
القارئ وآليات إنتاج الدلالة في المحكي الروائي موسم الهجرة إلى الشمال إنموذجاً مقال م.م أسامة أحمد جاسم/ كلية الإمام الأعظم الجامعة/ قسم أصول الدين في البصرة ـ العراق، مقال نشر بالعدد 17 من مجلة جيل الدراسات الأدبية والفكرية الصادر بشهر مارس 2016 والخاص بالروائي العربي الطيب صالح، ص 85. للاطلاع على المقال وكل العدد يرجى الضغط هنا
الملخص:
إنَّ المحكي الروائي مهما كان بناؤه الداخلي لا يتوقف عن كونه خطاباً، يفترض متكلماً ومستمعاً ، وانطلاقاً من نظرية بنفنست التي ترى “في جميع انواع الخطاب أنَّ المتكلم أو المستمع يتجليان في كل تلفظ يفترض متكلماً ومستمعاً، لأنَّ الأنا تفترض بالضرورة أنت” وتتحول الفاعلية الارسالية المرافقة للخطاب إلى عملية تدليل عبر حقن العلامة بطاقة تحفيزية تستدعي دوراً للقارئ حالما يباشر النص ويموضع وعيه فيه، ويتجلى التواصل مع المحكي الروائي بتماهي فاعلية القراءة بفاعلية التحفيز، ويغدو تمثيلاً لدور القارئ في إنتاج المعنى. يكتسب التواصل أدبيته فيه من خلال تحريف مسار الخطاب من عملية بث رسالة إلى عملية تعتيم الرسالة وتغييبها، لصالح انجاز رسالة من قبل القارئ، الذي يتكشف دوره وتهيئ له فرصة إعادة الخطاب إلى النص ثم تلقيه من جديد، وهذا ما تحاول الدراسة الكشف عنه وهي تقارب رواية الطيب صالح موسم الهجرة إلى الشمال.
الكلمات المفتاحية: الشفرة، القارئ- التخييل- الإيحاء- الثنائية الضدية- الدلالة.
مدخل:
يرى إمبرتو ايكو أن وظيفة النصوص الجمالية هي إثراء الشفرات “الأنظمة اللغوية” التي نستخدمها، وهي تؤدي وظيفتها هذه باستعمال عملية شفرة اضافية، تتألف بدورها من زيادة الشفرة ونقصان الشفرة، والعمليتان أشبه بالاستنباط نوسع عن طريقهما الشفرات الحاضرة لتشمل ظروفا جديدة، وزيادة الشفرة يعني استخدام الاعراف التي لها وجود مسبق على حالات جديدة أو تخصيص قيم اضافية لخيوط تراها العين المجردة من تعابير الشفرة في الحدود الدنيا، كالتمثيل الآيقوني أو الصوري، أما نقصان الشفرة فيحدث حين لا تتوافر قواعد ثابتة يمكن الاعتماد عليها، فنزعم أن بعض الاجزاء المرئية بالعين المجردة من فصول معينة إنما هي مؤقتاً وحدات من الشفرة التي هي في دور التكوين([1]).
وتبرز أهمية عمليات التشفير في الادب، عندما تتجاوز مجرد التشفير اللغوي المباشر لتشمل تشفير البيانات الجمالية بقصد توصيلها للمتلقي، وبغض النظر عن درجة الوعي الشعوري بهذه العملية، فان السمات الفنية للعمل الادبي تمثل لغة داخل اللغة، وتهدف إلى أداء وظائف جمالية، ووضعها بهذا النمط في النص هو عملية التشفير ذاتها، وحينئذ علينا أن نميز بين مستويات الضرورة والحرية في هذا التشفير، مما يترتب عليه مراعاة مستوى المرونة والنسبية في الشفرة الادبية([2]).
وبهذا المعنى تمتلك الشفرة خاصية ابداعيَّة فريدة، فهي قابلة للتجدد والتغير والتحول، حتى وإن ظلَّت داخل سياقها. ويستطيع كل جيل أدبي أن يبدع شفرته المتميزة، بل إنَّ المبدع نفسه – كفرد – قادر على ابتكار شفرته التي تحمل خصائصه هو جنباً إلى جنب مع خصائص شفرة السياق الخاصة بجنسه الادبي الذي ابدع فيه، وهذه الاخيرة هي حالة التميز العليا التي لا يحققها الا قلائل من المبدعين الذين يغيرون مجرى الادب، ويطورونه إلى مد إبداعي جديد([3]).
وتسمح الشفرة الادبية بتحقيق اتصال بالنص من قبل القارئ، من خلال الجمل والافعال الكلامية أو استراتيجيات النص، مع اعتبار وجود قواعد للدلالة تؤثر في هذه الوحدات الاولى التي نربط فيما بينها من اجل الوصول إلى حالات فعلية أو محتملة، وننتقل بذلك من العلامة إلى النص الذي يقدم تراكيب نظمية دلالية صادرة عن قواعد النص.
ويظهر مجال التواصل من خلال بنية النص والفعل الذاتي من القارئ، حيث تعد البنى النصية مكوناً بنيوياً من مكونات النص الادبي كما يحققه القارئ وفعالية للقارئ كما يحفزها النص، ويتولى التواصل مهمة انتاج البنى النصية من خلال شفرات النص واحداث استجابة لها في آن واحد.
هذه العملية المتشابكة تمثل شفرة النص الفرعية، وتضم هذه الشفرة قواعد اللغة الام التي يعتمد عليها النص والقدرة الادبية الخاصة التي يأتي بها القارئ إلى القراءة، فضلا عن القواعد التي تتحكم في التفاعل الخاص بين شفرة القارئ وشفرة النص، الذي يحدث في اثناء قراءة ذلك النص، وبمعنى آخر إن القدرة الضرورية على قراءة نص معين ليست مجرد مجموع شفرتين خارجيتين، بل هي نتيجة عملية انشاء بنية في أثناء فعل القراءة، فالنص الذي يتصف بالتنظيم الجيد يفترض سلفاً نموذجا للقدرة يأتي من خارج النص، ويقوم من جانب آخر ببناء مثل هذه القدرة باستخدام وسائل النص حسب، ويغدو النص بوصفه شفرة فرعية نتاج قراءته، أي انشاء بنية عابرة في عملية لا نهاية لها، أما فعالية القارئ فهي الحدث الناتج من تطور تلك الشفرة الفرعية([4]).
وفي الوقت الذي يستحضر فيه النص الادبي قواعد اللغة الام فانه يخالفها بشفراته الموضوعية والجمالية والتقنية، بتشكيل نظام فني جديد، مفارق لشفرة اللغة والثقافة المألوفة ومتراكب فوقها في آن. مستخلصاً لنفسه قواعد جديدة متعلقة بشفراته الأدبية ذات الأبنية الدلالية والوظائف الجمالية وفعالية تمثيلية جديدة([5]).
وبذلك ينظر إلى الشفرات على انها “القوى التي تصنع المعنى”([6])، ومن خلالها يمنح القارئ دوراً ووظيفة واسهاماً لينجز المعنى، وترتبط بما يسميه بارت بالنصوص الكتابية التي تطلب منا أن ننظر إلى طبيعة اللغة نفسها وليس من خلالها إلى عالم حقيقي مقدَّر سلفاً. وهي بهذا تربطنا ونحن ماضون في القراءة بفعالية خطرة مثيرة لخلق عالمنا الآن سوية مع المؤلف، وهي لا تفترض شيئاً ولا تعترف بانتقال ميسور وسهل من الدّال إلى المدلول. فهي مفتوحة للعب الشفرات التي نستعملها لتقريرها([7]).
وتتجاوز الشفرة عندما ترتبط بالتواصل الادبي مجالها المتعلق بنظام من الامكانات إلى ما يمكن أن تؤديه تلك الشفرة حالما ينظر اليها كوظيفة تواصلية، مرد ذلك إلى أن النص الادبي لا ينقل معاني مباشرة، لأنه يؤسس ذاته أولاً بتشكيل بنية خيالية ذات وظائف جمالية، لكنه وفي الوقت نفسه لا يكف عن ادعاء أنه يريد قول شيء ما، يبرره بصياغاته وأجوائه وبناه النصية. تزحف الشفرة عند هذا المنعطف وتنضم إلى التواصل بشكل تخضع فيه لسلوكه، وتغدو الشفرة الفعالية التي تشرف على البنى النصية، بمعنى بروز عناصر أدبية مودعة داخل الوحدات النصية، ينظر لها بمثابة اتهام يوجه الى النص أنه زور حقيقة ارادته للتواصل لأنه جعل غير المقول مبطناً داخل مقول يزعم أنه المقصود.
واذا كان النص الادبي شفرة فرعية، تتنوع من كاتب إلى آخر وعند كاتب واحد ، إذ يمكن أن يغير شفرته من عمل إلى آخر، فان هذه الشفرات تفتح الطريق امام تعدد القراء، ومن ثم استطالة في عملية التواصل الادبي، حيث يتفلت النص من قراءة مقننة أو أعراف ثابتة، وبالفكرة نفسها، تنتزع الشفرة هنا من معناها البنيوي بوصفها أنساقاً لنظام تحتي قار، وكذلك من محتواها السيميائي بوصفها أنظمة لانساق دالة تضع قواعد دلالية، إلى فعالية اشارية مولدة عن تحريك البنية الجمالية إلى محفزات للقراءة بقصد التواصل الادبي، وعند هذا المستوى تتنحى الشفرة عن كونها نظاماً من الامكانات أو نسقاً شكلياً، وتلتبس بحالة اخرى عندما تعمل كنتوء من ظلال المعنى أو سراب من البنى، تشتغل بمصاحبة النص وهو يركب وحداته ويكوّن بنيته الكبرى، وداخل هذا الكيان اللساني المجسد لبنية خيالية تبرز الشفرة كخصيصة جمالية تترشح من تشكيلات الخيال واللغة الأدبية، وهكذا تنتقل فعالية النقل المزعومة في التواصل إلى أجواء النص بوصفها محاور التواصل، كما تتحرك البنية الخيالية نفسها كتمثيل نصي لدور القارئ، ما دام أن المعنى قد تم استبعاده سلفاً، واستبدل ببنى نصية تدعي أنها محاولة لاختلاق دور للقارئ، لأنه سوف يتوازى مع هذه المشكلات البنيوية، ويستقبلها كإرهاص نصي باتجاه المعنى الذي سوف يحاول مقاربته بشكل معكوس.
إنَّ الشفرة الادبية بوصفها نظاماً من العلامات الخاصة ذات الطراز المرجعي المرتهن إلى وقائع خيالية منسوجة بلغة أدبية، سمتها امكانية الايحاء بمعان متعددة، حالما توظف في التواصل الأدبي، ننتقل إلى امكانية صياغات للجمل السردية بهدف أداء وظائف تواصلية، لكن الأمر لا يحدث بهذا الوضوح، لان الشفرة الادبية غالبا ما تكون غير مشتركة بين المرسل والمتلقي، خاصة في النصوص المعقدة او الحداثية، فتكون الصياغة تلك شفرة تواصلية، لأنها تغدو عملية بث الرسالة وفق نسيج معين كمبادرة سرية من النص لفتح قناة تواصلية، وهذه طبيعة التواصل الادبي، فالنص تم اظهاره بهذه الطريقة، كقيمة فنية يمكن بلورتها كعملية تواصلية على شكل من الارسالية المبطنة من النص، وبنوع من الافتراض من جهة القارئ المتوفر على خبرة ادبية قادرة على متابعة التواصل المقدم من النص، المتحرك بخفاء تحت متوالياته وبناه.
إنَّ الشفرة التواصلية تعني أنَّ البنى الأدبية المشرفة على عالم دلالي تم انتاجها بفعالية ادبية ذات قيمة جمالية من جهة ومعددة للمعنى من جهة ثانية، هذه الفعالية ليست مضمونا لعالم الخيال أو آلية سردية، بل هي فعل تواصلي جرى تقديمه بنمط التشكيل الأدبي للبنى النصية، كفعالية هي ارسالية مواكبة للرسالة السردية الخيالية، والشفرة التواصلية بهذا المعنى ليست هي النص بل اجراءات ادبية تستشف من توجه النص إلى المتلقي من خلال احتمالها لآثار تستدعي استجابات من القارئ، وهذا يعزل الشفرة التواصلية عن البنى الدلالية التي تلاحظ في محور النص، بمعنى أن الشفرة تتضمن منطقة متاخمة لكل من السرد والخطاب والنص كمحاور للتواصل المفعل عبرها، وهذه الوضعية المميزة مترتبة على طبيعة النقل المستبعد للمعنى في النص الادبي الروائي، لأننا نصطدم أولاً بالعالم الخيالي الذي يبنيه السرد، ممتلكاً لوجوده الموضوعي، ثم ننكشف على عالم دلالي يترشح منه، ثم نصطدم من جديد بالمعنى الذي لا يكتمل للنص الأدبي، وعند هذه النقطة يتجلى دور الشفرة التواصلية التي تشير إلى امكانية تحويل العالم الخيالي والدلالي إلى وسائل بيد النص كنوع من الارسالية السرية ، تفسر البنى الادبية من خلالها على انها بؤر للتواصل ، بوصفها تولت مهمة احتمال معنى ، وفتحت فرصة لظهور مواقع في النص يجري من خلالها قراءة ما وراء التجسيد اللساني لعالم خيالي يصنع بنية دلالية ، متحركة بطريقة غير قابلة للتحديد ، هذه المواقع هي عملية التشفير التي تفسر بها البنى النصية كوظائف تواصلية يحققها النص عبر استحالة أن يتم الركون إلى معنى واحد ثابت ، وينبغي عند ذلك اختيار لحظات من النص ينظر لها كمحاولة تواصلية تجلت في تحريك النص باتجاه تحويله إلى شفرات تواصلية.
المبحث الاول: التخييل
يرتبط التخييل بوصفه شفرة حاملة لفاعلية تواصلية نصية بطبيعة التخيل الذي يصوره النص ، مما يظهر في بنى الخيال والوقائع التي ينسجها النص بشكل يحقق صلة بنظام ادراكنا، فنحن نجد في عالم الرواية وقائع مزيفة ندركها كأشياء لا وجود لها في حياتنا ، هذه الحالة التي تصادفنا في الرواية ، تقترح صورة للدور الذي ينسبه المؤلف إلى عالمه الروائي، ومن هذه البوابة نموضع انفسنا كقراء لما يحاول النص قوله من وراء هذا التخييل الذي يمتد إلى قصدية للنص ، تحتمل ارسالية لمؤلف لا يمكن أن يتبدى كتجسد لساني ، ويمحور النص وحداته كمسعى إلى تحقيق تلك الارسالية .
ومن هذه الزاوية لا ينظر إلى العالم الخيالي على انه غير مرجعي، بل بكونه خطابا معتبراً كتواصل، وهو يعمل بطريقة ما كما يعمل الخطاب الوصفي التأكيدي، ويعني ذلك أنه لا بد أن يعمل بواسطة تقديم المحتوى الذي يمكن أن نصدقه او محاكاته ، وينبغي أن يكون المحتوى خبرياً ، ولو كان غير مباشر او ضمنياً فقط ([8]) .
يعمل التخييل كشفرة تواصلية من داخل العالم الخيالي الذي يخلقه المؤلف مرتهناً إلى النص الذي يخفي خلفه مرجعية ذاتية تعزى إلى موقف المؤلف في عالمه ، وعن طريق قراءة هذا الموقف الذاتي بوصفه جزء من النص ينبغي أن يتحرر القارئ منه ليعيد تكوين السياق له جنبا إلى جنب مع بقية النص . وهذا يدعونا إلى أن ” نتعامل لا مع العالم، وانما مع شيء آخر في العالم ، شيء صنعه إنسان ” ([9]) .
يتجلى هذا الصنع في إنشاء نمط خاص من الخيال، يتم فيه اختيار وقائع خيالية، تشكل آلة تخييلية، وتوجد الشفرة في طبيعة تلك الآلية، فلكي يغدو الخيال شفرة تواصلية، لا بد من تحريكه إلى فاعلية تمثيلية ينفعل من خلالها التواصل ويكون أدبياً، عندما يتحول الخيال المشتمل عليه العالم الروائي إلى وظيفة لخلق التواصل، هذا التحول هو ما يسم التخييل بكونه شفرة تواصلية، يقف خلفها مرسل أودع نيته في ارسال معنى في الدور الذي تضطلع به السمة التخييلية كمحور في النص، وفرصة لبعث دور القارئ ليدخل في علاقة تواصلية مع العالم المعروض في النص.
نتعرف على الفاعلية التواصلية للتخييل كشفرة من خلال العملية التمثيلية التي تقوم عليها الرواية بوصفها شكلا فنياً “يمتلك مستويين: مستوى التعبير، ومستوى المضمون؛ أي التمثيل والممثل”([10])، فالبنية الروائية المكونة من وقائع خيالية لا تأتي بشكل خام، بل هناك سرد يتولى مهمة تمثيل الحكاية عبر الزمان مداخلا معها آلياته وتقنياته وأشكال تقديم الحكاية، وما يصاحب ذلك من تعليقات وصفية او أيديولوجية ، تنضم إلى المادة الحكائية. كنسيج موحد يعتمل في داخله اكثر من مستوى ارسالي حسب طبيعة الجنس الروائي المشتمل على وجود موضوعي لمضمون مرتهن إلى الخيال، وعلى هذا المستوى “ليست الاحداث التي يتم نقلها هي التي تهم، انما الكيفية التي اطلعنا السارد بها على تلك الاحداث”([11]).
هذه الكيفية ليست مجرد قناة تواصلية بين السارد والمسرود له، أي لا يمكن حصر دورها في محاولة نقل الرسالة إلى المسرود له كي تحقق تأثيرا عليه. بل هي جزء من الفعل التواصلي الذي يتسرب إلى النص بكامله على شكل من القصدية التواصلية، بهذا المنظور، تزحف الوقائع الخيالية المتداولة بين السارد والمسرود له من كونها نظاما قائما بذاته إلى محور تنظيمي للعمل الادبي باتجاه أن يتحول إلى نص، وما تحتمله هذه الكيفية من مستويات لا توجد بشكل عمودي يمكن الانتقال فيه من جزء إلى آخر، بل هي لحظة مكثفة امام القارئ الذي سوف ينفتح من خلالها على المعنى.
ويأتي التخييل كشفرة تواصلية واحداً من مجالات تحقق هذه الكيفية، وهذا ما يسم التواصل الادبي، بوصفه ليس عملية ضخ يمكن أن تختزنها قناة تطرح محتواها إذا ما شغلت، بل هو عملية انفعالية بالمعنى الفلسفي، تبرز في بنى النص وسيرورته، وبذلك يغدو كل من القارئ والمؤلف ادواراً للتواصل بصفته الادبية، بمعنى انهما لا يتواصلان من مراكز ثابتة أو نسق مشترك ابتداءً، يقترح ذلك النص الادبي الروائي الذي لا يمكن ادعاء أننا نتلقى مضمونه بشكل موضوعي، لأنَّ النص يصب علينا مجموعة ذوات، وبالمقابل نحن نصب عليه ذواتنا، يحدث ذلك من خلال العالم الخيالي والخطاب الأدبي النوعي.
نموذج تحليلي : شخصية مصطفى سعيد
تجند رواية (موسم الهجرة إلى الشمال) جميع عناصر السرد لتوضيح معالم الشخصية ومنحها اكبر قدر من البروز ولغرض حضورها في جميع المواقف، وكما يقول جان ريكاردو أن الرواية لم تعد كتابة مغامرة بل مغامرة كتابة، ونحن لم نعد نتابع في هذه الرواية تطور بطل روائي أو تطور طائفة اجتماعية بل انتاج نص واستحالات شخصيات خاصة بالضمائر([12]) وتجمع شخصية مصطفى سعيد كل العالم الخيالي اليها، ومنها تصدر الاحداث، وكأن الرواية تسعى إلى بناء هذه الشخصية وقراءتها في آن، فهو موجود في الغرب حيث ذهب الراوي للدراسة وموجود في القرية حيث عاد، ويتراءى شبحه في قصة الرواية وفي الوصف الشعري لعناصر في الطبيعة وأمكنة الرواية وأزمنتها، فهو يسير داخل العالم الروائي ويعمل كمحرّك له من الداخل. وهذا يجعلها “شخصية روائية مركَّبة الى حد التناقض… فهو يعيش في عالمين دائماً، عالم القناع يعيش فيه ويتكيَّف له، وعالم آخر هو عالم الواقع الذي يجد فيه نفسه”([13]).
إنَّ التخيّل الذي يبنيه الروائي في ذهنه يستلم وجوده من أوجه شخصية مصطفى سعيد، المكون البنيوي الأساسي في الرواية، لكن ذلك لا يحدث بالوضوح الذي يمكن أن يتصور لأول وهلة، إذ براعة الروائي تمكنه من تحويل مضمون خيالي موضوعي إلى ظلٍ لمصطفى سعيد، كما أنَّ مصطفى سعيد نفسه يبقى ظلاً هو أيضاً عندما يكون الحديث عنه أو يقوم بحدث في الرواية أو يتولى مهمة تقديم الحكاية بوصفه أصبح سارداً، يحدث ذلك بمزيد من شعرية البناء والوصف وحبكة متألقة، ويحقق هذا مبدأً مهماً في شعرية النصوص الأدبية، حيث تقول شيئاً وتعني آخر، أو تقول شيئاً يمكن له أن يقول أشياء أخرى، أو تقول أشياء كثيرة بشكل تدَّعي فيه أنك لم تقل إلا شيئاً واحداً.
على هذا النسيج الروائي المتماسك يمكن معاينة العالم الخيالي كشفرة تواصلية تبرز من خلال التخييل الذي يظهر مع نمط الاختيار والانشاء لعناصر ذلك العالم، تظهر كقوة تفعيلية لدور القارئ وشرعية مشاركته في إضاءة النص. يروي مصطفى سعيد قصته بنفسه فيقول:
“إنها قصة طويلة لكني لن أقول لك كل شيء. وبعض التفاصيل لن تهمك كثيراً، وبعضها … المهم انني كما ترى ولدت في الخرطوم. نشأت يتيماً، فقد مات والدي قبل أن أولد ببضعة أشهر، لكنه ترك لنا ما يستر الحال. كان يعمل في تجارة الجمال. لم يكن لي إخوة، فلم تكن الحياة عسيرة علي وعلى أمي. حين ارجع الآن بذاكرتي أراها بوضوح، شفتاها الرقيقتان مطبقتان في حزم، وعلى وجهها شيء مثل القناع. لا أدري. قناع كثيف، كأن وجهها صفحة بحر، هل تفهم؟ ليس له لون واحد بل ألوان متعددة، تظهر وتغيب وتتمازج. لم يكن لنا أهل. كنا أنا وهي، أهلاً بعضنا لبعض. كانت كأنها شخص غريب جمعتني به الظروف صدفة في الطريق. لعلني كنت مخلوقاً غريباً، أو لعل أمي كانت غريبة”([14]).
يتشكل العنصر الخيالي كشفرة تحجب فاعلية تواصلية من جهة النص، في النقص الذي تظهر به الشخصية، فالأب غير موجود ابتداءً، وهذا يعني دلالة سلبية لان الاسرة لن تمتلك كيانها المكتمل، هناك غياب للاب يجعل الطفل يتيماً، لكن، الغياب ليس ذا وجه وحيد، بل سوف يجرف معه كل ما يمكن أن يحضر إذا وجد الأب، وننتقل بذلك على مستوى التخييل الى عملية تغييب، وبالاتجاه نفسه يتحول العنصر الخيالي إلى شفرة تخييلية تفتح مجالا تواصلياً، يحضر فيه القارئ ليعقد صفقة مع النص، مفادها أن كلا منهما سوف يسهم من أجل رسم صورة لما وراء النص.
تغييب الأب عن الاسرة التي سينشأ فيها مصطفى سعيد محاولة من النص لقطع أي صلة للشخصية عن الأب، مما يعتم شكل العلاقة معه، وينسحب على مصطفى الذي لن نعلم شيئاً عن كونه ابناً يحمل في كيانه امتداداً لجذر أو انتماء إلى محور، ومن ثم سنفقد القدرة على ملاحظة أين سينشد وبأية كيفية، وإذا كان الأب يمثل سلطة بشكل من الأشكال في مجتمع أو آخر فانَّ مصطفى سعيد في حلٍ من تلك السلطة، هذه العملية في اظهار الشخصية حركة من النص باتجاه تحويل العنصر الخيالي إلى آليَّة تخييلية مبطَّنة بفاعلية تواصلية.
تستمر سلسلة بتر مصطفى سعيد عن انتمائه الأسري، حتى عندما تحضر الأم، فهي أيضاً لا امتداد لها، وكأنَّها خرجت من المجهول، كل ما يتعلق بها محذوف، ولم يبقَ سوى أمٌ لها وجه لكن من دون كيان، وجهٌ لا يمكن تحديده بسهولة، مصطفى ابنها معد ليؤكّد أنَّه لا علاقة له بها على الرغم من كونها شاخصة أمامه بدقة، كل ما يراه منها يصر على أن لا يوحي له أنَّها أم وتحديداً أمه، يراها غامضة وكأنها تلبس قناعاً كثيفاً، ممتدَّة إلى ما لا نهاية كأنَّ وجهها مدى البحر حيث لا نقطة ترتكز عليها العين، وفي الحقيقة يمعن مصطفى في استجهال أن تكون أمه برغم أنَّها كذلك فعلاً. فأحد قطبي الأسرة غائب كمجهول والثاني حاضر كصورة لغياب مستمر في الحضور.
ويخفق مصطفى سعيد في العثور على شيء ينتسب له في وجه أمه، وعندما يفشل في ذلك فإنَّما يعلن عن خواء ذاته عن أي رابط يشده إليها، ويغدو إدراكه لأمه نوعاً من استمراء غربته متحولاً إلى فوران أنوي تجاه فقدان الإحساس بأنَّها أمه، وإذا غاب ذلك الإحساس جرف معه إمكانية أن يكون ابناً، ولا يبقى له سوى إحساس بالغربة، وعلاقة فاترة لا روح فيها.
بهذه الطريقة تم تخييل مصطفى سعيد من الداخل والخارج، وكأنمّا يراد منه أن يتجرَّد من كل أبجديات الحياة ومنظومة القيم السائدة، ليدخل في عماء أو يدور في فراغ ويبحث عن شيء ما يجهل ما هو أو حتى فرص الحصول عليه، وتحت هذا العنصر الخيالي يسير النص إلى عملية تشفيريَّة، ويظهر نمط التواصل عندما يكون أدبياً، سمته فعالية في النقل، لكن ليس بأدوات متاخمة للمضمون المنقول، بل العكس من ذلك، وفق آلية انفعاليَّة، بمعنى أنَّ العنصر الخيالي يمتلك موضوعيّته وفي الوقت نفسه يكون منفتحاً على ذاتية تعزى إلى القارئ بتنظيم من النص، وهو أمر من خصوصية الجملة السرديّة الروائيّة، حيث نقف على مضمون محدد أمامنا، لكنه يمثل بوابة لمضامين أخرى ممتزجة فيها، مكونة كثافة في النقل، وفي لحظة واحدة، يرسل الجميع، والعالم الموضوعي الخيالي المنقول يبدو قاصداً لمضمونه، لكن ما غير المنقول يبقى معلقاً في ثناياه على شكل من قصدية النص المبأرة في نقاط منه، يتم من خلالها الاستمرار في إرسال العالم الخيالي حاوياً على الفاعليَّة التواصليَّة .
والمحور الذي يشتمل على الشفرة التواصلية في المقطع السابق تمثل في نزع مصطفى سعيد عن انتمائه الأسري وارتباطه بوجود بشري محدد من الخارج، وإن كان هذا الوضع جزءاً من العالم الخيالي الذي تتكون منه الرواية، إلا أنَّه جزء – وفي الوقت نفسه – من الدور التمثيلي لما يحاول النص قوله، ومن ثم يلتبس ذلك المضمون بوظيفة تواصلية أدبية عندما يفتح لنا المجال للعبور إلى ما وراء النص.
وحين يكتمل الوجود الموضوعي للعالم الخيالي يتسع دور النص في إثارة شفرته التواصلية، كما هو بارز في المواصفات الكلامية الحادة التي يتحدث بها مصطفى سعيد، وتكتسب “أهمية فنيَّة كبيرة لخلق صور الناس الموضوعيَّة والمنجزة، وكلما كانت الشخصية تتسم بقدر أكبر من الموضوعية برزت سحنتها الكلامية بدرجة أكبر من الحدّة”([15]).
لكن هذه الصورة الموضوعية لا يمكن أن تكون محدّدة إلى النهاية “حتى عندما يكون الراوية واحداً من الأبطال ويكتفي بأن يأخذ على عاتقه جزءً من القصة، حسب، حقاً أن ما يثير اهتمام المؤلف في الرواية ليس فقط أسلوبه النموذجي والفردي في التفكير، والمعاناة، والحديث بل بالدرجة الأولى أسلوبه في الرؤية والتصوير، هنا تكمن وظيفته المباشرة بوصفه راوية ينوب عن المؤلف. ولهذا فإن موقف المؤلف، مثلما يحدث في تقليد الأساليب، يتغلغل داخل كلمته ويجعلها نسبية. بدرجة أكبر أو أقل. إنَّ المؤلف لا يعرض علينا كلمة الراوية (بوصفها كلمة موضوعية خاصة بالبطل). بل يوظفها من الداخل لخدمة أهدافه، إضافة إلى أنَّه يجبرنا على أن نحس بجلاء بالمسافة القائمة بينه وبين هذه الكلمة”([16]).
يستمر بناء شخصية مصطفى سعيد كعملية تخييلية، والنقص الذي تعاني منه حياته الاجتماعية والغموض الذي يلف كيانه الداخلي، لا بد أن يصوغ وجوداً خاصاً له، يقول:
“وكنت، ولعلك تعجب، أحس إحساساً دافئاً بأنني حر، بأنه ليس ثمة مخلوق أب أو أم، يربطني كالوتد إلى بقعة معينة ومحيط معين. كنت أقرأ وأنام، أخرج وأدخل، ألعب خارج البيت، أتسكع في الشوارع، ليس ثمة أحد يأمرني أو ينهاني. إلا أنني منذ صغري، كنت أحس بأنني… أنني مختلف. أقصد أنني لست كبقية الأطفال في سني، لا أتأثر بشيء لا أبكي إذا ضربت، لا أفرح إذا أثنى عليّ المدرس في الفصل، لا أتألم لما يتألم له الباقون. كنت مثل شيء مكور من المطاط، تلقيه في الماء، فلا يبتل، ترميه على الأرض فيقفز”([17]).
يظهر هنا الوجه الآخر لمصطفى سعيد بعد أن فصم عن انتمائه الأسري، وجه لا ملامح فيه أو مؤشرات إلى كينونة داخلية، كأنَّما أصبح كائناً لم تعرف هويته بعد، يمارسأافعالاً بشرية مفرغة من محتواها الإنساني، ويطوف على الأشياء لكن ذاته من الداخل لا تلامسها، فتبقى عاجزة عن مزامنة أفعاله ومنحها ذائقة إحساسية، إحساسٌ وحيد يدور في صدره ولا يجاوره شيء آخر، إنه إحساس بالحرية، يمكن من خلاله أن يطل النص على فعل تواصلي، لأن هذه الحرية لم تنتج في سياق مألوف، يكون نتيجة منطقية لتلك الحرية، حيث لم تؤسس كوعي ينقل الانسان إلى مصاف رؤى جديدة تفارق السائد من الثقافة، إنَّها حرية في إطار من العبثية أو الهمجية، حرية بمعنى الاختلاف غير المفسَّر عن الآخر، كأنَّها ماهية في الذات لم يجرِ عليها تعديل أو تحوير، فانطلقت جامحة تعبر عن نفسها بأشكال متعددة.
إبراز مصطفى سعيد بهذه الصياغة الحادَّة هو عمل من الشفرة التواصلية، التي تمر من خلال العالم الخيالي كنتوء يتشكل مع ظهور النص في نسيج من المتواليات السردية، فالنقص في كيان الأسرة والانفصام عن الأم لا بد أن يوصلنا إلى حرية متعدّدة الأوجه تبحث لها عن تجليات في مدى غير محدود في الواقع.
يميز بيرسي لوبوك بين وسيلتين لخلق الشخصية أو تمثيلها، بين الإظهار والإخبار، أي بين أن يريك أو يخبرك، ويفضِّل النقاد عموماً الإظهار على الإخبار كوسيلة للكشف عن الشخصية، يشعرون أنَّ هذه الوسيلة تكشف حياة الشخصيات أكثر مما تعالجها، كأشياء فاقدة للحياة. إلى جانب ذلك فنحن نشعر أنَّنا نقرر ما تكون عليه الشخصية عندما نراقبها وهي تتصرف أمامنا، حيث بالمستطاع استخدام نظرتنا النقدية، ومعرفتنا بالبشر للوصول إلى تقييمها، بينما عندما نخبر بأمر ما فإنَّنا إما أن نقبله أو نرفضه، وليس ثمَّة مجال لاستجابات مختلفة([18]).
ويجري الكشف عن شخصية مصطفى سعيد بأسلوب الإخبار مقدماً من الشخصية نفسها بوصفها سارداً وشخصية في آن واحد، لكنه ليس إخباراً مباشراً يقدم معلومات عن الشخصية ومن ثم تتضح صورتها أمامنا، بل إنَّ طبيعة الإخبار إبهاميَّة، لأنَّها تغرِّب الشخصية إلى حد أننا نفقد القدرة على ربطها بأشخاص في الواقع، لتنحدر إلى عملية تجريدية تنوي الشخصية بها أن تكون ممثلة لشيء ما أو فكرة معينة، من هذه الناحية يشرع النص بإدلاء شفرته التواصلية التي تدعونا إلى التأمل والتفكير في مواصفات تلك الشخصية، وعندما نفعل ذلك ننتظر من النص أن يدخلنا في هذه المهمة، يقول السارد بصدد دخوله صفوف الدراسة:
“المهم أني انصرفت بكل طاقاتي لتلك الحياة الجديدة. وسرعان ما اكتشفت في عقلي مقدرة عجيبة على الحفظ والاستيعاب والفهم. اقرأ الكتاب فيرسخ جملة في ذهني. ما ألبث أن أركز عقلي في مشكلة الحساب حتى تتفتح لي مغالقها، تذوب بين يدي كأنها قطعة ملح وضعتها في الماء. تعلمت الكتابة في اسبوعين، وانطلقت بعد ذلك لا ألوي على شيء. عقلي كأنه مدية حادَّة، تقطع في برود وفعالية، لم أبالِ بدهشة المعلمين وإعجاب رفقائي أو حسدهم. كان المعلمون ينظرون إليَّ كأنني معجزة، وبدأ التلاميذ يطلبون ودّي. لكني كنت مشغولاً بهذه الآلة العجيبة التي أتيحت لي. وكنت بارداً كحقل جليد، لا يوجد في العالم شيء يهزني”([19]).
ذات مصطفى سعيد المعطَّلة عن التواصل الانساني، يقابلها عقل متحفز ممنوح طاقة مكثَّفة لتشغيله، لكنه يعمل بمعزل عن الذات أو أنا توجهها مضامين معينة، يبدو عقله نقياً كأنَّما هو جهاز أُنتج للتو، يدور بكفاءة تامة، ويحفل بتقنية متقدمة، يندفع به إلى حقل الحساب، فيجد فيه ضراوة فائقة، هذا المسار في شخصية مصطفى محاولة من النص لنثر بذور الفاعلية التواصلية بتنويع التخييل كشفرة، فقوى الحياة المعنوية متمثلة بالعلاقات الانسانية على مستوى الآخر والاسرة معدومة، وقوى المادة مستنفرة إلى اقصى درجة ممثلة بالعقل المندلع لهضم كل ما يرد اليه وفق آلية منطقية صارمة، تجد مجالها المفضَّل في عالم الحساب والأرقام.
هذه الصورة لمصطفى سعيد هي دور تمثيلي عبر الخيال لما يسعى النص إلى قوله، يؤخر غير المقول ويطلق مقولاً يتظاهر أنه مقصود لذاته يمتلك مضموناً خياليـاً، ويترك العنصر الخيالي يتحرك بطريقة لا يمكن الاكتفاء بموضوعيتها، وفي الوقت نفسه لا يتسنى للقارئ أن يقول النص بسرعة، وهذه سمة الشفرة التواصلية في الجملة السردية الروائية مقدمة في إطار التخييل للعنصر الخيالي كآلية لتمثيل المعنى ودور القارئ في آن.
شخصية مصطفى سعيد كمجال لتحرك الشفرة التواصلية، غربت عن الواقع الذي نشأ فيه، مما سينزعه منه إلى واقع آخر، ربما يجد فيه انسجاماً داخلياً، لتلتقي فيه ذاته المختلفة مع واقع آخر مختلف، وهذا يبرر أنَّه حظي باهتمامٍ ورعاية من نماذج ذلك الواقع المختلف:
“وصلت القاهرة، فوجدت مستر روبنسن وزوجته في انتظاري، فقد أخبرهما مستر ستكول بقدومي، صافحني الرجل وقال لي: كيف أنت يا مستر سعيد؟ فقلت له: “أنا بخير يا مستر روبنسن”. ثم قدمني إلى زوجته. وفجأة أحسست بذراعي المرأة تطوّقانني، وبشفتيها على خدي. في تلك اللحظة، وأنا واقف على رصيف المحطة، وسط دوامة من الاصوات والأحاسيس، وزندا المرأة ملتفّان حول عنقي، وفمها على خدي، ورائحة جسمها، رائحة أوربية غريبة، تدغدغ أنفي، وصدرها يلامس صدري، شعرت وأنا الصبي ابن الاثني عشر عاماً بشهوة جنسية مبهمة لم أعرفها من قبل في حياتي، وأحسست كأنَّ القاهرة، ذلك الجبل الكبير الذي حملني إليه بعيري، امرأة أوربية، مثل مسز روبنسن تماماً، تطوقني ذراعاها، يملأ عطرها ورائحة جسدها أنفي. كان لون عينيها كلون القاهرة في ذهني، رمادياً، أخضر، يتحول في الليل إلى وميض كوميض اليراعة”([20]).
تمثل الغريزة الجنسية الجزء الآخر من قوى الحياة المادية في ذات مصطفى سعيد، حيث تحتمل نشاطاً متحفزاً، مردّه إلى توهج الغريزة بقوة لا شرط عليها أو قيد، فتبرز في حالة محضة، حالما تلتقط مؤثراً من الخارج، لكنَّ هذه الشهوة ليست حالة حيوانية فحسب، بل يعتريها إبهام عندما تتحسسها الشخصية، هذا التلوين فيها من عمل الشفرة التواصلية، لأن فيها زيادة غير مفسَّرة، تظهر في فاعليتها المبكّرة من جهة، وغموضها لدى الشخصية من جهة ثانية، يمكن تلمّس بعد هذه الزيادة في الطرف المحرك لها، وهي المرأة الأوربية، التي تنجذب إليها الرغبة بقوة وغموض في آن، وتشكّل هذه العلاقة الجسدية ملتقى لمصطفى سعيد من الداخل مع طرف خارجي لم يعهد علاقة به من أي نوع، وينوع السارد محتوى الشخصية الداخلي، ويمده إلى المكان (القاهرة)، ليترشح من هذا استطالة ذاته عندما تحتك بالغريزة، دلالة على انسياب الشخصية خلف هذا الشعور الساخن كلحظةٍ مكثفةٍ تموج فيما موجّهات متعدّدة.
عند هذه النقطة الحرجة تحتدم الممارسة الداخلية لكيان الشخصية، الذي ظل أمام حالات كثيرة تستدعي استجابات متنوعة، وفي الوقت نفسه يتحرك النص صوب فاعليته التواصلية، لنقف على الحركة الداخلية للنص وآلية تداخل مستويات العالم الروائي في نسيجه المقدم في ملفوظ واحد، يمكن أن يضم تلفظات أخرى في داخله، فهذه الغريزة الوحشية المبهمة تستيقظ في ذات مصطفى سعيد حالما تمر عليها امرأة أوربية، ومن دون ملاحظة أية حالة لتلك المرأة تمور الرغبة كأخطبوط يجمع أشلاءه لاحتواء شيء ما، وتغدو المرأة الأوربية مفتتح ذات مغلقة، وفي الحقيقة، يسير تحت ذلك تيار حركة الشخصية من بيئتها في الشرق إلى بيئة أخرى في الغرب، ومع هذه الحركة يمكن ملاحظة مسار ذات مصطفى سعيد وقوة الجذب التي ستصوغ وجوده هناك بكيفية ما.
هذه الكينونة الخاصة لمصطفى سعيد، تتحرك بها الشفرة التواصلية، وسوف تنقل إلى واقع آخر هو الغرب، وبالمقابل سننتقل إلى جزء آخر من النص وهو يمارس تواصله الأدبي، يقول مصطفى سعيد: “كانت لندن خارجة من الحرب ومن وطأة العهد الفكتوري، عرفت حانات تشلسي، وأندية هامبستد، ومنتديات بلومزيري. اقرأ الشعر وأتحدث في الدين والفلسفة، أفعل كل شيء حتى أدخل المرأة في فراشي. ثم أسير إلى صيد آخر”([21]).
كانت الشخصية في بيئتها تفتقر إلى التواصل الداخلي بين الوعي والذات، ولأنَّه بلا محور، ظلت ذاته معزولة، تهيج عقله وقطع أشواط الدراسة بوقت قياسي، وبقيت الذات باردة تسودها اللامبالاة، والبقاء على صورة واحدة ثابتة من الركود، في الاعلى في عقله طاقة تصرف بلا هوادة وفي الداخل ترقد جثة محنطة، الغريزة الجنسية نفخت روحاً في تلك الجثة، وتشكل نسق بين الوعي والذات، تحركه علاقة غامضة، وأصبحت قوى العقل موجَّهة من داخل الغموض الذي يكتنف الشهوة، ظهور الكينونة بهذه الصياغة يحقق وظيفة تواصلية، تحفز القارئ باتجاه قراءة الغموض عبر مسيرة النص الذي يداخل علامات من طبقات ثقافية مختلفة، يمكن القيام بترتيبها انطلاقا من علامة (الصيد)، حيث توظف الثقافة والتمدّن من أجل سلوك بدائي يتمثل في الصيد الحاوي على إشعاع دلالي دقيق، يحيل إلى البيئة التي نشأت فيها الشخصية، واستقرت آثارها كمضامين غائرة في لا وعيه المشوّه، ومن هذا المحور يمكن رؤية الشفرة التواصلية، فمظاهر المدنية والثقافة ممثلة بالواقع الغربي توظف من أجل غريزة في حالتها البدائية. هذا البناء الداخلي للعالم الروائي هو أثر للفعل التواصلي المتجلّي كقصديّة للنص.
الصيد كممارسة بدائية يقوم بها الانسان في الطبيعة المتاحة له، مستخدماً آلة أو وسيلة ما، للحصول على حيوان يتخذه طعاما ًله، يحوله مصطفى سعيد إلى صيد آخر يتمثل بالمرأة، ويستخدم آلة أخرى هي الثقافة، لكنه يبقى موجهاً من غرائزه الأولية، فأمام الحصول على لحم لإطفاء غريزة الجوع، يمتلك جسداً لإرواء غريزته الجنسية، ورغم الثقافة التي يتحلّى بها مصطفى سعيد، ومواكبته لتمدّن الغرب، واشتغاله كأستاذ في الاقتصاد، إلا أنَّ انجذابه إلى غريزته، وتوظيفه لكل مؤهلاته الثقافية من أجلها يجعله ينضم إلى مصاف سلوك بدائي.
يعمل التخييل كشفرة تواصلية في هذه المفارقة التي تنطوي عليها شخصية مصطفى سعيد، ومن خلالها ندخل مع النص في علاقة تواصلية من النوع الأدبي، توجّه انتباهنا إلى هذه المفارقة وتخطط استجابتنا القادمة:
“غرفة نومي مقبرة تطل على حديقة، ستائرها وردية منتقاة بعناية، وسجاد سندسي دافئ والسرير رحب مخداته من ريش النعام. وأضواء كهربائية صغيرة، حمراء، وزرقاء، وبنفسجية، موضوعة في زوايا معينة. وعلى الجدران مرايا كبيرة، حتى إذا ضاجعت امرأة، بدا كأنَّني أضاجع حريماً كاملاً في آن واحد. تعبق في الغرفة رائحة الصندل المحروق والند، وفي الحمام عطور شرقية نفاذة، وعقاقير كيمياوية، ودهون، ومساحيق، وحبوب. غرفة نومي كانت مثل غرفة عمليات في مستشفى. ثمة بركة ساكنة في أعماق كل امرأة. كنت أعرف كيف أُحركها. وذات يوم وجدوها ميتة انتحاراً بالغاز ووجدوا ورقة صغيرة باسمي، ليس فيها سوى هذه العبارة، مستر سعيد. لعنة الله عليك”([22]).
تبدو غرفة مصطفى سعيد مُعدَّة باهتمام بالغ لإيقاع الفريسة في الفخ، وهي مزينة بطريقة، يمكن أن تستهوي كل أنواع الفرائس، فيها إشارات إلى نمط حياة الغرب، كما تضم أجواء شرقية، ويمعن مصطفى سعيد في رؤية ذاته تمارس الفعل الجنسي من خلال المرايا التي على الجدران، لكن هذه الغرفة لا تعدو أن تكون مقبرة، فأي امرأة تُستدرَج إليها فقد اقتربت من حتفها، لكن هذا لا يحدث بالمعنى المادي للقتل بل هو قتل لذات استنشقت دفء الحياة لبرهة ثم داهمها السراب، وعندها لم تستطع العودة إلى البداية، حيث كانت قانعة بحياة باردة.
على انتحار كل امرأة يصيدها مصطفى سعيد ينحدر النص إلى فاعليته التواصلية، عندما يشفر حدث الانتحار بوصفه أثراً لسلوك مصطفى سعيد البدائي، ونجتاز مستوى العالم الخيالي إلى مستوى تخييل المعنى، عندما تجرَّد المرأة من أنوثتها وتغدو مجرد جسد، ويستحوذ عليها إحساس بالفشل الذريع أن تمتلك تلك الكينونة التي توهجت فجأة ثم ساد الظلام، يفعل ذلك مصطفى سعيد حالما يحول الثقافة إلى آلة صيد ويضعها تحت خدمة غريزته الجنسية، وتصبح المرأة التي تتنعم بحريتها في مجتمع حديث طريدة، يعييها صياد ماهر، مدنَّس بانقسام داخلي يعبر عن نفسه بغريزة وحشية.
الجزء المتعلق بالغريزة الجنسية في شخصية مصطفى سعيد يمثل لحظة مكثفة لفاعلية الشفرة التواصلية توفر تخطيطاً دقيقاً لقراءة ما وراء النص، هناك تركيز غير عادي على هذه الثيمة يجعل القارئ يتواصل مع النص مشاركاً في بنائه كما يدعوه النص نفسه، وعندما يبني النص عالمه من خلال الوقائع الخيالية فإنَّه يقترح وسيلة أمام القارئ ليقوم هو ببناء عالمه أيضاً، ويتحقق ذلك من خلال الشفرة التواصلية المبرزة لثيمة الغريزة عند الشخصية، والترشحات الدلالية التي تتساقط منها في كل جملة سردية من النص.
المبحث الثاني: الإيحـــاء
يعني الإيحاء إسناد وظيفة أخرى إلى الشيء غير وظيفته الأصلية، وهو بذلك دلالة تطبق على الأشياء فتخرج من حقل اللسانيات. وهذه الدلالة الثانوية ليست اعتباطية ولا تقوم على إرادة فرد من الناس، ففي كل مجتمع -متخيلاً كان أو حقيقياً- تؤلف الأشياء نظاماً دلالياً ولغة([23]).
يرتبط الإيحاء بما هو خارج الصورة المفهومة للكلمة ويكون قيماً متميزة عن المعنى؛ لأن القيم عبارة عن مشتركات فوق دلالية، وباعتبارها متميزة عن المعنى، فإنَّها تشكّل موضوع دراسة خاصة هي الأسلوبية. وتنتسب القيم الأسلوبية إلى نموذجين: فمن جهة هناك كلمات وأشكال تعبر عن انفعالات، ورغبات، ومقاصد المتكلم. ومن جهة أخرى تستدعي الكلمة وسطاً معيناً، ولا يستخدمها كل الناس، أو إذا شئنا فإنَّ بعضهم يستخدمها في حالة معينة فقط. وهي مشتركة أيضاً مع مجموعة وحالة اجتماعية تنتمي إليها عادة، ونستخلص من هذا وجود قيم تعبيرية، وأخرى اجتماعية أو اجتماعية سياقية([24]).
وعندما تحدث تسمية تعبيرية لشيء فإنَّما يعني ذلك تميزه بالنسبة لمن يتكلم، وتعبر عن القيمة الشعورية، والتمني، والقيمة الجمالية والأخلاقية التي يعمد المتكلم إلى وصفه بها، وليس المقصود من هذا هو التحقق من هوية الموضوع، ولكن المقصود هو التعبير عن القيم الواقعة خارج المفهوم والتي تكون المعنى في الوقت نفسه([25]).
وينتمي الأدب إلى القيمة التعبيرية بجدارة، والى عمليات الإيحاء؛ لأنَّه يسند وظائف جديدة للأشياء التي يحولها إلى كلمات وجمل أدبية سردية. وهو بذلك يحقق ثراءً للأنظمة اللغوية، ومن هنا ننفتح على الإيحاء كشفرة تضمر فاعلية تواصلية، تعمل بموازاة العالم الدلالي الذي يبنيه النص الروائي في عناصره الفنية والمضمونية، وهي متاخمة لترشحات الدلالة عند كل مقطع من مقاطع النص
يجري الإيحاء مع السمة التمثيلية التي تطبع الأدب الروائي، فهذا العالم الخيالي مصنوع بطريقة تؤدي إلى أن يقول النص معنىً، فأمام تعرفنا على واقع متخيل يتركّب من أحداث وشخصيات نتعرف وفي الوقت نفسه على اشتغال تلك العناصر لإنتاج معنىً متعاضداً مع القارئ الذي يمنح دوره من خلال النسيج الجمالي للنص، ويبرز الإيحاء كشفرة في محاولة النص اثارة القارئ إلى نيته في قول معنى ما، ليكتسب العالم المنقول إليه تواصلاً أدبياً، ويمكن تحديد مركزين في النص الروائي لانبثاق الشفرة الإيحائية: الاول يتحرك من خلال تقنيات السرد وأوصاف وتعليقات السارد وخطاب الشخصيات، والثاني من طريقة انبناء العالم الخيالي والطريقة التي يعمل بها النص.
هذا السلوك النصي يمكن معاينته كفاعلية تواصلية، فالشفرة تدعم القارئ في المشاركة مع النص، لكنها في الوقت نفسه لا تمكنه من القبض على معنى جاهز، ويظهر هنا طابع التواصل الأدبي متحققاً من خلال الشفرة التي تؤشر على هذه النية الضمنية عند النص، وتعبر عنها بإجراءات أدبية.
ويعد الإيحاء كشفرة مجال ظهور معان ضمنية، حيث تستثمر الإشارات وومضات المعنى، التي تولدها دلالات معينة، وفي القراءة يضفي القارئ الثيمات على النص، ويلاحظ أنَّ بعض ايحاءات الكلمات والعبارات في النص يمكن أن تضم إلى ايحاءات مشابهة لكلمات وعبارات أخرى. فما أن نتعرف على نوى مشتركة للإيحاءات حتى نضفي على النص ثيمة، وما أن تتعلق عناقيد الإيحاء باسم علم معين حتى نتعرف على شخصية ذات صفات معينة([26]).
وعندما ينتسب الإيحاء كشفرة إلى التواصل الادبي فإنَّه يميل باتجاه أن يكون دوراً لعملية نقل المعنى، ويزحف قليلاً نحو وظيفة تمثيلية لنية المؤلف في الدعوة إلى معنى من خلال النص، وإذا كان الإيحاء يتحرك على المستوى الدلالي للعالم الخيالي فإنَّه كعنصر في العملية التواصلية سوف ينتقل إلى دور لارتباط القارئ بالنص، وهنا يكمن معنى الإيحاء كشفرة تواصلية، ومن هذه الناحية ليس الإيحاء عملية مقننة يمكن ضبطها بقواعد، بل هو متغير باستمرار؛ لأنَّه رهن أسلوب الكاتب وطريقة التخيل التي يصنع بها عالمه الروائي، ومن جهة ثانية تتم معاينته من خلال الخبرة الأدبية التي يتوفر عليها الناقد كقدرة على تحقيق استجابة للطريقة التي يعمل بها الأدب الروائي.
نموذج تحليلي : علاقة الراوي بمصطفى سعيد
تمتاز رواية (موسم الهجرة إلى الشمال) بأسلوب إيحائي مثير، يتخلل مفاصل العالم الخيالي، سواء في الخطابات التي ينجزها الراوي والشخصيات أم القصة التي تدور بها الرواية، وفي الحالتين يحقق الإيحاء ترسبات دلالية متزايدة، وومضات معنى متعددة، ويتعمق الإيحاء عندما يتعلق بالراوي وهو يدرك مصطفى سعيد أو يفكّر فيه أو يشاهده في فعل يقوم به أو يصفه أو يحاوره أو يتخذ موقفاً منه. ومنذ البداية ننتبه إلى الحيرة التي تخامر الراوي وهو يقترب من مصطفى سعيد، ويبدو له لغزاً أو سراً، فرغم وجود مصطفى سعيد في القرية وانتمائه إلى المجموع حياةً وسلوكاً وثقافةً، إلا أنَّ الراوي يدركه في حالة خاصة ويعزله عن الآخرين عبر تصوره، ويمعن في التركيز على أنَّه ليس مثلهم، رغم تبديه كذلك فعلاً. يدرك الراوي مصطفى سعيد في أول لقاء بينهما عن قرب بالطريقة الآتية:
“ولما رفع وجهه أثناء الحديث، نظرت إلى فمه وعينيه، فأحسست بالمزيج الغريب من القوة والضعف في وجه الرجل. كان فمه رخواً، وكانت عيناه ناعستين، تجعلان وجهه أقرب إلى الجمال منه إلى الوسامة، ويتحدث بهدوء، لكنَّ صوته واضح قاطع. حين يسكن وجهه يقوى. وحين يضحك يغلب الضعف على القوة. ونظرت إلى ذراعيه، فكانتا قويتين، عروقهما نافرة، لكنَّ أصابعه كانت طويلة رشيقة، حين يصل النظر إليهما بعد تأمل الذراع واليد، تحس بغتةً كأنك انحدرت من الجبل إلى الوادي”([27]).
يتلمس الراوي الوجه الفيزيقي لمصطفى سعيد بدقة وحساسية مفرطة، ويراقب أية حركة تصدر منه بانتباه شديد، ويلحّ على عدم قدرته على تحديد صورة واضحة لمصطفى سعيد، هناك ثنائية ترافق كل ملمح فيه، بحيث تبقى صورته متحركة رغم أنَّه حاضر كشخص واحد محدد، إدراك الراوي لمصطفى سعيد بهذه الكيفية يوحي بالغموض الذي يكتنف وعي الراوي حالما يتماس معه، ومن هنا ننزل إلى طبقة أبعد في النص، ونشاهد كيف يتحول الإيحاء إلى شفرة تواصلية، فمصطفى سعيد يثير كينونة الراوي الداخلية ويصدمه بذاته التي يبدو أنَّه ينأى عنها، فاقترابه من مصطفى سعيد أشبه بانهمام داخلي، حيث يستغرق فيه كأنَّما يطالع لوحة فنية أو يفكّر في أُحجية، وينزلق ذهنه في أثناء هذه العملية إلى تصورات اعتباطية، كما في إحساسه أنَّه ينحدر بغتة من الجبل إلى الوادي، عندما يتابع النزول بعينيه من الذراع إلى الأصابع، وهو عندما يحاط بغموض الشخصية عليه، يمضي في إحساسه المستجهل إلى ممارسة لعبوية كأنَّما قد أصبح طفلاً.
يتحرك الإيحاء كشفرة تواصلية في محاولة النص إقامة علاقة للراوي من نوع خاص بمصطفى سعيد، هذه العلاقة لا يراد لها أن تكون محدّدة أو واضحة، فالغموض في إدراك الراوي لمصطفى هو في الحقيقة سيرورة من النص لعقد إشكالية في تلك العلاقة فيما يخص الطرفين، تتولد من التلون الذي يتراءى للراوي في مصطفى سعيد، والثنائية الضدية التي تطبع شخصيته، كما يعتقد الراوي، وفوق هذه العلاقة سوف تنبعث عمليات الإيحاء ومن داخلها سوف نلاحظ فاعلية الشفرة التواصلية، وفرص القارئ في عقد اتفاقية مع النص.
وأسلوب الإيحاء الذي تطرحه الشفرة التواصلية في علاقة الراوي بمصطفى سعيد، يتكون من ملاحظته المستغربة لهيئة مصطفى سعيد وكلامه، واستجابته المستغمضة كأثر لتلك الملاحظة، يقول:
“ولما أوصلته للباب قال لي وهو يودعني، والطيف الساحر أكثر وضوحاً في عينيه: “جدك يعرف السر”. ولم يمهلني حتى أسأله “أي سر يعرف جدي؟ جدي ليست له أسرار”. ولكنه مضى مبتعداً بخطوات نشيطة متحفزة، رأسه يميل قليلاً إلى اليسار”([28]).
استمرارا مع رؤية الراوي لمصطفى سعيد شخصية متفردة في مجتمع نمطي، يبقى منتظراً منه شيئاً غير متوقع، وعندما يهم مصطفى بالكلام يدقق الراوي في ملامحه معتقداً أنَّه سيكشف سراً له، موحياً بأهمية ما سيقول تبعاً لموقعه الخاص. لكنَّ المفارقة تحدث عندما يحيل مصطفى سعيد إلى الجد، الممثل الأكبر للثبات والوضوح، وينسب إليه معرفة السّر، يسبب هذا الأمر صدمة للراوي لأنَّه يخترق نوعية العلاقة التي يؤسسها مع مصطفى سعيد، تلك العلاقة المتسمة بالغموض وما هو خاص بهما فقط، فالراوي يظنُّ أنَّه الوحيد المهيأ للارتباط الشخصي بمصطفى لموقعه المميز في المجتمع، المعادل لتميز مصطفى كما يرى، وتأتي كلمة السِّر ضرباً على وتر العلاقة المفترضة، لكن النشاز يبرز في حضور الجد، حيث لا تنجح تلك العلاقة ما دام الطرف الآخر مصطفى سعيد قد تبادلها مع شخص متوطّد في حياة القرية مستقر على منظور قديم.
حركة السِّر من مصطفى إلى الراوي عبر العلاقة التي تربطهما تحقق إيحاءً بانتباه مصطفى سعيد إلى مقاصد الراوي، وفي الوقت نفسه تشير إلى تهميش تصور الراوي لمصطفى عندما يعزى السِّر إلى الجد، فالراوي يعتقد أنَّ مصطفى يخفي سراً وهو ينتظر أن يبوحه له بوصفه المرشح لاستقباله، وعندما يقترب من تصوره ذلك، يصطدم بأنَّ السِّر متاحٌ للجد الذي يبعد مسافة كبيرة عن التواجد في مثل هذه الحالة. وبهذه الصياغة للإيحاء نتوجه صوب الشفرة التواصلية للنص جارية من خلال الإيحاء، فعلاقة الراوي بمصطفى تبقى مجال غموض والتباس، وتغدو رهن ملابسات كثيرة، يظهر شيء منها عندما يقحم الجد فيها، ليقصي الراوي عن احتكار مصطفى سعيد على ذاته، ومن ثم ننفتح على تجربة الراوي نفسها، كعملية تجاذب مع تجربة مصطفى سعيد، والعلاقة التي يقيمها الراوي معه إنَّما هي علاقة تجربة بأخرى بينهما قواسم مشتركة أو تحايثات، أو عملية انعكاس أحداهما في الأخرى.
كلمة السِّر كعلامة موحية، تختزن فاعلية تواصلية من خلال تشفيرها لعلاقة الراوي بمصطفى سعيد برابط الجد، والسِّر الذي يطمح الراوي الحصول عليه من مصطفى، يتلون بمعنى آخر عندما يشترك فيه الجد، لأنَّه يكتسب دلالة عامة، تجهض اعتقاد الراوي بخصوصية السِّر عندما يتعلق بمصطفى سعيد، ومن ثم يطعن الراوي في إمكانية أن يهضم السِّر، لأنَّه مدعو إلى أن يشكّل جزءاً من السِّر الذي يطويه مصطفى سعيد، ويلوح له بطريقة مربكة، تهيأ الراوي للسير إلى المأزق.
وعندما يموت مصطفى سعيد في فيضان النيل المفاجئ، دون أن يعلم أحد هل حدث ذلك غرقاً أو انتحاراً، يسدل النص الستار، وتتبخر فرصة التعرف على مصطفى سعيد، وتكون إشكالية علاقة الراوي به قد تأصَّلت، ومن جهة ثانية انفتح الراوي على تجربته في الغرب: “أما أنا، فإنَّه يخامرني ذلك الاحساس ليلة سمعته، فجأة وعلى غير استعداد مني، يقرأ شعراً انكليزياً، وهو ممسك كأس الخمر بيده، دافناً قامته في الكرسي، ممدداً رجليه، ضوء المصباح ينعكس على وجهه، وعيناه سارحتان كما خيل إليَّ في آفاق داخل نفسه. والظلام حولنا في الخارج كأنَّه قوى شيطانية تتضافر على خنق ضوء المصباح. أحياناً تخطر لي فجأة تلك الفكرة المزعجة أن مصطفى سعيد لم يحدث إطلاقاً، وأنَّه فعلاً اكذوبة، أو طيف أو حلم، أو كابوس، ألمَّ بأهل القرية تلك، ذات ليلة داكنة خانقة، ولما فتحوا أعينهم مع ضوء الشمس لم يروه”([29]).
غياب مصطفى سعيد عن مسرح الحياة، ينقل علاقة الراوي به إلى مرحلة جديدة، فمن إشكالية معرفة ما وراء هذه الشخصية يتحول الراوي إلى علاقة تأزم؛ لأنَّ المهمة أُنيطت به دون أية مساعدة، وعليه أن يسير في طريق مجهول باحثاً عن شيء مضبَّب، يتطور تدريجياً إلى ظلام دامس، ويبدأ الراوي تفكيره بمصطفى سعيد بسلبية مكثـفة، وفي الحقيقة يعلن عن عوقه أمام فهم تلك الشخصية، فهو غير قادر إطلاقاً على تقديم فحوى عن مصطفى سعيد، وفي الوقت نفسه لا يتمكَّن من سحب ذاته من الإنزلاق إلى دوامة البحث عن معنىً لوجود مثل هذا الكائن في قرية متوقفة عند حد مهمش ثابت من الحياة.
إيحاء العوق المرتبط بالراوي بخصوص مصطفى سعيد هو المجال الذي تتولد منه الشفرة التواصلية، فتجربة الراوي في الاطلاع على المجتمع الغربي بأبعاده الثقافية والاجتماعية والسياسية من خلال الدراسة هناك تقابلها تجربة مصطفى سعيد في الإطار نفسه، وقبل دخول الراوي فيها، الأول كان يسعى إلى التعلم ثم العودة إلى الوطن وتوظيف ما تعلمه في مجتمعه، والثاني عاد إلى القرية لكنه أقفل ملف تجربته وحجبها عن الظهور أو المشاركة في حياة القرية، ونسب إنجازاته فيها إلى ذكائه وحبه للناس وسعيه إلى مساعدتهم.
الراوي يجد حضوراً مكافئاً له من خلال مصطفى سعيد، لكنه يفشل في التساوق معه في نمط التجربة التي يحملانها، وأثناء محاولاته لقراءة مصطفى سعيد، فإنَّما يسعى إلى رؤية ذاته من خلاله، ومن هذه الثنائية ننفذ إلى الشفرة التواصلية التي يبنيها النص عبر علاقة الراوي بمصطفى سعيد، وكل دوران الراوي بخصوص مصطفى سعيد إنَّما هو تجاذب بين التطابق مع مصطفى سعيد أو التقاطع أو العثور على مخرج آخر، وتصلنا إحداثيات هذا التجاذب بمتابعة الراوي لتراث مصطفى سعيد ، حيث ينوء برغبته في الانتهاء إلى قرار حول مصطفى سعيد ، وفي الوقت نفسه تعمل الشفرة التواصلية التي تتابع تجربة الراوي من خلال عمليات الإيحاء.
ويأتي الإيحاء في وصف الراوي لمظاهر الطبيعة، حيث “إنَّ الانفعال يصبح منظراً طبيعياً والمنظر الطبيعي ينشأ من الانفعال… إنَّ ما هو ظاهر يعادل الانفعال بصورة كاملة؟ يوجد هنا نوع من الشفرة الجمالية: الانفعال وما هو ظاهر يكوِّنان معادلة، واحداهما مساوٍ للآخر. فالذي يقول (انفعال) يقول إذن (منظر طبيعي) والذي يقول (منظر طبيعي) لا بد له أن يعرف (الانفعال)”([30]). يقول الراوي:
“إنما أنا لم أجيء إلى هنا لأفكر في مصطفى سعيد، فها هي ذي بيوت القرية المتلاصقة من الطين والطوب الأخضر تشرئب بأعناقها أمامنا، وحميرنا تحث السير لأنها شمت بخياشيمها رائحة البرسيم والعلف والماء. هذه البيوت على حافة الصحراء، كأنَّ قوماً في عهد قديم أرادوا أن يستقروا ثم نفضوا أيديهم ورحلوا على عجل. هنا تبدأ أشياء. وتنتهي أشياء. ومنطقة صغيرة من هواء بارد رطب يأتي من ناحية النهر، وسط هجير الصحراء، كأنَّه نصف حقيقة وسط عالم مليء بالأكاذيب. أصوات الناس والطيور والحيوانات تتناهى ضعيفة إلى الاذن كأنها وساوس، وطقطقة مكنة الماء المنتظم تقوي الإحساس بالمستحيل. والنهر، النهر الذي لولاه لم تكن بداية ولا نهاية، يجري نحو الشمال، لا يلوي على شيء، قد يعترضه جبل فيتجه شرقاً، وقد تصادفه وهدة من الأرض فيتجه غرباً، ولكنه إن عاجلاً أو آجلاً يستقر في مسيره الحتمي ناحية البحر في الشمال”([31]).
تجري الشفرة الإيحائية من خلال عملية الانتقال من مصطفى سعيد إلى مظاهر القرية، وإذا ما ارتبط الراوي بمصطفى سعيد مادياً في الواقع أو ذهنياً عبر التفكير فإنَّه يفقد توازنه مباشرة، فمصطفى بالنسبة للراوي اختلال نفسي، وعلى عكسه القرية، فرصة لمحاولة الراوي لاستعادة التوازن، وعندما يتوجه الراوي إلى وصف القرية فإنَّما يحاول امتلاك إحساس بالاستقرار والحيوية والاستمرار، وفي الوقت نفسه يحاول انتزاع نفسه من مصطفى سعيد كانشداد إلى تجربة مشابهة، والاندماج في القرية بالرغم من حمل الراوي لتجربة تلح عليه، ومصطفى سعيد يمثل بوابة انفتاح التجربة في ذات الراوي، وكلما اقترب منه وحاول التمادي في علاقته معه اقترب من فوهة التجربة التي ستصيبه بفايروس الانقسام على الواقع، وكلما ابتعد عن مصطفى سعيد وتخلل في حياة القرية نأى عن الانجراف خلف واقع آخر مغاير لواقعه.
إحساس الراوي الذي يجري في وصفه لطبيعة القرية، يبدو مترجرجاً، كأنَّما يحاول أن ينتشل نفسه من شيء ما، فمرة يشتد وأخرى يذبل ومرة يتراخى، البيوت المتلاصقة تبدو قوية متماسكة، والحمير تنشط، فتوحي القرية بالحيوية، الراوي يحس في هذا المشهد بالاستقرار والتكاتف في القرية، وهو يقترب بذلك من التوازن ويدفع عنه شبح مصطفى سعيد، ويحاول اغلاق التجربة التي تحيل إلى واقعٍ غربي، لكنَّ هذا الإحساس لا يصمد أمام قوى الجذب التي تشد الراوي إلى قاع ذاته متمثلة بمصطفى سعيد، وسرعان ما تضيق القرية في عينيه بهاجس الحياة الواسعة التي اطلع عليها في الغرب، فتبدو تلك البيوت في الصحراء معزولة عن أي شيء، تحيل إلى عهد قديم، وعندما تجري مقارنة في وعي الراوي بين حياة الغرب وحياة القرية لا تمثل له القرية سوى عهد قديم لم يبق له من وجود، ويتلون احساس الراوي حسب الفضاء النفسي القلق الذي يدور فيه، ويرى الناس في القرية قوما من عصور غابرة، وهو في الحقيقة ملفوف بإحساس الاغتراب الذي يريد أن يستفحل في ذاته.
قوة التجاذب الداخلي في ذات الراوي، بطرفيها، الواقع في الغرب كما خبره والقرية التي ينتمي إليها، تتحرك من خلال مصطفى سعيد الذي خاض التجربة ووصلت به إلى نهاية مجهولة، وعندما يختفي مصطفى سعيد عن وعي الراوي يرتخي الشد وتهمد الذات، ويجتاز الراوي إلى آلية ادراك اقرب إلى الوضوح، فالقرية لها اشياء ثابتة، لا بد لها أن تبدأ مهما يكن، ولابد لأشياء أخرى أن تفقد جدواها عند الاحتكاك بالقرية، يميل إحساس الراوي عند هذا الحد إلى اليأس، فالقرية تطمر الأشياء الجديدة ولا تنهض بها، وإذا أراد الراوي أن يستمر هنا فلا حظ له في تحريك ذاته التي حملت شيئاً آخر، ومصطفى سعيد نفسه انتهى عند هذه القرية.
تعمل الشفرة التواصلية من داخل إيحاءات الوصف الذي يضم تحت قناعه إحساس الراوي وصراعه الداخلي المتحرك من خلال علاقته بمصطفى سعيد، وعندما نقف على تلونات ذات الراوي المقدَّمة في إطار الوصف الإيحائي للقرية فإنَّما نتعرف على فاعلية تواصلية، يصنعها النص في تأرجح الراوي بين انشداده إلى مصطفى سعيد وفقدان التوازن الفكري والنفسي، وعودته إلى القرية والإحساس بالتوازن، وعبر هذا البناء النصي للشفرة التواصلية يمكن لنا أن نستغرق في النص أكثر ونرى من الداخل الأزمة التي يعيشها الراوي، والقلق الذي يلف كيانه، بحيث يظهر الراوي متمأزقاً، لأنَّه غير قادر على الميلان إلى جهة وترك الأخرى أو التوفيق بينهما، ومن ثم يخلد إلى الاعتراف بحيرته وتسود ذاته ورؤيته الفوضى، ويقرأ الاأشياء كما تنتج في فضائه النفسي الملبَّد، وينقل حركة ذاته إلى حركة النهر، مستشعراً في ذلك أنَّه سيفقد القدرة على التوازن، موحياً أنَّه في حالة انسياب خلف شيء ما تماماً مثل النهر، وعند هذا الحد تنعقد الفاعلية التواصلية، ويقودنا النص إلى فهم تجربتي كل من الراوي ومصطفى سعيد، كما يرشح الإيحاء كشفرة تواصلية، ومن خلال علاقة الراوي بمصطفى سعيد، ويمارس النص فاعليته التواصلية بالضرب على وتر هذه العلاقة، ويحدث تنويعات على اللحن الاساسي، المتمثل بإخفاق الراوي في إضاءة علاقته بمصطفى سعيد، يقول الراوي:
“سئمت قراءة الأوراق. لا شك أنَّ ثمة أوراقاً أخرى دفينة في هذه الغرفة، كأجزاء من لغز حسابي، يريد مصطفى سعيد مني أن أكتشفها وأضعها جنباً إلى جنب، وأُخرج منها صورة متكاملة تكون في صالحه. إنَّه يريد أن يكتشف كأثر تاريخي له قيمته. لا شك في ذلك. وأنا أعلم الآن أنَّه اختارني أنا لهذا الدور.لم تكن صدفة أنَّه أثار حب الاستطلاع عندي، ثم قصَّ عليَّ قصة حياته غير كاملة لكي أكتشف أنا بقية القصة. لم تكن صدفة أن ترك لي رسالة مختومة بالشمع الأحمر، إمعاناً منه في شحذ خيالي، وأنَّه جعلني وصيّاً على ولديه ليلزمني إلزاماً لا فكاك منه، وأنَّه ترك لي مفتاح متحف الشمع هذا. لا حدَّ لأنانيته وغروره. فهو رغم كل شيء يريد أن يخلده التاريخ، إنَّما أنا لا أملك متسعاً من الوقت للمضي في هذه المهزلة. يجب أن أنهي هذه المهزلة قبل طلوع الفجر، والساعة الآن جاوزت الثانية صباحاً عند طلوع الفجر سـتأكل ألسنة النار كل هذه الاكـاذيب”([32]).
يستبد الفشل بالراوي، ويعتقد انه لن يصل إلى نهاية مرضية في علاقته بمصطفى سعيد الذي بدأ يتحول إلى عبء ثقيل يرزح هو تحته، ولا يملك فكاكاً عنه، فينحرف إدراكه لمصطفى فيراه في موقع المغرور المخادع الذي استغلَّ اهتمامه به وأقحمه في اللعبة، ويأتي إيحاءٌ نهائيٌ بإخفاق الراوي من خلال تفسير علاقته بمصطفى سعيد إنَّها مهزلة، خاصَّة بعد موته، ومع هذا الإيحاء نستطلع الشفرة التواصلية، وهي تعمل مصاحبة لتلونات العلاقة، فقد أصبح الراوي على حافة نوبةٍ نفسيةٍ عاتية، لأنَّه وصل إلى نهاية المحاولة وفقد الفرصة في التعرف إلى مصطفى سعيد، ومن ثمَّ إعادة التوازن إلى ذاته، وإذا كان مصطفى يمثل ما هو كائن في عقل الراوي، فإنَّ فشله في فكِّ لغز مصطفى إنَّما هو فشل في إنهاء الصراع الداخلي الذي يمزق ذاته، بين واقع جديد تريد الأنا التلبّس به وواقع قديم يشدُّ الأنا إلى قوى اللاوعي الجماعي، بين هوية فردية تتحرك نحو التشكل مستندة إلى واقع آخر أكثر انفتاحاً وحيوية وبين هوية جماعية تبلع الهويات الفردية أو تجهض تمخضها عن كينونة أخرى.
بهذه الطريقة كان الإيحاء يبرز كفاعلية تواصلية، ومن خلال جريانه فوق علاقة الراوي بمصطفى سعيد كنا نسير مع النص باتجاه متابعة الكيفية التي يريد بها أن يقول شيئاً، مؤسسين تواصلاً مع النص يسمح لنا أن نستكمل مبادرته في التخطيط لنقل المعنى، وعبر الاستناد إلى سيرورة علاقة الراوي بمصطفى سعيد بوصفهما مجال عمل الإيحاء كشفرة تواصلية تحاول تمثيل ما يود النص قوله كفاعلية تواصلية مفعّلة لدور القارئ للمشاركة في إنتاج المعنى.
المبحث الثالث: الثنائية الرمزية (الضدية)
يحدد مورييه الرمز بأنه شيءٌ محسوس يُختار للدلالة على إحدى صفاته المسيطرة، كالمياه فهي رمز الانقياد والليونة والشفافية والتطهير والمعمودية، وينطلق لوغورن في بحثه للرمز من تحديد لالاند القائل بأنَّ الرمز هو الذي يمثل شيئا آخر بمقتضى علاقة المشابهة. وبعد أن يؤكد على علاقة المشابهة وليس على علاقة المجاورة في عملية الانتقال من الرمز إلى المرموز اليه يقول: يمكننا القول أنَّه لا يوجد رمز عندما يعمل المدلول المعياري للكلمة كدال لمدلول ثانٍ هو الشيء المرموز إليه([33]).
وفق هذا لا يخرج الرمز عن الخط الرئيس الذي تسلكه الصور المجازية، إن من حيث الاكتفاء بالمدلول الاول ومن ثم الانتقال من هذا المدلول الاول إلى مدلول ثانٍ هو الغاية في التعبير، او من جهة وجود علاقة تربط وتقيد هذا الانتقال، سواءً أكانت علاقة مشابهة ام مجاورة([34]).
ويعد الرمز في الادب وسيلة تعبيرية جمالية من جهة وقوة نصية تصنع المعنى من جهة ثانية، وترتبط هاتان الوظيفتان للرمز بعلاقة جدلية، فالبناء الرمزي للنص يستدعي كثافة جمالية، تبرز في تحفز الدوال لمفارقة مداليلها المرجعية نحو انتاج مداليل جديدة تترشح من المستوى الفني للنَّص، واذا نظرنا إلى الرمز كشفرة نقترب من المعنى الذي يستخدمه بارت للرمز، حيث “يعتمد على فكرة أن المعنى يأتي من التضاد او التمايز الثنائي الاولي، وسواء كان على مستوى تحول الاصوات إلى فونيمات في إنتاج الكلام، أو مستوى التقابل النفسي – الجنسي، الذي يتعلم من خلاله الطفل أن امه واباه يختلفان عن بعضهما، وأنَّ هذا الاختلاف هو الذي يجعل الطفل متماثلاً مع أحدهما ومختلفاً عن الآخر في الوقت نفسه، أو على مستوى فصل العالم الثقافي البدائي إلى قوى أو قيم متقابلة يمكن تشفيرها أسطورياً. وفي النَّص اللغوي يمكن تشفير هذا النوع من التضاد الرمزي بمجازات بلاغية مثل الطباق، الذي هو مجاز أثير في نظام بارت الرمزي”([35]).
وتشكل هذه الشفرة حقل التجميعات أو الاشكال المتكررة بانتظام وبصيغ ووسائل متعددة في النَّص، إذ تولد هذه الوسائل في النهاية الشكل المسيطر، كما هو الأمر مع (السجادة) أي المعاني الخفية([36]).
وتتمتع الثنائية الرمزية بإمكانية تحديد (الثيمة) واقتراح الافكار، حيث تزود الحقل اللازم لاتخاذ القرار بشأن الثيمة. ولهذا ينبغي أن نعدّ أيّ سرد، له ثيمة، سرداً رمزياً لا واقعياً، وربما يمكن تحدي الفكرة التي تقول إنَّ بمقدور الكلمات تمثيل الواقع إذا قررنا أنَّ الثنائيات الرمزية تشكِّل الثيمة، والقول أنَّ الشفرات أدوات محاكاة تعمل بالتعاون مع العقل لهو أمر ينفي وجود السرد الواقعي([37]).
تهتم الثنائية الرمزية بالمعنى البارتي بالأقطاب والطَّباقات التي تسمح بالتكافؤ المتعدد وإمكان القلب، فهي تؤثر أنماط العلاقات الجنسيَّة والنفسيَّة التي قد يدخلها الناس([38])، وبهذا الوصف تغدو الثنائية الرمزية عملية توليدية للمعنى، وتتولى مهمة الفاعلية التواصلية عندما تحتل بقعا من النَّص، وتفسر كإجراءات لممارسة آلية تواصلية بوصفها إرسالية حاوية لإمكانية نقل معنى، كعملية خفية من النَّص، تجد فرصتها في الظهور من خلال اتصال القارئ بالنَّص، وهنا تظهر الشفرة كفاعلية تواصلية ذات طبيعة أدبيَّة، حيث “ستخلق إمكانيات كثيرة للمعنى حين يتابعها القارئ خلال النص. وليس هناك قارئان يحتمل أن يحرزا النتائج نفسها عند استخدامهما لهذه الطريقة”([39]).
فالثنائيَّة الرمزية كقوة توليد معنى تغدو وظيفة للتواصل الأدبي، حالما تدعو القارئ إلى المساهمة الفعالة في صنع معنى، وعند هذا الحد نتجاوز اطار تقرير الثنائية الرمزية لمعنى إلى رؤية تراتبية العالم الروائي حيث يتركب من وقائع خيالية وأنماط خطابية ومعها يتولد عالم دلالي، تربط بينهما جمالية الكتابة الادبية كمسافة بين بنية النص السطحية وبنيته العميقة، وعندما نحاول الانتقال من الاولى إلى الثانية نكتشف اننا لم نفعل ذلك بشكل موضوعي لأنَّ ذواتنا تدخلت في القراءة والفهم، وعلى هذا المستوى نعقد تواصلنا مع النص كما تدعو الثنائية الرمزية كشفرة تواصلية تعمل من داخل المسافة الجمالية المرتبطة ببنيتي النص السطحية والعميقة في آن، وتحاول تقديم فعل تواصلي يوجه البنيتين لإيجاد دور للقارئ بصدد المشاركة في صنع المعنى.
وعلى الرغم من أنَّ الثنائية الرمزية تنتمي إلى الثنائيات الضدّية المتعددة التي ينمو فوقها المعنى، إلا أنَّ من الضروري ملاحظة نشوء الرمز في النَّص، لأن هذا يعطي فرصة أكبر لمعاينة كيف يتحول إلى فاعلية تواصلية تختزن قصدية النَّص في الايصال إلى معنى وعبر الكيفية التي يريد بها النص أن يقول شيئاً.
نموذج تحليلي : ثنائية شرق/ غرب
الثنائية الرمزية الكبرى في رواية (موسم الهجرة إلى الشمال) هي ثنائية شرق/ غرب، ومعها ينمو النَّص وتتركب أجزاؤه وتتداخل المقاطع النَّصية في إطار هذه الثنائية، وهي بمثابة محور يستقطب أبعاد النَّص ومدياته، وفي الوقت نفسه يتحكم في حركتها ويسهم بقوة في صياغة الشكل النهائي للنَّص كآليَّة جماليَّة تنسج الثنائيَّة الرمزيَّة من خلالها صورة لما يريد النَّص أن يقول .
يتمثل الشرق بعالم القرية بوصفها تحيل إلى حضارة عربية ذات جذور تاريخية بعيدة، ويرمز الغرب إلى حضارة أوربية متفوقة ونمط حياة جديد وثقافة متسعة، ويظهر أن “كل زاوية تتعرض للقاء حضاري تنتهي بفاجعة تقوم على سوء التفاهم”([40])، ومن خلال هذه الثنائيَّة نمتد مع ثيمات متعددة مرتبطة بطرف من طرفي الثنائيَّة، كقضية المادة والروح أو العقلانيَّة أو الميتافيزيقيَّة، وتكتسب هذه الثنائيَّة حركيتها من خلال تجربة ابن القرية في نزوحه أو هجرته إلى الشمال.
ويشتمل عنوان الرواية على هذه الثنائية، ويشير إلى حركة الشرقي إلى الغرب بطريقة توحي بحتمية هذا المسار، ندرك ذلك إذا نظرنا إلى مستويي العنوان “مستوى ينظر فيه إلى العنوان باعتباره بنية مستقلة لها اشتغالها الدلائلي الخاص، والثاني مستوى تتخطّى فيه الانتاجيّة الدلاليَّة لهذه البنية حدودها متجهة إلى العمل، ومشتبكة مع دلائليته دافعة ومحفزة انتاجيتها الخاصة بها”([41]).
على المستوى الأول تشير علامة (موسم) إلى فعلٍ مخصصٍ بزمنٍ يتكرر كلَّما عاد زمنه، ويطفو على السطح الممارسة التي تجري في الموسم، وتزداد أهميته على الرغم من أنَّه كان مهملاً في زمن آخر، الدلالة الأوليَّة للموسم أنَّه يتضمن فعلاً ليس طارئاً ولا ثابتاً وإنَّما هو حركة بين الاثنين، يحدث كأثر لبروز دواعيه، هذا الفعل يتمثَّل بالهجرة إلى الشمال الذي يرمز إلى الغرب إذا نزلنا إلى المستوى الثاني للعنوان، وتدل الهجرة بشكل واضح على تغير في الاقامة والموطن يسببه ظرف قاهر، وتحمل دلالة سلبية عندما ترتبط بالمفارقة الاضطرارية للموطن. واذا ربطنا دلالة كل من الموسم والهجرة من خلال العلاقة التركيبيَّة بينهما مما يندرج ضمن محور الاختيار ذي الاتجاه العمودي، رأينا بوضوح المفارقة الداخلية التي ينطوي عليها العنوان، فالموسم بدلالته الايجابية كرمز للحيوية والتجدد يقترن بالهجرة بدلالته السلبية كمغادرة اضطرارية للمقام.
وعلى المستوى الثاني في العنوان نلاحظ أنَّ القائم بالهجرة هو مصطفى سعيد بكل ملابساتها وتجلياتها، وهو شخصية رمزية من شأنها “أنَّ الروائي يميل إلى اظهار حقائق خالدة”([42]) من خلالها، وسوف نشاهد كيف تمثل الشخصية الهجرة في اطار الموسمية بمعنى أن العنوان يغدو ذا طاقة انتاجية متضخمة لأنها تختزل التجربة برمتها، وتعمل كقراءة للنَّص أو تأويل له.
ولكي نقترب أكثر من ثنائية شرق/غرب سوف نقوم باختبارها من خلال الثيمة الأساسيَّة التي تتحرك بها الثنائيَّة وهي ثيمة الجنس، وبرغم أنَّ الثنائية تضم إليها أفكاراً متعددة إلا أنَّ التجمع الأكبر لها يتبدى في الجنس وحركته في العالم الخيالي الذي يبدعه الروائي، وكما يقول بارت: “إنَّ الجسد هو الموضع الذي تتقابل فيه المضادات الرمزية”([43]).
سلوك مصطفى سعيد الجنسي كتنويع على ثنائية شرق/غرب، يصل بؤرته في مطاردته لجين مورس التي تمارس حريتها الفردية بمنتهى الانفتاح، ويصطدم مصطفى سعيد بقوة ممانعتها للتواصل الجسدي، على الرغم من أنَّ نمط حياتها وأفعالها يجعلها أقرب إلى انتهاك يسير. يقول مصطفى سعيد: “وقفت أمامي عارية. نيران الجحيم كلها تأجَّجت في صدري كان لا بد من اطفاء النار في جبل الثلج المعترض طريقي. تقدمت نحوها مرتعش الاوصال، فأشارت إلى زهرية ثمينة من الموجودة على الرف. قالت: تعطيني هذه وتأخذني. لو طلبت مني حياتي في تلك اللحظة لقايضتها إياها. أشرت برأسي موافقاً. أخذت الزهرية وهشمتها على الارض وأخذت تدوس الشظايا بقدميها حتى حولتها إلى فتات. أشارت إلى مخطوط عربي نادر على المنضدة. قالت: تعطيني هذا أيضاً. حلقي جاف. أنا ظمآن يكاد يقتلنني الظمأ. لا بد من جرعة ماء مثلجة. أشرت برأسي موافقاً. أخذت المخطوط القديم النادر ومزقته وملأت فمها بقطع الورق ومضغتها وبصقتها. كأنَّها مضغت كبدي، ولكنِّي لا أبالي. أشارت إلى مصلاة من حرير أصفهان أهدتني إياها مسز روبنسن عند رحيلي من القاهرة، أثمن شيء عندي وأعز هدية على قلبي. قالت: تعطيني هذه أيضاً ثم تأخذني. ترددت برهة ولكنني نظرت إليها منتصبة متحفِّزة أمامي، عيناها تلمعان ببريق الخطر وشفتاها مثل فاكهة محرمة لا بد من أكلها. وهززت رأسي موافقاً، فأخذت المصلاة ورمتها في نار المدفأة ووقفت تنظر متلذّذة إلى النار تلتهمها فانعكست السنة النار على وجهها. هذه المرأة هي طلبتني وسألاحقها حتى الجحيم. مشيت إليها ووضعت ذراعي حول خصرها وملت عليها لاقبلها. وفجأة أحسـست بركلة عنيفة بركبتها بين فخذي. ولما أفقت وجدتـها قـد اختفت”([44]).
جين مورس بوصفها طريدة لمصطفى سعيد تخرق قواعد اللعبة، وتذهب مختارة إلى المطارِد، وتمثِّل دور الفريسة بإتقان، معلنة عن إمكانيَّة قيام مصطفى سعيد بالصَّيد، وعلى الرغم من كونها فريسة لكنَّها تبقى مالكة لقياد الموقف وتتصرف بمنطق القوة والسَّيطرة، هنا تنقلب المعادلة رأساً على عقب ويغدو مصطفى سعيد هو الطَّريدة بشكل من الاشكال لأنَّه أصبح يمثِّل موقف الضعف والتنازل بعد أن اصطدم بصخرة الممانعة القوية من قبل جين مورس.
هذا الوضع الذي آل اليه الموقف يُحْدِثُ تلويناً مميزاً على ثنائية شرق/غرب، ويضفي تموجاً نغمياً على إيقاعات النَّص الهادرة بانتظام وانسجام، فجين مورس كأنثى غربية تلبَّست بهيئة من هيئات المرأة الشرقية عندما قدمت ممانعة صلدة، وفي الوقت نفسه أظهرت ممانعتها في إطار سلوك ينتمي إلى الحياة الغربية، هذا التضاد في فعل جين مورس حرك البنية الداخلية المشوهة لمصطفى سعيد فانجذب إلى لا وعيه الشرقي، متخليا عن هضمه للحياة الغربية ومراسه في الصيد، ومن هنا نعرج على الثنائية الرمزية كفاعلية تواصلية، فجانب القوة الذي يشوب سلوك مصطفى سعيد في اختراقاته الفحوليَّة لجسد المرأة الغربية، يتحول إلى رضوخ أمام فشله في الحيازة على جين مورس، وعند هذا الحد يفقد قوته ويعرض نفسه هذه المرة للانتهاك، ويرضى أن يتنازل عن كل ما يشده إلى شرقـيَّته مقابل الاحتواء الجسدي.
على هامش الممانعة يشهد مصطفى سعيد بداية احساسه بفشل مشروعه في احتواء الجسد الغربي، فيصبح مقتاداً للمرأة مخذولاً بالممانعة التي تجهض فرصة تمثيل الاحتواء فتصاب الفحولة بالخسران. هذا التعرج في الثنائية الرمزية هو في الحقيقة تحرك من النَّص إلى فعلٍ تواصلي، يدعو القارئ إلى التفكير بطريقة تسعى إلى البحث عن تقويم نهائي لتجربة مصطفى سعيد، مما سيفتح الباب نحو ما يريد النَّص أن يقوله عن طريق تخطيط هيكل لقراءة ما وراء النص، يأتي عبر الثنائية الرمزية كشفرة تواصلية تعمل داخل حقل الكيفية التي يريد بها النَّص أن يقول شيئاً، محققاً تواصلاً ذا سمة أدبية، لأن حركة هذه الشفرة غير ظاهرة أساساً حيث إنّها لا تنتمي إلى علاقات اللغة الحاضرة، بل تؤسس نفسها كعلاقة غياب قابع خلف النسيج اللغوي للنَّص، وهذا يستدعي كفاءة أدبية من القارئ لاستخراج علاقات الغياب مما يحقق طبيعة التواصل الادبي بوصفه مساهمة من النص والقارئ.
ويمكن معاينة حركة الثنائية الرمزية كفاعلية تواصلية في الجمل الوصفية المرافقة لمجريات تحفز مصطفى لاجتياح الجسد والممانعة أو المقايضة التي تمارسها جين مورس، هذه الجمل تعمل كلوازم “تفيد في تحريك الموضوعات الثانوية خلال الرواية ، وفي شرح ما في أذهان الشخصيات عن طريق قوة الصورة والرمز؛ باعتبارها روابط شكلية تساعد على تماسك مواد الشعور المبعثرة وكل هذه اللوازم تمثل إشارات للقارئ حتى ينتبَّه لمادة متصلة بالموضوعات”([45]).
يعبر مصطفى سعيد عن تلهفه لحيازة جسد جين مورس، بعد طول مطاردة بحتمية أن يطفئ النار في جبل الثلج المعترض طريقه، فمشروعه في صيد الاجساد قد تعرض لعثرة او إعاقة امام ممانعة جين مورس ، وهو لا يعترف بالأرقام، لأنَّه ينوي الانتقال من صيد إلى آخر دون توقفٍ أو هوادة، وبالمحصِّلة لا تعني له المرأة الغربية مهما كان موقعها الاجتماعي والثقافي إلا فرصة لتجسيد الصياغة الغربية لذاته الشرقيَّة، وجين مورس اعترضت طريقه هذا، وننفتح في هذا الجزء من النَّص على الثنائيَّة الرمزية وهي تعمل كشفرة تواصلية، حيث ينتكس مصطفى سعيد إلى شرقيته أمام الممانعة التي تجهض رغبته في ممارسة الاحتواء، ويلتبس بإحساسٍ بالنَّقص للإهانة التي تلقَّتها فحولته.
يتساقط عند هذا الحد التأسيس الأنوي للغريزة في ذات مصطفى سعيد، ويفقد في لحظة واحدة كل مميزاته كشرقي استوعب الحياة الغربيَّة، ويدخل في سلسلة من تقديم التنازلات، معرِّضاً أشياءه الثمينة للتَّلف والضَّياع، لكنَّه أمام إحساسٍ بالفشل يتجرَّد من الفلسفة التي يحرك بها الغريزة، ويغدو مجرد موجه بغريزة محضة. وينقلنا هذا التخطيط النَّصي من الثنائية الرمزية إلى الفاعلية التواصلية حيث نقرأ من الداخل كيف يتحفز النَّص للتمخض عن معنى يرتهن صنعه إلى القارئ المتلقي لتحفيزات النَّص، من خلال اللوازم المصاحبة لانجذاب مصطفى سعيد إلى جين مورس، وعندما يتخلّى عن أشيائه الثمينة مقابل حلمه بالامتلاك الجسدي فإنَّما يفقد كل صلة بالشرق، ويدخل في مضمار دفع الثمن، فغريزته التي كانت سلاحه في معركته المفتعلة أصبحت سلاحاً ضدَّه الآن، ويرافق تقديمه للتنازلات لازمة (حلقي جاف، أنا ظمآن يكاد يقتلني الظمأ). وهي المرحلة التي يسلم الامور فيها إلى جين مورس كاشفاً عن الحالة الداخلية للغريزة بعد أن كانت مغلَّفة بصياغة غربية لها، وفي الحالتين لا ينتهي به الأمر إلا إلى الخسران.
وتستنزف جين مورس أشياء مصطفى سعيد ويكون هو قد وصل إلى نهاية تقديمه للتنازلات، ماراً بسلسلة من الخسائر، ففي كل مقايضة من جين مورس كان هو يفقد شيئاً من روابطه الشرقية، حتى فقد أعز ما يملك (المصلاة)، وتشتد حركة الثنائية الرمزية في هذا الحد، وتحتدم فاعلية الشفرة التواصلية، فالمصلاة كرمز روحي من متعلقات الشرق قدمت إلى مصطفى سعيد من أنثى غربية تميل إلى الاجواء الشرقية، إعلاناً بحفاوتها به حين يمثل تلك الاجواء، لكن مصطفى سعيد انجرافاً خلف غريزته كرمز للمادية يخسر المصلاة تنازلاً منه عن قيمة في ذاته، وهذا الاستدراج يأتي عبر أنثى غربية أيضاً، لكن كرمز للمادية الصرفة، وحسب هذا التَّحفيز النَّصي نقف على الفاعلية التواصلية جارية عبر الثنائية الرمزية، فالممانعة التي تبديها جين مورس كفيلة أن تعطل مصطفى سعيد كذات ووعي حتى يغدو مفرغاً من أي محتوى، ويقبل بأي اقتراح تمليه عليه جين مورس.
الشفرة التواصلية المتجلية بثنائية شرق/غرب مختبرة بثيمة الجنس كونت فاعلية تواصلية كثيفة فتحت لنا المجال للقيام بدور في استنطاق النَّص عبوراً باتجاه صنع معنى كثمرة لجهود التواصل الادبي، وامتلكت ثنائية شرق/غرب حيويتها من العلاقة الخاصة بين مصطفى سعيد وجين مورس، كتنويع نهائي على سلوك مصطفى الجنسي، ويبدو أن جين مورس أجهضت مشروع الاحتواء الذي ينفذه مصطفى سعيد لأنَّها أبطلت مفعول أسلوبه في الصيد، وغيَّر هذا مسار مصطفى سعيد في الفعل الذي يقود إلى الجنس، فرضي، ولأول مرة، بعلاقة زواج، رغم ذلك لم يستطع أن يمارس دوره كرجل، ثم وجد نفسه أمام خيانة زوجية فلم يستطع فعل شيء، وداخل هذه العناصر الخيالية كان النَّص وعبر الثنائية الرمزية يضطلع بوظيفة تواصلية أدبية، فجين مورس نزعت آلة الصيد الثقافية التي يستخدمها مصطفى سعيد في اقتياد النساء إلى غرفته التي هي بمثابة ساحة حرب أو صالة عمليات كما يقول، فعلت ذلك لأنَّها امرأة غير مبالية كنموذج غربي مسموح له أن يجاور تشعبات الحياة في مجتمع غربي، وعند هذا فقدت محاولات مصطفى سعيد جدواها، واصبح متاخماً للحقيقة الداخلية التي تقول انه ما زال شرقياً رغم كل شيء، وهو يصطدم بما هو اكثر شرقية عند اصطدامه بجين مورس التي همشت سلوكه الانتقامي حيث بدا فعلا تافها لا يمكن له أن يطال نظام الحياة والثقافة المتسعة في الغرب، وعند حدوث المواقعة الجنسية ينتهي الأمر بالقتل:
“ها هي ذي سفني يا حبيبتي تبحر نحو شاطئ الهلاك. ملت عليها وقبلتها. وضعت حدَّ الخنجر بين نهديها، وشبكت هي رجليها حول ظهري، ضغطت ببطء. ببطء. فتحت عينيها. أيّ نشوةٍ في هذه العيون. وبدت لي أجمل من كل شيء في الوجود. قالت بألم: يا حبيبي، ظننت أنَّك لن تفعل هذا أبداً. كدت أيأس منك. وضغطت الخنجر بصدري حتى غاب كله في صدرها بين نهديها. وأحسست بدمها الحار يتفجَّر من صدرها. وأخذت أدعك صدرها بصدري وهي تصرخ متوسلة، تعال معي. تعال. لا تدعني أذهب وحدي.
وقالت لي: أحبك – فصدقتها- وقلت لها: أحبك وكنت صادقاً. ونحن شعلة من اللهب، حواف الفراش ألسنة من نيران الجحيم ورائحة الدخان أشمه بأنفي وهي تقول لي: أحبك يا حبيبي، وأنا اقول لها أحبك يا حبيبتي. والكون بماضيه وحاضره ومستقبله اجتمع في نقطة واحدة ليس قبلها ولا بعدها شيء”([46]).
مشهد المواقعة الجنسية الذي ينتهي بقتل مصطفى سعيد لجين مورس هو في الحقيقة محاولة لطرح حل لمعضلة ثنائية شرق/غرب، بآلية ازدواجية تداخل الفعل الجنسي بفعل القتل، مما لا يسمح المقام بتحليله. هذا المشهد يقرب الرواية من الرأي الذي يقول “أنَّ الرواية الحديثة عموماً تطرح حلّاً قصصياً متخيلاً لتناقضات اجتماعية واقتصادية فعلية تجري في عالمٍ حقيقي”([47]).
المصادر والمراجع
1-الأدب والدلالة، تزفيتان تودوروف، ترجمة: محمد نديم خشفة، مركز الإنماء الحضاري، حلب، ط1، 1996م.
2-الاسطورة والرواية، ميشيل زيرافا، ترجمة: صبحي حديدي، دار قرطبة للطباعة والنشر والتوزيع، الدار البيضاء، ط2، 1986م.
3- بلاغة الخطاب وعلم النص، د.صلاح فضل، دار نوبار للطباعة، القاهرة، ط1، 1996م.
4-البنيوية والتفكيك، تطورات النقد الادبي، س. رافيندران، ترجمة: خالدة محمد، دار الشؤون الثقافية العامة، ط1، 2002م.
5-البنيوية وعلم الاشارة، ترنس هوكز، ترجمة: مجيد الماشطة، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، ط1، 1986م.
6-تيار الوعي في الرواية الحديثة، روبرت همفري، ترجمة: د. محمود الربيعي، دار المعارف، القاهرة، ط2، 1975م.
7-الخطيئة والتكفير: من البنيوية إلى التشريحية، د.عبد الله الغذامي، النادي الأدبي الثقافي، جدة، ط1، 1985م.
8- الدلالة المجازية في الحكاية الرمزية والرمز، صبحي البستاني، مجلة الفكر العربي المعاصر، عدد(38)، لسنة 1986م.
9- الرواية الألمانية على أثر الجنون المنظم، سيغفريد ماندل، ترجمة: أحمد الباقري، مجلة الثقافة الاجنبية، بغداد، عدد (3-4) – 1995م.
10- السيمياء والتأويل، روبرت شولز، ترجمة: سعيد الغانمي، دار الفارس للنشر والتوزيع، عمان، ط1، 1994م.
11- شعرية التأليف، بوريس أوزبنسكي، ترجمة: سعيد الغانمي، وناصر حلاوي، الهيئة العامة لشؤون المطابع الأميرية، 1999م.
12- شفرات النص: دراسة سيميولوجية في شعرية النص والقصيد، د.صلاح فضل، دار الآداب، القاهرة، ط1، 1995م.
13-صراع الشخصية بين القناع والواقع في موسم الهجرة الى الشمال للطيب صالح، د. حسين يوسف، مجلة آداب الرافدين، كلية الآداب – جامعة الموصل، عدد (25) – 1993م.
14- صنعة الرواية، برسي لوبوك، ترجمة: عبد الستار جواد، دار الرشيد، بغداد، ط1، 1981م.
15- عالم الرواية، رولان بورنوف، ريـال أونيلييه، ترجمة: نهاد التكرلي، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، ط2، 1991م.
16-علم الدلالة، بيير جيرو، ترجمة: منذر عياشي، دار طلاس، دمشق، ط1، 1988م.
17-العنوان وسيميوطيقا الاتصال الأدبي، د.محمد فكري الجزار، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، ط1، 1998م.
18-قضايا الابداع الفني عند دوستوفسكي، ميخائيل باختين، ترجمة: جميل نصيف، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، ط1، 1986م.
19- مدخل لدراسة الرواية، جيريمي هوثورن، ترجمة غازي درويش عطية، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، ط1، 1996م.
20-المعنى الأدبي من الظاهراتية إلى التفكيكية، وليم راي، ترجمة: يوئيل يوسف عزيز، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، ط1، 1987م.
21-مقولات السرد الادبي، تزفيتان تودوروف، ترجمة: الحسين سحبان وفؤاد صفا، مجلة آفاق – المغرب- عدد (8-9)، سنة 1988م.
22- موسم الهجرة إلى الشمال، الطيب صالح، دار العودة، بيروت، ط2، 1969م.
23- موسم الهجرة الى الشمال بين عطيل وميرسو، محي الدين صبحي، في كتاب: الطيب صالح، عبقرية الرواية العربية، اعداد وتقديم: احمد سعيد محمدية، دار العودة بيروت، ط2، 1976م.
24- نظريات السرد الحديثة، والاس مارتن، ترجمة: حياة جاسم محمد، الهيئة العامة لشؤون المطابع الأميرية، ط1، 1998م.
25- النظرية الادبية المعاصرة، رامان سلدن، ترجمة: سعيد الغانمي، دار الفارس للنشر والتوزيع، عمان، ط1، 1996م.
([1]) المعنى الادبي من الظاهراتية إلى التفكيكية ، ص 143 .
([2]) بلاغة الخطاب وعلم النص : ص 131 .
([3]) الخطيئة والتكفير : من البنيوية إلى التشريحية : د.عبد الله الغذامي ، ص 9 .
([4]) المعنى الادبي من الظاهراتية إلى التفكيكية : ص 151 .
([5]) شفرات النص : د.صلاح فضل ، ص 51 .
([6]) البنيوية والتفكيك ، تطورات النقد الادبي : س . رافيندران ، ترجمة : خالدة محمد ، ص 70 .
([7]) البنيوية وعلم الاشارة : ص 105 .
([8]) نظريات السرد الحديثة : والاس مارتن ، ترجمة : حياة جاسم محمد ، ص 249 .
([10]) شعرية التأليف : بوريس أوزبنسكي : ترجمة : سعيد الغانمي ، وناصر حلاوي ، ص 11 .
([11]) مقولات السرد الادبي : تزفيتان تودوروف ، ترجمة : الحسين سحبان وفؤاد صفا ، مجلة آفاق – المغرب- ، عدد (8-9) ،سنة 1988 ، ص 31 .
([13]) صراع الشخصية بين القناع والواقع في موسم الهجرة الى الشمال للطيب صالح : د. حسين يوسف ، مجلة اداب الرافدين ، كلية الاداب – جامعة الموصل ، عدد (25) – 1993 ، ص90 .
([14]) موسم الهجرة إلى الشمال : الطيب صالح ، ص 23 .
([15]) قضايا الابداع الفني عند دوستوفسكي : ميخائيل باختين ، ترجمة : جميل نصيف ، ص 266 .
([17]) موسم الهجرة إلى الشمال : ص 23-24 .
([18]) مدخل لدراسة الرواية : جيريمي هوثورن ، ترجمة : غازي درويش عطية ، ص 50 ، وينظر : صنعة الرواية : برسي لوبوك ، ترجمة : عبد الستار جواد ، ص62
([19]) موسم الهجرة إلى الشمال : ص 26 .
([20]) موسم الهجرة إلى الشمال : ص 28-29 .
([21]) موسم الهجرة إلى الشمال : ص 33 .
([22]) موسم الهجرة إلى الشمال : ص 35 .
([23]) الادب والدلالة : تزفيتان تودوروف ، ترجمة : محمد نديم خشفة ، ص 26 .
([24]) علم الدلالة : بيير جيرو ، ترجمة : منذر عياشي ، ص 100 .
([26]) السيمياء والتأويل : روبرت شولز ، ترجمة : سعيد الغانمي ، ص 169 .
([27]) موسم الهجرة إلى الشمال : ص 11-12 .
([28]) موسم الهجرة إلى الشمال : ص 14-15 .
([29]) موسم الهجرة الى الشمال : ص 50 .
([31]) موسم الهجرة إلى الشمال : ص 73 .
([32]) موسم الهجرة إلى الشمال : ص 156 .
([33]) الدلالة المجازية في الحكاية الرمزية والرمز : صبحي البستاني ، مجلة الفكر العربي المعاصر ، عدد(38) – 1986 ، ص 17 .
([35]) السيميائية والتأويل : ص 170 .
([36]) البنيوية وعلم الاشارة : ص 108 .
([37]) البنيوية والتفكيك : ص 78 .
([38]) النظرية الادبية المعاصرة : رامان سلدن ، ترجمة : سعيد الغانمي ، ص 118 .
([39]) نظريات السرد الحديثة : ص 217 .
([40]) موسم الهجرة الى الشمال بين عطيل وميرسو، محي الدين صبحي، في كتاب: الطيب صالح، عبقرية الرواية العربية، اعداد وتقديم: احمد سعيد محمدية، ص40 .
([41]) العنوان وسيميوطيقا الاتصال الادبي : د.محمد فكري الجزار ، ص 8 .
([42]) الرواية الالمانية على أثر الجنون المنظم : سيغفريد ماندل ، ترجمة : احمد الباقري ، مجلة الثقافة الاجنبية ، عدد (3-4) – 1995 ، ص 103 .
([43]) نظريات السرد الحديثة : ص 218 .
([44]) موسم الهجرة إلى الشمال : ص 158-159 .
([45]) تيار الوعي في الرواية الحديثة : روبرت همفري ، ترجمة : د. محمود الربيعي ، ص 116 ، 119 .