليلة التي قدمت الصحراء بشكل عميق، وعرفت بها أكثر من الذين يعيشون فيها، فقد أحصى الكاتب قاموسا لغويا خاصا بالمنطقة، شرح فيه العديد من مسميات الأشياء،أتبعه في نهاية الرواية، لذلك فان قارئ(الحبيب السايح )لابد أن يتسلح بحمولة لغوية ومرجعية ثقافية واسعة، تؤهله لدخول هذا العالم الصوفي الأنثروبولوجي البشري والجغرافي والإبداعي، خاصة ولعلّ المقولة التي تقرّ بأن الرواية هي كتاب التاريخ الأضخم تتجسد بشكل جلّي في رواية (تلك المحبة)ومن ناحية ثانية فقد عكس هذا العنوان صورة واضحة للمرأة، فــ (تلك المحبة) هي:(البتول)في جمالها، ويصفها الكاتب بقوله :
“فما كان أحد عرفها أو شاهدها فصادفها بعد عمر إلا كذب نفسه أنه يرى السيدة كما عهدها أول مرة.”وقوله:
“أما العينان فإن الخالق بلون السر صورهما في محيا ملغز، مثقلتين بالأحلام كنخلة ضامنة”
“وقُلن إلى الحمام تغدو مشيتها، وعلى وقع الغزلان يتناغم تبخترها،ومن شموخ النوق ترتفع كبرياؤها” ص(153)
تظهر هذه المقاطع وغيرها مكانة هذه المرأة وتأثيرها الخارق في كل من عرفها أو سمع عنها، فيبدو أنها لم تكن امرأة عادية بل فاق وصفها كل الأوصاف، وشغف حبها كل قلوب الرجال.
و(تلك المحبة) هي: مبروكة وجميلة وماريا الرومية وكلّ النساء اللواتي مستهن لعنة تلك المحبة.
2_من خلال العناوين الفرعية:
جاءت العناوين الفرعية في شكل فصول عددها (17) فصلا، مركبة بدورها في جملة ذات معاني يمكن فصلها عن سياق النص دون أن تحدث خلخلة، فقد يشعر قارئها خارج سياقها العام أنها حكم أو أشعار، أو حتى قصص قصيرة جدا، و هي على التوالي:
_ خطي بشفتيك على صدري صبر النخيل.
_ كوني لي أندلس بين توات وقدس.
_ عودي من حفرة الحزن فسريري من ماء
_ كوني بيضاء أو سوداء فأنا اللون والظل
_ أنا المصنف وأنت امرأة هي النساء جميعا
_لو يبكي سلو لو تغني حسونة فأنت سيدي.
_ بليلو الخلاسي ماريا الرومية، السخرة والمحبة.
_ جبريل صليب من خشب مبروكة هلال من نور.
_ ثمة جبرائيل ثمة خطيئة ولمبروكة مربع الضوء.
_ باحيدة الطالب جولييت الراهبة بمحبة النخيل.
_ قالت في حي الحطابة بين فقارة وجامع.
_مكحول لجميلة:”غدا ندخل في تمنطيط”
_ قالوا ساحرة؟قلت أنا الدرويش،والبتول فتنة.
_ اجعلي جنازتي حضرة لأتلو عليك محبتي.
_ أنت لي أتملكك،أنا السيدة عشيقتك.
_ أدرار لا تسكن قلبي ،ولكن تلك هي المحبة.
إن المتأمل لهذه العناوين الفرعية،يلاحظ أن هناك خيوطا سحرية تربطها فيما بينها وبالعنوان الرئيسي، كما تعكس صور للمرأة، وتحيل إليها، إما بطريقة مباشرة أو غير مباشرة تنكشف عن طريق التأويل، وسنحاول الكشف عنها فيما يلي:
1_من خلال الأفعال :
تحيل الأفعال في معظمها إلى المرأة كقوله: “خطي بشفتيك ..”وهنا الخطاب موجه إلى المرأة،ويحيل إلى ذلك الفعل “خطي”وباقي الكلام أيضا. إضافة إلى الأفعال التالية:(كوني،عودي، قالت، اجعلي،أتملكك..) هي عينات فقط، و كلها أفعال بصيغة المؤنث تحيل بدورها إلى المرأة هي أيضا.
2_من خلال الأسماء:
(حسونة،ماريا الرومية،مبروكة، البتول،جولييت الراهبة…) إضافة إلى لفظتي:المرأة والسيدة، وصفة الساحرة. أسماء لشخوص في الرواية، وبتأثيرات متفاوتة أو متقاربة، لم يخترها الكاتب اعتباطا، بل اختارها بشكل مدروس بدقة، الشيء الذي يؤهلها للتعبير أو النيابة عن المرأة في هذا المجتمع الصحراوي، فالأسماء العربية منها، هي من الأسماء المتداولة في المجتمع “التواتي”، وهنا تجب الإشارة إلى أنه (الحبيب السايح) قضى ما يزيد عن ست سنوات وسط المجتمع “الأدراري”، متنقلا بين قصوره وبلدياته، في إطار مهامه الوظيفية، حيث احتك بمختلف شرائحه الاجتماعية، ما يسمح له بالإلمام بكثير من تفاصيله وحيثياته، حيث تسمح له ثقافته وتجربته باختصار المسافة والوقت من أجل ذلك.
3_من خلال المكان:
ينقل كاتب(تلك المحبة) قارئه عبر بساط سحري إلى صحراء مدينة أدرار، في رحلة ثقافية وسياحية يكتشف عبرها مفاتن المدينة وأسرارها الملغزة التي أبدع “الحبيب السايح” في نسج تفاصيلها المتخيلة، وإن كان قد حافظ على الطابع الجغرافي والتاريخي للمدينة في كثير من الأحيان، فقد تجاوز الواقع باعتباره مبدعا،فكان لزاما عليه أن يتجاوز كل مباشر وانطباعي لكي يشيد “أدراره” الخاصة وأدرار القارئ أيضا، بحيث يجوز له ما لا يجوز للمؤرخ.ففتح المجال لخياله الواسع، متكئا على مرجعيات كثيرة، ليحيك للمتلقي حكاية متفردة عن توات،عن ما لم يقله التاريخ وتكشفه (تلك المحبة)،عن توات الأسطورة، وتوات التاريخ وتوات الخرافة والرمل والنخل والفقارة، عن توات المرأة الصحراوية التي سلبت عقول الرجال، وكل من عرفها من قريب أو من بعيد.ومنه صارت المرأة معادلا موضوعيا للمكان، ورمزا للمحبة،فإن فرقتها الأجساد وحدتها الأرواح، وحفظ ماءها الابداع.
لقد تجلت صورة المرأة من خلال المكان في هذا الفضاء الصحراوي الهائل، وانعكست بوضوح لتؤكد أن المكان من دون أشخاص جامد ساكن لا روح فيه،فالإنسان خلق ليعمر الأرض بقيم الخير والجمال، فكان وحده الحبّ من له القدرة على إنعاش المكان وبعث الحياة فيه،وما أدراك بالفضاء الصحراوي القاسي وما يتطلب من قوة وقدرة على إنعاشه وبعثه من جديد فضاء يسحر الألباب، ومع ما للأنثى من رمزية صوفية إذ هي أيقونة السماء وانعكاس الأعلى في الأرض، أنوثة تنسي آدم شقاء العالم،فهي كما حدث الأب جبريل: “سرّ من أسرار هذا الإقليم” ( 217) .كانت هي الأقدر وهي الأجدر بهذا التحدي، تحدي الانسان في توات للطبيعةالمستعصية، فإذا هي مكان عجائبي ساحر وجيل صاغه الحبيب السايح في متن سردي لا يقل سحرا وجمالا.
تعددت الأصوات والغلبة لصوت المرأة:
في رواية(تلك المحبة) تتعدد الأصوات بتعدد الشخصيات ومستوياتها الفكرية ومواقعها الاجتماعية، والمعلوم أن الرواية المتعددة الأصوات ذات طابع حواري على نطاق واسع. وبين جميع عناصر البنية الروائية، توجد دائما علاقات حوارية. أي: إن هذه العناصر جرى وضع بعضها في مواجهة البعض الآخر، مثلما يحدث عند المزج بين مختلف الألحان في عمل موسيقي يتجلى للسامع في الأخير معزوفة موحدة.
حقا إن العلاقات الحوارية هي ظاهرة أكثر انتشارا بكثير من العلاقات بين الردود الخاصة بالحوار الذي يجري التعبير عنه خلال التكوين، إنها ظاهرة شاملة تقريبا، تتخلل كل الحديث البشري، وكل علاقات وظواهر الحياة الإنسانية، تتخلل تقريبا كل ماله فكرة ومعنى.
وتعتمد تقنية تعدد الأصوات في الرواية على وجود أكثر من راوٍ واحد للحكاية، “هذا ما نشعر به ونحن نقرأ (تلك المحبة)، فالشخصيات تتناوب على السرد، فتشكل فعل الحكي من خلالهم،ونستطيع أن نمثل لهذا بمقاطع من الرواية :
-” يقول الناس عنها جنية سكنت روح الدرويش…”ص 14 “وقالوا أهلكت تلك المرأة النبيلة تلك الساحرة بشعرة سلتها من أم رأسها يوم تجاسرت على هتك سرها.” ص 14 “
– “وذكر خالي سليمان أن صاحب المصنف أفنى حياته في إعجام امرأة…”ص 152.
لكن الملاحظ أنه مع تعدد الأصوات لكثرة الشخصيات لم يشعر القارئ بارتباك في المعنى، بل على العكس من ذلك تماما، فقد نشعر باكتماله وانسجامه، وأن كل صوت جاء مكملا للآخر، رغم تعدد وجهات النظر،إلا أن الحوارية جمعت بينها، فقد دار السرد”داخل بنية كتابية متسقة،يكمل فيها كل صوت غيره ويستكمل به،وتنتهي جميعا إلى معنى متعدد المستويات” (4).
ومع أن الرواية تتخذ من الحبّ والصحراء موضوعا رئيسيا لها،إلا أن الشخصيات عكست ظلال هذين الموضوعين بتداخل التاريخي والزماني والمكاني…، ومع تعدد الأصوات أيضا كانت الغلبة لصوت المرأة التي تمثل الحب والصحراء معا، وما شخصية البتول في الرواية إلا دليل على هذه الغلبة وانتصار لصوت المحبة وإن اختلفت الأمكنة …
وبالتالي فرواية (تلك المحبة) رحلة ممتعة نحو شواطئ توات الرملية، وبحث شاق عن الحقيقة التي كلما بزغ نورها أفل من جديد، فهي رحلة انتقال من حال ترضي المحبين،إلى حال تؤرقهم وتفصل بينهم، كما أنها رحلة بين ربوع توات العميقة،أتاح الكاتب فيها للقارئ فرصة التعرف عليها واكتشافها من باطنها، وإن حصل وتاه في صحراء لغتها وتعدد لهجاتها ومسمياتها، عاد للمرشد الثقافي الذي تمثل في قاموس شارح،أتبعه الكاتب في نهاية الرواية ليفهم القارئ كل ما استعصى عليه فهمه.
خلاصة:
تعيد رواية (تلك المحبة) للروائي الحبيب السايح إلى المرأة الصحراوية بشكل خاص والمرأة بشكل عام سيادتها وقدسيتها،بل تكرسها، وكذلك كثيرا من وجاهتها التي تستحق، فهي الآمرة الناهية، والحبيبة والعاشقة والزاهدة، والتي تعرف كيف تسيطر بوعي وفهم، وهي تلك المحبة والمخلصة لقدرها وطبيعتها إلى أبعد حد، وهي تلك المتمردة الثائرة المتطلعة التي تتفهم حدود حريتها، وتُصر عليها. وبالتالي رواية (تلك المحبة) رواية تنتصر للمرأة، بعيدا عن “الفيمنيزم” وتحتفي بها في كل تفاصيلها الجميلة، وحياتها المتعبة والمثخنة بعذابات خاصة، لا يدركها مجتمع الرجال.
ومن ثم فإن المرأة لم تحضر في هذه الرواية كظل باهت، أو كتيمة في الكتابة، بل باعتبارها موضوعا للتخييل الروائي، فهي موضوع أساسي ودينامي لتشكيل فضاء الرواية، بل إن حضورها يؤكد أنها هيكل عام لا يمكن الاستغناء عنه، كما لا يمكن أن يستوي عود الإبداع دون أنثى تؤثث عوالمه .
الإحالات:
- العلاق، علي جعفر. 1997. الشعر والتلقي: دراسات نقدية. عمان: دار الشروق. ص 173.
- ينظر:المرجعنفسه.
- ميخائيل باختين، شعرية دويستفسكي، ت: الدكتور جميل نصيف التكريتي، دار توبقال للنشر، المغرب، 1986م،ص:59
- دراجفييصل.الروايةوتأويلالتاريخ:نظريةالروايةوالروايةالعربية.المركزالثقافيالعربي،ط.1. 2004.بيروتلبنان.
- الحبيبالسايح: تلكالمحبة .فيسيراللنشروالتوزيع،
- عبداللهكروم “حائطرحمونة” مقاماتللنشروالتوزيعوالإشهار.ط.2011.1
- الصديقالحاجأحمد. “مملكةالزيوان” دارفيسيراللنشر.2013.7
- محمدبرادة، “الروايةأفقاللشكلوالخطابالمتعددين” مجلةفصول،مجموعة 11،ع 4 /1993،ص،