مقال نشر في العدد الثاني من مجلة جيل الدراسات الأدبية والفكرية ص 95 للأستاذ محمد اوبلوهو / جامعة القاضي عياض- مراكش . الكلية المتعددة التخصصات – اسفي، للإطلاع على مقالات كل العدد يرجى الضغط على غلاف المجلة:
من بين المفاهيم المعقدة التي نصادفها في الفكر الحديث هنالك مفهوم الفيتيشية، وهو مفهوم تتوزعه حقول معرفية شتى كالأدب والسينما وفن التصوير إلى جانب توظيفه في حقل العلوم الإنسانية لا سيما الانتروبولوجيا وعلم النفس وعلم الاجتماع، واللسانيات. والقليل من الناس من سمع بالاستعمال الفلسفي لهذا المفهوم، ولذلك فإن مجال هذه الدراسة هو دراسة هذا المفهوم ضمن الفلسفة الوضعية عند اوكست كونت، فما هو السياق النظري الفلسفي الذي تم فيه توظيف هذا المفهوم عند كونت وإلى أي حد استطاع التوفيق بين المضمون الفلسفي لهذا المفهوم وفلسفته الوضعية؟ وكيف اهتدى إلى اعتبار الفيتيشية أصلا للفكر الديني؟ وهذا البحث ينقسم إلى بابين الأول فيه عرض للنظرية الفيتيشية وخصائصها عند اوكست كونت والباب الثاني عبارة عن دراسة نقدية لمفهوم الفيتيشية كما عرضها اوكست كونت.
الباب الأول: عرض للنظرية الفيتيشية عند كونت
ويتكون هذا الباب من فصلين الأول يتعلق بخصائص الحالة الفيتيشية والثاني بالبعد الاجتماعي للحالة الفيتيشية.
الفصل الأول:الفيتيشة وإشكالية أصل الحالة اللاهوتية
1 – الفيتيشية أصل كل الأشكال الدينية :
تؤكد الفلسفة الوضعية عند كونت أن الفيتيشية هي أصل كل الأشكال الدينية، حيث يرفض أن تكون بداية الديانات مع ديانات التوحيد التي تعتقد في وجود إله مفارق للموجودات الطبيعية والمادية، تخضع له سائر الموجودات. ومن هذا المنطلق فلا يمكن اعتبار الديانات المتعددة الآلهة، وكذلك الفيتيشية مجرد تحريف لديانة التوحيد كما يعتقد في ذلك معتنقو الديانات السماوية. ومعلوم أن هذه الفكرة قد تبناها العديد من المفكرين والفلاسفة في تلك الفترة[1] التي ظهرت فيها الفلسفة الوضعية والتي عمل اوكست كونت على الرد عليها. وينطلق اولئك المدافعون على مثل هذا التصور من أن الديانة تتأسس على الوحي كما هو الحال بالنسبة إلى الديانات السماوية، ولكن مثل هذا التصور يقتضي وجودا مستمرا ومتجددا لحالة الوحي، حتى لا تعود مثل هذه الأديان إلى حالتها الطبيعية الأولى. ولكي تحافظ هذه الأديان على صورتها كما هي، فهي تعتمد على مجموعة من القواعد التي تقصي أي انحراف من شأنه أن يمس باستمرارية الدين، ويسوق هنا كونت نموذج الديانة اليهودية[2]. حيث يعتقد أن اليهودية ليست سوى تحريفا للديانة المصرية القديمة، التي وصل الحكم اللاهوتي فيها إلى حالة جد متقدمة من التنظيم الديني. ولهذا يمكن أن نجد عند المصريين القدامى كل المبادئ التي ستحكم اللاهوت لاحقا، حيث عرفوا فكرة تعدد الآلهة، وحتى فكرة التوحيد. ونظرا، للقرون الطويلة التي عاشتها هذه الحضارة، فقد تعاقبت عليها أشكال مختلفة من الممارسة الدينية، التي سترثها عنها لاحقا الأديان الكبرى. وهنا يخلص كونت إلى أن كل الأديان تحمل في طياتها إرثا فيتيشيا. ومعلوم من الناحية التاريخية أن الديانة اليهودية التي ستعتبر لاحقا منطلق كل الديانات السماوية قد ارتبطت كثيرا بالحضارة المصرية القديمة خاصة النبي موسى الذي اقترن ذكره بفرعون. بل إن كل الأنبياء الذين ورد ذكرهم في العهد القديم لهم ارتباط ما بمصر القديمة.
كان كونت يعتقد أن الإنسان بدأ بالفيتيشية في صورتها البدائية، وتطابق هذه الحالة المرحلة الأكثر بدائية وتوحشا في تاريخ الإنسانية حيث لا زالت توجد عادات أكثر توحشا مثل أكل لحوم البشر. وبفعل عامل التطور استطاع أن يتخطى هذه المرحلة البئيسة من تاريخه[3]، وهذا ما يبين ان هذه الحالة ارتبطت بمرحلة غارقة في البدائية كان الإنسان يتبع فيها أنماطا غريبة من السلوك شبيهة بالحيوان. كما ينطلق أوكست كونت من الاعتقاد بأن الحالة اللاهوتية مرت بالمراحل الثلاثة الآتية: المرحلة الفيتيشية، فمرحلة الديانة المتعددة الآلهة، ثم ديانة التوحيد. وفي الوقت ذاته ينتقد تلك النظريات التي تزعم بأنها علمية وتدعي وجود مرحلة سابقة عن الفيتيشية. ومن جملة هذه النظريات تلك التي تعتقد أن الشعوب البدائية تغيب لديها كليا الممارسة النظرية، وبالتالي فهي غارقة في الحياة الحسية والمادية. وهذا ما يرفضه كونت لأنه يستحيل تجريد الإنسان من الممارسة النظرية أيا يكن مستوى تطوره، ولا يمكن أن يوجد هنالك إنسان يحيا حياة مادية صرفة، فالإنسان يظل محتفظا بالملكات الذهنية حتى في الحالات التي يعاني فيها من التخلف العقلي أو بعض الاضطرابات العقلية[4].
ويرد أوكست كونت على أولئك الذين لا يعتقدون في وجود حالة دينية بدائية ممثلة في الفيتيشية، ويرجع سبب ذلك الاعتقاد إلى وجود صعوبات منهجية وتحليلية، بحيث يصعب ملاحظة الوجود المادي للحالة الفيتيشية، نظرا لغياب مؤسسة أو تنظيم محكم. فالممارسة الدينية لا تظهر داخل المجتمع إلا عندما تصل إلى مرحلة من النضج والاكتمال. وهذا لا يكون ممكنا إلا عندما تنتقل الأديان إلى مرحلة تتميز بالاعتقاد في وجود كائنات مفارقة، كما هو الحال بالنسبة إلى الديانات المبنية على فكرة تعدد الآلهة. هنا يمكن فعليا ملاحظة الوجود المادي لهذه الأديان. أما إدراك وجود الحالة الفيتيشية فهو ما لا يمكن ملاحظته إلا من قبل أولئك الباحثين المتشبثين بالمنهج الوضعي[5]. ويمكن أيضا أن نضيف أن الطابع البدائي لهذه الحالة يجعلها مختلفة تماما لتصورنا للدين كما نعرفه في مجتمعاتنا المعاصرة. ولذلك ينبغي الابتعاد كليا عن الإسقاطات التي ستفقد هذه الحالة خصوصياتها.
وكما أن الفيتيشية هي أصل الأديان، فهي أيضا أصل الفلسفة اللاهوتية، وهي فلسفة تتأسس في جوهرها على الفيتيشية الخالصة، التي تؤله تلقائيا كل جسم وكل ظاهرة من شأنها أن تؤثر في الإنسان في بداية حياته ، وقد ميز كونت بين الفيتيشية البدائية والفيتيشية الميتافيزيقية، التي لازالت حاضرة في الفلسفة الحديثة. وذلك في إشارة إلى فكرة وحدة الوجودpantheisme · المنتشرة في الفلسفة الألمانية المعاصرة له، والتي لا تعدو أن تكون بالنسبة إليه مجرد فيتيشية جديدة في ثوب فلسفي. والفرق الموجود في اعتقاد أوكست كونت بين الفيتيشية الميتافيزيقية والفيتيشية الأصلية تكمن في أن هذه الأخيرة ترتبط بموضوعات حسية، فيما ترتبط الأولى بموضوعات مجردة ومفارقة للمادة. وربما يكون هذا التصور للفيتشية هنا قريبا من النزعة الايحيائية التي لازالت تطبع بعض الديانات التي تؤله كل الأشياء معتقدة أن بها أرواحا وحياة خاصة بها.
فالفيتيشية عوض أن نعتبرها عبارة عن تحريف للدين فهي في الحقيقة أصل كل الأديان. بل إنها توجد كذلك في صميم التفكير الميتافيزيقي أيضا. وهذه الفيتيشية التي يطلق عليها كونت بالبدائية وكذلك بالتلقائية، هي التي ستشكل الأساس الكوني لكل تأويل ديني، كما أنها ستمكن الذات من ذلك الخيال الذي يسمح لها بأن تعمم تأويلاتها الخاصة على كل الظواهر المحيطة بها[6]. إن تأثير الفيتيشية أو بقايا الحالة الفيتيشية من هذا المنظور لا يمكن حصره فقط الدين، بل يتعدى ذلك إلى الأنماط الأخرى للتفكير خاصة التفكير الميتافيزيقي.
كما يعتقد أوكست كونت أن دراسة الحالة البدائية للممارسة الدينية، وما اعتراها من تطورات لاحقة ينبغي أن تكون موضوعا للدراسة السوسيولوجية، لكونها حالة لازالت مجهولة حتى الآن، ونحن لا نملك بشأنها المعلومات الكافية. علما أنها تمثل الحالة الدينية الأكثر تأثيرا في كل مراحل تطور البشرية. “فهي على المستوى الفردي بمثابة الحالة الأكثر تأثيرا من الناحية الدينية على النظام الذهني لدى الإنسان وذلك عبر كل مراحل تطوره”[7]. كما لعبت دورا بارزا في التطور العام للبشرية. وتمدنا الفيتيشية بجملة من الأفكار من شأنها فهم طبيعة الممارسة الدينية وحقيقتها: فهي الأصل في تفسير نشأة الآلهة، ومنها اشتق المبدأ الأساس الذي قامت عليه الديانات المتعددة الآلهة. ذلك أن كل الآلهة انحدرت من فيتيشات مادية. إن الظهور الأول للفكر الديني ينبغي بالضرورة أن يمنح الحياة مباشرة لكل جسم مادي يوجد في العالم الخارجي، وذلك قبل أن يعوض هذه الحياة المباشرة بتأثيرات مطابقة، لها وجود خيالي صرف. وهذا هو التحول الأهم على الإطلاق في تاريخ الأديان حسب كونت. و”هو التحول الأهم والأكبر للفكر الديني لأنه لم يحصل قط ما يضاهيه”[8]. يمثل إذن التحول الذي حصل بعد الخروج من الحالة الفيتيشة أكبر تحول حصل على مستوى التفكير. إنه تحول جعل الإنسان يتخلص من المحسوس لفائدة المجرد الذي سيعتبر من الناحية الفكرية أهم تطور عند الكائن البشري حيث سيفتح له مجالات هائلة على مستوى التفكير. إنها إذن أهم ثورة في تاريخ البشرية. لكن للأسف ثورة لا يمكن للبحث السوسيولوجي أن يخضعها للبحث لأنها حصلت في مراحل مبكرة في حياة البشرية، لم نعد نملك بشأنها أية معطيات حقيقية. وإن كان هنالك بعض بقايا الحالة الفيتيشية كما سبق أن أشرنا والتي تؤشر إلى أن هنالك بكل تأكيد حالة سابقة للفكر اللاهوتي هي الحالة الفيتيشية.
وحتى يؤكد كونت مرة أخرى على أسبقية الحالة الفيتيشية بالنسبة إلى الديانات المتعددة الآلهة، يقدم كونت تفسيرين يتضمنان معطيات مادية، هما:
الأول: أن الديانات المتعددة الآلهة قد حافظت في تطورها على الآثار المتنوعة والجد واضحة للفيتيشية الأولية.
الثاني : أن الإغريق في اعتقاداتهم الدينية كانوا يعتبرون أن الآلهة قد انحدرت جميعها في البداية من المحيط والأرض، وهذا ما يشير إلى أن هذين الأخيرين بمثابة الفيتيشيين الأصليين. واضح إذن أن كونت من خلال اعتماده هنا على هذه الأدلة التي يعتبرها مادية يريد أن يبين أن وجود الحالة الفيتيشية تدعمها أيضا الوقائع الموضوعية وليس فحسب الأدلة النظرية التي سبق وأن أوردها. وذلك في اعتقادي وفاء منه لمنهجه الوضعي الذي يمنح للوقائع المادية مكانة معتبرة في التحليل.
ونجد كونت يورد اعتبارا آخر ذو طبيعة سيكولوجية ليؤكد من خلاله موقفه الذي يعتبر الحالة الفيتيشية الحالة الأصلية والبدائية للفكر اللاهوتي، حيث يرى أن هنالك مماثلة حميمة بين الإنسان والعالم هي التي تفسر ذلك التعلق الشديد الذي يربط الإنسان بالفيتيشية.[9] وأن ما يميز الفيتيشية هو كثرة الآلهة وتعددها، وهو يرجع أصل هذا التعدد في الآلهة إلى اعتبار شخصي، يتمثل في الطبيعة الذاتية والحسية للفيتيشية، التي تتخذ من الموضوعات الملاحظة بصورة تلقائية مادة ذات طابع سحري. وعليه فإنما يميز الفيتيشية هي تلك العلاقة الوثيقة والعضوية بين الإحساس والموضوع، لدرجة يستحيل معها قيام أي شكل من أشكال التجريد[10]. وسيؤدي التطور الذي أصاب الفكر البشري بعدما أصبح التجريد مهيمنا، إلى التقليص من قوة الفيتيشية. هذه إذن هي الأدلة التي يسوقها كونت للدفاع عن أطروحته بأن الفيتيشية هي الحالة البدائية والأصلية للحالة اللاهوتية.
2-كونت والرد على النظريات الفلسفية المعاصرة له حول أصل الدين.
إن الفيتيشية هي إذن الأصل والمبدأ حسب كونت، وفي هذا السياق ودعما لموقف كونت ينفي كونكليم أطروحة هويي·Huet في كتابه ديمونستراسيو ايفانجليكو Demonstratio Evangelica الذي يعتقد فيه أن الإنسانية بدأت بديانة التوحيد. وقد صدر هذا الكتاب سنة1697 [11].
والى جانب هذه النظرية توجد هنالك نظرية أخرى ظهرت في القرن الثامن عشر تذهب إلى الاعتقاد بأن هناك شعبا منسيا تم تدميره، قد نور كل الشعوب القديمة. وأن العلوم التي ظهرت عند الكلدانيين والصينيين القدامى، وكذلك في الهند القديمة، إنما هي بقايا تلك العلوم التي وضعها ذلك الشعب القديم المنسي. وصاحب هذه الفكرة هو بايلي، في كتابه: تاريخ علم الفلك القديم. إلا أن فكرة كونت تتناقض مع هذه الفرضية كليا، لأنها تقر بأن الحالة الفيتيشية هي الحالة الأولى للفكر البشري، ولا يمكن بأي حال افتراض وجود مرحلة وضعية أو علمية سابقة[12].
وإذا كان هنالك شك بحسب كونكيليم في أن كونت قد قرأ كتاب بايلي·Bailly: Histoire de l’astronomie ancienne فإنه بكل تأكيد قد اطلع على كتاب بوفونBuffon·: مراحل الطبيعة Les epoques de la nature الذي صدر سنه ،1778 والذي يتبنى بدوره فكرة مشابهة. فهو يعتقد بأنه قد ظهر من بين الشعوب الأولى المرعوبة بسبب الكوارث الأرضية شعب حيوي فوق أرض مختارة في آسيا الوسطى، شعب مسالم وعارف، يملك معارف في الفلك، وأن تلك المعارف الموجودة عند الكلدانيين ليست سوى بقايا منها[13].
ورغم تأكيد كونت على أن الفيتيشية هي الحالة الأولية للفكر البشري، فهو مع ذلك يرفض أن تكون بمثابة ديانة طبيعية. لأن الديانة تقتضي أن تكون ذات طبيعة ماورائية. وهذا ما يتناقض مع تفكير كونت الذي كان ضد اللاهوت. فالدين يظل في كل الأحوال تشويها لمقولات العقل ومبادئه، ومن ثم فكونت من منظور كونكليم يختلف عن كل من فولتير وهربرت دي شيربري Herbert of Chirbury ·، اللذان كانا يعتبران أن الدين هو بمثابة قراءة أو تأويل للنظام بواسطة العقل البدائي.
كما يرفض كونت موقف فونتنيل الذي يعتقد أن الديانة المتعددة الآلهة هي الشكل الطبيعي للدين[14].ويعتقد فونتنيل·FONTENELLE أن الجهل هو الذي يولد هذه التفسيرات التي تنتج عن المماثلة والتي نجدها لدى كل الشعوب، وتتمثل في تلك الرغبة الأكيدة للكشف عن علل الأشياء من خلال تلك الأساطير التي ظهرت عندها. وبذلك يتم تخيل هذه التفسيرات وفقا لمبدأ المماثلة مع الطرق التي تتم بها التجربة التقنية العادية، في حين يعتقد كونت خلاف ذلك. فهو يعتبر الفيتيشية رد فعل الإنسان العادي تجاه ما يقدمه له العالم الخارجي من موضوعات غريبة، والتجربة التي يعنيها كونت ليست التجربة البراكماتية، وإنما التجربة العاطفية، فهي ليست التقنية وإنما الرغبة[15].
كما يعتقد كونكليم كذلك أن كونت سيكتشف الفكرة الأساس التي سينطلق منها، عند آدم سميثadam smith·(تاريخ علم الفلك )1749 على نحو مباشر وعند هيوم(التاريخ الطبيعي للدين) على نحو غير مباشر. ويعترف كونت في مرات عديدة بأن سميث هو الذي أخذ عنه تلك الفكرة القائلة بأن الديانة البدائية لا تملك لا الصلاحية ولا الشرعية على مجموع التجربة البشرية. ويؤكد على أن تاريخ البشرية لا يمكن اختزاله في أصل واحد، أي الديانة البدائية؛ بل هنالك أصل آخر هو الفلسفة الوضعية التي كانت لها مرحلة بدائية، ولم تستطع التطور إلا في مرحلة لاحقة من تاريخ البشرية[16].
ففي نظر سميث فالدهشة هي أصل التفكير العلمي، وليس الرغبة في الكشف عن تلك العلاقات الخفية القائمة بين الظواهر الطبيعية. خاصة تلك الدهشة المتولدة عن التناقضات والقطائع التي تبرز من خلال الوقائع والظواهر الطبيعية. ويوضح سميث ذلك من خلال نص واضح يشير فيه، بأنه فقط الاختلالات والقطائع هي التي يمكن أن تسند إلى قوة غيبية أو الآلهة بالنسبة إلى الإنسان البدائي، أما تلك التي تتم وفق نظام وتتسم بالتواتر والاعتيادية فهي لا تثير فينا الدهشة ولا تستدعي لتفسيرها أي تدخل لأي قوة خارجية. ويكتب أدم سميث قائلا بأنه يمكن أن نلاحظ بأنه في جميع الديانات المتعددة الآلهة سواء عند المتوحشين أو في الأزمنة الأولى للعصر القديم الوثني، فإن الأحداث غير المنتظمة للطبيعة هي الوحيدة التي يسندونها إلى فعل وإلى قوى آلهتهم. فالنار تحرق والماء يبرد؛والأجسام الثقيلة تهبط والجواهر الخفيفة جدا تتطاير وتتصاعد وذلك بفعل الضرورة المرتبطة بطبيعتها الخاصة ولم تستعمل اليد الخفية مطلقا لجوبيتر لتحقيق مثل هذه الأفعال أبدا. لكن الرعد والبرق، والسماء الصافية والعاصفة تنسب إلى رحمته أو غضبه. فالإنسان يعتبر هذه القوة الغيبية التي تملك العزم والتصميم والمعروفة بأنها مصدر هذه الآراء لا تتحرك أبدا إلا لوقف أو تغيير المسار الذي تتخذه الأحداث الطبيعية[17].
ليست هنالك إذن رغبة لدى الإنسان لأن يخلق طبيعة خارقة إلا في حدود تلك التناقضات التي تبدو له مناقضة للطبيعة. ويؤكد أدم سميث على دور الدهشة في ظهور الفلسفة قائلا: ” إنها إذن الدهشة وليس انتظار أي امتياز مرتبط بالاكتشافات الجديدة، هي التي تعتبر المبدأ الأول لدراسة الفلسفة، هذا العلم الذي يتوخى إبراز العلاقات الخفية التي توحد المظاهر الجد مختلفة للطبيعة”[18].
تلتقي إذن أطروحة دي بروس مع أطروحة كل من هيوم وسميث التي تؤكد على أن اتساق الطبيعة الإنسانية هي مصدر الدين، وليس الطبيعة الخارجية كما يذهب إلى ذلك فونتنيل. كما يعتبر دي بروس الفيتيشية طقسا مباشرا وليس رمزيا نتج عن فساد لحق ديانة خاصة أو عقلية الإنسان من خلال الشعوذة. وحتى يمكن فهم حقيقة الفيتيشية ينبغي استبعاد ذلك التماهي بين الإنسان المتوحش والإنسان المتحضر الذي يقودنا إلى الاعتقاد بأن الإنسان وحده استطاع أن يتوصل من تلقاء ذاته إلى أسئلة جد عميقة بشأن الطبيعة وما وراء الطبيعة، فالإنسان البدائي ليس مسكونا بهاجس البحث عن العلة الأولى بقدر ما تثيره وتدهشة هذه الوقائع المروعة والمؤذية له أحيانا والتي تبدو له وكأنها معجزة[19].
ويعتبر دي بروس المؤلف الأول الذي حاول قبل كونت البرهنة على بدائية الحالة الفيتيشية وأسبقيتها المنطقية على الديانة المتعددة الآلهة وعلى ديانة وعلى ديانة التوحيد. كما كان مثل كونت مناهضا لتفسير الديانات البدائية من خلال الرمزية أو الاستعارة[20].
وإذا كانت الحجة تنقصنا كما يقول كونكيليم بأن كونت قد قرأ دي بروس، فإنه لا يمكن تجاهله. ويؤكد كونكيليم أن كونت ومن خلال قراءاته المتكررة لكتاب شارل جورج لوروا الرسائل المتأخرة حول الإنسان Lettres postumes sur l hommeوالذي أضيف إليه عند إعادة طبعه كتاب: الرسائل الفلسفية حول الذكاء والكمال عند الحيوانات Lettres philosophiques sur l’intelligence et la perfectibilite des animaux ، قد وجد فيه أطروحات عديدة لدي بروس.
وقد تعرضت نظرية كونت بخصوص الفيتيشية إلى انتقاد شديد من قبل ماكس ميلر·max muller معتبرا إياها بمثابة نظرية تافهة، ولا يمكن اعتبارها بمثابة الشكل البدائي للدين. فالفيتيشية إنما هي فساد. وتاريخ الأديان في اعتقاده يدحض أطروحة كونت[21]. ويرد كونكيليم على هذا الموقف النابع من سوء فهم لفلسفة كونت. والذي لم يكن يرى في مفهوم الفيتيشية أي أهمية. فالذي يهم كونت حسب كونكليم هو ذلك التركيب بين تاريخ الأديان بما في ذلك المعطيات الإثنوغرافية، مع تاريخ العلوم؛ بحيث تصبح الطبيعة الإنسانية وتاريخ الإنسانية متجانسين في ما بينهما[22].
ويلاحظ كونكيليم أن هنالك اختلافا بين فلسفة الأنوار والفلسفة الوضعية بشأن التقدم، بحيث يرى كونت أن الإيمان بالتقدم لا يعني بالضرورة التقليل من قيمة الماضي، وذلك خلافا للأسطورة العقلانية التي لا ترى أي قيمة فيما يتعلق بالماضي. فليس العيب أن تكون الفيتيشية حالة ناقصة بالنسبة للتفكير البشري، فهذا لا يستدعي إدانتها أو إنكارها. وقد سعى كونت إلى أن يخلق نوعا من التعاطف تجاه الفيتيشية. وينتهي كونت إلى أن الفارق بين فلسفة الأنوار والفلسفة الوضعية، هي أن الأولى سعت إلى تفسير الديانة البدائية، في ما حاولت الثانية فهمها. وفي الختام يؤكد كونكيليم أن النظرية الفيتيشية هي القطعة الضرورية لتصور بيولوجي للتاريخ رغم تكوين كونت الرياضي[23].
الفصل الثاني: خصائص الحالة الفيتيشية وعلاقتها بأنماط التفكير الأخرى.
1- طبيعة الفيتيشية وخصائصها:
يعتقد كونت أنه غالبا ما يكون الاهتمام بالجانب السياسي والاجتماعي للأديان كبيرا، في حين لا يجد الاهتمام بمضمونها أية عناية. وهذا ما يجعل في الغالب الاهتمام بالكشف عن حقيقة الفيتيشية وخصائصها أمرا مغيبا. والواقع أن الجانب السياسي إنما هو مجرد نتيجة للممارسة الفيتيشية، وعليه فينبغي أن لا يصرفنا عن الاهتمام بمحتوى هذه الممارسة وطبيعتها. ويقر أوكست كونت بأن الفيتيشية تعتبر أغنى المراحل وأكثرها غزارة بالنسبة إلى المرحلة الدينية عموما. ولكن ومع تطور الأديان ستتراجع بالتدريج هذه القدرة الخلاقة التي تميز الفيتيشية بفعل التجريد وقوة التأمل. وهذا أمر طبيعي جدا لأن التحول من حالة الفيتشية سيعطل تلك القدرات التي ستصبح لاحقا غريبة ومنافية للفكر والعقل. فالاعتقاد مثلا بأن كل الموجودات لها حياة خاصة بها وأنها أرواح سيجعلنا بالتأكيد نعيش واقعا أخر غير الواقع الذي ندركه الآن. ولهذا يمكن القول بأن التحول الجوهري من الفيتيشية إلى الديانة المتعددة الآلهة يكمن في أن الأولى تؤمن بالمادة الفاعلة لدرجة تصبح بالفعل فيها حية ، في حين أن الديانة المتعددة الآلهة تحيل المادة إلى جسم جامد خاضع على نحو سلبي للإرادة الإعتباطية للآلهة. وهذا التحول يعتبر بمثابة طفرة حقيقية. وهنا يكمن ذلك التحول من نظام ديني إلى آخر، نشأ عنه حدوث تلك الطفرة الحقيقية التي تتمثل في ذلك الانتقال المفاجئ من النشاط إلى الجمود بالنسبة للمادة، والذي يعكسه الانتقال من الفيتيشية إلى الديانات المتعددة الآلهة[24].
إن ما يميز الديانة المتعددة الآلهة هو كونها تعتقد في آلهة لها خاصية العمومية والتجريد، وليس لها إقامة محددة. وهي تحكم مجموعة من الظواهر على العكس من الفيتيش الذي يرتبط بموضوع واحد لا ينفصل عليه. ويتم الانتقال من الفيتيشات إلى الآلهة من خلال الدمج بين الفيتيشات المتطابقة، واختزالها في ما هو جوهري في ما بينها، ثم اعتبار ذلك فاعلا مثاليا غير مرئي، ليست له إقامة محددة. وقد حصل هذا التحول لاستحالة وجود فيتيشات مشتركة بين مجموعة من الأجسام، لأن ذلك يتناقض وطبيعة الفيتيش ذاته، وهذا ما سيفرض ضرورة وجود الآلهة المجردة. وقد أدت تلك التعميمات لمختلف الملاحظات الحسية لدى الإنسان، وذلك انطلاقا مما ينتج عنها من مماثلة على مستوى التصورات اللاهوتية، إلى ذلك التحول الحتمي للفيتيشية، حيث نتج عنه نوع بسيط من الديانة المتعددة الآلهة. ويبرز كونت وجود اختلافات جوهرية بين الفيتيشات الخالصة من جهة، وبين الآلهة من جهة أخرى، حيث أن الآلهة تتميز بجملة من الخصائص التي تفتقر إليها الفيتيشيات منها: العمومية والتجريد وعدم وجود إقامة محددة. وتحدد الآلهة لكل مجموعة من الظواهر نظاما خاصا يشمل عددا كبيرا من الأجسام، في حين لا يحكم الفيتيش سوى موضوعا واحدا لا ينفصل عنه. وهذا الانتقال من الفيتيش إلى الإله سيحصل، عندما تم الإعتراف بذلك التشابه الأساسي لبعض الظواهر عند مختلف الموجودات، مما سيؤدي إلى التقريب بين الفيتيشات المتطابقة واختزالها في النهاية في ما هو جوهري فيما بينها، ليتم إعلاؤه إلى مصاف الآلهة، هذا الإله الذي سيصبح بمثابة الفاعل المثالي، ويكون عادة غير مرئي، ولا تكون له إقامة ثابتة على نحو صارم. ومن المستحيل وجود فيتيشات تكون مشتركة بين مجموعة من الأجسام، لأن ذلك سيتناقض مع طبيعتها. فعلى سبيل المثال: ستؤدي التمثلات بشأن الظواهر المشتركة لمختلف الأشجار إلى ظهور فكرة إله الغابة، بعد أن كانت الشجرة المفردة عبارة عن فيتيش، وهنا يخلص كونت إلى أن الإنتقال من المرحلة الفيتيشية إلى مرحلة الديانة المتعددة الآلهة، سيتم اختزاله في هيمنة الأفكار المنفصلة عن الموجودات على حساب الأفكار المندمجة معها، وهذا يعني أن هنالك تطورا أساسيا سيتم على مستوى استعمال اللغة، بحيث أضحت الكلمات تستقل أكثر فأكثر عن الأشياء، مما حذا إلى ظهور الحقائق المجردة. وقد حصل هذا الاختزال إن على المستوى الشخصي أو الإجتماعي[25]. ويظهر هنا أن هنالك ارتباطا عضويا بين الفكر والمادة يتمثل في كون الفيتشية تنساق دائما إلى تفسير الظواهر من منطلق إحيائي، وهذا هو سر التفكير الفيتيشي[26]. يبدو هنا واضحا أن الانتقال من حالة الفيتيشية خضع لآليات فكرية واضحة ومحكمة كان أبرزها آليتي التعميم والتجريد والتي مكنتا من التخلص كليا من الفيتيش وتحكم ما هو حسي ومباشر.
إن هذا الانتقال إذن من الفيتيشية إلى الألوهية قد تم من خلال الإحتفاظ بالطبيعة الإلهية الخالصة للفلسفة البدائية على نحو أساسي، لأن الظواهر ظلت تحكمها الإرادات وليس القوانين، ولكن سيتم تغييرها على نحو عميق، بحيث لا يعود الجسم في حد ذاته حيا وإنما جامدا، وسيحصل على كل قوته انطلاقا من موجود خيالي خارجي، وهكذا إذن فإن الفكرة الأصلية، سيتم تطويرها بشكل عميق وعلى نحو ملموس. ظلت إذن الإرادة الخارجية حاضرة بقوة في الحالة الجديدة التي أعقبت الحالة الفيتشية إلا أنها أصبحت ومنذ الآن إرادة مجردة غيبية وهذا أيضا تحول مهم وأساسي.
ويؤكد كونت على أن تعودنا على اللاهوت ذي الطابع الميتافيزيقي، هو الذي يجعل من الصعب إدراك الأصول الأولى للدين، ولهذا يتم الخلط بين الفيتيشية والديانات المتعددة الآلهة، ولفهم حقيقية الفيتيشية ينبغي العودة إلى الثمتلات الأولى التي تتكون عند الإنسان في طفولته. والتي لا يمكن للفلاسفة إدراك حقيقتها إلا إذا تخلصوا فعلا من الأفكار العمياء. فحتى العقول العظيمة، في اعتقاد كونت، ليست في مأمن من الوقوع في الخطأ. وذلك نظرا للعادة والتربية. وكيفما كان المستوى الفكري للإنسان، فعليه دائما مراقبة تفكيره، حتى لا ينجر إلى الفيتيشية من خلال أنسنة الطبيعة، وتأليه الأشياء التي قد يرتبط بها وجدانيا. ففي الحالات التي تسيطر فيها الانفعالات، مثل: مواقف الرهبة أو الأمل، يمكن أن يقع الإنسان، بما في ذلك العقول الأكثر استنارة، ضحية الفيتيشية الأصلية[27]. هناك إذن سبب موضوعي هو العادة التي لا يمكن تخطيها في هذه الحالة سيما وأن الإشكالية التي نحن بصددها لا يمكن إعادة إنتاجها من جديد.
ويبين كونت أن الإنسان ليس وحده الذي يتميز بالفيتيشية، بل إن الحيوانات المتطورة بدورها يمكن أن تكون لديها بعض الممارسات الفيتيشية المرتبطة أساسا بمستواها الإدراكي، إلا أنه يصعب على الإنسان العودة بتفكيره إلى البدايات الأولى من تطوره، حتى يقف على تلك التمثلات التي يمكن أن تكون شبيهة بالتي توجد عند الحيوانات المتطورة. وفي هذا السياق يعقد أوكست كونت مماثلة بين الطفل الصغير والقرد في تمثلهما لعقارب الساعة، بحيث ستولد لديهما حركة العقارب نفس الانطباع بوجود حياة داخل هذا الجسم، وهو ما سيدرك الطفل لاحقا خطأه، أما الحيوان فسيظل على نفس الإدراك[28]. إن هذه المسافة التاريخية الكبرى التي تفصلنا عن الحالة الفيتيشية إضافة إلى المسافة الفكرية هي التي أوحت بعقد هذه المقارنة بين الإنسان والحيوان من خلال المثال الذي أورده كونت حتى يقرب لنا ماذا تمثل الفيتيشية بالنسبة إلى الإنسان في وضعه التاريخي الراهن.
إن الفيتيشية باعتبارها الديانة التلقائية والديانة البدائية عند كونت، فإن التصورات الساذجة والبسيطة التي تحكم هذه الحالة هي التي ستدفع الانسان إلى تقديس الحيوانات متى ظهرت هنالك علامات غريبة عند هذه الأخيرة، كأن تظهر لديها مثلا، قدرات تتجاوز تلك التي يملكها الإنسان مثل: القدرة على الإحساس ببعض الأشياء أو بالتقلبات الطبيعية، والتي لا يستطيع الإنسان إدراكها أو الإحساس بها[29]. بل ويرى فيها قدرات خارقة تضع هذا الحيوان في موقع أقوى من الإنسان.
فالفيتيشية حسب كونت قد تمكنت بفضل اللغة أن تلعب دروا كبيرا في الحفاظ على حضورها وترسيخه في التفكير وان تضمن لها نوعا من البقاء والاستمرار، رغم أنها من الممارسات والاعتقادات الضاربة في القدم[30]. واستمرارها من خلال أنسنة الطبيعة سيتخذ صورة استيعارية بعد أن استطاع الإنسان الانتقال إلى مرحلة متقدمة في التفكير، وهكذا ظل يستعمل جملة من التعابير التي لازالت تحمل معان فيتيشية بغزارة وإن كان قد تخلى عن دلالتها الحرفية[31].
هنالك إذن جملة من الخصائص المميزة لهذه الحالة أبرزها اعتبار كل الموجودات عبارة عن كائنات حية لها قدرة وإرادة خاصة بها، فضلا على أن كل موجود يشكل حالة خاصة مستقلة تماما عن باقي عن الموضوعات الأخرى، وأن علاقة الإنسان بهذه الموضوعات يحكمها الانفعال الوجدان وليست خاضعة للعقل أو التفكير وتمثل بذلك الحالة الطفولية للإنسان.
2- عبادة النجوم بوصفها المرحلة القصوى والكمال بالنسبة إلى الفيتيشية:
تعتبر عبادة النجوم لحظة هامة وحاسمة في التطور الديني الاجتماعي والسياسي لدى الشعوب القديمة. ويؤكد كونت على أن هذه المرحلة هي بمثابة الكمال الخاص بالنسبة إلى الفيتيشية. ففي هذه المرحلة بالذات ستأخذ الطبقة الكهنوتية في التشكل بفعل تأثير عبادة النجوم. وهنا يخلص أوكست كونت إلى أنه – ومن خلال ما هو متوفر من ملاحظات حول المرحلة الفيتيشية- لا يوجد هنالك أي تطابق بين هذه المرحلة وتشكل طبقة الكهنوت. ويرجع كونت العلاقة بين ظهور طبقة الكهنوت وعبادة النجوم إلى كون هذه الأخيرة تتميز بخاصية العمومية على نحو واضح، الشيء الذي يجعل منها قابلة لأن تصبح فيتيشات مشتركة حقيقية عند تلك الشعوب المنتشرة في مجالات واسعة. وهناك سبب آخر يستدعي وجود طبقة كهنوتية، في هذه المرحلة، يتمثل في صعوبة إدراك حقيقة هذه الموضوعات المعقدة والبعيدة عن الفهم والتي هي بمثابة المعتقد، وهذا ما سيفرض وجود مثل هؤلاء الوسطاء(طبقة الكهنوت). هناك إذن عاملان رئيسيان وراء ظهور هذه الطبقة هما العمومية الكبرى وصعوبة الإدراك، وهما العاملان الحاسمان، اللذان سيجعلان من عبادة النجوم ممارسة تستدعي وجود شكل منظم للطقوس على درجة كبيرة من الدقة، بالإضافة إلى وجود طبقة كهنوتية متميزة. وهي العوامل ذاتها التي ستساهم في التطور السياسي لهذه الممارسة.
ويلاحظ هنا أن أوكست كونت يدافع على عبادة النجوم، بوصفها تمثل مرحلة حاسمة في التطور الاجتماعي للإنسان، وذلك خلافا لما يذهب إليه مجموعة من الباحثين باعتبارها رمزا للتخلف والانحطاط. ومع ذلك يؤاخذ كونت على هذه المرحلة، كونها دامت لفترة طويلة، مما سيعطل تطوير التجربة السياسية والفكرية لدى الشعوب القديمة[32]. وستتمكن عقيدة عبادة النجوم وبعد مرحلة مهمة من الزمن أن تهيمن على جميع الفروع الأخرى للفيتيشية، بحيث ستطبعها بتلك الخصائص الأساسية المميزة لعبادة النجوم[33]. وعندما ستصل الفيتيشية إلى مرحلة عبادة النجوم، سيصبح لها وضع متميز وثابت، وهو ما سيعتبر بمثابة الكمال بالنسبة إليها. وكان لابد من توفر سلسلة طويلة من التحولات على مستوى التفكير والتصور حتى يتمكن الإنسان في النهاية من إحداث تغيير جوهري يفضي به إلى وضع النجوم على قمة الأجسام الطبيعية. وهذا لن يتحقق إلا عندما ستصل الفلسفة اللاهوتية إلى درجة متطورة من الكمال، مما سيمكن عبادة النجوم من أن تلعب في ما بعد دورا حاسما، إن على مستوى التنظيم السياسي أو على مستوى تعميمها وانتشارها. وهنا يتبين أن الفيتيشية لم تكن في بدايتها ذات محتوى اجتماعي أو أخلاقي رغم انتشارها الواسع، وإنما سيظهر ذلك لاحقا .
ويعتقد كونت أنه من الممكن تحديد الفرع الأساسي للفيتيشية الذي من خلاله تمت عملية الانتقال إلى مرحلة الديانة المتعددة الآلهة. فقد بدأ ذلك التحول بالضرورة، انطلاقا من الظواهر الأكثر عمومية، والأكثر استقلالا، والتي يبدو التأثير بشأنها تلقائيا وأكثر كونية. وهو ما كان عليه وبدون شك، وعلى كل المستويات حال النجوم، حيث سيطبع وجودها المعزول والغير القابل للاختراق بخاصية مميزة، الجزء المطابق للفيتيشية الكونية ، وذلك حينما سيبدأ هذا الجزء بتثبيت الانتباه على نحو كاف و على نحو مركز تجاه الأجسام السماوية الأكثر اعتيادية. ويعتقد كونت أن الاختلاف العام والمتميز، بين مفهوم الفيتيش ومفهوم الإله، ينبغي أن يكون بالطبع أقل بكثير تجاه النجوم من أي موضوع آخر: وهذا ما سيجعل عبادة النجوم، قابلة لأن تفيد كواسطة بين الفيتيشية الأصلية، وبين ديانة تعدد الآلهة في صورتها الحقيقية. وبعبارة أخرى، فإن عبادة النجوم تعتبر الفرع الكبير الوحيد للفيتيشية، الذي بمقدوره الاندماج تلقائيا في الديانة المتعددة الآلهة، وذلك دون أن يفرض مباشرة أي تعديل جوهري. إن أي فيتيش سماوي وبفضل قوته وبعده الطبيعي، لا يمكنه أن يختلف عن الإله المطابق له إلا من خلال تفاصيل غير قابلة للإدراك تقريبا، خاصة في زمن الدقة لم تكن فيه موضع الاهتمام على الإطلاق. يكفي إذن حذف الطابع الفردي والمحسوس الذي يميز الفيتيشية، وأن لا يتم إخضاع هذه الآلهة المتكافئة لأي انتساب أو إقامة خاصة، وأن يتم ربط تصورها، وذلك بواسطة بعض المماثلات الحقيقية أو المرئية، إلى وظائف أخرى تكون أكثر أو أقل عمومية، لكي يحصل هنالك تحول جوهري في طبيعة التفكير الفيتيشي.
وطوال مدة هيمنة الديانة المتعددة الآلهة تقريبا، فقد ظلت النجوم ونتيجة لثبات مسارها فيتيشات حقيقية، بمعنى آلهة ذات طبيعة جسمية مباشرة، لا يمكن فصلها عن الموضوع المطابق لها، وذلك إلى أن أمكن احتواءها مثل الأخريات في ديانة التوحيد الكونية. وهكذا يخلص كونت إلى أنه يمكننا أن نتصور إذن على نحو دقيق كيف كانت عليه ديانة عبادة النجوم، والتي تشكل الحالة الجد المتقدمة للفيتيشية، والتي تسهل على نحو تلقائي انتقالها المحتوم إلى مرحلة الديانة المتعددة الآلهة[34].
3– الفيتيشية والتفكير العلمي:
يعتبر كونت أن كلا من الفيتيشية والديانات المتعددة الآلهة كلاهما متساو من حيث الابتعاد عن المرحلة الوضعية، التي تؤمن بخضوع الظواهر لقوانين ثابتة. وذلك في الوقت الذي يتم تعويض هذه القوانين، إما بإرادات تكون مقيمة في الأجسام ذاتها، أو في قوى ماورائية تسيطر عليها. وبقدر ما يفقد كل جسم مفرد خاصيته الأولى الإلهية أو الحية المباشرة، فإنه يصبح أكثر قابلية للإدراك من قبل التفكير العلمي الخالص.
فالفيتيشية تعتبر النقيض المباشر للمعرفة العلمية، لأنها تكرس نظرة وهمية خيالية للوقائع من جهة، وتقمع كل تحليل علمي من جهة أخرى. وقد لعبت الفيتيشية دورا خطيرا لأنها كانت دائما تحول دون قيام معرفة حقيقية. وبذلك شكلت المظهر الديني الأكثر تعارضا مع الفكر العلمي الصحيح، وكانت تواجه أبسط مظاهر هذا النوع من التفكير. وعليه فإن كل فكرة عن القوانين الطبيعية الثابتة ستبدو لا محالة وهمية، وستصبح إذا أمكن أن تبرز على نحو مستقل، مرفوضة باعتبارها مناقضة للحالة العادية، التي تربط مباشرة التفسير المفصل لكل ظاهرة بالإرادة الاعتباطية للفيتيش المقابل لها. إن التفكير العلمي سيعرف أيضا حالة من القمع من قبل الديانات المتعددة الآلهة، ولكن بصورة أقل مما كان عليه في المرحلة الفيتيشية. ويخلص كونت إلى أنه في هذه المرحلة الطفولية الأولى للعقل، فإن الوقائع الوهمية تنتصر دائما في النهاية على الوقائع الفعلية، وأنه لا توجد هنالك أي ظاهرة يمكن إدراكها إدراكا كاملا وسليما. ولهذا يعتبر كونت أن العقل البشري خلال مرحلة هيمنة الفيتيشية، وكذلك في المرحلة التي سيطرت فيها الديانات المتعددة الآلهة، كان في حالة من الانشغال الغامض تجاه العالم الخارجي، إذ لم ينتج خلال هذه المرحلة سوى ما يشبه حالة انفعالية، من قبيل الهلوسات الدائمة والمشتركة، وأنه من خلال الهيمنة المبالغ فيها للحياة الوجدانية على الحياة العقلية، فإن المعتقدات الأكثر عبثية، يمكنها أن تفسد تلك الملاحظة المباشرة للظاهرة الطبيعية[35].
إن مرحلة الفيتيشية تمثل إذن تلك الطفولة، حيث الغياب الكلي للمفاهيم، حتى البسيطة منها عن القوانين العلمية. وهذا ما يجعل الإنسان يتقبل كل الروايات أيا كانت طبيعتها، من دون أي اكثرات لغرابتها ومخالفتها للواقع. فالإنسان ينظر إلى الواقع من خلال جملة من الأوهام، التي تعبر عن حالة من الفيتيشية تجعله يقترب من مرتبة الحيوان[36]. إن الفلسفة الوضعية التي هي رفض للمطلق، وإيمان بالتطور، وضرورة الفهم حتى يتسنى إدراك الواقع على نحو موضوعي، هي مقموعة ومرفوضة في ظل سيادة الفكر اللاهوتي، والذي تعتبر الفيتيشية أبرز تجسيد له. فالفلسفة الوضعية كتجسيد للفكر العلمي العقلاني، تقوم على مبدأ أساس يتمثل في ضرورة فهم الأشياء حتى يكون بالإمكان ترتيبها، وهذا ما لا يمكن حصوله إلا انطلاقا من الاعتراف بأن قوانين الطبيعة هي قوانين ثابتة، وهي حقيقة توصل إليها العقل البشري بعد مسيرة طويلة من البحث والجهد. وعليه فإن الشعور بالثبات الصارم لقوانين الطبيعة لا يمكن أن يتطور، مادام التفكير اللاهوتي الخالص يحتفظ بتلك الهيمنة الكبرى على الفكر، في ظل سيطرة الفيتيشية التي تتميز بالطبع، بانتشار مباشر ومطلق للأفكار المرتبطة بالحياة، والتي تشمل كل الظواهر الخارجية[37]. وإذا كانت الفيتيشية قمعية تجاه الفكر العلمي، فهي، على العكس من ذلك، متساهلة بشأن تطور الفنون.[38] وهكذا فقد عرفت الفنون بدايتها الأولى في مرحلة الفيتيشية. وكل المحاولات الأولى للفنون الجميلة، ومن دون استثناء للشعر، تعود من دون شك إلى مرحلة الفيتيشية[39]. ويقر كونت بأنه لا يمكن تجاهل المساهمة الأساسية للعصر البدائي، خاصة في ظهور الفن وتطوره، إلا أنه وفي الوقت ذاته، فلا يمكن أن نقدر على نحو دقيق ذلك التأثير الحقيقي للفيتيشية على هذا النوع من التطور[40]. فرغم العوائق الكثيرة التي تضعها الفيتيشية أمام انطلاق الفكر البشري نحو آفاق رحبة، فهي، مع ذلك، تمنحنا ذلك الإحساس بالسيطرة على الطبيعة؛ وإن كان ذلك من خلال الأوهام.
ويشير كونت إلى أن هنالك، من دون شك، أثرا سلبيا لذلك التأثير الطويل للمرحلة الفيتيشية، التي شكلت عائقا حقيقيا وكبيرا غير قابل للتجاوز، إلا أنها مع ذلك كانت وراء ذلك الاكتشاف الثمين للإنسانية والمتمثل في الإيمان بالقدرة على السيطرة على الطبيعة؛ هذا الاكتشاف الذي كان خلف تلك الانطلاقة الأولى للنشاط البشري في تطويع الطبيعة، واستغلالها بما يخدم الأغراض الإنسانية، وإن كان ذلك يتم من خلال الأوهام. خاصة في مرحلة كان فيه مبدأ ثبات القوانين الطبيعية غير معترف به بعد[41]. وهكذا فإن السيطرة على الطبيعة بالنسبة إلى الفيتيشية سيكون من خلال الأوهام، وهذا ما سيشكل في حد ذاته عائقا كبيرا يجب تجاوزه. فالفيتيشية تقدم للإنسان على نحو جد مباشر، وأكثر اكتمالا، ذلك الأمل الساذج بسيطرة تقريبا غير محدودة؛ هذه السيطرة التي يمكن الحصول عليها عن طريق الدين إذا ما أخذ بجدية.
ويعتقد كونت أن الخطوة الأساسية التي ينبغي اتخاذها بالنسبة إلى هذه الأزمنة البدائية سواء في مجال الطبيعة أو الأخلاق، هي تخليص العقل البشري من البلادة الحيوانية[42]. فكل التعديلات التي عرفتها الأديان عبر التاريخ مرتبطة أساسا بالتفكير العلمي، وإن لم يكن ذلك على نحو صريح. فقابلية الفكر الإنساني لاستعمال التعميم والتجريد والمقارنة والتنبؤ، وهي كلها مبادئ ترتبط بالفكر العلمي، هي التي مكنت الإنسان من تجاوز الحالة الفيتيشية البدائية، وهذه الملكات ذاتها هي التي تميز الإنسان عن الحيوان. وهذه القدرات الذهنية المتميزة هي التي ستخرج الإنسان من مرحلة الفيتيشية إلى مرحلة الديانة المتعددة الآلهة، بل هي أساس كل التحولات الاجتماعية التي عرفتها البشرية عبر تاريخها. ويربط كونت كل التعديلات الكبرى للفكر الديني بالتطور المستمر للتفكير العلمي، رغم أن تدخله لم يكن مباشرا وصريحا في هذه المرحلة. فالفضل إذن يعود إلى تلك القابلية لدى الإنسان للمقارنة والتجريد والتعميم والتنبؤ، التي مكنته من الخروج من حالة الفيتيشية الفظة، وإلا فقد كان سيظل في مستوى الحيوانات. فالذكاء الإنساني يتميز بالقدرة على تقييم التشابهات بين الظواهر، والتعرف على التوالي الموجود فيها. إلا أن هذه القدرات كانت محدودة في البداية، وذلك لسببين، يتعلق أولهما بالنقص في التغذية؛ وثانيهما: في عدم وجود إرادة مناسبة. ولكن قوة هذه القدرات ستأخذ في التزايد منذ اليقظة الأولى للذهن، التي تولدت حسب اعتقاد كونت، عن الدافع الديني. ويخلص كونت إلى أن ذلك الانتقال من مرحلة الفيتيشية إلى مرحلة الديانة المتعددة الآلهة، هو نتيجة لذلك الميلاد الذي انطلق، والمتعلق بفكر الملاحظة والاستقراء.
ويؤكد أيضا كونت على أن هنالك خاصية أساسية ذات طبيعة فردية وحسية تميز كل اعتقاد فيتيشي، تتمثل في ذلك الارتباط الدائم بموضوع محدد ووحيد. وهذا ينسجم تماما مع مرحلة الطفولة الإنسانية التي تكون فيها دائما الملاحظات المضطربة للإنسان ذات طبيعة مادية. إلا أنه وفي مرحلة معينة سيظهر التفاوت الواضح بين الوقائع والمبادئ، مما سيفضي بالتالي إلى ضرورة التغيير الجذري لتلك الفلسفة الأصلية ممثلة في الفيتيشية، وهو ما يفسر ذلك الانتقال الذي يعتبره كونت بمثابة ثورة كبرى، من حالة الفيتيشية الأولى إلى الديانة المتعددة الآلهة.
ويعتبر كونت أن السبب وراء كل الثورات العلمية، والتي تحدث حتى يومنا هذا، إنما يعود إلى نفس الأسباب العقلية التي تنطلق من التلاؤم غير الكافي بين الوقائع والمبادئ. وهنا سيخلص في الأخير إلى أن القوانين المنطقية التي تحكم في النهاية العالم العقلي، هي بطبيعتها أساسا ثابتة ومشتركة، ليس فحسب بالنسبة إلى جميع الأزمنة والأمكنة، ولكن أيضا بالنسبة إلى جميع الموضوعات، أيا كانت؛ من دون تمييز، سواء بالنسبة لتلك التي نطلق عليها حقيقية أو وهمية[43] ومن هذا المنظور يتبين على أن الحالة الفيتيشية أو الحالة الدينية عموما لا يمكن أن تكون مناقضة للعقل بصورة كلية فمبادئ العقل يمكن أن نصادفها حتى في الخطاب الأسطوري وغيرها من الخطابات التي تبدو لاعقلانية وليس العقل حصرا على العلم وحده.
4-الفيتيشية والميتافيزيقا:
إذا كانت الحالة الميتافيزيقية حالة متطورة مقارنة مع الحالة اللاهوتية وعن جميع مراحلها، فهذا لا يعني الغياب الكلي للتفكير الميتافيزيقي في المرحلة اللاهوتية الذي يرجع إليه كونت الفضل في كل تلك التحولات الأساسية التي عرفها تطور الفكر البشري. وقد تمثل الحضور الميتافيزيقي خلال هذه المرحلة في جملة من العمليات، من أبرزها : عملية التعميم المتدرج، التي صاحبت ذلك التحول الحاصل من الفيتيشية إلى مرحلة تعدد الآلهة، ومن مرحلة تعدد الآلهة إلى مرحلة ديانات التوحيد. وتجسدت هذه العملية في ذلك النقص الذي تعرضت له عدد الكائنات الإلهية، وذلك على نحو مستمر، فيما أصبحت طبيعتها أكثر تجريدا، وسيطرتها الخاصة أكثر اتساعا. واضح إذن، أن كل إله مندمج على هذا النحو، سيعوض مجموعة من الفيتيشات، التي فقدت الآن أي دور، أو على الأقل اكتفت بوضع المرافق.
هناك إذن مساهمة مسبقة ضرورية للفكر الميتافيزيقي؛ لأن أي إله يعوض على نحو أكثر أو أقل عمومية واحدا أو عددا كبيرا من الفيتيشات الفردية، والتي يتم النظر إليها ومن الآن من خلال ما هو مشترك فيما بينها، وذلك من دون أن ينتقص هذا المصدر المجرد للوجود الإلهي، تلك الحياة الحقيقية والجد الواضحة التي كانت تميز الحالة الفيتيشية. لكن الانتقال إلى هذا الوضع الجديد يفترض عملية ميتافيزيقية واضحة، يمكن التعرف من خلالها على التجريدات المشخصنة التي تدمج بين وضعيتين وتعيد التأليف بينهما . فبخصوص أي موضوع كان، فإن الحالة الميتافيزيقية بالمعنى الحقيقي للكلمة، وباعتبارها وضعية انتقالية لتفكيرنا، هي دائما بالأساس متميزة بنوع من الغموض الجذري بين النظرة التجريدية والنظرة المحسوسة، والتي تستبدل أحدهما بالأخرى على نحو دوري، حتى تغير على التوالي التصورات اللاهوتية الخالصة، وذلك من خلال تحويل تلك الحقائق المحسوسة إلى حقائق مجردة، بفضل خاصية التعميم التي تمكننا من الانفلات من سيطرة المحسوس والمباشر والانطلاق إلى عالم أرحب هو عالم المجردات الذي سيصبح الآن موطنا لتلك الحقائق. وإلى جانب التعميم الذي يعود إليه الفضل حسب كونت في هذه العملية هنالك أيضا خاصية التركيز، فما كان الإنسان يبحث عنه في الأشياء الحسية المباشرة المتعددة والمختلفة يمكن أن يجده الآن في موضوع واحد.
ويؤكد كونت أنه إذا كانت كل التحولات الحقيقية التي يستشعرها الفكر اللاهوتي، هي في العمق محددة بالضرورة بالتطور المستمر للفكر العلمي، فإنها تحصل مع ذلك دائما، من خلال التدخل الحتمي والمباشر للفكر الميتافيزيقي، والذي من خلاله تحققت أولا تلك التراجعات المتدرجة للفكر اللاهوتي إلى أن بدأت الوضعية في التفوق على نحو لا يقبل التراجع عنه على الحالتين.(أي الحالة اللاهوتية والحالة الميتافيزيقية)
وقد كان للميتافيزيقا دور حاسم في ذلك الانتقال، أو الثورة كما يطلق عليها كونت، والتي ستساهم في كل التحولات المهمة التي شهدتها الحالة اللاهوتية. ويشير إلى أن التأثير والامتداد غير القابل للشك للميتافيزيقا في الانتقال الكلي من مرحلة الديانة المتعددة الآلهة إلى مرحلة ديانة التوحيد ما كان من الممكن أن يظهر على نحو واضح، إلا لكون هذه الثورة الدينية الكبرى الثانية هي جد معروفة لدينا الآن وأكثر قابلية للإدراك العقلي من سابقتها (في إشارة إلى الثورة التي مثلها الانتقال من الفيتيشية إلى الديانات المتعددة الآلهة، وهي التي يعني بها هنا، الثورة الدينية الأولى). في حين أن الانتقال من الفيتيشية إلى الديانة المتعددة الآلهة لم يكن واضحا،نظرا لغياب المصادر التاريخية ، إضافة إلى أن الفيتيشية هي بمثابة المرحلة اللاهوتية الخالصة. بمعنى أنها لا تعرف أي شكل من أشكال التفكير الميتافيزيقي أو العلمي.
إن انتقال الفيتيشات إلى الآلهة بمعناها الحقيقي، باعتبارها حقيقة إلهية، سيجعل بالضرورة كل جسم خاص يعتبر، وعلى خلاف للحياة الخاصة والمباشرة التي نسندها إليه، والتي تميز الفيتيش، خاصية مجردة تجعله قابلا لأن يتلقى على نحو غريب اندفاع العامل الخارق ، بحيث لن يسمح مقره الذي أصبح أكثر أو أقل امتدادا، من تصور الفعل بوصفه مباشرا على نحو عادي. واضح إذن أن استبدال الفيتيش بالإله المجرد سيضيف عنصرا جديدا للحقيقة الدينية هو أن التأثير الإلهي المجرد لا يمكن أن يكون ذو طبيعة مباشرة.
ويضيف كونت خاصيتين أخريتين تميزان التفكير الميتافيزيقي سيكون لهما أثر واضح في تطور بنية الحالة اللاهوتية وهما التنظيم والاختزال. وهذه الوظيفة المزدوجة والضرورية للاختزال والتنظيم المتزامنين اللذان يمارسهما التفكير الميتافيزيقي تتم على نحو متدرج تجاه الفلسفة اللاهوتية.
كما أن النمط العام لممارسة التفكير الميتافيزيقي هي بالأساس دوما نقدية، لأنها تحافظ على اللاهوت، في الوقت الذي تدمر فيه على نحو جذري تماسكه الذهني الأساسي: وأن تأثير هذا التفكير لا يمكن أن يبدو عضويا إلا عندما لا يكون مهيمنا على الإطلاق، وما دام يساهم في التحولات التدريجية للحالة اللاهوتية.
ويلاحظ كونت أنه ومنذ ظهور البشرية، كان هنالك صراع تلقائي ومستمر، وقد كان في البداية فكريا ثم أصبح سياسيا بين التفكير اللاهوتي والتفكير الميتافيزيقي، حيث أصبح هذا الصراع إلى اليوم مستمرا للأسف، لأن التطور الإعدادي الذي أنجز أساسا، يشكل المصدر الأول لاضطراباتنا الخاصة[44]. يتبين إذن أن إشكاليات التفكير اللاهوتي لا يمكن أن تكون دوما ذات طبيعة فكرية خالصة بل لها أبعاد سياسية اجتماعية أيضا، قد تتخذ في أحيان كثيرة مظهرا فكريا نظريا. وهذا ما سيوضحه كونت عندما سيكشف عن البعد الاجتماعي والسياسي للحالة الفيتيشية.
الفصل الثالث البعد الاجتماعي للحالة الفيتيشية
1-الطابع الاجتماعي والسياسي للفيتيشية:
إن الخلط بين المحتوى الفكري للمعتقد الديني من جهة وبين الأثر الإجتماعي الثقافي للدين، يجعل من الصعب تقييم الفكر الديني. لهذا يدعو كونت إلى ضرورة البحث عن السر وراء الأثر الاجتماعي والحضاري للفيتيشية، لأن من شأن ذلك أن تكون له قيمة من الناحية المنهجية، ومن شأنه كذلك أن يكشف عن القيمة الاجتماعية للفيتيشية[45].
ومن هنا تأتي أهمية النظام الكهنوتي باعتباره ضروريا للأديان، لأنه يضمن لها الاستمرارية والتطبيق العملي، وهو الذي يمكنها أيضا من التحول إلى حقيقية حضارية ومجتمعية، وذلك رغم كل المؤاخذات التي يمكن أن تسجل على هذه الأنظمة. إن المعتقدات الدينية ونظرا لطبيعتها الخاصة، هي أكثر خضوعا من غيرها لهذه الضرورة المشتركة، فهي تحتاج دائما لقواعد عامة تحميها وتحفظ لها تماسكها وذلك لا يتم إلا بتوفر مؤسسة تتولى هذه المهمة، وذلك بالنظر إلى طبيعتها غير الدقيقة. وفي حالة غياب هذا الشرط فإن الجانب السياسي الذي سينشأ عن هذه الحالة سيفتقر إلى التماسك. وهذا ما سيولد كثيرا من الاختلاف والتنافر مما سيجعل من العنصر الديني مكونا يهدد الاتفاق والتوحد، وهو ما تؤكده بوضوح التجربة الكبرى خلال القرن السادس عشر والقرن السابع عشر والقرن الثامن عشر، حيث أن التفكك العام للسلطة الدينية السابقة، خلقت مناخا ملائما على نحو كبير للتناقض والتصادم، بحيث لم يعد الدين قابلا لأن يكون أداة فعالة للانسجام المجتمعي. وذلك خلافا للغاية الرئيسة للأديان[46].
ومعلوم أن خصائص الفيتيشية المتمثلة في غياب سلطة كهنوتية، والطابع الفردي الخاص للطقوس، إضافة إلى طابعها الحسي، كل ذلك يجعل من الفيتيشية غير مفيدة لأن تكون أداة لتجميع الناس والسيطرة عليهم. فهي مقارنة مع الديانات المتعددة الآلهة، وكذلك ديانات التوحيد، تحتوي على قدر ضئيل من القدرة على تطوير سلطة كهنوتية مستقلة ومنظمة على شكل طبقة خاصة.
إن آلهة الفيتيشية هي بالضرورة ذات طابع فردي، ولها مكان خاص ودائم، مجسدا في جسم تستقر فيه على نحو محدد، وذلك خلافا لآلهة الأديان المتعددة الآلهة، التي تتميز بقدر كبير من العمومية وبمجال واسع. وهذا يتطابق وطبيعة الحالة البدائية للعقل البشري، حيث تكون الأفكار بالضرورة جزئية وحسية، مما ينتج عنه ذلك التنوع الرفيع للآلهة خلال هذه المرحلة الأولى من الطفولة. ومن الناحية الاجتماعية فإن هذه الاعتقادات لا تمنح ما فيه الكفاية من المصادر التي توفر إمكانية التحكم والتجميع بالنسبة إلى أفراد المجتمع. ويعتقد كونت أنه رغم وجود فيتيشات القبيلة وكذلك فيتيشات قومية فإن الطابع الذي يغلب على الفيتيشية هو الطابع الفردي، وهذا لا يمكن أن يساهم إلا على نحو محدود في تطوير تفكير مشترك. وبما أن الفيتيش مقترن بجسم خاص وله إقامة محددة، فإن ذلك سيحول دون ظهور طبقة كهنوتية، تعنى خاصة بالتفكير والتأمل، ويكون لها وضع مستقل ومؤثر في المجتمع. لقد عرفت مرحلة الفيتيشية، حسب كونت، انتشارا كبيرا للشعائر والطقوس على نحو لا تضاهيه فيه أية مرحلة دينية أخرى في تاريخ البشرية، إلا أنها ظلت مع ذلك شعائر خاصة شخصية ومباشرة، فالمؤمن بها هو الذي يتحكم فيها مباشرة، من دون أن تكون هنالك أية واسطة بينه وبين تلك الآلهة الخاصة، هذا بالإضافة إلى أنها قابلة للإدراك نظرا لطبيعتها المباشرة. ويعتبر الإيمان الذي سيظهر لاحقا في وجود آلهة تكون غير مرئية ومتفاوتة من حيث عموميتها ومتميزة عن الأجسام التي تكون تحت سيطرتها وخاضعة لأوامرها، في اعتقاد كونت، هو السبب في ظهور وتطور طبقة الكهنوت، ويقترن هذا الإيمان بمرحلة الديانات المتعددة الآلهة، وهنا ستصبح لهذه الطبقة هيمنة اجتماعية، لأنها ستشكل وعلى نحو ثابت ومستمر واسطة ضرورية بين المتعبد ومعبوده. إن غياب تشكل مثل هذه الطبقة التي تعتبر الفيتيشية في غنى عنها، قد ساهم في الإطالة من عمر مرحلة الطفولة بالنسبة إلى التنظيم الاجتماعي. ويستلهم كونت التاريخ لتأكيد أطروحته هذه، من خلال ما تقدمه معرفتنا بالآلهة الإغريقية والرومانية القديمة، التي هي في جوهرها آلهة خاصة، بحيث يصفها بأنها آلهة منزلية، تختلف فيها الشعائر من بيت إلى آخر، إلى درجة يمكن أن نعتبر فيها كل رب أسرة عبارة عن كاهن تلقائي. وقد بين كونت أن الفيتيشية في الأصل لا تملك تأثيرا سياسيا أخلاقيا واجتماعيا. وعليه فلا ينبغي الربط دائما بين المعتقدات الدينية والعلاقات الاجتماعية، لأن مثل هذه العلاقة لم تكن حسب اعتقاده موجودة في البدايات الأولى للممارسة الدينية. ويستدل كونت على ذلك بأن المرحلة التي هيمنت فيها الفيتيشية لم تسمح بتطور الحياة السياسية، كما يؤكد ذلك البحث التاريخي في اعتقاده[47]. إن طبقة الكهنوت لم تبدأ في التشكل إلا في المرحلة الأخيرة من الفيتيشية والتي تميزت بعبادة النجوم. وهناك سببيين رئيسيين لظهور هذه الطبقة وهي: أولا، عندما تكون الآلهة مشتركة على نطاق واسع. وثانيا: عندما تكون معرفتها وإدراكها المتعذر معترفا به. وهكذا ظل تأثير الفيتيشية السياسي حتى مرحلتها المتأخرة جد محدود[48].
2- التفسير السوسيوثقافي للظاهرة الفيتيشية.
رفض أوكست كونت أن يكون هنالك أي تقابل بين الفيتيشية من جهة وأحد الأنماط العامة الثلاث للوجود المادي من جهة أخرى، والتي تعودنا أن نميز فيما بينها عند الشعوب البدائية. وهي على التوالي: الصيادون الرعاة والمزارعون. لأنه يمكن أن نجد هنالك أمثلة كثيرة للشعوب التي تعيش على الرعي وقد وصلت إلى مرحلة الديانات المتعددة الآلهة، في حين هنالك شعوب أخرى تتعاطى الزراعة لازالت تعيش في مرحلة الفيتيشية[49]. وقد كان للديانة البدائية دور مهم في الانتقال إلى الحياة الزراعية التي تكفل الاستقرار، والتي ستشكل تحولا حاسما بالنسبة إلى الإنسانية. ففي مرحلة الترحال، كانت الطقوس مرتبطة بقبور الآباء والأجداد،هذه الطقوس التي تترك في نفوس الرحل أثرا عميقا عند تركها، مما يولد حالة من الألم الشديد الذي يؤسس لطقوس خاصة. وستؤثر حالة الاستقرار على طبيعة الطقوس وأشكال العبادة، التي أخذت تكتسي طابع الثبات والديمومة، مثل عبادة النجوم، إضافة إلى خاصية الكونية. ويشير كونت إلى أن الانتقال من حال الترحال إلى الحالة الزراعية، يشكل تحولا أساسيا بالنسبة إلى التطور البشري، بحيث يعتبره بمثابة ثورة، فالاستقرار سيؤثر على أشكال العبادة، لأنه سيطور تلك الميولات الإنسانية التي تشدنا على نحو غريزي إلى مسقط رأسنا.
فالمجتمعات القديمة التي تعودت على الاستقرار ستشعر بألم شديد عندما تدفعهم الحروب إلى الرحيل ومغادرة منازلهم. حيث سيفرض عليها في حالة الهزيمة أمام الغزاة بهجر آلهتهم الرسمية، وهي آلهة لا ترتبط على الإطلاق بموجودات مجردة وعامة، يمكن أن نجدها في أي مكان، مثل جوليتر ومينرف، إلخ… وإنما تتعلق أساسا بما يمكن أن نسميه هنا على وجه الدقة بالآلهة المنزلية، لاسيما تلك المتعلقة بالبيت، إنها إذن فيتشات خالصة. وكانت هذه الآلهة الخاصة هي التي يتوجه إليها الناس كلما أصابهم مكروه، ويتألمون من فقدانها المقدر بسبب الحروب والكوارث، مثلما يتألمون كذلك عندما تدفعهم الظروف والأحوال إلى الابتعاد عن القبور المقدسة لآبائهم. وكل هذا يخلق لهم حالة من القلق والحسرة والضياع تتولد عنها مشاعر تدعوهم إلى تقديس أمكنة محددة ارتبطوا بها وجدانيا.
ويعتقد كونت أن حياة الاستقرار بالنسبة إلى الشعوب الزراعية سيثير انتباههم النظري أكثر فأكثر نحو الأجرام السماوية. وقد خلص كونت إلى أن هنالك بالضرورة علاقة مزدوجة بين التطور العام للفيتيشية والتأسيس النهائي للحياة الزراعية[50]. هنالك إذن اقتران واضح بين الحياة الزراعية التي تتميز بالاستقرار وظهور عبادة النجوم كحالة دينية.
كما يؤكد كونت أنه من وجهة النظر الاجتماعية الخالصة فإن الفيتيشية رغم كونها أقل فعالية على العموم من جميع الأنماط الأخرى اللاحقة للتفكير اللاهوتي، فإنها تقدم مع ذلك مجموعة من الخصائص الحقيقية ذات الأهمية الكبرى حول مجموع التطورات البشرية[51].
إن الفلسفة الوضعية ورغم تناقضها مع الفكر الديني هي وحدها القادرة وعلى نحو مشرف، أن تبرز تلك المساهمة الكبرى للتفكير الديني؛ سواء على المستوى الاجتماعي أو الفكري، وذلك بالنسبة إلى التطورات التي حصلت في التاريخ البشري [52]. لقد كان للدين دور كبير في الحفاظ على القيم والمؤسسات الضرورية من خلال جملة من التعاليم. ذلك أن كل المؤسسات التي كانت لها وظائف إنسانية، وتؤدي أدوارا اجتماعية وحيوية، كانت تعتمد على أسس دينية؛ قبل أن يبرز التفكير العقلي الذي سيؤكد على ضرورتها الإنسانية. وهنا يسوق كونت على سبيل المثال المبادئ الوقائية التي لا يمكن أن تقوم على نحو ثابت ومشترك، إلا من خلال تلك السلطة العليا للتعاليم الدينية[53].
ويظهر الدور الاجتماعي والأخلاقي للفيتيشية كذلك في كونها لعبت دورا هاما في الحفاظ على الحيوانات المفيدة للإنسان وكذلك النباتات. فقد عملت على الحد من النزوع إلى التدمير، الذي يشكل خاصية إنسانية. إن التأثير الحقيقي للإنسان على العالم الخارجي بدأ من خلال التدمير، سواء تدمير المحيط، من خلال الاستهلاك؛ أو تدمير النوع الإنساني من خلال الحرب. وهذا التدمير الغريزي لدى الإنسان سيهدد كثيرا من الأنواع، خاصة تلك التي تعتبر جد مهمة وأكثر نفعا بالنسبة إلى الإنسانية. وهذا ما لا يمكن تجنبه إذا لم يأت هذا التطور الفكري والأخلاقي الأول للإنسانية، وبشكل تلقائي، بموانع عامة؛ يتم فرضها على هذا التدمير الكوني القوي والأعمى. وقد استطاع هذا النظام الديني الأولي تحقيق هذه الغاية، من خلال العبادة الشكلية للحيوانات. وهكذا يقرر كونت أنه أيا تكن السلبيات الكبيرة لمرحلة الفيتيشية، فإنه لا ينبغي بأي حال من الأحوال أن تخفي عنا تلك القدرة الكبيرة التي تملكها لتيسر على نحو عال تلك المحافظة على الحيوانات المفيدة والنباتات الثمينة، هذه المهمة التي تعتبر في آن واحد عسيرة وضرورية. كما أن الفيتيشية كان لها دور كبير في المحافظة على كل الأشياء المادية التي تحتاج حماية خاصة[54].
وإلى جانب مساهمة الفيتيشية في الحفاظ على الحيوانات والنباتات فقد كان لها إسهام أخلاقي كذلك. حيث لعبت دورا هاما في التهذيب الأخلاقي للطبيعة الإنسانية. فالفيتيشية تقوم بتنظيم العلاقة القائمة بين الإنسان والطبيعة على نحو يضمن استغلالا متكافئا لأشياء الطبيعة، من خلال التحكم في الغريزة وكل ما هو تلقائي في الإنسان. ويعتقد كونت أنه وحتى نقدر تلك الأهمية الاجتماعية الخاصة لمرحلة الفيتيشية والمتمثلة في ضمان الحفاظ على الحيوانات المفيدة للإنسان، فعلينا أيضا أن نعتبر هذه الحماية المستمرة من المنظور الأخلاقي، لكونها ساهمت وبقوة في التهذيب الأساسي للطبيعة الإنسانية. فمن المعلوم أن النظام اللحمي للإنسان شكل إحدى الأسباب الرئيسة، التي تحد بالضرورة من الدرجة الحقيقية للطمأنينة التي يستحقها الحيوان. ولذلك فقد كانت هنالك حاجة ماسة وضرورية للإنسان للهيمنة على مجموع الكائنات الحية، ولكن وبسبب هذه الهيمنة الضرورية نفسها، وحتى لا تنجر إلى حالة من الاستبداد المدمر والأعمى، مناقض لأية غاية أساسية على نحو مباشر؛ فإنه في حاجة، شأنه شأن أي استبداد، أن يكون خاضعا على نحو دائم ومستمر، لمجموعة من القواعد الأساسية؛ التي تحاول أن تتوقع وتصحح ما أمكن تلك الانحرافات التلقائية. ويمكن إذن من هذه الزاوية أن نتصور الفيتيشية على أنها البداية الأولية، كطريق أوحد يمكن السير فيه، نحو نظام جد متطور ومحدد من حيث التنظيمات البشرية، غايته ترتيب العلاقات التدبيرية الأكثر عمومية على نحو مناسب، تلك المتعلقة بالإنسانية تجاه العالم، وخاصة تجاه الحيوانات الأخرى.[55]
ويشير كونت إلى أن هنالك خاصيتين أساسيتين تميزان الوضع السياسي للمجتمعات اللاهوتية في الأزمنة القديمة. إحدى هاتين الخاصيتين مشتركة بين جميع المراحل الدينية، والأخرى خاصة بكل مرحلة على حدة.
الخاصية الأولى تتمثل في أن الاعتقادات الدينية قابلة لأن تتغير، وذلك تبعا للإكراهات المرتبطة بكل تطبيق سياسي محدد، وهذا ما تتولاه طبقة الكنهوت التي تحرص على فرض ذلك النظام المتناسق للمعتقد بعيدا عن الإرادة الشخصية أو الجماعية، وتفاديا لأن تكون عملية إصلاح النتائج العملية لهذه التطبيقات عملية حرة، تتولاها العقول العادية. إلا أنه لا ينبغي الحد وبصورة مطلقة من كل هذه الأفكار المختلفة، وكذلك من الأحاسيس؛ رغم ما يمكن أن يكون لها من نتائج مقلقة، خاصة إذا ما كانت تنحو إلى ما يمكن أن يعود بالنفع العام. ولهذا فينبغي لهذه الخصائص المميزة لكل اعتقاد خاص بمرحلة معينة أن يتناغم وبالضرورة مع الأوضاع المطابقة لها، بما يواكب التحولات الاجتماعية مواكبة إيجابية، ومن دون ذلك، فإن سيطرة تلك الخصائص لمدة طويلة لن يكون مفهوما. ويتبين هنا أن النظريات اللاهوتية هي بطبيعتها قابلة لأن تقترح في الغالب تصورات هي بالأساس ملائمة للحالة الاجتماعية التي توافقها. ويخلص كونت إلى أن الخاصية الأولى تتطابق بالضرورة مع ما هو غامض وغير منضبط،.
أما الخاصية الثانية فهي تتطابق مع كل ما هو محدد ومنظم، ولذلك فكلما كانت الاعتقادات الدينية أكثر تبسيطا وأكثر تنظيما، فإن تأثيرها الاجتماعي يتقلص ، وهذا هو الذي يناسب الحالة الفيتيشية[56].
هذه هي أبرز القضايا التي أثارها كونت بخصوص الفيتيشية، حيث يؤكد على محورية هذه الحالة بالنسبة إلى الممارسة الدينية، وعلى أبعادها الاجتماعية والسياسية. ويبدو أن كونت قد استطاع فعلا ان يبرز الطابع الإشكالي والفلسفي لهذه الظاهرة الدينية. وقد امتد هذا النقاش الفلسفي حول الفيتيشية إلى فلاسفة آخرين تناولوها بالدراسة والنقد، حيث اخترت من بين هذه الدراسات نموذجين هما: دراسة لجولييت كرانج وأخرى لكونكيليم. ولكن قبل التطرق للمواقف النقدية التي حاولت الوقوف عند القيمة الفلسفية والنظرية للحالة الفيتشية كما عرض لها اوكست كونت سأتوقف عند النقاش الرئيسي الذي كان خلف ميلاد هذه النظرية والذي حاولت مادلين دافيد إثارته من خلال دراسة معمقة.
***
الباب الثاني: نقد مفهوم الفيتيشية عند كونت
في البداية سأعرض للإشكالية الأساسية التي تندرج ضمنها الحالة الفيتيشية عند كونت وارتباطها بنقاش فلسفي حول أصل الدين انخرط فيه جزء مهم من فلاسفة القرن الثامن عشر والتاسع عشر. وقد استطاعت الباحثة مادلين دافيد تتبع هذه الإشكالية من خلال إيراد أهم الأفكار والأطروحات التي جاءت في سياق تناولها.
الفصل الأول :مصادر نظرية الفيتيشية عند كونت
في دراسة تحت عنوان: مفهوم الفيتيشية عند أوكست كونت ودراسة الرئيس دي بروس “حول طقوس آلهة الفيتيش” للباحثة مادلين دافيد، حاولت هذا الأخيرة أن تناقش العلاقة الموجودة بين فكرة الفيتيشية كما تبناها كونت، وبين تصور الباحث الإثنولوجي شارل دي بروس لهذا المفهوم. باعتبار أن الفيتيشية هي أصل التفكير الديني.
وقد انطلقت الكاتبة في هذه الدراسة من مقالتين لكل من ا. لامينغ اومبرير·MMe Annette Laming-Emperaire صدرت سنة 1964 وأخرى لكونكيليم ·Canguilhem حول الفيتيشية البدائية، مؤكدة على أن كلتا النظريتين تكشفان عن الطبيعة المعقدة لهذه القضية.[57]
وقد أشارت الكاتبة في مقدمة هذه الدراسة إلى ملاحظات هيوم بخصوص أصل الدين ونشأته، والتي نعتتها بأنها ذات طابع سيكولوجي، لأنها لا ترتبط بالوقائع وإنما بالخيال، كما هو الحال بالنسبة إلى الفلسفة الانجليزية عموما؛ لكي تتوقف أخيرا عند كتاب دي بروس. هذا الكتاب الذي تجاهلته لامينغ اومبرير، والذي سيهتم به كثيرا كونكيليم، لأنه أول من أشار على نحو صريح وواضح بأن الفيتيشية هي الحالة البدائية الأولية، التي سبقت كلا من الديانة المتعددة الآلهة وديانة التوحيد.[58]
وقد قارنت المؤلفة بداية بين كتاب رسائل ايطالية Les Lettres d’ Italie لدي بروس، الذي عرف شهرة كبيرة وطبع للعديد من المرات؛ مع كتاب طقس آلهة الفيتيشcultes des dieux fetiches، الذي يدور موضوعه حول الدين، وهو كتاب لم ينل في عصره ذلك الاهتمام والبحث الكافيين[59].
فدي بروس ورغم احترامه للدين المسيحي، فقد كان في معالجته لتاريخ الإنسان القديم بعيدا عن النظرة الدينية. حيث كان يعتقد أن هنالك حالة طفولية للدين حصلت بعد الطوفان يطلق عليها الفيتيتشة. وهي الحالة الخام البدائية للممارسة الدينية.[60]
وهذا الكتاب، طقس آلهة الفيتيش، كان يتضمن بحثا حول الحضارات القديمة مع تاريخ مختصر للأديان، وقد درس دي بروس، تطور الأديان من خلال علاقتها بتطور المجتمعات، وفي هذا السياق اقترح تسلسلا للأشكال الدينية تبدأ من الفيتيتشة، وهو طقس الآلهة المادية الحية منها والجامدة، ثم عبادة النجوم، وفي مرحلة تالية عبادة المجالس أو ما يسمى بالديانات المتعددة الآلهة، وفي مرحلة أخيرة ستأتي مرحلة عبادة الآلهة[61].
إن تأكيد دي بروس على كون الديانة المتعددة الآلهة سابقة عن ديانة التوحيد، جعله يلتقي في ذلك مع هيوم، ضدا على التصورات الدينية السائدة التي ترى في الديانات المتعددة الآلهة تحريفا لديانة التوحيد الأصلية، إلا أن الرجلين سيختلفان من حيث الرؤية، ذلك أن دي بروس كان يرمي إلى أن يؤسس إطارا محددا لتاريخ الأديان الناشئ انطلاقا من الفيتيشية، وهذا ما لم يكن واردا بالنسبة إلى هيوم[62].
لقد كانت هذه الفكرة غريبة في البداية، لهذا لم يكتب لها الانتشار السريع، وظلت لفترة طويلة مجهولة. إلا أنها أخذت تدريجيا موقعا لا بأس به في النقاش الدائر حول أصل الدين وعن الطقوس الدينية، وأصبحت تتعايش مع تلك الأفكار المناقضة لها، بحيث نجد روسوrousseau· يشير لفكرة دي بروس رغم الفرق الواضح بين كل من دي بروس وروسو[63].
وإذ كان دي بروس يعترض على فكرة الرمزية في نظرته للطقوس الدينية بالنسبة إلى الديانة البدائية، وكان هذا واضحا لديه عندما اعتبر الفيتيشية ذات طبيعة مباشرة لا تستدعي أي تمثل أو تصور ذهني قبلي. فإن هنالك نظرية أخرى ستدافع عن هذا المنظور انطلاقا من رؤية علمية تقوم على المنهج التاريخي والعلمي سيتبناها دوبوي في كتابه: التفسير الفلكي للأديانL’explication Astronomique des Religions[64]. ولقد تبنى دوبوي هذا التفسير كمفتاح سعى من خلاله لفهم التمثلات الدينية من منظور رمزي[65].
إلا أن أفكار دوبوي ستعرف تطورا مهما، بحيث سيحاول في مرحلة لاحقة انتقاد ما يسميه بالخداع الديني، الذي يجعل العامة تتبنى طقوسا سحرية بخصوص أشياء هذا العالم. وذلك لأنها تدفعنا إلى أن نتخلى عن العالم العقلي لفائدة العالم الحسي[66].
وفي مرحلة لاحقة عمل دي تراسي على نشر هذه الآراء، كما عمل أيضا على تحويل ذلك الجهد من أجل معرفة الديانات القديمة؛ إلى نوع من فك الرموز. ويعترف دي تراسي·Destutt de Tracy بأنه في البداية كان يتبنى أفكار دي بروس، قبل أن يتخلى عنها بعد قراءته لدوبوي[67].
وفي مرحلة الثورة الفرنسية حصل هنالك نقاش بخصوص كتاب: أصل جميع الطقوس L’Origine de Tous les Cultes، لدوبوي؛ بحيث نجد أن هنالك من تجاهله تماما، كما هو الحال بالنسبة لكوندورسي1793. أما فرانسوا فلورونتان بروني1792François-Florentin· Brunet فقد اعتبره ضمن الكتاب الفرنسيين الذين تناولوا الوقائع الدينية. فإلى جانب دي بروس الذي يعتبره من أهم المفكرين الذين درسوا هذه الوقائع، نجده يذكر أيضا دوبوي. كما نجد أيضا دولور·J.-A Dulaure في كتاب له صدر سنة1760، يدافع عن موقف دي بروس ضدا على موقف دوبوي[68].
أما بالنسبة إلى بنجامين كونسطان· Benjamin Constant فقد وجد نفسه فجأة ضمن دائرة ذلك النقاش بين كل من نظرية دي بروس،من جهة، والذي قرأه بإعجاب حيث سيتبنى نظريته في النهاية، ولكن مع تميز واضح؛ ونظرية دوبوي من جهة أخرى[69].
وتخلص مادلين دافيد إلى أن النقاش بخصوص كتاب دي بروس وما أثاره من آراء كان حاضرا بقوة في مرحلة شباب كونت[70].
لقد تبني إذن كونت التسلسل الذي قدمه دي بروس: الفيتيشية ثم الديانة المتعددة الآلهة فالتوحيد. ويبدو تأثره بدي بروس أكثر مما كان عليه الأمر عند بنجامين كونسطان .وهنا سيؤكد كونت وبقوة على أن الفيتيشية هي بمثابة الحالة البدائية الأولى للممارسة الدينية، بل إن هذه الفيتيشية هي التي ستلعب دورا حاسما في الديانة الوضعية التي لا يمكن اعتبارها سوى أنها بمثابة فيتيشية جديدة[71]. ومعلوم أيضا أن كونت هو واضع الديانة الوضعية التي تتسق والمرحلة الوضعية.
وقد طرحت مادلين دافيد إشكالية علاقة كونت بدي بروس من زاويتين، هما: كيف تلقى كونت نظرية كانت موجودة أربعين سنة قبل ولادته، وما موقفه من النظرية الفلكية لدوبوي[72].
وتتساءل مادلين دافيد، هل قرأ كونت فعلا، كتاب: آلهة الفيتيش، أو هل تعرف عليه من خلال بعض الملخصات، وتخلص إلى أن بعض المفردات التي يستعملها دي بروس في وصف الفيتيشية حاضرة بقوة عند كونت مثل صفة “مباشر”، وهذا دليل على أن هنالك دراسة معمقة لكونت لهذا الكتاب. وهذه الصفة كانت تطلق عند دي بروس على الطقس المصري القديم لعبادة الحيوانات[73].
كما تعتقد مادلين دافيد بأن العلاقة بين كونت ودي بروس لم تكن بسيطة، بحيث أن كونت عمل على توسيع مجال مفهوم الفيتيش الذي كان بالنسبة إلى دي بروس مفهوما لا ينطبق إلا على حالات خاصة، وذو طابع جزافي، لكي يتم التأسيس له فلسفيا عند كونت، حتى أصبح بالإمكان الحديث عن مستويات متعددة بالنسبة للفيتيشية[74].
وحسب مادلين دافيد فإن انتقال نظرية الفيتيشية إلى أوكست كونت ظل غامضا، ويعود الفضل إلى كونكيليم في الكشف عن إحدى هذه المصادر. ويتعلق الأمر هنا بإحدى الترجمات لكتاب آلهة الفيتيش، التي ظهرت عند نهاية القرن الثامن عشر، والتي تعرف عليها كونت. وقد كانت هذه الترجمة، عبارة عن ملخص يقع في اثني عشر صفحة، في خاتمة كتاب الرسائل المتأخرة حول الإنسان Lettres Posthumes sur l Homme، للكاتب شارل جورج لوروا(1723_1798)·Charles-Georges Leroy. وقد كان هذا الكتاب من القراءات المفضلة في مرحلة الشباب لكونت. ومن المحتمل فعلا أن كونت لجأ إلى هذا الكتاب في طبعة سنة1802 [75].
أما بالنسبة إلى الوضعيين أتباع أوكست كونت فلم يرد عندهم أي ذكر لكتاب آلهة الفيتيش، وذلك نظرا لصمت أستاذهم عن هذا الموضوع[76].
وقد ذهب محررا كتاب: النقد الفلسفي·Critique philosophique، إلى أن كونت ليس بواضع قانون الحالات الثلاث الذي يسندونه الى توركو[77].
وحسب مادلين دافيد فإن كل هذه النقاشات والآراء التي أثيرت خلال القرن الثامن عشر، قد كرست الأمل في إمكانية تأسيس ديانة جديدة[78]. كما خلصت أيضا إلى أن أوكست كونت، وكما جاء في الجزء الخامس من كتابه: دروس في الفلسفة الوضعية، قد وضع بينه وبين التأويلات الرمزية للديانة المتعددة الآلهة مسافة واضحة، معتبرا إياها غامضة واعتباطية؛ مثلما كان معترضا على فكرة، ما يعتبر بمثابة ديانة التوحيد القبلية. أما بالنسبة إلى عبادة النجوم، فقد اعتبرها الحالة القصوى للمرحلة اللاهوتية[79]. وهكذا يبدو من كتاب: دروس في الفلسفة الوضعية، أن كونت يستبعد تلك النظرية التي كانت مهيمنة عند بوردان، والتي سيأخذ بها أستاذه سان سيمون. وهذا يكشف تماما تحرر كونت من فكرة دوبوي، في الوقت الذي يجعله قريبا إلى حد ما من موقف دي بروس[80].
واضح من هذه الدراسة لمادلين دافيد أن كونت قد انخرط فعلا ضمن نقاش كان قائما. وحاول أن يدلو فيه برائيه، ولا شك أيضا أنه اطلع على هذه النظريات حيث جاءت دراسته للفيتيشية أكثر استفاضة من خلال تناول جوانب عديدة لها صلة بهذه الإشكالية التي كانت في صميم النقاش الفلسفي لذلك العصر.
لكن نظرية كونت حول الفيتيشية لا يمكن فقط فهمها فقط من خلال ربطها بالنقاش الدائر في عصره، بل أيضا بعلاقتها بفلسفته الوضعية ككل، وموقع الدين ضمن هذا الفلسفة وهو ما حاولت فعلا جولييت كرانج أن توضحه.
الفصل الثاني الحالة الفيتيشية وموقع الحالة الدينية في فلسفة كونت
هناك ملاحظات كثيرة حول تصور كونت للفيتيشية وموقع الدين في فلسفته، بحيث نجد هنالك كتابا بعنوان: La philosophie d’Auguste Comte, science, politique, religion. Paris,PUF, 1996, 448(bibliogr) (coll.”philosophie d’aujourd’hui”) لمؤلفته: Grange Juliette تطرح فيه صاحبته سؤالا غريبا إلى حد ما، تتساءل فيه: هل كان أوكست كونت وضعيا؟ حيث بينت أن جميع أعمال كونت تلتقي في نظرها، سواء تلك التي جاءت في النصف الأول من حياته والتي تطغى عليها النزعة العلمية، أو تلك التي جاءت في النصف الثاني من حياته، وتهتم أساسا بالسياسة والدين، عند هدف واحد، ألا وهو الدين. وهذا ما جعلها تعتبر هذه الفلسفة بمثابة فيتيشية جديدة[81].
ويؤكد فرانسوا اندري ايسامبر François-Andre Isamber أن كونت في نظر جولييت كرانج Grange Juliette فيلسوف للعلم، إلا أنه كان يقف موقفا معارضا للنزعة الاختبارية، فبالنسبة إليه، الوقائع لا تعني أي شيء في غياب النظرية. وتنطلق المؤلفة من كون العلم يمنع الإنسان من التدخل في ماهية الأشياء، لأن مهمته هي الملاحظة. في حين سيتولى الدين مهمة تقديم المعنى الحقيقي للأشياء. وهكذا فإذا كانت الفيتيشية في فجر تاريخ البشرية تقدم تلك الطقوس التي تمكن الإنسان من الحفاظ على الوسط الذي يعيش فيه. فإن الوضعية باعتبارها بمثابة فيتيشية جديدة، تمنح الإنسان في العصر الصناعي ذلك الاحترام الواجب للعالم، وتمنعه من تدميره. ولذلك تمت ترقية العالم العضوي إلى رتبة الوجود الأعظمGRAND ETRE ·، أما العالم غير العضوي فقد أضفيت عليه القداسة ليصبح هو ذلك الفيتيش الأعظم. وعليه فإن الوضعية ” تتصور العبادة بعدا مجردا على نحو تام متمثلا في غياب الإله”[82].
وتعتقد جولييت كرانج أن الثورة الفرنسية هي بمثابة استمرار للمهمة التي بدأتها الملكية في مسعاها لإنهاء سلطة الكنيسة الكاثوليكية، هذه الثورة التي ستعمل على تكريس حكم لازمني جديد سيقوم على فكرة الإنسانية، التي هي جوهر الدين الجديد الذي يدعو إليه كونت، والذي سيحاول فرضه ليس بالقوة، وإنما من خلال التعليم، معتمدا في ذلك على تلك الأخلاق التي تدعو إلى محبة الآخر وتنمية الترابط الاجتماعي، وستستند هذه الديانة الجديدة إلى النساء والبروليتاريا[83].
وبما أن الدين يعتمد في وجوده على الشعائر، التي تعتبر مقوما أساسيا للممارسة الدينية، فإن شعيرة الإنسانية ستتحقق من خلال الاحتفاء بذكرى الشخصيات البارزة؛ وذلك عن طريق عقد الأعياد بناء على التقويم الوضعي. وإحياء هذه الأعياد هو طقس جماعي يماثل إقامة الصلوات بالنسبة إلى الديانات التقليدية. كما أن الديانة الوضعية توجد بها طبقة من الإكليروس، لكن هذه الطبقة ليست مكونة من رجال الدين، وإنما هي مكونة من العلماء، لاسيما علماء الاجتماع الذين سيلقنون مبادئها، وهي لا تعتمد في ذلك على اللاهوتيين كما هو الحال بالنسبة للدين التقليدي[84]. واضح أن الفيتيشية التي هي بمثابة الحالة الأصلية للدين تقدم بالنسبة إلى كونت فرصة لإعادة النظر في التجربة الدينية ككل. فهي صفة طبيعية أولية للإنسان ويمكن توظيفها من اجل أهداف ايجابية وإنسانية تسعى إلى رقي الإنسان وتكريس القيم الإنسانية الكبرى. وهذه العلاقة بين الحالة الفيتيشية والطبيعة الإنسانية هي التي سيتوقف عندها كونكليم منطلقا في ذلك من نظرية كونت حول الفيتيشية.
الفصل الثالث الفيتيشية وعلاقة الدين بالطبيعة الانسانية:
يعتقد كونكيليم Georges Canguilhem أن كونت من خلال مفهوم الفيتيشية حاول أن يؤسس لنظرية مجردة وشاملة في ما يخص العلاقة بين الدين والطبيعة الإنسانية. وهي فكرة لم يتم تحليلها بما فيه الكفاية. ويؤكد أن النظرية الكونتية حول أصول التفكير الديني تسعى بالأساس إلى توضيح ذلك التفاعل المستمر للإنسان مع وضعيته الأصلية. ويلاحظ أنها لم تكن هنالك عناية كافية بتلك القراءات التي انطلق منها كونت في تركيبه للتاريخ الفلسفي للأديان، وللتاريخ الفلسفي للعلوم خلال القرن التاسع عشر، هذا التاريخ الذي لم يكن سوى تتميما لما بدأه كتاب القرن الثامن عشر[85].
الفيتيشية هي إذن من منظور كونت حسب كونكيليم موقف أولي للإنسان تجاه الطبيعة، وهي من تم إحدى المتغيرات التي تطرأ على الطبيعة الإنسانية. أما على المستوى الفردي فهي نمط من التخمين الذي يميز الحيوان والطفل، وكذلك الإنسان الراشد عندما تفرض عليه الممارسة اتخاذ قرار يتجاوز نتائج التحليل، كما أنها حالة تصيب الإنسان الراشد في حالة الانفعال أو الاستلاب. أما على المستوى الجمعي فإن الفيتيشية بمثابة الحالة الفكرية الأساسية التي تبرز بواسطة الفكر عند المجتمعات الأقل تقدما. إن الدين بوصفه تنظيما للوجود المحسوس، يقوم بتنظيم علاقات الكائن الحي مع الوسط الذي يعيش فيه. والفيتيشية كما يعتبرها كونكيليم هي أول أنماط التفسير بواسطة السببية، وهي الصورة الأكثر بدائية للبحث عن الأصول والغايات. ويميز كونكيليم بين الفيتيشية والنزعة الإحيائيةAnimisme، لأن هذه الأخيرة تكمن في أنسنة الطبيعة، والحيوان بدوره قادر على ذلك. أما الفيتيشية فهي تطابق ما يطلق عليه كونكيليم بالبيومورفيزم Biomorphisme ، الذي يعتبره على أنه “تفسير للعالم من منظور الإنسان، تبعا للمماثلة التلقائية بين الطبيعة الميتة والطبيعة الحية”، وفي “المطابقة بين العالم الغير العضوي والطبيعة الحية”[86].
والعبادة كما يراها كونت تنتج عن ذلك التفسير السببي من الصنف الحيواني ممثلا في الانفعال والإرادة تجاه الوسط الذي يحيط بالإنسان، ومن ثم فالفيتيشة هي نظرة ساذجة للعالم يحكمها الخضوع والقدرية، وهي تسمح بالأمل في إمكان حصول تضافر بين إرادة العوامل الخارجية والإرادة الذاتية، مما يمكن من تحقيق آرائنا ورغباتنا[87].
إن الفيتيشية بوصفها وهما تعتبر أساسية عند كونت، الذي يتخذ منها منطلقا للتاريخ، وهي تعتبر مرحلة ضرورية لنشأة التفكير الوضعي. فالتاريخ البشري المرتبط بالطبيعة الإنسانية التي تتميز بتعدد الإمكانيات التي تنتقل إلى الفعل بكيفية متفاوتة السرعة، تكون في البداية غير متجانسة من حيث القدرات والضرورات والوسائل والغايات التي لا تكون دائما دقيقة. إن الحياة والتجربة الإنسانيتين تعتبران مظهرين من مظاهر تلك العلاقة البيولوجية البينية بين الأنظمة الحيوية من جهة، والوسط من جهة أخرى. ويتم التعبير عنها من خلال اتجاهين متقابلين:الخضوع لشروط الوجود من جهة، والمبادرة من أجل تعديل هذه الشروط من جهة ثانية. وإلى هذا التناقض يعود الصراع بين النظرية والتطبيق، بين العقل والإحساس، وبين الواقع والخيال. ومن هذا المنطلق يعتقد كونكليم أن تطور الطبيعة الإنسانية ونموها يتمثل في تعديل متدرج ومفكر فيه على نحو معمق، وهو ما تتولاه الثقافة على نحو جد منظم.”من دون تغيير حقيقي للوضع الأصلي”[88].
ويرى كونكليم أن القصور الأولي للإمكانيات الإنسانية المرتبطة بغاياته، لم تعد حسب كونت دليلا على الانحطاط مقارنة مع تلك الحالة الأصلية للكمال. وإذا كان صحيحا أن الإنسان هو الأوحد من بين جميع الحيوانات الذي يجعل منه ذكاءه قادرا على التخفيف من التعارض بين “الاختلالات العضوية” و”الضرورات الأخلاقية” لوضعيته، فإن هذا الأمر يعبر فقط على أن الإنسانية تبدأ بمرحلة الطفولة. وفي كل طفولة هناك تفاوت وتأخر بين ضعف الوسائل المختلفة وطموح القوة، مشيرا إلى أن الإنسان يملك ميلا غريزيا للصعوبات التي لا يستطيع حلها[89].
إن الفلسفة اللاهوتية كنمط للتفسير وكنمط للحياة تتناغم مع الحاجات الخاصة بالحالة البدائية للإنسانية، فالدين وهم لا يمكن تفاديه، وهو يعطي للإنسان الثقة والشجاعة لكي يؤثر في ما حوله، من أجل تحسين ذلك “النقص البئيس” في موارده الشخصية، ومن أجل “التخفيف من مآسيه”. إن الدين هو النور والأمل الذي يشرق “وسط أعماق مآسي وضعيتنا الأصلية”. فالدين الأصلي هو بمثابة رد فعل تعويضي على البؤس، ويحتاج الإنسان إلى فترة طويلة حتى يدرك أن الدين “يولد إرهابا قمعيا وخمولا فاترا”. إن الفلسفة اللاهوتية تلهم الإنسان في البداية “ثقة تواسيه وطاقة حيوية”[90].
ويعتقد كونكيليم أن هنالك اعتدادا بالنفس لدى الإنسان يتجلى في ذلك الاعتقاد بوجود حل مسبق لكل المشكلات. ومن هذا المنطلق تبدو الفيتيشية على أنها بمثابة ذلك الحل القبلي، لأنها تؤسس لرؤية للعالم من خلالها يستطيع الإنسان أن يفهم كل ما يحيط به. وهذا الاعتقاد يمنح للإنسان قوة تجعله قادرا على مواجهة كل التحديات مادام يملك تلك الحقيقة، حتى وإن كانت هذه الاعتقادات مجرد وهم أو حلم يقظة. لكن هذه الأوهام والخيالات تبقى ضرورية. وهنا يعلن كونكليم مقولته المعبرة: في البدء كان الخيال[91].
كما يؤكد كونكليم أنه في تاريخ البشرية لا يوجد هنالك شيء سابق عن الفيتيشية لأنها الأساس الأولي للتفكير اللاهوتي مدركا ضمن سذاجته الأولية، ومن ثم فالفيتيشية تمثل بالنسبة إلى الإنسان فيما يتعلق بالدين أصلا مطلقا. إنها بمثابة ذلك الانتماء الكوني ممثلا في الشعور بالحياة التي يحياها الكائن الحي الفرد، بحيث لا يمكنه الحياة إلا من خلال الترابط مع الحياة الكونية. فالكائن الحي يرفض أن يستحيل إلى مجرد كائن سلبي تتحكم فيه العطالة الكونية أو أن ينتظر نهايته على نحو سلبي. فالفرد يحيا من خلال الجماعة، وهذا هو مضمون الحياة الكونية. وعليه فعبادة الأجداد جانب من جوانب الفيتيشية[92] وهي تعبير واضح على هذا الانتماء والارتباط بالجماعة والاندماج في الحياة الكونية .
واضح إذن من خلال موقف كل من جولييت كرانج وجورج كونكليم أن مفهوم الفيتيشية يعتبر بالفعل محوريا في فلسفة اوكست كونت وهو بمثابة مفتاح يمكننا من فهم أعمق لفلسفته ككل، ليس فحسب في ما يتعلق بنظريته حول الحالات الثلاث، وإنما أيضا في ما يتصل بالجانب الشخصي لحياته .
خاتمة:
يتبين مما استعرضناه من أفكار، أن كونت قد أغنى فعلا الإشكالية التي تم تناولها انطلاقا من مفهوم الفيتيشية، وهي إشكالية متشعبة ومعقدة تمس أساسا طبيعة الممارسة الدينية ونشأة التفكير الديني، وهي تمثل بالنسبة إلى كونت لحظة أساسية في تطور الفكر البشري عامة. وقد قاربها انطلاقا من مستويات عديدة تكشف بالفعل عن دقة في التحليل وسعة في التفكير. فقد دافع كونت بقوة على الفيتيشية بوصفها أصل الأديان بل وأصل التفكير بصفة عامة. وهي تمثل بالنسبة للإنسان مرحلة الطفولة، حيث كان التفكير لازال في بداياته الأولى، يخطو خطواته الأولى. ومن الطبيعي أن تتميز الفيتيشية بكل التناقضات وكل أشكال القصور والضعف،اللذان يلازمان كل بداية. إلا أن ذلك لا ينتقص أبدا من قيمتها. وقد أبرز وكما رأينا، ذلك الدور الكبير الذي لعبته الفيتيشية على كثير من المستويات المعرفية والسياسية والاجتماعية. مثلما أبرز كذلك طبيعتها وخصوصيتها، وكذا تأثيرها القوي والخلاق. وحاول أيضا أن يكشف عن علاقتها بالأشكال الدينية الأخرى، لاسيما الديانة المتعددة الآلهة وديانات التوحيد. كما حاول أن يعقد مقارنة بينها وبين التفكير العلمي الذي يكشف عن تناقض صارخ وواضح بين هذين النمطين المعرفيين، باعتبار الفيتيشية أكثر أشكال التدين منافرة للعلم وأكبر عائق أمامه. ويعتبر مفهوم الفيتيشية أيضا من المفاهيم الأساسية التي تقوم عليها فلسفة كونت ككل، وهو ما أبرزته راكيل كابورو والعديد من دارسي الفلسفة الوضعية مثل جولييت كرانج.
ومعلوم أن الفيتيشية بعد كونت وشارل دي بروس ستعرف تطورا لافتا، حيث ستتخذ دلالات جديدة، وستوظف ضمن الأنساق النظرية الكبرى في الفكر الحديث، وصارت في الفكر المعاصر أكثر ارتباطا بمجالات كثيرة لاسيما في الفن والأدب، لما تملكه من قوة إيحائية، وإبداعية خلاقة، وهذا ما نلمسه على نحو واضح في فن التصوير والسينما في الوقت الراهن.
وربما أدت الاستعمالات الجديدة لمفهوم الفيتيشية، كما هي متداولة في مجال التحليل النفسي، والأدب والفن، إلى أن تغطي على ذلك البعد الذي حاول كل من دي بروس واوكست كونت تكريسه، إلا أن الفيتيشية تظل مع ذلك مفهوما رئيسا في مجال الدراسات الاثنولوجية والانتروبولوحية التي تحاول البحث في ما يتعلق بالطقوس الدينية، وبالسلوك الديني عموما.
وختاما فإن نظرية كونت بشأن الفيتيشية تظل إحدى النظريات الأساسية في ما يتعلق بتفسير الظاهرة الدينية ونشأتها، وذلك من المنظور الوضعي.
المصادر:
– Capurro Raquel ;Le positivisme est un culte des morts;EPEL, Paris; collection Ecole lacanienne de psychanalyse, 2001. – Canguilhem Georges , Etudes d’histoire des philosophies des sciences, histoire des religions et histoires des sciences dans la théorie du fétichisme chez auguste comte,septième édition , librairie philosophique J. Vrin. – Comte Auguste. discours sur l’esprit positif, 1995.. – Auguste Comte Cours de philosophie générale, , Tome Cinquième, Paris, 1864. – David Madeleine; la notion de fétichisme chez auguste comte et l’œuvre du président de brosses” du cultes des dieux fétiches”; revue de l’histoire des religions, année 1967, volume 171. – De Brosses Charles, Du culte des Dieux Fétiches ou Parallèle de l’ancienne Religion de l’Égypte avec la Religion actuelle de Nigritie, « Introduction », Paris, 1760. – Isamber François-Andre; Archives des sciences sociales des religions année 1998 volume:102; numéro:102.
[1] – Cours de philosophie generale, Auguste Comte, Tome Cinquieme, Paris, 1864. 25-26
[2] – ibid,, pp. 26
[3] – Cours de philosophie generale, , pp. 26-27
[4] -idem ; pp. 28-29.
[5] -idem; pp: 29.
- · Le panthéisme البانتييزم او فلسفة وحدة الوجود هي مذهب فلسفي يعتبر الاله هو الكل. وهي كلمة مركبة من لفظتين يونانيتين بان بمعنى الكل وثيوس بعنى الاله. وقد ظهرت هذه الكلمة لاول مرة سنة 1720 في الفلسفة الغربية. ومنذ سبينوزا فالمعنى الذي اعطي للكل مطابق لمعنى الطبيعة بمعناها المطلق، أي كل ما يوجد. وتختلف فلسفة وحدة الوجود عن النزعة الطبيعية، لان هذه الاخيرة ترفض فكرة الاله، ولا تؤمن سوى بقوانين او قوى الطبيعة. وفلسفة وحدة الوجود يمكن اعتبارها نزعة طبيعية الهية حتمية لانها تؤمن بضرورية القوانين الطبيعية.
[6] – Cours de philosophie generale, , pp. 32-34.
[7] – idem, pp. 39.
[8] – odem ; pp. 70-71.
[9] – Cours de philosophie generale,; pp. 36.
[10] – idem, pp. 39-40.
- · Pierre-Daniel Huet,دانييل هويي ولد سنة 1630 وتوفي سنة 1721 وهو مفكر موسوعي فرنسي.
[11] – Georges Canguilhem , Etudes d’histoire des philosophies des sciences, histoire des religions et histoires des scinecs dans la theorie du fetichisme chez Auguste Comte,pp: 86.
[12] – idem, pp:87.
- · Jean Sylvain Baillyجون سيلفان بايلي ولد سنة 1736 وتوفي سنة 1793 وهو عالم رياضي وفلكي واديب ورجل سياسي فرنسي.
- · Georges-Louis Leclerc, comte de Buffonجورج لويس لوكليرك ولد سنة 1707 وتوفي سنة ،1788 وهو فيزيائي وعالم رياضيات وفيلوسف وكاتب فرنسي. أثرت نظرياته على جيلين من علماء الطبيعة لاسيما لامارك وشارل داروين.
[13] – idem, pp:87.
- · Edward Herbert, 1st Baron Herbert of Chirbury هربرت اوف شيربري ولد سنة 1583 وتوفي سنة 1648 وهو عسكري بريطاني ومؤرخ وشاعر وفيلسوف.
[14] -idem ; pp:88.
- · Bernard Le Bouyer (ou Le Bovier) de Fontenelle فونتنيل ولد سنة 1657 وتوفي سنة 1757 وهو كاتب فرنسي.
[15] -idem, pp:89
- · Adam Smith أدم شميث ولد سنة 1727 وتوفي سنة 1790 فيلسوف وعالم اقتصاد ايرلندي. مؤسس علم الاقتصاد الحديث. ويعتبر كتايه ثروة الامم من النصوص المؤسسة بالنسبة لليبيرالية الاقتصادية. اشتغل استاذا للفلسفة الاخلاقية في جامعة كلاسكو . اثر كتابه في كل العلماء الاقتصاديين الذين جاؤوا بعده. والذين يطلق عليهم كارل ماركس بالكلاسيكيين، والذين سيضعون المبادئ الاساسية للبيرالية الاقتصادية. ويعتبره اغلب علماء الاقتصاد على أنه اب الاقتصاد السياسي.
- · Friedrich Max Müller ماكس ميلر ولد سنة 1823 وتوفي سنة 1900 وهو عالم لغة ومستشرق الماني من المؤسسين للدراسات الهندية والميوثولوجيا المقارنة. وقد تعرضت وتاويلاته الخاصة المعروفة كذلك بالميتولوجيا الشمسية للانتقاد، إلا أنه تمكن من التأسيس لمجال جديد بالنسبة للدراسات المقارنة.
[21] – idem, pp:96.
[22] -idem; pp:96.
[23] – idem; pp:97.
[24] Cours de philosophie generale, pp. 71.
[25] – Cours de philosophie generale, Auguste Comte , pp. 74-75.
[26] – Idem, pp. 31-32.
[27] – idem, pp. 36.
[28] – idem, pp. 29-30.
[29] – Cours de philosophie generale; pp. 34 -35.
[30] – idem, pp. 37.
[31] – idem, pp. 37-38.
[32] Cours de philosophie generale, Auguste Comte, Tome Cinquieme, Paris, 1864. 41 – 45.
[33] -idem; pp. 45 – 46.
[34] – Cours de philosophie generale, Auguste Comte, pp.76-78.
[35] – idem, pp. 48 – 49.
[36] – idem, pp. 49.
[37] – Cours de philosophie generale, , pp. 50.
[38] – idem, pp. 51.
[39] – idem, pp. 51
[40] – idem, pp. 52 – 53.
[41] – idem, pp. 53 – 54.
[42] – idem, pp. 54.
[43] – Cours de philosophie generale, , pp. 71 -73.
[44] – Cours de philosophie generale, Auguste Comte, pp.78-81.
[45] – idem, pp. 40-41.
[46] – idem, pp. 41.
[47] – Cours de philosophie generale, Auguste Comte;pp: 46 – 47.
[48] – idem, pp . 48.
[49] – idem, pp. 53.
[50] – Cours de philosophie generale, Auguste Comte, pp. 61 – 65.
[51] – idem , pp. 55
[52] – idem, pp. 55
[53] – idem. 55 – 56.
[54] – Cours de philosophie generale, Auguste Comte, pp. 66 -67.
[55] -idem;pp .68 – 69.
[56] – Cours de philosophie generale, Auguste Comte, pp. 59 – 62.
- · Annette Laming-Emperaire انيت لامينغ امبير ولدت سنة 1917 وتوفيت سنة 1977، وهي عالمة آثار فرنسية ومتخصصة في التاريخ القديم .وقد ولدت بروسيا ابان الثورة الروسية. غادرت عائلتها روسيا لتستقر في فرنسا.
- · Georges Canguilhem جورج كونكيليم هو فيلسوف وطبيب فرنسي، ولد سنة 1904 وتوفي سنة 1995. متخصص في الابستيمولوجيا وتاريخ العلوم نشر كتابات مهمة حول نشأة البيولوجيا كعلم، و الطب وعلم النفس والايديولوجيات العلمية. وعمل على تاويل احد المفاهيم الاساسية لماركس الايديولوجيا الالمانية، إلى جانب الاخلاق لاسيما التيميز بين المرض والسلامة الصحية، ومعرفة الحياة وهو زميل لكاستون باشلار. وينتمي الى مدرسة الابيستمولوجيا التاريخية الفرنسية. وكان له تاثير واضح على ميشيل فوكو، وتقوم اطروحته على أن الكائن الحي لا يمكن استنتاجه انطلاقا من القوانين الفيزيائية الكيميائية، وأنه ينبغي الانطلاق من الكائن الحي نفسه من أجل فهم الحياة. وعليه فلا يمكن اختزال دراسة البيولوجيا في التحليل المنطقي الرياضي.
[58] – idem ; pp :207.
[59] – idem ; pp :208.
[60] – idem ; pp :208.
[61]– idem; p:209
[62] _ idem, pp:209
- · Jean-Jacques Rousseau,جون جاك روسو ولد سنة 1712 وتوفي سنة سنة 1778. كاتب وفيلسوف وموسيقي فرنسي، من ابرز فلاسفة الانوار ومن الاباء الروحيين للثورة الفرنسية. ويعتبره شوبنهاور اكبر الاخلاقيين في الفكر الحديث وقد أثرت اعماله بشكل كبير على الفكر الثوري الفرنسي. و اشتهر بالخصوص بواسطة اعماله حول الانسان والجتمع والتربية. ان الفلسفة السياسية لروسو يمكن وضعها في اطار التصور التعاقدي للفلاسفة الانجليز للقرنين السابع عشر والثامن عشر.
[63] – La notion de fetichisme chez Auguste Comte et l’œuvre du president De Brosses” Du cultes des dieux fetiches”; Mademaine David ; pp:210.
[64] -idem, pp:211.
[65] -idem, pp:211.
[66]– idem; pp:211.
- · Antoine Destutt de Tracy (ou de Stutt de Tracy),انطوان ديستوت دي تراسي ولد سنة 1754 وتوفي سنة 1836 فيلسوف ورجل سياسة فرنسي.
[67] -idem, pp:212.
- · BRUNET(François-Florentin),فرنسوا فلورانتان بروني لم يعرف على وجه التحديد تاريخ ولادته، وكان من اللازاريين الذين وقفوا في وجه الثورة الفرنسية. توفي سنة .1806 له كتاب: توازي الاديان، في خمسة اجزاء ظهر سنة 1792
- · Jacques-Antoine Dulaure, جاك انطوان دولور ولد سنة 1755 وتوفي سنة 1835، عالم آثار ومؤرخ فرنسي
[68] – idem, pp:212.
- · Benjamin Constant de Rebecque, بنجامان كونسطان دي ريبك ولد سنة 1767 وتوفي سنة 1830، وهو مروج ورجل سياسة وروائي فرنسي سويسري . من مناصري الجمهورية، كان زعيما للمعارضة الليبرالية ومن المدافعين عن النظام البرلماني. وقد ألف اعمالا كثيرة حول قضايا سياسية ودينية. كما الف جملة من الروايات النفسية.
- · Charles Georges Leroy,شارل جوروج لوروا ولد سنة 1723 وتوفي سنة 1789، وهو مؤلف أول كتاب عن سلوك الحيوانات.
- ·la Critique philosophique de Renouvier et Pillon, 1872-1889
[83] – idem , pp:64.