التعذيب في السجون التونسية خلال النصف الثاني من القرن 19 من خلال وثائق غير منشورة
Torture in Tunisian prisons during the second half of the 19th century through unpublished documents
د.محمد البشير رازقي/كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية، تونس
Dr. Mohamed Bechir Rezgui/Faculty of Humanities and Social Sciences in Tunis
مقال منشور في مجلة جيل العلوم الانسانية والاجتماعية العدد 87 الصفحة 61.
ملخّص:نسعى من خلال هذا المقال إلى دراسة جانب مهمّ من التاريخ الاجتماعي لمدينة تونس خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر وهو التعذيب في السجون قبل استعمار البلاد التونسيّة. اعتمدنا على ثمانية عشر وثيقة غير منشورة محفوظة بالأرشيف الوطني التونسي. وتتمثّل الإشكاليّة الأساسيّة التي تخترق كامل النصّ وتتشابك مع مجمل الوثائق في تبيّن علاقة مفهوم الإصلاحات الداعي إلى العدل والإنصاف والحقّ بانتشار ممارسات التعذيب والتعسف في السجون التونسيّة.
الكلمات المفتاحية: التعذيب، البلاد التونسية، السجن، الإصلاحات، القرن 19.Abstract :
Through this article, we seek to study an important aspect of the social history of the city of Tunis during the second half of the nineteenth century, which is torture in prisons before the colonization of the Tunisian country. We relied on eighteen unpublished documents kept in the Tunisian National Archives. The main problem, which penetrates the entire text and intertwines with all documents, is to show the relationship of the concept of reforms calling for justice, fairness and the right to the spread of torture and abuse in Tunisian prisons.
Keywords: torture, Tunisia, prison, reforms, 19th century.
تقديم الوثائق
أنتجت الأسطوغرافيا التونسيّة عددا من الأبحاث التي تناولت المؤسّسة السجنيّة سواء خلال الفترة الحديثة أو المعاصرة، مع عدم التركيز على ممارسات التعذيب خلال خاصّة فترة النصف الثاني من القرن 19[1]، نسعى من خلال هذا العمل إلى دراسة جانب مهمّ من التاريخ الاجتماعي لمدينة تونس خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر وهو التعذيب في السجون قُبيل استعمار البلاد التونسيّة، اعتمدنا على ثمانية عشر وثيقة غير منشورة محفوظة بالأرشيف الوطني التونسي، ووظّفنا في هذا المقال على منهج طريف اشتغل عليه الأستاذ عبد الأحد السبتي في مُجمل أعماله، حيث يُقدّم الوثيقة ثمّ يعلّق عليها لا فقط مجرّد جرد للوثائق وعرضها[2].
وتتمثّل الإشكاليّة الأساسيّة التي تخترق كامل النصّ وتتشابك مع مجمل الوثائق في تبيّن علاقة مفهوم الإصلاحات الداعي إلى العدل والإنصاف والحقّ (عهد الأمان: 1857، الدستور: 1861، تأسيس المجالس) بانتشار ممارسات التعذيب والعسف في السجون التونسيّة[3].
وثيقة رقم 1:
تُبرز لنا هذه الوثيقة اعتماد التعذيب بكثافة وبقسوة عند التحقيق مع المتّهمين وذلك بعد ضغوطات من فاعلين اجتماعيين مؤثّرين ونافذين، مع توظيف آلات تعذيب قاسية إلى جانب الجّلد إلى درجة محاولة المتّهم الانتحار تجنّبا لعذاب التحقيق، وأثبت التحقيق براءة المتّهم بعد إخضاعه لتعذيب قاس، ولكن لم تتّخذ الدولة أيّ إجراء لإرجاع حقّه.
“الحمد الله، بمقتضى تقرير ورد للوزارة الكبرى من الوجيه المحترم السيّد العروسي بن عياد المطلّف بنظارة السجون مضمونه أن بعض المسجونين بالزندالة (اسم سجن بمدينة تونس) لحقهم ضرر من المكلف بضبطية باردو المعمور، صدر الإذن للهمام الأعز أمير الأمراء السيد حسن رئيس ضبطية الحاضرة بتجريد الواقع في ذلك بمحضر ناظر السجون المذكور وكاتبه، وفي يوم الأحد التاسع عشر من جمادى الأول سنة 1301(مارس 1884) إحدى وثلاثمائة وألف، وقع الاجتماع بمجلس الضبطية بالحاضرة للنظر في النازلة، وأحضر جناب الرئيس المذكور أحد الواقع عليهم التعذيب وهو عمّار بن علي اليزيدي وسأله عن سبب سجنه وعمّا وقع له من العقاب زيادة على السجن، فأجاب بأنه أُتّهم مع ثلاثة أنفار أخر بسرقة صندوق صغير به ثياب من محل الجنان بسانية المرفّع شأنه سيدي حسن باي بمنوبة، وأنّه مخضّر لغلّة سانية أمير أمراء الخيّالة السيّد رشيد بمنوبة أيضا وهو من سكّان الحريرية، فبينما هو يبيع الغلّة بباب البحر فلم يشعر حتى ألقي عليه القبض وذُهب به للأمير آلاي سي الحاج الشاذلي القصعاجي كبير ضبطية باردو المعمور، فأخذ يُقرّر (يستجوب) فيه عمّا أُتّهم به من السرقة، وجعل له آلة من خشب بساقيه تُشبه الزيار الذي يُجعل للخيل حال تصفيحها أو مداواتها لكنها هذه الآلة أكبر، وكبسها على ساقيه نحو 3 ساعات بمحضر الضابطين عُراب والمغيربي وجملة أنفار من الضبطية، ومما باشر كبس تلك الآلة الضبطي أحمد بوعبادة، وأنه بقي على تلك الحالة إلى أن انتفخت أصابعه وفُتّتْ وانحصر دمه في جسده وخرج من أنفه وفمه وعينيه وأُغمي عليه، فعند ذلك أمر به وسجنه ببيت مركز الضبطية هناك وقدم أهله وقد ظنّوه أنّه مات ثمّ أخذوا في علاجه بالسّمن وغير ذلك، ففاق بعد مدّة طويلة.
وسأله جناب الرئيس عن هذه الواقعة كم لها من المدّة، فأجاب أنها لنحو 20 أيام تقريبا حيث لم يحسن التاريخ وبالجملة أنها في الشهر الفارط، ثمّ أنه كشف عن قصبتي ساقيه وأطّلع عليها جناب الرئيس ومن كان حاضرا معه فإذا بهما أثر تلك الآلة، كما أحضر جناب الرئيس المذكور نفر آخر ممّن أخبر به ناظر السجون المذكور أيضا ويسمّى علي بن جعفر المهداوي تابع الأعزّ المنتخب أمير اللواء السيّد نجا وسأله عمّا وقع له حيث سُجن بالزندالة، فأجاب أن سيّده المذكور توجّه للإقامة بالمرسى منذ عامين فارطين عن التاريخ ووقع اختلاف سفاسر وفرارش (أغطية صوفيّة) وثياب من داره بباردو المعمور وحينئذ وقع سؤال كبير الضبطية هناك وهو سي الحاج الشاذلي القصعاجي هل له علم بذلك وطلب منه البحث عن تتبّع آثار السرقة المذكورة، فأجاب بأنّ علي بن جعفر المهداوي هو الذي اختلس الأثاث المذكور وحمله على كرّيطة وخرج به من باب باردو، ولما سمع السيد نجا بهذه المقالة قدم من المرسى إلى باردو ودعا علي بن جعفر تابعه ووجّه للأمير آلاي سي الحاج الشاذلي القصعاجي المذكور فأمر بسجنه ، ومن الغد أُحضر بين يديه بالمحل الذي يجلس فيه بسوق باردو المعمور وأخذ في استنطاقه وجعل له الآلة المذكورة في ساقيه وأخرى في يديه بمحضر أعوان الضبطية وكاتب الزندالة، ومع هذا التعذيب لم يقع منه إقرار، ثمّ أحضره من الغد وضربه 500 أسواطا في أوّل النهار وزاده 500 مثلها في المساء حتى أُغمي عليه، وحمله أعوان الضبطيّة للسجن بالزندالة وهو لا يشعر بشيء، وبعد أيّام أرسل الأمير آلاي المذكور من يأتيه بعلي بن جعفر المذكور من السجن بقصد إعادة تقريره، وحيث علم بذلك ألقى نفسه في بير هناك بالزندالة خوفا ممّا حلّ به العذاب وذكر أن وكيلي الزندالة يشهدان له بذلك وأن الواقعة حضرها عدّة أناس.
فأحضر جناب الرئيس وكيلي الزندالة وهما صالح القلفاط وأخوه سي عثمان وسألهما هل لهاته النازلة أصل وهي إلقاء الرجل بنفسه بالبير خوفا من التعذيب بالآلة المذكورة وضرب العصا، فأجاب سي عثمان القلفاط أنه لمّا أرسل سي الحاج الشاذلي قصعاجي للإتيان بعلي بن جعفر المذكور المسجون بالزندالة ألقى نفسه في البير أي بير الزندالة وأنه باشر إخراجه من البير بنفسه واستعان على ذلك باليوزباشي بابا أحمد التركي الذي بدار المرحوم سيدي مصطفى الوزير الأكبر كان بباردو المعمور، وأما أخوه سي صالح الفلقاط المذكور أجاب بأنه كان إذ ذاك بتونس وحين قدم لخدمته أعلمه أخور وبعض من حضر الواقعة لجميع ما وقع حال مغيبه تفصيلا.
وذكر علي بن جعفر المذكور أن الأثاث الذي اتّهم بسرقته ظهر بيد نفر عسكري من عسّة باردو المعمور وانفصلت النازلة على أيدي الضبطية بالحاضرة، وعند ذلك أمر جناب الرئيس بمراجعة دفتر النوازل بالمكان فوجد به أن الحاج محمد بن حسن المدايسي عسّاس الشمانديفير (السكك الحديدية) قرب باب الخضرا، تمكّن في صبيحة يوم 22 من شعبان 1298 على نفر عسكري بطريق السكة رافعا شكارة مملوءة حوايج (ثياب) وأُوتي به للدريبة (سجن الإيقاف بمدينة تونس) صحبة الشاوش محمد التركي وأقرّ العسكري المذكور بعد إنكاره بأن الحوائج (الثياب) المذكورة من دار السيد نجا، وحضر السيد نجا وتوصّل بحوائجه على نظر أمير لواء ووُجّه العسكري إلى عسّته بباردو المعمور.
فتبيّن مما تقدّم أن علي بن جعفر المذكور بريء مما أُتّهم به من السرقة وأن ما ناله من التعدّي عليه بالضرب وغيره كان على وجه الخطأ، كما أحضر جناب الرئيس المذكور والأربعة أنفار من ضبطيّة باردو وهم: محمد بن سعد القروي، البشير بوشعيره، حسن التركي، محمد عراب، وسألهم عمّا شاهدوه من نازلتي علي بن جعفر المهداوي وعمّار بن علي اليزيدي، فأجاب الأوّلان منهم بعدم العلم وإنهما غير حاضرين بباردو غير أنهما لما قدما من تونس وجدا أربعة أنفار مسجونين ببيت الضبطيّة يُقال إنهما في تهمة سرقة حيث لا إذن إذ ذاك بالسجن في الزندالة لصدور الإذن بغلقها، هذا ما يعلمانه فيما ذكر، ثمّ أجاب النفر الثالث بأنه هو أحد المتعيّنين لجلب الأنفار المتهومين أيضا وأنه حين قدم من تعين له واجتمع المتهومون أخذ سي الحاج الشاذلي في استنطاق عمار بن علي اليزيدي وجعل له الآلة المذكورة في ساقيه ثمّ سجنه من غير أن يخرج من دم أصلا، ثمّ أجاب النفر الرابع بأنه هو أحد المتعيّنين أيضا في نازلة الأنفار الأربعة المتهومين بالسرقة وقد بأحدهم، وعند اجتماع الكلّ بمحلّ الضبطية أخذ سي الحاج الشاذلي في استنطاق عمّار المذكور بالآلة المذكورة وسجنه ببيت الضبطيّة هناك كما تقدّم، وزاد في جوابه أنّه يعلم إلقاء تابع السيد نجا نفسه ببير الزندالة حين إذ سجنه سي الحاج الشاذلي المذكور ووقف عليه بنفسه إلى أن أُخرج من البير.
كما أحضر جناب الرئيس كاتب الزندالة سي محمد بن حميدة بن ميلاد وسأله عن نازلة علي بن جعفر المهداوي تابع السيد نجا فأجابه بأنه يسمع بهاته الآلة سماعا وأن هذا التابع سجن بالزندالة وحين أحضره سي الحاج الشاذلي فصعاجي كبير الضبطية بباردو بقصد تقريره بالآلة المذكورة ذهب ليطّلع على كيفيّة العمل فلمّا شاهدها اقشعرّ منها لمّا رأى من الكيفيّة الشنيعة ورجع لمحلّ خدمته، ومن الغد أرسل سي الحاج الشاذلي قصعاجي المذكور من يأتيه بعلي بن جعفر من الزندالة ليعيد استنطاقه ألقى بنفسه ببير الزندالة وبعد أن أخرج من البير كما تقدّم قيل له أردّت أتلاف نفسك قال لمن حضر نعم أموت دفعة واحدة ولا أُلاقي ذلك التعذيب الواقع عليّ بالأمس من كبير الضبطيّة المذكور،كما أحضر جناب الرئيس الضابطين بباردو أحمد بوعبادة وعلي المغيربي المشار إليهما أوّلا وسأل أحمد المذكور هل أن كبير الضبّاط بباردو يستعمل في بعض الأحيان آلة تشبه زيار الخيل لتقرير بعض الجناة الذين منهم عمّار بن علي اليزيدي، قال نعم وكنت أنا ممّن باشر جعلها لعمار المذكور بإذن من رئيسي سي الحاج الشاذلي القصعاجي، كما سأله عن مدّة شدّها عليه وهل خرج منه دمْ حال شدّها، فأجاب عن المدّة أنها فيما يتذكّر نحو الساعة تنقص وعن خروج الدم من بعض أعضاء اليزيدي أنه لم يقع أصلا.
ثمّ سأل جناب الرئيس الضبطي أحمد المذكور عن نازلة تابع السيد نجا، فأجاب بأنه فعل الآلة له حقّا وهو أول من جعل له ذلك وأنه باشر مع رئيسه شدّها، وأنها في ساقيه فقط لا في يديه، ثم أنه توجّه متعيّنا في نازلة بمنوبة ولم يشاهد الضرب بالعصا، لكنه لما رجع بلغه أن السيد نجا أتى بنفسه لمحلّ الضبطيّة ووقع جلد تابعه بالعصا بمحضره، كما سأل جناب الرئيس علي المغيربي الضبطي المذكور أعلاه عمّا يعلمه من قضيّة عمل الآلة المذكور لتقرير ذوي الجرائم، فأجاب فيما يتعلّق بعمار بن علي اليزيدي بأن كبير الضبطية بباردو جعلها بساقي المذكور وأنه ممّن باشر ذلك بإذن رئيسه مدة يسيرة من غير أن تسبّب منها خروج دم ولو من محلّ واحد، وفيما يتعلّق بتابع السيد نجا أنه لم يشاهد وضع الآلة المذكورة له لمغيبه في خدمة، وأما ضربه بالعصا فقد شاهده وأن عدد الضرب يقرب من الثلاثمائة ضربة، هذا ما يتذكّره في النازلة.
ثمّ أن جناب الرئيس أحضر الأمير آلاي سي الشاذلي قصعاجي كبير الضبطية بباردو وطلب منه أن يعرّفه أكان لهذه الآلة المتحدّث عنها وجود أم لا، وهل يستعملها في الاستنطاقات (التحقيق) أم لا، وعلى فرض وجودها هل جعلها لعلي بن جعفر المهداوي وعمار بن علي اليزيدي، فأجاب بنعم، إن لها وجود وكان يستعملها بعض الأحيان لتقرير بعض المتهومين من ذوي الجرائم بعد إقامة القرائن وامتناع المجرم من الإقرار صريحا منذ كان يخدم في الضبطية بالدريبة في مدّة المرحوم الرئيس السيد سليم قبل كلفته بالخدمة بباردو المعمور، وغاية الأمر بها هو تخويف بعض الجناة المصرّين على عدم الإقرار بما اتّهموا به.
وصورة الآلة المذكورة هي قطعتان من خشب تُجعل بينهم ساقي الشخص في نصف القصبة وتُشدّ أطراف ذينك القطعة بقرنب (حبل متين) جِيدْ المعروف بالسمطة حتى إذا أحسّ الشخص بالألم في ساقيه نطق بما كان يُخفيه في النازلة المتّهم بها، وقد صادقه على صورتها بوعبادة وعلي المغيري الضابطان المذكوران.
كما أجاب في شأن تابع السيد نجا بأنه ضربه بالعصا حقا لكن ضرب يسير الجاري به العادة في أمثال النازلة وأن ذلك على علم من سيّده، وطلبه منه ضربه لثبوت السرقة عليه وإنكاره حكاية الواقعة، وأن النازلة التي ضرب بها التابع المذكور خلاف السرقة التي ظهرت ببيت النفر العسكري، وأما قضية وضع الآلة بساقيه وأخرى بيديه على ما حكاه التابع المذكور آنفا فلا أصل لذلك.
وأجاب عن نازلة عمّار بن علي اليزيدي فإنه جعل له تلك الآلة فساقيه حقيقة وذلك حين أصرّ على عدم حكاية الواقع في شأن اختلاس الصندوق وما بداخله من ثياب ودراهم على ما ادّعاه خصمه، لكن بكيفيّة من غير كبير شدّة مثل ما تشكّى منها ووصفها عمّار المذكور التي تسيء السامعين فضلا عن الناظرين، وأن ما ادّعاه عمّار المذكور من بروز الدمّ من فمه وأنفه وعينيه من شدّة ضغط الآلة لا أصل له كلّه ولا يعقل أني أُعذّب آدميّ بمثل ما وصف.
ثمّ أن الرئيس طلب منه توجيه الآلة نفسها ليقع الاطّلاع عليها، فوعد بإرسالها غدْ يوم التاريخ وانصرف.
صحّ من : العروسي بن عياد، صحّ محمد بن مصطفى”[4].
وثيقة رقم 2:
تبرز لنا هذه الوثيقة تنوّع أدوات التعذيب، مثلما تبيّن لنا في الوثيقة السابقة، كما أنها تشتمل على اعتراف صريح من قبل ممارسي التعذيب أنفسهم وهم الضبطيّة حيث قالوا أن ممارستهم للتعذيب “يليّنون بها كلّ تين أبطأ طيبه”، وهذه الجملة هي تعبير مجازيّ قاس ويعني أن التعذيب عندهم يُسرّع في إنضاج ثمرة التّين قبل زمن نضوجها، أي أن ضحيّة التعذيب يعترف بذنوبه رغم رفضه لذلك، وحتّى لو لم يقترف شيئا، كما تبرز لنا الوثيقة الآثار الجسديّة التي عانى منها الضحيّة.
“الحمد الله، صلى لله على سيدنا محمد وسلّم، الصدر الهمام أمير الأمراء جناب الوزير الأكبر سيدي مصطفى وزير العمالة حرس الله كماله وأدام بمنّه إجلاله وإقباله أمين، أما بعد السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فإن النفر أعلاه (عبد الله بن محمد بوقرّة اليعقوبي) قدم إلى هذا المجلس ومعه خمس نفر حوانب وصبايحية (رتب عسكرية) وبيده تذاكر من مجلس الجنايات بالحاضرة تقتضي الإذن بتمكين ستّ نفر من المساجين له لإقامة البيّنة على أعينهم ببلد رفراف، فلمّا كانوا داخلين دريبة المجلس رأى بيد كل واحد منهم حبل جديد، فسألهم الحاضرون من فسيالات وغيرهم ما أنتم صانعون بهاته الحبال فأجابوا أنها عدّة يليّنون بها كلّ تين أبطأ طيبه، وهو إشارة إلى أنهم يشدّون على كلّ مسجون بذلك الحبل حتّى يعطيهم ما شاءوا من الدراهم، ولما مكّن المساجين الست بأيديهم لم يسع النفر أعلاه إلاّ أن عمد إلى حسن بن محمد الرفرافي أحد المساجين الستّ وأوثقه بالحبل الذي بيده وثاقا عنيفا حتّى تورّمت يداه وانحال لونهما إلى الزروقة (تحوّل إلى الزرقة) بحيث لو ذهب به على تلك الحالة لتلفت روحه وانقطعت حركة يديه، وعليه فإنّ المجلس لما رأى ذلك مع ما بلغه من توعّد ومعه المساجين بتعنيف الوثاق أذن بإيقاف النفر أعلاه حيث أنه باشر الإذاية (الأذيّة) وبعدم إعطاء المساجين لمن معه، حيث ظهر منهم الغرض، وها نحن عرّفنا الجناب بذلك وعلى ما تأذنوا به يكون العمل، والسلام إلى أمير اللواء حسن المقرون رئيس مجلس ضبطية الحاضرة في 16 شوال 1279 (6 أفريل 1863)”[5].
وثيقة رقم 3
تقدّم لنا هذه الوثيقة المهمّة معلومات عن حالة وفاة جرّاء التعذيب، والآثار الجسديّة التي وجدت على الضحيّة.
“الحمد الله، يعلن رئيس ضبطية الحاضرة هو أنه قدم للدريبة أحمد بن بوهلال الورتتاني وعثمان بوكمشه ونفر ثالث معهما لم يُعرف اسمه وبأيديهم الثلاثة أنفار المذكورين أعلاه (صالح بن علي الرياحي، محمد بن عويطي الرياحي، سليمان بن محمد بن مبروك من أولاد سيدي ناجي) موثوقين كتافا وذكروا أنهم مخازنيّة متعيّنين إليهم في دين عليهم قمح وشعير للأجل حميده بن عيّاد وطلبوا من السجّان أن يسجنهم لمقابلة حضرة مولانا وسيّدنا دام نصره، فسُجنوا ثمّ بعد ذلك وقع بالنفر المبدأ ذكره أولا أعلاه مرض فوجّه للمارسان للتداوي ومكث به يوم وليلة، وفي الليلة الثانية صار إلى عفو الله تعالى، فأخبرني نايب المارستان بموته قائلا إن الأطبّاء الذي به أخبروه أن النفر الهالك المذكور سبب موته هو شدّة الوثاق والكتاف ومرض حتّى دخلته الأنقريّة (الغرغرينا: (Gangrène،وحين بلغني ذلك وجّهت له طبيب الضبطية وعدلين لمعاينة موته وكتب رسم تسجيله، ولما كشف الطبيب عنه وتأمّل منه ألفى بيده اليسرى من نصف الذراع إلى الإصبع نفاخ كثير وسواد كثير وأثر كتاف، وبيده اليمنى سلخ أيضا من أثر الكتاف، فقال الطبيب المذكور أن أصابع يديه ميّتة لكونه دخلته الأنقرية وسبب النفاذ والسواد ودخول الانقرية هو الكتاف، وأنه موافقا لقول الطبيبين الذي بالمارستان موافقة تامّة وعلى ما ذكراه الطبيبان المذكوران مع نفرين خدمة هناك بالمارستان أنهم سمعوا من النفر الهالك المذكور قبل موته أن سبب ما حلّ به من المرض والنفاخ الذي بيده هو من شدّة وثائق الكتاف وأنه مدين بجانب قمح وشعير للأجل حميده بن عياد المذكور، وأنه عيّن له ولنفرين آخرين ثلاثة أنفار مخازنية وأنهم أوثقوهم كتافا وجلبوهم للحاضرة وسجنوهم بالدريبة، كما أن ذلك كلّه مقرّ برسم تسجيله، ثم ظهر أن النفر الثاني أعلاه حلّ به مرض بالسجن فأذن الطبي ينظره، وعلى ما ذكره الطبيب أنه ألفى بيده نفاخ وسواد من أثر كتاف، وبيدي النفر الثالث المذكور أعلاه أثر جراج برئ من أثر الكتاف، وعلى ما ذكره الطبيب أن الثاني متضرّر ويُخشى عليه ما حلّ برفيقه الذي مات، وأن النفر الثالث غير متضرّر، فوجّهت المتضرر للمارستان للتداوي ثم أن محمد بن أحمد بوهلال أحد الأنفار المتعيّنين المذكور أتى يسأل عن خمّاس له مسجون بالدريبة ولما بلغني قدومه حفظته بالسجن وأعلمت عليّ جنابكم ليكن في شريف المعلومات، كتب في 9 ربيع الثاني 1282 (1 سبتمبر 1865)”[6].
وثيقة رقم 4
تبين لنا هذه الوثيقة استغلال بعض أعوان الدولة سلطاتهم ونفوذهم لتعذيب ما ينافسهم على مصالحهم السياسة والاقتصاديّة، حيث تُوظّف أجهزة الدولة لإقصاء المنافسين
“الهمام المفخّم الصدر الأعظم الوزير الأكبر شامخ المقدار سيدي مصطفى حرسه الله بمنّه أمين، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد فإني كنت مشغول بخصوصيتي نفسي حتى طلب مولاي أيّده من أهل وطن الأعراض انتخاب من يقدّم للحق العمومي يشهدوا الناس بيه، وقدمت بأمر مولانا أيّده الله وكيل في الحق العمومي، فصرت في موجب ذلك أعرض بعض الشكايات للمجلس الجنايات بالأعراض في بعض الحقوق العمومي، وربّما أشتكي للمجلس في بعض جنايات يتعاطاها العمل مما ليس لهم يعاطيه ولا يوصلونه للمجلس قطّ، فحصل منهم الجفي بسبب ذلك فلما قدمت المحلة المنصورة مشيتوا (مشوا) إلى الهمام الأعزّ سيدي سليم آغو الأعراض ليسلم عليه، معا المجلس وجماعة الأعراض، بمجرّد ما لقيته أمر بسجني وقال لي هرجت على عملي في الوطن وسجنني وأوضع في رقبتي غلاّ بالمحلّة، ولا وجدّت خصما يقبلني، ولي وقت بتاريخ الجواب خمسة عشر يوم بالسجن والمحلّة، ولم وجدّت خصما يخاصمني، ويرغب فينا الفاضل الزكي الشيخ باش مفتي سيدي محمد صالح وذكر لي سلّم لي أمر ولايتك ونسرّحك من السجن وألزم دارك ولا تتشكّ بالعمّال فيما يتعاطوه من الجنايات، المرغوب من السيادة أن تنظر في أمر لوجه الله عز وجلّ كون مولانا أيده الله لمّا قدّمني على الحقّ العمومي حملني أمر شاق، ومجد مولانا أيّده الله لا يتركني لهمومي، المرغوب من السيادة الإذن في التوجّه لحضرتكم لنشتكي على نفسي وعلى ما حلّ بي من الظلم، وفي شهر رمضان المعظّم تروح أغلال في رقبتي والسلام من مقبّل راحتكم أحمد بن محمد بن جراد وكيل حقّ عمومي بالأعراض في 21 رمضان المعظم قدره سنة 1280 (29 فيفري 1864)، صحّ ما نسب عليه”[7].
وثيقة رقم 5
يعدّ التعذيب ممارسة أساسيّة في حال لم يعترف المتّهم بما نُسب إليه خاصّة إذا كان الشاكي متنفّذا اجتماعيّا.
“الحمد الله، صلّى الله على سيّدنا ومولانا وآله وصحبه، الصدر الهمام أمير الأمراء جناب مولانا الوزير الأكبر سيدي مصطفى حرس الله كماله وأدام إقباله إجلاله السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد فالذي يجب به إعلام عليّ جنابكم أن الماسي فرانسيس كان ادّعي بضياع دراهم من بيته واتّهمت به أناس أفضى الحال إلى سجن الخمسة أنفار أعلاه (علي الرقيعي، علي المهر، علي الجبالي، سالم الوارقلي، الساعيد بن أحمد الأراتيني)، ولما طالت المدّة وهم بحال السجن بمجرّد التهمة شافهت عنهم رفيع جنابكم وأمرتنا بتعريف ماسي المذكور بذلك، ولما أرسلنا له وعرفناه بحال المذكورين وأنهم طال سجنهم ولم يفد منهم شيء مع أنهم جُلدوا حين السجن، فأجاب بقوله إنه لا يتعرّف من جهتنا بخطاب ولا غيره بل يعرف دار قنصله ويعرف الستة آلاف ريال التي ضاعت له، ولما كان المذكورين لهم مدّة ثمانية أشهر بالسجن أعلمت بحالهم على جنابكم ونظركم أتمّ وأصلح ودمتم بأمن الله تعالى وحفظه والسلام من الفقير أمير الأمراء سليم رئيس ضبطية الحاضرة عفي عنه في 7 شعبان الأكرم من سنة 1288 (22 أكتوبر 1871)”[8].
وثيقة رقم 6
رسالة تظلّم من رجل إلى وزير العمالة بيّن فيها الظلم والتعذيب الذي تعرّض له هو وأفراد عائلته من طرف عدد من أعوان الدولة، عون الدولة في هذه النازلة يرغب من الضحيّة أن يبيع له دارا بالجبر والإكراه.
“…إنني رجل طالب، غريب قوم وليس لي بعيد ولا قريب سوى مولاي والموالي الواحد المتعالي…لي مدّة ثمانية أشهر مسجون من غير ذنب وتسبّب في سجني سي إبراهيم الرياحي لأجل دار لي بمحروسة تونس مجاورة لداره، وطلبني في بيعها إليه فأجبته بأن داري هي قبر الحياة لا نفرّط فيها، فلازال يتلصّص علي، فأخبرت بذلك سيدي المرحوم برحمة الحيّ القيّوم سيدي فرحات عامل الكاف فأمرني ألا أبيع إلاّ بطيب نفسي ولا تسأل عنه إلى أن توفّي (أي فرحات عامل الكاف) رحمة الل عليه، إلى أن خرجت محلّة سيدنا الباي أيده الله ونزلت بالقرب من وطن ماجر، فعيّن إليّ سي إبراهيم المذكور أذباشي وزوج حوانب وزوج صبايحية وسبعة خدّام من تبّاعه إلى قرية المزواري وتمكّنوني أنا وأخي بالكتاف والتحديد وعذّبونا بأنواع العذاب وتوجّهوا بنا إلى المحلّة…لمّا قابلته (أي قابل إبراهيم الرياحي) طلبنا في عقد الدّار…فامتنعنا من إعطائه وفوّضنا أمرنا إلى الله، فوضعنا في الأغلال ووجّهنا مع المحلّة ذهابا وإيّابا راجلين (أي مترجّلين) حافيين جايعين (جائعين) ومات أخي من شدّة ما أصابه، ولازلت أنا في السجن وهو إلى الآن يتوعّد إليّ…ثمّ لمّا رجعت سيادتكم إلى دار الكاف ورميت مصروف المحلّة على أهل قرية الزوارين فأوّل ما بادروا أهلها على رزقي وجميع منابي وباعوه وخلّصوا به جلّ الرمية، وبقيت نسائي وأولادي هاملين ونحن إلى الله صابرين ولم يبقى إليّ شيء، وصرت تحثّ عليّ بعض المسجونين (أي يتحرّش به المساجين بالتواطؤ مع المشرفين على السجن)، فهذا ما صار علينا أخبرت سيادتكم لتغير علينا وتنظر علينا غيرة المسلمين…نطلب من سيادتكم أن تعتق رقبتي وتطلق سراحي من السجن…في ربيع الثاني 1288 (جوان 1871)”[9].
وثيقة رقم 7
شهادة أحد المساجين حول تأثير السجن على حالته الجسدية.
“أجلّ الله مقام أهل الحق والتوفيق وأيّدهم وأمّنهم وحفظهم بجاه النبيّ الرفيق إلى حضرة الهمام القدوة سيدي رستم وزير العمالة أيده الله أمين السلام التام عليكم…وبعد فالذي نخبر به سيادتكم يكون خير إن شاء الله هو أنه طال سجني وتألّم بدني وصعب حالي وانتقلت جماعتنا إلى دار بن عسا ل وبقيت أنا مريضا متألّما في دار الوحشة والوبال نطلب الفضل من الله ثم من السيادة أن تعتق رقبتي وتطلقني من السجن وتجمع شملي لوجه الله لوفاة أبي بعدي رحمه الله وعافاك الله، وبقيت حيران…في ربيع الثاني 1282 (أوت 1865)”[10].
وثيقة رقم 8
قُبض على رجل متّهم بجريمة قتل: “قبضوا على يديه بمحارم، كلّ مسكه من يده، والآخر من كتفه الأيمن وآخر من الأيسر” ومعه والده و”قرنوا بسلسلة ودقّت إلى الحائط قصيرة وبقوا(أي جلسوا) على الرخام، حتّى أنّهم طلبوا حصيرا لجلوسهم من الأنباشي علي بن حميده فلم يأذن بإعطائهم ذلك…يتوجّهوا بالسجن ومعه والده، فمثّل الأعوان بهما في الطرق، فلمّا بلغوا للقصبة جعلوا لهم أغلالا في أعناقهم بسلسلة وأثبتت(أي السلسلة) في الحائط”[11].
وثيقة رقم 9
رسالة تظلّم من رجل إلى وزير العمالة من أجل إطلاقه من السجن: “طال انتظارنا ومسّنا الضرّ من الألم عفاك الله وكرب السجن ونفقت مصاريفنا وبعنا ثيابنا ولا بقيت منّا إلا الأجسام على أضعف حال ونحن أناس توازرية (مدينة توزر) غرباء لا عندنا سند إلاّ الله ثم السيادة…في ربيع الثاني 1288 (جوان 1871)”[12].
وثيقة رقم 10
توظيف أعوان الدولة للتعذيب لإهانة المتّهم وإجباره على التخلّي على أملاكه ومكتسباته[13]، وتبرز لنا هذه الوثيقة انتشار التعذيب في سجون المدن الداخليّة من البلاد التونسيّة، حيث يتمتّع العامل (حاكم العمل) والشيخ بسلطات واسعة ولهذا رفض هؤلاء الفاعلين السياسيّين (العامل، الخليفة، الشيخ، الفقهاء، العدول) المتنفّذين في الجهات إصلاحات النصف الثاني من القرن 19 (خاصة دستور 1861)، وهي إصلاحات حاولت التقليل من نفوذ أعوان الدولة ومأسسة ممارسات السياسية والماديّة وتجريدهم من صلاحيّات واسعة وحماية السكان من ظلمهم المادي والمعنوي[14]، من ناحية أخرى كانت الدولة على علم بكلّ الظلم الممارس سواء في مدينة تونس أو في بقيّة مدن الإيالة، ولم تبادر في أغلب الأحيان إلى ردع أعوانها بسبب اعتمادها على العائدات الجبائيّة المشرفين هم على تجميعها من السكّان، إذا فقد طغت المصلحة المادية للدولة على مصلحة السكّان مما ساهم في تغليب كفّة أعوان الدولة[15]، وبالتالي انتشار ممارسات التعذيب في السجون.
“قد كان المنتخب أمير اللوا(ء) السيد علي أرسل أربعة من تبّاعه كأخيه محمد بن رحومة وأذنه معهم بالتحكّم (القبض عليهم) علينا، فصار لنا ذلك وقد تحكّم (قبض) عنّي وعن والدي وإخواني وسجننا، وحلّ بنا منه من الشتم والضرب وشدّ الوثاق ما لا يُوصف، ومن تفصيل ما حصل بنا منه أنه استولى على ديارنا بما فيهم وأخذ ما بهم من الدراهم والحليّ وما جاء في غرضه، ثمّ بعد ذلك أتى بعدول وقيّد بهم ما أبقاه، واستولى على مكاسبنا من بقر وأحمره ومعز، ولم يبقى لنا إلاّ ما حصل فوق أبداننا (أي الثياب)، وطُرحنا في بيت مقفولة ليس فيها منفذ ثلاثة أيّام بلا أكل ولا شرب إلى أن أذقنا في ذلك حرارة الموت وعجزنا عن الحركة، وصار في كلّ يوم يتردّد علينا يطلب الدراهم، ولم نعلموا من أيّ شيء يطالبنا، فلما نعارضوه (كذا: نعارضه) بأن جميع ما عندنا استوليت عليه وهو عندك فيأتي بالسياط لضربنا ويشتدّ بنا الروع والشتم، في أيّام بداية سجننا جعل علينا للأتباع الأربعة المذكورين مائة ريال وخمسين ريال مصروفا لهم وخمسة وعشرين ريالا مؤونتهم ودوابهم وألزم علينا أن نتسلّفوا (نتسلّف) ذلك وندفعوه لهم، ومع ذلك كل ما نكسبوه (كذا: نكسبه) تحت يده كما هو معلوم الخاص والعام، وكل ما ذكرناه أعلاه يدّعي بأنه بإذن أخيه أمير اللوا(ء) المذكور كما يدّعي أنه الآن هو عامل الجريد وأخيه أمير اللوا(ء) صار وزيرا لا يتوصل بواسطة ولا يحجب عن المكان العليّ الرفيع أبقا الله خلوده، مقصوده (كذا: مقصده) بهذا الإفشاء إتّباع الناس إليه لتجرّأ علينا وعلى ما هو قاصده من الرعيّة فينا له، ومن جملة ما ناله بذلك أرسل الخزنة يجمعون له فيمن يجدون من عشائر توزر والذي يحضر بين يديه يغضبه بأن يشهد بما ليس يعلم بأننا نحن الذين أوقعنا الفتن الماضية والفساد، وكتب منهم ما ظهر له غصبا، ونحن معاذ الله أن نفعلوا ذلك بل نحن جرينا على العافية، كما ها هي تصل لحضرة مولانا المعظّم سيدي الوزير الأكبر حجّة من العشائر (العشائر) توري للنظر السديد ما كنّا تسبّبنا فيه من العافية، وتتقابل حجّتيْ القاهر والمقهور ويتّضح الحقّ من الباطل، وإذا صدر إذن علي مطاع به سمة الخير والصلاح بالجريد وأعيانه في تشهيدهم على ما تسبّبنا فيه بل وعلى ما هو حلّ بنا الآن من أليم العذاب وفي توليته جميع كسبنا كما ذكرنا، ويا سيّدي حرسك الله قد اشتدّ بنا هذا الكرب العظيم والبلاء الجسيم فها نحن عرضنا كل ما قرّرناه أعلاه على حضرة مولانا الأرفع سيدي الوزير الأكبر أبقا الله وجوده طالبين من الفضل الوافر صدور الإذن العليّ في قدومي للحضرة العليّ ويعرض على الأذهان الفايقة (المنتبهة) دعوات الجميع وينتصر المظلوم وينخذل الظالم…صحّ من كاتبه خليل بن الشاذلي التوزري…في 12 ربيع الأنور 1282 (5 أوت 1865)”[16].
وثيقة رقم 11
يتأثّر جسد المسجون سواء جرّاء التعذيب أو بسبب الظروف المهينة في السجن، ورد في شهادة أحد المساجين “إنّنا مساجين وطال بنا السجن، وضاعت أبنانا وأهلنا، ومصّنا الضرر في أبداننا، فمنّا من أصيب في سمعه من كثرة الحسّ، ومن منّا من أصيب في نضره(نظره) من قبح رايحه (رائحة) وحجبها عن الشمس”[17].
وثيقة رقم 12
ورد في الوثائق أدلّة عن إهمال كبير تعرّص له السجين مثل حالة رجل “من عربان العروش الرقاق” توفّي “من جرّاء انعدام القوت (الأكل)”[18] أي مات جوعا.
وثيقة رقم 13
تعرّض المساجين لعذاب من نوع آخر وهو الاكتظاظ الشديد: “مع شدّة ما لحقهم من درك السجن لضيق المحلّ المحبوسين به”[19].
وثيقة رقم 14 و15
تسبّب اكتظاظ السجون في سرعة تناقل العدوى خاصة زمن الأوبئة: ” وقع مرض الحمّاء(أي الحمّى) عافاكم الله في المساجين الذي في الزندالة (اسم أحد ش المشهورة)، وكلّ يوم يموتوا أربعة أو خمسة”[20]، وورد في وثيقة أخرى: “أخبر السجّان المجلس بأنّ 6 أنفار من المسجونين في سجن الجنايات ساروا إلى عفو الله”[21].
وثيقة رقم 16
إلى جانب عذاب الاكتظاظ وخطر العدوى عانى المساجين من اتّساخ السجون وهذا ما يسرّع ضورة من وتيرة العدوى: “سجن اليهود بمجلس الضبطيّة في غاية العفونة (متّسخة جدّا)”[22].
وثيقة رقم 17
ينقطع الماء في أحيان كثيرة عن غرف المساجين “سبّالة (حنفيّة) الدريبة (سجن الإيقاف) تنقطع بعد غروب كلّ يوم ولا تجري إلاّ بعد الزروق (شروق الشمس)”[23].
وثيقة رقم 18
عانى السجناء من تلوّث السجن وخاصّة وجود “البقّ” وما يسبّبه من ألم في اليقظة وقلق في النوم[24].
خاتمة :
تبيّن لنا من خلال مقالنا “التعذيب في السجون التونسية خلال النصف الثاني من القرن 19 من خلال وثائق غير منشورة” اعتماد مجلس الضبطيّة (الشرطة) في تونس بطريقة أساسيّة على التعذيب عند التحقيق مع المتّهمين من أجل معرفة الحقيقة أو لانتزاع اعتراف أو قسريّ، وقد وُظّفت وسائل تعذيب قاسية بدنيّة ونفسيّة مع الاعتماد على آلات تعذيب متنوّعة، والمهمّ في هذا المقال أن التعذيب كان بدراية من السلطة، بل وتوجيه منها حيث لم يكن عملا ظرفيّا أو فرديّا، فقد مثّل التعذيب ركنا أساسيّ في عمل أعوان الضبطيّة، رغم ما انجرّ عن التعذيب من حالات مرض وموت ومحاولات انتحار، كما تبيّن لنا اعتماد رقم من أعوان الدولة على التعذيب للانتقام من خصوم سياسيين واقتصاديين، حيث تحوّلت هذه الممارسة من وسيلة للتحقيق ومعرفة الجناة إلى أداة سياسيّة، كما برزت لنا أنواع أخرى متنوّعة من التعذيب مثل عدم اعتناء السلطة بنظافة السجن وبصحّة المساجين وبأكلهم وشرابهم.
نقول في الأخير أن البلاد التونسيّة عايشت أزمات عديدة خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر قُبيل الاستعمار الفرنسي (1881) من قبيل الأزمات الوبائيّة والاجتماعيّة والاقتصادية، لكن بالمقابل ساهم ظلم السلطة وفسادها ووعي المجتمع بهذه الممارسات في إفشال سياسة الإصلاحات (التي تمخّض منها مجلس الضبطية نفسه) من جهة والتمهيد للاستعمار الفرنسي من جهة أخرى.
قائمة المصادر والمراجع:
1.الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، الصندوق: 55، ملف 602، ملف فرعي: 5.
2.الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، الصندوق: 55، ملف 602، ملف فرعي: 15.
3.الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، الصندوق: 55، ملف 602، ملف فرعي: 17.
4.الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، الصندوق: 55، ملف 602، ملف فرعي: 33.
5.الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، الصندوق: 55، ملف 602، ملف فرعي: 20.
5.السلسلة التاريخية. الصندوق رقم 119. الملف رقم 419. رقم الوثيقة 1004.
6.السلسلة التاريخية. الصندوق رقم 219 مكرّر. الملف رقم 337 مكرّر. الملف الفرعي 3/7.
7.السلسلة التاريخية. الصندوق رقم 55. الملف رقم 602. الملف الفرعي 22.
8.السلسلة التاريخية. الصندوق رقم 55. الملف رقم 602. الملف الفرعي 9.
9.الأمجد بوزيد، “السجن والمساجين بجهة الأعراض بين 1868 و1881 من خلال وثائق الأرشيف الوطني”، المجلّة التاريخيّة المغربيّة، الرقم 77- 78، 1995.
10.برتران بديع، زمن المذلولين: باثولوجيا العلاقات الدوليّة، ترجمة: جان ماجد جبّور، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت/الدوحة، 2015.
11.عبد الأحد السبتي، الزطّاط وقاطع الطريق: أمن الطرق في مغرب ما قبل الاستعمار، دار توبقال للنشر، المغرب 2009.
12.عبد اللّطيف الحنّاشي، السياسة العقابيّة الاستعماريّة الفرنسيّة بالبلاد التونسيّة (1881- 1955)، كلية الآداب والفنون والانسانيّات بمنّوبة/ الدّار التونسيّة للكتاب: سلسلة وقائع الأيّام، تونس، 2020.
13.محمد البشير رازقي، “السّجن والسجناء في مدينة تونس خلال النصف الثاني من القرن 19 (1860- 1881): منطق الدولة ومنافسوه المحليّون”، روافد: مجلة المعهد العالي لتاريخ تونس المعاصر، جامعة منّوبة، الرقم 25، 2020.
14.محمد البشير رازقي، إيالة وإمبراطوريتان: البلاد التونسية والصّراع على عهد الأمان (1855- 1870)، دار كلمات للنشر والتوزيع، مصر، 2021.
15.محمد البشير رازقي، عمل باجة وظهيره الريفي آخر القرن 19 والنصف الأول من القرن العشرين والإنتاج التاريخي لشبكات المصالح: محاولة في تاريخ الظّلم، دار كلمات للنشر والتوزيع، مصر، 2022.
16.يرنهارت ج. هروود، تاريخ التعذيب، ترجمة: ممدوح عدوان، ممدوح عدوان للنشر والتوزيع، بيروت، 2008.
أطروحات غير منشورة
17.حسين بوجرّة، المساجين وهياكل الردع والتراتبيّة الاجتماعيّة بالبلاد التونسيّة في منتصف القرن التاسع عشر من خلال الوثائق السجنيّة للزندالة والكرّاكة، شهادة الكفاءة في البحث، كليّة العلوم الإنسانية والاجتماعيّة بتونس، تحت إشراف: عبد الحميد هنيّة، 1986، محفوظة في مكتبة الكليّة تحت رقم: T3554.
18.Habib Belaid, «La détention politique dans la Tunisie coloniale (1881-1938)» , dans : Rawafid, n°2, 1996, ISHMN, Tunis.
19.Habib Belaid, «La prison civile de Tunis à l’époque coloniale: incarcération et résistance» , in : CHANSON JABEUR Chantal, FOREST Alain et MORLAT Patrice (coordination de), Colonisations et répressions, Paris, Les Indes Savantes, 2015.
20.Habib Belaid, «Lieux de détention et statut du prisonnier politique dans la Tunisie coloniale (1920-1947)» Rawafid, n° 3, 1997, ISHMN, Tunis.
21.Hénia Abdelhamid, «Prisons et prisonniers à Tunis vers 1762: Système répressif et inégalités sociales»،in:Les provinces arabes et leurs sources documentaires à l’époque ottomane, Actes du 7eme symposium de commutes internationales d’études pré-ottomane et ottomanes (C.I.E.P.O) Tunis, Centre d’étude et de recherche sur les provinces arabes à l’époque ottomanes, 1984.
22.Sadok Boubaker, «Négoce et enrichissement individuel à Tunis du 17e siècle au début du 19esiècle» ,Revue d’histoire moderne et contemporaine, 2003/4, no50-4.
ملحق الوثائق
الوثيقة رقم 1: الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، الصندوق: 55، ملف 602، ملف فرعي: 5، و67980.
وثيقة رقم 2: الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، الصندوق: 55، ملف 602، ملف فرعي: 33، و76657.
وثيقة رقم 3: الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، الصندوق: 55، ملف 602، ملف فرعي: 17، و72229.
وثيقة رقم 4: الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، الصندوق: 55، ملف 602، ملف فرعي: 15، و71893.
وثيقة رقم 5: الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، الصندوق: 55، ملف 602، ملف فرعي: 33، و76667.
الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، الصندوق: 55، ملف 602، ملف فرعي: 33، و76609.
[1]من الأعمال الأجنبيّة المهمّة في هذا الإطار أنظر: بيرنهارت ج. هروود، تاريخ التعذيب، ترجمة: ممدوح عدوان، ممدوح عدوان للنشر والتوزيع، بيروت، 2008.
[2]عبد الأحد السبتي، الزطّاط وقاطع الطريق: أمن الطرق في مغرب ما قبل الاستعمار، دار توبقال للنشر، المغرب 2009.
[3]أنتجت الأسطوغرافيا التونسية أعمالا عديدة حول السجون أنظر: عبد اللّطيف الحنّاشي، السياسة العقابيّة الاستعماريّة الفرنسيّة بالبلاد التونسيّة (1881- 1955)، كلية الآداب والفنون والإنسانيات بمنّوبة/ الدّار التونسيّة للكتاب: سلسلة وقائع الأيّام، تونس، 2020، ص.53-78+ ص.209- 233؛الأمجد بوزيد، “السجن والمساجين بجهة الأعراض بين 1868 و1881 من خلال وثائق الأرشيف الوطني”، المجلّة التاريخيّة المغربيّة، العدد 77- 78، 1995، ص.11- 36؛حسين بوجرّة، المساجين وهياكل الردع والتراتبيّة الاجتماعيّة بالبلاد التونسيّة في منتصف القرن التاسع عشر من خلال الوثائق السجنيّة للزندالة والكرّاكة، شهادة الكفاءة في البحث، كليّة العلوم الإنسانية والاجتماعيّة بتونس، تحت إشراف: عبد الحميد هنيّة، 1986، محفوظة في مكتبة الكليّة تحت رقم: T3554؛ محمد البشير رازقي، “السّجن والسجناء في مدينة تونس خلال النصف الثاني من القرن 19 (1860- 1881): منطق الدولة ومنافسوه المحليّون”، روافد: مجلة المعهد العالي لتاريخ تونس المعاصر، جامعة منّوبة، العدد 25، 2020، صص.153- 185.
Hénia Abdelhamid, « Prisons et prisonniers à Tunis vers 1762 : Système répressif et inégalités sociales », in : Les provinces arabes et leurs sources documentaires à l’époque ottomane, Actes du 7eme symposium de commutes internationales d’études pré-ottomane et ottomanes (C.I.E.P.O), Tunis, Centre d’étude et de recherche sur les provinces arabes à l’époque ottomanes, 1984, pp. 223- 252 ;Habib Belaid, « La détention politique dans la Tunisie coloniale (1881-1938) », dans : Rawafid, n°2, 1996, ISHMN, Tunis, pp. 175‑196 ;Habib Belaid, « Lieux de détention et statut du prisonnier politique dans la Tunisie coloniale (1920-1947) », Rawafid, n° 3, 1997, ISHMN, Tunis, pp. 79-104 ;Habib Belaid, « La prison civile de Tunis à l’époque coloniale : incarcération et résistance », in : CHANSON JABEUR Chantal, FOREST Alain et MORLAT Patrice (coordination de), Colonisations et répressions, Paris, Les Indes Savantes, 2015, p 255-268.
[4] الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، الصندوق: 55، ملف 602، ملف فرعي: 5، و67980.
[5]الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، الصندوق: 55، ملف 602، ملف فرعي: 15، و71893.
[6]الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، الصندوق: 55، ملف 602، ملف فرعي: 17، و72229.
[7]الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، الصندوق: 55، ملف 602، ملف فرعي: 33، و76609.
[8]الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، الصندوق: 55، ملف 602، ملف فرعي: 20، و73143.
[9]الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، الصندوق: 55، ملف 602، ملف فرعي: 33، و.76657.
[10]الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، الصندوق: 55، ملف 602، ملف فرعي: 33، و.76661.
[11]السلسلة التاريخية. الصندوق عدد 219 مكرّر. الملف عدد 337 مكرّر. الملف الفرعي 3/7. عدد الوثيقة 257.
[12]الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، الصندوق: 55، ملف 602، ملف فرعي: 33، و.76667.
[13]كثيرا ما تعتمد السلطة السياسية على سياسات الإذلال لافتكاك الاعتراف من المحكومين. أنظر: برتران بديع، زمن المذلولين: باثولوجيا العلاقات الدوليّة، ترجمة: جان ماجد جبّور، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت/الدوحة، 2015. من ناحية أخرى عُرف عن تاريخ الدولة التونسيّة خلال الفترة الحديثة اعتماد الدولة على مصادرة الأرزاق والأموال من الناس (التتريك والتبيليك). أنظر:
Sadok Boubaker, « Négoce et enrichissement individuel à Tunis du 17e siècle au début du 19e siècle », Revue d’histoire moderne et contemporaine, 2003/4, no50-4, pp.29- 62.
[14]محمد البشير رازقي، إيالة وإمبراطوريتان: البلاد التونسية والصّراع على عهد الأمان (1855- 1870)، دار كلمات للنشر والتوزيع، مصر، 2021.
[15]محمد البشير رازقي، عمل باجة وظهيره الريفي آخر القرن 19 والنصف الأول من القرن العشرين والإنتاج التاريخي لشبكات المصالح: محاولة في تاريخ الظّلم، دار كلمات للنشر والتوزيع، مصر، 2022.
[16]الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، الصندوق: 55، ملف 602، ملف فرعي: 33، و.76659.
[17]السلسلة التاريخية. الصندوق عدد 55. الملف عدد 602. الملف الفرعي 33. عدد الوثيقة 76693 (شعبان 1282/ ديسمبر 1865.
[18]نفس المصدر. الملف الفرعي 17. عدد الوثيقة 72447.
[19]السلسلة التاريخية. الصندوق عدد 119. الملف عدد 419. عدد الوثيقة 1004.
[20]السلسلة التاريخية. الصندوق عدد 55. الملف عدد 602. الملف الفرعي 33. عدد الوثيقة 76645.
[21]نفس المصدر. الملف الفرعي 9. عدد الوثيقة 70341.
[22]نفس المصدر. عدد الوثيقة 71046(محرّم 1278).
[23]السلسلة التاريخية. الصندوق عدد 55. الملف عدد 602. الملف الفرعي 22. عدد الوثيقة 73752.
[24]نفس المصدر. الملف الفرعي 33. عدد الوثيقة 76689.