
سيمياء العربي والغربي في القصة القصيرة عند الطيب صالح “دراسة في ما وراء السرد ـ (أغنية الحب) أنموذجا ـ“
أ.علوي أحمد الملجمي ـ معيد بجامعة البيضاء – اليمن، وطالب ماجستير – جامعة سوهاج – مصر
مقال نشر بالعدد 17 من مجلة جيل الدراسات الأدبية والفكرية الصادر بشهر مارس 2016 والخاص بالروائي العربي الطيب صالح، ص 35. للاطلاع على المقال وكل العدد يرجى الضغط هنا
ملخص:
تتميز القصة القصيرة عند الطيب صالح بمعانيها الإيحائية العميقة التي يخبئها بعبقريته وراء السرد. وفي قصة (أغنية حب) تُظْهِرُ القصة سيمياء العربي والغربي عبر معانيها الإيحائية الخفية؛ فالقصة بعنوانها، وفضائها النصي المتمثل في علامات الترقيم والبياض والسواد توحي بجرأة الشخصية الغربية ومبادرتها وحزمها، وعجز الشخصية العربية وترددها.
وهذه المعاني تأكدها القراءة العميقة للبنى النصية في القصة، فهذه البنى تمتلك معاني إيحائية في بنيتها العميقة؛ فالبنية اللفظية للنص توحي بسلبية البداية والنهاية بالنسبة للشخصية العربية، وفي الزمانية يسيطر الزمن الماضي والزمن الحاضر على شخصية العربي، وتنفرد شخصية الغربي بالمستقبل. وإذا كان النص لم يذكر الشخصيات صراحةً، فإن بنيتي المكان والشخصيات قد تكفلتا بذلك؛ فهي غربية جريئة مبادرة لا تحب التردد ولا المترددين، وهو عربي متردد عاجز حائر، قابع في آلام ماضيه وحاضره.
الكلمات المفاتح: سيمياء – الدلالة الإيحائية – ما وراء السرد.
Summary
The story of (Altaib Saleh) is distinguished by its deep and connotative meanings that are hidden in its genius narrative. In his song called (The Song of Love) , the story explores the Arab and the Western semiotics through its connotative hidden meanings, so the story with its title and the textual space that is represented in the punctuation marks, whiteness and blackness indicate to the boldness of the western character with its intiative and determination, yet the disability and the hesitation of the Arab character. All these meanings are emphasized through the deep readings to the textual structures do have connotative meanings in their deep structures, so the verbal structure of the text negatively refers to the negative beginning and the negative ending of the character. In the respect of time, the past tense dominates over the present tense regarding the Arab character whereas the Western character is distinguished with the future. Even if the text doesn’t mention the characters frankly, the structure of the setting and the characters are able and adequate to refer to that, so the Western characters are bold, enterprising and they don’t like to be hesitant nor they like those who are hesitant. The Arab character is always confused and hesitant which is still lying in the pains of the past and present.
Key words: Meta fiction – Semiotics – connotative.
مقدمة:
الكلمة عند الطيب صالح أداة تعبير عن الفكرة، والأدب تعبير إبداعي عن العالم الذي يعايشه، والسرد عنده ظاهره القصص البريئة والمعاني المباشرة، وباطنه العالم بكل صراعاته الحضارية والثقافية. إنَّ عبقرية الطيب صالح جعلته يبني نصه بذكاء؛ فنصوصه السردية تملك بنيتين: إحداهما سطحية، والأخرى عميقة، بحيث لا يشعر القارئ بانفصال البنيتين عن بعضهما، فالمعاني المقصودة ليست في سطح النص، فيدركها كلَّ أحد، ولكنها في البنية العميقة، ويوجد في البنية السطحية ما يوحي بها.
النص عند الطيب صالح هو مرآة العالم، فهو يحبك خيوط العالم المتشابك داخل النص؛ فيغدو النص مثل العالم الذي يصوره متشابك الخيوط؛ لذلك فإنَّ قراءةً سطحيةً لا يمكن أن تكشف عن مراده. إن الكتابة الواعية تحتاج إلى قراءة واعية، والنصوص المحبوكة والعميقة تحتاج إلى قارئٍ ماهرٍ وقادرٍ على فك شفراتها، والغوص في أعماقها؛ لاستخراج معانيها الإبداعية الخفية.
والقراءة الواعية للنصوص الحديثة والعميقة، التي تشكل ذاتُ المبدع جزءًا منها – وفي مقدمتها نصوص الطيب صالح – تتطلب قراءةً شاملةً للنص لكل بناه النصية والموازية، بما في ذلك الفضاء النصي الذي ظهر فيه النص. كما تتطلب قراءةً عميقة، وتنقيبًا جادًا عن معاني النص الإيحائية الخفية، ومعرفةً واسعة بخلفيات النص وعلاماته اللسانية والثقافية. ومن هذا المنطلق ستناول قصة “أغنية حب” للطيب صالح، باحثًا عن المعنى وليس عن الجمال؛ إذ أن لذة النص وجماله نتاجٌ عن إدراك معناه. ومفتشًا في كل بنى النص الأصلية والموازية عن المعنى الإيحائي العميق؛ لأصل بمجموعها إلى المعنى القصدي للنص.
النص:
أغنية حب
كنتُ دائمًا أود أن أغني. لكن صوتي كان نشازًا، ولم أستطيع أبدًا أن أجيد نغمةً واحدة، لسوء حظي. إلى أن التقيتها. قالت لي إن أردت فعلًا أن أغني، فعليّ إذًا أن أغني، مهما كان وقع صوتي.
قلت: “لكن صوتي نشاز”.
قالت: “غنّ عن الحب. الناس تستهويهم أغاني الحب الحزينة”.
وهكذا بدأت. لم يحفل الناس بي أول الأمر. ثم أخذوا يصغون. بل إن بعضهم أحب أغانيّ. كانت عيناها خضراوين وكان فمها واسعًا وحاجباها نبيلين مقوسين بروعة. كانت تحبني وتحب العالم كله، ما عدا اليابان، قتل اليابانيون أخاها في الحرب الأخيرة.
ومع هذا فقد تركتني لأنني ترددت.
أمر محزن، نوعًا ما، لأني وإن كنت أحب أن يسمع الناس غنائي، فإني أغني لها خاصة.([1])
- إيحاء البنى الموازية:
- العنوان:
يعد العنوان من أهم العتبات النصية الموازية أو المحيطة بالنص الرئيس؛ فهو المفتاح لاستكشاف معانيه الخفية، وسبر أغواره، والولوج إلى أعماقه. ويمكن أن يكون هو التمظهر المكثف والمركز لقصد النص، خاصة في العناوين التي يجتهد أصحابها في إبداعها، وجعلها أكثر تكثيفًا بدلالاتها الخفية، وطاقاتها الإيحائية. وقد تنبه (جيرار جينيت) إلى الوظيفة الإيحائية للعناوين، ورأى أن الجمهور المعاصر أصبح يستهويه الإيحاء الأسلوبي للعنونة أكثر من التعيين التقني للعنونة الذي بدأت تتزحزح قيمته أو لنقل قاربت على الانتهاء أمام العنونة الإيحائية ([2]). “إلا أن هذه المؤهلات الإيحائية للعنونة، ليست بهذه البساطة؛ فهي أكثر تعقيداً، لأنها ربما أخذت ترتيبات أخرى من خلال طرقها المتعددة”([3]).
ويعرف العنوان بأنه “مجموعة العلامات اللسانية، من كلمات وجمل، وحتى نصوص، قد تظهر على رأس النص لتدل عليه وتعيينه، تشير لمحتواه الكلي، ولتجذب جمهوره المستهدف”.([4]) وقد اهتمت السيميائيات بعتبات النص أو النص الموازي، وفي مقدمة هذه العتبات العنوان؛ فهو أول عتبة يطؤها الباحث، وقراءة العنوان تعني استنطاقه بصريًا ولسانيًا، وأفقيًا وعموديًا؛ بهدف الوصول إلى دلالاته الإيحائية، ومعانيه الخفية. والعلاقة بين العنوان والنص علاقة متينة، و”هي ليست بالعلاقة الاعتباطية، إنها علاقة طبيعية منطقية؛ علاقة انتماء دلالي”([5])، فهو عبارة عن تركيز لدلالة النص، والنص عبارة عن تمطيط لدلالة العنوان، “فالعنوان لذلك هو مفتاح النص الذي يجس السيميائي من خلاله عالمَ النص على المستويين: الدلالي والرمزي. فهو مفتاح إجرائي به تفتح مغالق النص سيميائيًا”.([6])
يتكون العنوان في القصة محل الدراسة من كلمتين، فهو يتكون من مضاف ومضاف إليه. وهما إشارتان توحيان بالكثير من المعاني، فمن خلال القراءة العميقة للقصة التي أوحى العنوان بمغزاها أو بأغلبه فإن العنوان يتكون من علامتين: أحدهما “أغنية” وهي توحي بأن لدى الشخصية الرئيسية أشياء حلوة وجميلة، لكنه تردد في إظهارها، وبعد كثير من الإصرار أظهرها، لكنها جاءت متأخرة.
والعلامة الأخرى: “حب” وهي توحي بالعاطفة التي تملكها تلك الشخصية، وهو حب حزين يائس؛ لأنها تركته. وفي التئامها مع ما قبلها تشكل علامة نصية أو نصًا موازيًا للنص (العنوان) يوحي بأن الأغنية/الأشياء الحلوة ـ التي يملكها ـ لما جاءت متأخرة، لم تفده شيئاً، بل إنه خسر بسببها؛ فهو لا يغني لأجل الغناء، بل لأجل أشياء خاصة/لأجلها، و هذا الحب غير واقعي فهي لم تعد تهتم به بسبب تردده، فهو يغني لها بعد فوات الأوان، ويحبها وقد تركته، إن أغنية الحب عندها أن يغني للعالم كله؛ فهي تحب العالم كله، أما أغنية الحب عنده فهي حب حزين بائس، لا تأتي إلا بمحفزٍ عاطفي، ويبقى معلق بذلك المحفز. إنه التعلق بالماضي والحاضر وضياع المستقبل، والقوقعة في الأشياء التافهة. وعلى ذلك فالعنوان بالنسبة لشخصية الرجل يدل على ضياع وحزن. كما هو في الشكل الآتي:
فالأغنية بالنسبة لشخصية الرجل – لما تردد – صارت أغنية حب يائس، و الأشياء الحلوة إذا جاءت متأخرة فإنها تذهب في الفراغ . أما بالنسبة لشخصية الفتاة، فإنها تعني الحب والإرادة والطموح.
- الفضاء النصي:
- السواد والبياض:
أعطت الدراسات النقدية الحديثة أهمية كبيرة لاشتغال الفضاء النصي، والفضاء النصي هو عبارة عن الشكل الكتابي أو الطباعي للنص، فهو التجلي البصري للنص الذي تقع عليه عين القارئ؛ لذلك فهو يعتمد في قراءته على البعد البصري. ويشمل كل العلامات البصرية أو غير اللغوية الموجودة مع النص (علامات الترقيم، والبياض والسواد، وتوزيع الأسطر على الصفحة، والرسومات والأشكال والرموز).
فتقنية البياض والسواد تخلق قدرة إيحائية تساعد القارئ على إدراك الدلالات المتخفية للنص، وتوليد إمكانات متعددة للقراءة، لما لتوزيع البياض والسواد على الورقة من أهمية في توزيع الفضاء النصي، سواءً على مستوى الفقرة أو الجملة؛ لما له من دور في إظهار الدلالات الإيحائية للنص.
ففي قصة (أغنية حب) تزدحم الأسطر بالكلمات، ويسود السواد على البياض، فتأتي الجمل متصلة لا يفصلها عن بعضها إلا علامات الترقيم، وذلك الازدحام يضفي دلالات إيحائية، بتسارع وازدحام الأفكار في رأسه وكأنه يريد أن يتخلص من ذلك الماضي الذي كان فيه مترددًا، أو تلك الذكريات الأليمة. ويوقف هذا التدفق بياض يفصل بينه وبين صوته جواباً عليها “لكن صوتي نشاز” ليحتل نصف سطرٍ ويترك النصف الآخر، وكأنه يسجل بمستوى السواد و البياض معادلة بين نسبة رغبته في الغناء وتردده. ويأتي جوابها ليحتل سطراً و جزءاً من الثاني فهي مليئة بالإرادة، مزدحمة بالأفكار. لكنها تترك بياضاً/فراغاً؛ ليلتقط أنفاسه.
وفي الفقرة التي تليها، والتي تتابعت فيها الجمل والأسطر لتكوّن أربعة أسطر ونصف السطر، تزدحم أفكاره وذكرياته، وكأنه لا يريد أن يتوقف عن الحديث عنها، حتى يكمل أوصافها خلْقاً وخُلُقاً. وفي منتصف السطر الخامس ينقطع نفسه ويُشوّش فكرُه؛ إذ تذكر أمراً حزيناً أعاده إلى فراغه، فقد تركته.
فمما سبق نلاحظ أن مستوى السواد يشكل المستوى الأعلى في الفضاء النصي لهذا النص؛ وذلك يوحي بسوداوية ماضيه ومستقبله. والبياض اليسير الذي نلقاه في منتصف النص، إشارة إلى ذلك النور اليسير الذي بزغ في حاضره، والذي مثلته هي بعزيمتها و تحفيزها له.
- علامات الترقيم:
تدخل علامات الترقيم ضمن الفضاء النصي، فهي علامات بصرية غير منطوقة؛ فـ”الترقيم قوامه مجموعة علاقات لا أثر لها أصلا في سلسلة الكلام أثناء القراءة بصوت مرتفع؛ إنها لا تبرز كأدلة صوتية، ولكن أثرها يبرز كأدلة ضابطة للنبر فقط”([7]). ويمكن النظر إليها بوصفها علامات سيميائية تؤدي دلالات معينة في حالة الحضور والغياب، وقد أشار مراد مبارك أهمية علامات الترقيم في اللغة المكتوبة في كشف دلالات النص الأدبي([8]). فهي وإن كانت صامتة من جهة القراءة، إلا إنها ناطقة وفاعلة من جهة الدلالة. وهي علامات مكتوبة لكنها غير منطوقة، ما يعني تجسيدًا للكتابة الحداثية، التي لا تتكلم بالكلمات فقط. وعلى ذلك فعلامات الترقيم “تبيح صوتًا غير مقروء حيث يتزامن هذا الصوت مع جسد الكتابة “([9]).
علامات الترقيم في القصة محل الدراسة تتخذ طابعاً إيحائياً واضحاً؛ فهي تشكل جزءًا من الدلالة الأساسية للنص، وأحد أجزائه المكونة لدلالته النهائية. وتكتسب الفاصلة في قصة (أغنية حب) دلالة إيحائية نفسية فهي تدل على حالة الارتباك والقلق، التي يعيشها شخصية الرجل، فيتنفس تنفساً سريعاً، لتتواصل كلامته، “لم يكن صوته نشازاً، ولم أكن …”. وفي نفس الخط الدلالي يأتي استخدام الفاصلة في الجمل التي تلتها، “قالت إن أردت فعلاً، أن أغني فعلي إذاً أن أغني، مهما كان وقع صوتي”؛ لتوحي بحالة من الغضب غير المعلن الناتج عن إنكارها لموقفه المتردد؛ مما أدى بها إلى تحفيزه بجمل متسارعة فُصِلَ بينها بالفاصلة ليدل ذلك على هذا الحالة. كما هو مبين في الشكل الآتي:
وفي كلا الحالتين ـ غالباً ـ تسيطر السرعة في الكلام ، وتتابع الأنفاس على المتكلم. وقد استخدم السارد الفاصلة في نهاية القصة ليدل بها على ارتداد البطل إلى حالته الأولى قبل أن تخرجه منها الفتاة.
استخدمت النقطة في القصة محل الدراسة للانفصال والانفصام والاختلاف، وهو انفصال زمني: وينتج هذا الانفصال عن طريق وضع النقط بين الجمل؛ ليوحي أنهما تختلفان في زمن الحدوث، مع عدم ظهور ذلك على البنية السطحية. وفي قصة (أغنية حب) يكثر ورود النقطة، وتأتي غالباً للدلالة على اكتمال المعنى نسبياً، لكن وظيفتها الإيحائية الأساسية هي الدلالة على وجود فاصل زمني. فالنقطة التي وضعت بين الجملتين ” كنت دائماً أود أن أغني. لكن صوتي كان نشازاً” يوحي بأنه لم يكتشف بأن صوته نشازٌ إلا بعد مدة ليست بالقصيرة، ويؤكد ذلك (كان) في قوله ” كان نشازا”؛ إذ تشير (كان) إلى الماضي، وهذا الماضي هو ما قبل النقطة ” كنت دائماً أود أن أغني”.
وتسيطر الدلالة الزمانية على استخدام النقطة في القصة خاصة تلك التي تفصل بين جملتين صغيرتين بينهما ارتباط في المعنى؛ إذ كان بإمكان السارد الاستعاضة عنها بالفاصلة، وهي الأصل. لكنه جاء بالنقطة ليدل على فاصل زمني بين حصول الحدثين.
- إيحاء البنى النصية:
- البنية اللفظية:
إن أهم بنى النص وركيزته الرئيسية قديماً وحديثاً هي البنى اللفظية، والبحث إذ يَنشُد دلالة النص وإيحائيته فلا بد له من الوقوف عند هذه البنية، فـ “أداة الدلالة هي اللفظ أو الكلمة، وتكاد تجمع المعاجم العربية على أن (الألفاظ) ترادف (الكلمات) في الاستعمال الشائع المألوف”.([10]) ولأن النص لا يتجلى إلا بفك رموزه اللغوية، واستنطاق الألفاظ عن مدلولاتها. فللكلمة في النص الأدبي “طبيعة خاصة، تعتمد اعتماداً كبيراً على الألوان والظلال المختلفة التي تثيرها الكلمات “([11]).
وإذا كانت القراءة السطحية للنصوص لا تكفي ولا تكشف عن مراد النص ودلالته فإن النصوص التي بين أيدينا لها خصوصية أعمق و بنية نصية معقدة؛ فـ”البنية السطحية والدلالات الحرفية والتفسيرات الداخلية، ليست كافية وحدها لاستكناه مقصدية (العلامة داخل) النص، وإنما هناك بنية أخرى عميقة ذات دلالات إشارية وتأويلات خارجية”.([12]) ويزداد الأمر تعقيداً عندما تعددت القراءات و التأويلات، أو عندما يكون المعنى قابلًا لأكثر من قراءة، يضيع بينها قصد صاحب النص، ليدخل القارئ في عوامة عظيمة من الارتباك بين دلالة اللفظ وقصدية الكاتب.
يشتغل السرد في قصة (أغنية حب) على اللعب على اللغة، باعتبارها أداته التي يتشكل منها، وهو لعب المحترف الحاذق بصنعته؛ لتأتي الألفاظ في النص موظفةً توظيفاً دقيقاً. يبتدأ السرد بفعل الكينونة في زمن الماضي؛ ليوحي بحال متقلبٍ، فالجملة الفعلية تدل على التحول. ويستمر ذلك التحول عن طريق استخدام الأفعال (لم أكن ـ غنِّ ـ ابتدأت ـ يصغون ـ أحبَّ ـ تركتني ترددتُ ـ كنت أحب) وهذه التحولات ما تلبث أن تستقر في نهاية القصة “فإنني أغني لها خاصة”، وهي جملة اسمية تدل على الثبوت والاستقرار. وهذا الاستقرار جاء بعد محاولات منها لتغييره، ومع التحولات والتغيرات التي طرأت عليه فإن استقراره هذا يبدو سلبياً؛ لأنه جاء بعد أفعال وجمل سلبية (تركتني ـ ترددت)، (أمر محزن) مما يوحي بسلبية النهاية التي دلت عليها سلبية الثبوت على أمر محزن. كما هو موضوح في الشكل الآتي:
وتشير الجملتان (كنت أود) في أول النص، و(كنت أحب) في نهايته إلى ذلك التحول السلبي. فقد عاد إلى كينونة الماضي المتبوعة بفعل المضارع للدلالة على التمني، وكأنه عاد إلى حالته الأولى تلك، وإن كان في الحالة الأولى قابل للتحول والتغير، فإنه في الأخرى غير قابل لذلك؛ فقد ختم النص بجملة أسمية تدل على الثبوت والاستقرار. وهذا الشكل يبين مسار السرد في النص، وحالة التغير والتحول التي تعرضت لها الشخصية الرئيسية، والتي أوضحتها البنية اللفظية في القصة.
- الزمان:
إن أهمية الزمان لا تنبع من وجوده الضروري بوصفه أحد أركان العمل السردي، بل من وجوده الدلالي بوصفه بنية نصية لها دلالاتها الإيحائية. وهذه البنية النصية أداة لإنتاج الدلالة، فهي موجهة ومختارة بعناية، بشقيها الزمان الفلسفي، والزمن اللغوي.([13]) إلا إننا نلحظ غيابًا للزمان الفلسفي في القصة، وهي سمة في القصة القصيرة عند الطيب صالح، فهي تخلو من التواريخ أو أي إشارة تدل على الزمن القياسي، إلا الإشارات اليسيرة جدًا.
غياب الزمان الفلسفي أو القياسي في القصة القصيرة عند الطيب صالح . لماذا ؟
يحاول الكاتب أن يفرغ قصصه القصيرة من الزمان القياسي أو الفلسفي Time تاركاً المجال للزمن اللغوي Tense ليعمل عمله؛ ولعله أراد أن يعبر عن طبائع موجودة و وقائع مستمرة ممتدة في كل الأزمان ، فلا يمكن أن يحدها زمان. إن ما يرمي إليه السرد لا يتقيد بزمان محدد، وإنما هي حالة كانت وتكون وستكون، وتقييدها بزمان معين يخرجها عن مراد الكاتب “فالراوي يتفنن في سرد ما يحدث: يقدم ويؤخر فعلاً على فعل، ويلعب وفق ما يراه مناسباً للمسار الذي يبني”([14])؛ لذلك وردت القصة ـ محل الدراسة ـ خالية من أي إشارة زمانية أو تاريخية، حتى إنه لما جاء على ذكر تبريره لكره الفتاة لليابانيين تخلص من التقييد باستبداله (الحرب الثانية) بـ (الحرب الأخيرة ) وبذلك استطاع أن يفرغ القصة من أي إشارة تاريخية محددة.
أغلب الصيغ الزمانية اللغوية في قصة (أغنية حب) تشير إلى الزمن الماضي إذ يعبر السارد بفعل الكينونة في الماضي، و يطغى الماضي على القصة حتى نهايتها؛ إذ يسيطر الفعل الماضي (تركتني)، (كنت أحب) على النهاية المحزنة لبطل القصة الذي يمثل طرفاً ثقافيا آخر (عربي) غير تلك الفتاة الأوروبية.
ويبرز الحاضر في اللحظات المهمة في حياة ذلك البطل ، ففي بداية غنائه بعد تردد سيطر عليه الماضي يتجلى الحاضر (ابتدأتُ) على حاله ليثبت حضوره في الزمن الحاضر، كما يبرز تارةً أخرى على حاله في نهاية السرد (أغني) ليتقوقع بعدها في ذلك الزمن من دون أي إشارة إلى أي تجاوز لتلك النقطة الزمنية.
والمستقبل الوحيد في القصة هو الفعل الأمر الذي يدل بصيغته الطبيعية على الاستقبال “غنِّ”. وهذا الزمن فعل كلامي لها ـ المرأة الأوروبية ـ فهي تسيطر به على المستقبل، بينما يبقى هو قابع في حاضره وماضيه.
- المكان:
للمكان دور هام في بناء العمل السردي؛ إذ يعد العمود الفقري الذي يربط أجزاء العمل بعضها ببعض، كما يعد الأرضية التي تتحرك عليها الأحداث؛ فالأحداث وتحرك الشخصيات لا يحدث في الفراغ، بل يحفه زمان ومكان. والمكان الذي نتناوله هنا بنية نصية دالة وموحية موجود في العمل سواء ظهر أم لم يظهر، و سواءً صُرح به أم خبئ في إشارات اللغة و علاماتها.
والمكان في العمل السردي ليس مجرد جغرافيا تجري عليها الأحداث، لكنه جزء من البناء الدلالي للنص. إنه جزء من مخيلة القارئ، وأداة من أدواته للإيحاء بقصده، فالمكان ليس هو المكان المحسوس وحسب، وإنما هو أيضا “مكان ثقافي أي أن الإنسان يحول معطيات الواقع المحسوس وينظمها لا من خلال توظيفها المادي المعيشي فقط بل من خلال إدخالها في نظام اللغة، فاللغة هي المقابل اللامحسوس لعالم المحسوسات، وهي تنوب عن عالم الواقع وتحلّ محّله، وهذه العملية ليست عملية سلبية أو بريئة، ولكنها مشبعة بالقيمة، فالأشياء تسمى ولكن في الوقت ذاته حاملة لدلالات إيجابية أو سلبية”([15])، وإشارات إيحائية.
في قصة (أغنية حب) لا توجد إشارة جغرافية واحدة، فقد تجاهل السرد المكان ماعدا إشارة واحدة غير صريحة، تشير إلا إنها من الغرب؛ (كانت تحبني وتحب العالم كله، ماعدا اليابانيين، قتل اليابانيون أخاها في الحرب الأخيرة)([16]). وإذا كان السارد قد أغفل المكان من هذه القصة فإن تصرفات وصفات بطلي القصة تشير إلى أن كل واحدٍ منهما من جغرافية و ثقافة مختلفة ، فهي ـ كما قلت ـ غربية، وهو عربي؛ إذ يبنى السرد على ضمير المتكلم المباشر بدون راوٍ إشارة إلى أن بطل القصة هو أنا الكاتب/السارد الجمعي.
- الشخصيات:
تعدّ الشخصية جزءاً أساسياً في بناء القصّة، فهي منبع الحدث والشعور، فثمة علاقة وطيدة بينها والحدث، “فالشخصية هي صاحبة الفعل والدافعة إلى الحدث، وهي مصدر المشاعر التي تمثل لباب القصّة الأساسي.. ففي القصة القصيرة – مهما كان حجمها – فرصة مؤكدة لبيان الأحاسيس المضطربة والخلجات المتوجسة، والمشاعر الإنسانية في كل حالات النفس التي تستشعرها في كل موقف أو مأزق”([17])، ورسم ملامح الشخصية، وبيان سماتها المختلفة مسألة على درجة عالية من الأهمية، ومن الحساسية الفنية، التي لا يبرع فيها كثيرون.([18]) بحيث تمتلك الشخصيات بأسمائها وصفاتها وخلجاتها طاقات إيحائية، ودلالات معينة.
تأتي الشخصية في القصة محل الدراسة. وتكاد تكون سمة غالبة على القصة القصيرة عند الطيب صالح ـ مبنية على شخصيتين رئيسيتين فقط، وتختفي الشخصيات الفرعية إلا ما ندر. وهو لا يسمي شخصياته إلا إذا كان الاسم يضفي دلالة جديدة ورئيسية في القصة، ولكنه مع ذلك يصف شخصياته وصفاً دقيقاً بحيث تكون صفات الشخصية جزءاً من الدلالة؛ إذ لا يمكن إدراك المعنى العام الذي أراد السارد الإيحاء به.
تحتوي قصة (أغنية حب) على شخصيتين فقط هما: 1ـ الشاب المتردد الذي يريد أن يغني. 2ـ الفتاة التي نصحته بأن يغني ولا يتردد. والشخصية الأولى جاءت بضمير السارد/المتكلم، وهي شخصية مترددة تحتاج دائماً إلى الدفع والتحفيز من شخصية أخرى، وهي شخصية تضيع الفرص ثم تقضي الوقت في البكاء عليها والغناء لها، قابعة في أحزانها وآلامها وماضيها. بينما الشخصية الثانية (الفتاة) جريئة ومبادرة وذكية، وهي مع ذلك جميلة وتحب العالم كله، لكنها لا تنسى جراحها؛ فهي لا تحب اليابان؛ لأنهم قتلوا أخاها، فهي شخصية حازمة ولا تحب المترددين.
خاتمة:
يشير عنوان القصة إلى دلالة النص القصدية أو العميقة، فمع تكَوّنه من كلمتين فقط، إلا إنه أشار إلى فراغ يعاني منه العربي حاول أن يملأه بعاطفة الحب، إلا إنه حتى العاطفة لم يفلح فيها. ويشكل الفضاء النصي رديفًا للنص في التأكيد على معناه الإيحائي؛ فتقنية البياض والسواد في النص تشير إلى الإرادة التي تتميز بها شخصية الغربية، في مقابل العجز والحيرة التي يعاني منها الشخصية الأخرى (العربي). وهو ما أكدته المعاني الإيحائية لاستخدام علامات الترقيم، إلى جانب دلالة الانفصال الزمني الذي يوحي به استخدام النقطة بدلًا من الفاصلة، وهو ما يدل على تردده المتكرر والطويل.
وقد جاءت إيحاءات البنى الموازية متسقةً مع إيحاءات البنى النصية؛ فالبنية اللفظية توحي بسلبية البداية والنهاية لشخصية الشاب (العربي)، وبينهما تحول إيجابي تسببت فيه الشخصية الأخرى (الغربية) بجرأتها وإرادتها. وبسبب تردده تركته؛ ليعود إلى سلبيته الأولى ثابتًا عليها. وهو ما كشفت عنه بنية الزمان، فمع غياب الزمان الفلسفي أو القياسي في القصة؛ لأنَّ هذه الخصائص ليست مقيدة بزمان، إلا إن الزمن اللغوي كشف عن معنى النص؛ فقد سيطرت الصيغ الزمنية للماضي والحاضر على أفعال الشخصية الأولى (العربية)، وغاب عنها زمن المستقبل، الذي كان فعلًا للشخصية الغربية، وهو ما يعني سيطرتها على المستقبل، وقوقعته في الماضي والحاضر.
تخلو القصة من الإشارات المكانية (الجغرافية)، ما عدا إشارة واحدة تشير إلى أن أحد بطلي القصة (الأنثى) غربية. وقد بنى الطيب صالح قصته على شخصيتين رئيستين: أحدهما شخصية الشاب المتردد القابع في ماضيه، وقد جاء بضمير المتكلم/السارد؛ مما يجعله يحيل على الشخصية العربية. والأخرى شخصية الفتاة، وهي جريئة ومبادرة، وتوحي إشارات النص بأنها غربية.
وعلى ذلك، فإن النص يبرز سيمياء العربي وسيمياء الغربي؛ فشخصية الرجل (العربي) مترددة قابعة في ماضيها وحاضرها المليء بالآلام والأحزان، بينما شخصية المرأة (الأوروبية) جريئة ومبادرة وعابرة إلى المستقبل. ويمكن أن يكون الشكل الآتي تلخيصًا لما أوحى به النص:
قائمة المراجع:
- أنيس (إبراهيم)، دلالة الألفاظ، مكتبة الأنجلو المصرية – القاهرة، ط 5،
- بلعابد (عبدالحق)، عتبات جيرار جينيت من النص إلى المناص، منشورات الاختلاف و الدار العربية للعلوم (ناشرون) ـ الجزائر، ط 1، 2008م.
- تاوربريت (بشير)، و حمادي (عبدالله)، السيميائية في الخطاب النقدي المباشر علامات (النادي الأدبي – جدة)، مج15، ج57، سبتمبر
- توامة (عبد الجبار)، زمن الفعل في اللغة العربية قرائنه وجهاته ، ديوان المطبوعات الجامعية ـ الجزائر ( ط : م )، 1994م .
- جاب الله (أحمد)، التشاكل و التباين في لامية العرب، أعمال الملتقى الوطني الثاني، السيمياء والنص الأدبي 15ـ16 إبريل 2002 . منشورات جامعة محمد خضير – بسكرة – الجزائر.
- جماعة من الباحثين، جماليات المكان، عيون المقالات – الدار البيضاء، ط 1،
- حسان (تمام)، مناهج البحث في اللغة ، جار الثقافة، الدار البيضاء ، 1980م.
- دفة (بلقاسم)، علم السيمياء والعنوان في النص الأدبي، الملتقى الوطني الاول في السيمياء والنص الادبي 7- 8 نوفمبر 2000 منشورات جامعة محمد خضير – بسكرة – الجزائر.
- ساعد (سامية راجح)، تجليات الحداثة الشعرية في ديوان البرزخ والسكين للشاعر عبدالله حمادي، عالم الكتب الحديث، ط1 ، ٢٠١٠.
- السعران (محمد)، علم اللغة، دار النهضة العربية – بيروت، (ت: م)
- مبارك (مراد عبدالرحمن)، من الصوت إلى النص نحو نسق منهجي لدراسة النص الشعري، عالم الكتب – القاهرة،
- العيد (يمنى)، تقنيات السرد الروائي في ضوء المنهج البنيوي، دار الفارابي ـ بيروت ـ لبنان، ط 1،
- قنديل (فؤاد)، فن كتابة القصة، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، ٢٠٠٢م.
- الماكرى (محمد)، الشكل والخطاب نحو تحليل ظاهراتي، المركز الثقافي العربي – الدار البيضاء، ط 1،
- الطيب (صالح)، دومة ود حامد، دار الجيل – بيروت، ط 1، 1997م.
([1]) صالح، دومة ود حامد، صـ87.
([2]) بلعابد، عتبات جيرار جينيت من النص إلى المناص، صـ83
([3]) المرجع السابق، صـ83 ـ 84
([5]) تاوربريت، و حمادي، السيميائية في الخطاب النقدي المباشر، صـ219.
([6]) دفة، علم السيمياء والعنوان في النص الأدبي، صـ39.
([7]) الماكرى، الشكل والخطاب نحو تحليل ظاهراتي، صـ 240.
([8]) مبارك، من الصوت إلى النص نحو نسق منهجي لدراسة النص الشعري، صـ45.
([9]) ساعد، تجليات الحداثة الشعرية في ديوان البرزخ والسكين للشاعر عبدالله حمادي، صـ ٢٢٦ .
([10]) أنيس، دلالة الألفاظ، صـ38.
([11]) السعران، علم اللغة، صـ271.
([12]) جاب الله، التشاكل والتباين في لامية العرب، صـ 94
([13]) هناك زمنان : الزمن الكوني أو الفلسفي الكمي والزمن اللغوي، فالأول هو الذي يعد قياساً لكمية رياضية، ويعبر عنه بالتقويم والإخبار بالساعة، والثاني هو الوقت النحوي الذي يعبر عنه بالفعل وما شابهه. ينظر: توامة، زمن الفعل في اللغة العربية قرائنه وجهاته، صـ1.
ويفرق الدكتور تمام حسان بين مصطلحي “الزمان” و”الزمن” فالزمان عنده للزمن الفلسفي ، ويقابل في الانجليزية Time، والزمن للزمن اللغوية، ويقابل في الانجليزية Tense، فهما غير مترادفين؛ لأن “الزمان” يدخل في دائرة المقاييس، ولا يدخل في تحديد معنى الصيغ المفردة، ولا في تحديد معنى الصيغ في السياق، وليس له ارتباط بالحدث ، بخلاف “الزمن” فهو يدخل في دائرة التعبيرات اللغوية، ويدخل في تحديد الصيغ المفردة أو في السياق؛ إذ له ارتباط بالحدث، فالزمن النحوي يعد جزءاً من معنى الفعل .
ينظر: حسان، مناهج البحث في اللغة، صـ 245 .
([14]) العيد، تقنيات السرد الروائي في ضوء المنهج البنيوي، صـ86.
([15]) جماعة من الباحثين، جماليات المكان، صـ 64 .
([16]) صالح، دومة ود حامد، صـ87.
([17]) قنديل (فؤاد)، فن كتابة القصة، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، ٢٠٠٢م، صـ٢١٠.