شروط ومبادئ قيام الحداثة الإسلامية – مقاربة تحليلية في نظرية طه عبد الرحمن-
Conditions and principles of Islamic modernity– An analytical approach to the theory of Taha Abdel Rahman –
د. بروال جمال/جامعة باجي مختار عنابة، الجزائر
Dr. Djamel BEROUAL /Annaba University, Algeria
مقال منشور في مجلة جيل العلوم الانسانية والاجتماعية العدد 86 الصفحة 63.
Abstract:
It is evident that the construction of any intellectual system or creative philosophical theory, unless it is based on a set of conditions and principles. the theory of modernity according to Taha Abd al-Rahman, is not isolated from this aspect. In this article, we try to highlight the most important conditions and principles on which Taha Abd al-Rahman established this topic, which can be summarized as follows: Modernity is innovation, not follow-up, modernity is an internal rather than external application, modernity is based on morality, the emergence of modernity from the popular base, avoiding the scourges of the Western modernist application. We also try to present the Islamic principles developed by Taha as an alternative to the principles of the Western spirit of modernity Taha Abd al-Rahman followed the path of creative diligence in theorizing Islamic modernity, through which the foundation aims to advance Islamic societies, which are dominated by tradition and dependency on others for a period of time.
Key words: Modernity, Islam, Conditions, Principles, Taha Abdul Rahman.
ملخص:
من البديهي أن بناء أي نسق فكري أو نظرية فلسفية إبداعية، إلا ويستند إلى جملة من الشروط والمبادئ. ونظرية الحداثة عند طه عبد الرحمن، ليست بمعزل عن هذا الجانب.
في هذا المقال، نحاول إبراز أهم الشروط و المبادئ التي أقام عليها طه عبد الرحمن هذا الموضوع، والتي يمكن حصرها فيما يلي: الحداثة إبداع لا إتباع الحداثة تطبيق داخلي لا خارجي، الحداثة أساسها الأخلاق، انطلاق الحداثة من القاعدة الشعبية، اجتناب آفات التطبيق الحداثي الغربي.
كما نحاول أيضا، عرض المبادئ الإسلامية التي وضعها طه كبديل لمبادئ روح الحداثة الغربية.
هذا وقد سلك طه عبد الرحمن، مسلك الاجتهاد الإبداعي في التنظير للحداثة الإسلامية، والذي يستهدف من خلاله أساسه النهوض بالمجتمعات الإسلامية، التي هيمن عليها التقليد والتبعية للغير لردح من الزمن.
الكلمات المفتاحية: الحداثة، الإسلام، الشروط، المبادئ، طه عبد الرحمن.
مقدمة :
لا شك أن موضوع الحداثة قد استقطب اهتمام كثير من الدارسين والمفكرين، سواء كان ذلك في التداول الغربي أو في التداول العربي، حيث قدموا حولها رؤى وتصورات ومفاهيم مختلفة ومتعددة، ولعل من بين الذين شدهم هوس البحث والاشتغال في هذا المجال الفكري في الفكر العربي المعاصر، نجد ثلة من المفكرين والدارسيين من أبرزهم محمد الجابري وعبد الله العروي ومحمد سبيلا ومحمد أركون وطيب تيزيني وحسن حنفي و علي حرب، وغيرهم. بيد أننا لو استعرضنا ما كتبه هؤلاء حول هذا المفهوم شرقا أو غربا، لهالنا حجمه وأزعجنا مساره، حيث بلغ تهويله عند جل المتفلسفة والنقاد العرب المسلمين مبلغا عظيما، ورثهم عقدا أثبطت عزيمتهم، وجعلهم يستعجزون انفسهم، عن أن يأتوا بمثل ما بلغه فلاسفة الغرب من التقدم والتحضر، فضلا عن اللحاق بهم ومنافستهم، فيما حققوه من إنجازات وانتصارات فكرية وعلمية وتكنولوجية، لا ينكرها أي جاحد.
ولعل المتتبع والمحلل لهذا الإزعاج في المسار والتهويل يعود سببه أساسا إلى هيمنة التقليد والتبعية على متفلسفة العرب، مما أنتج لهم الجمود والتخلف في مختلف مجالات الحياة، حيث راحوا يقيسون كل شيء على مقاسات غيرهم مما افقدهم القدرة على الاجتهاد والإبداع، الأمر الذي دفع بالمفكر والفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن إلى إعادة النظر في هذا المفهوم، وتبين حقيقته، وذلك لأجل التأسيس لمشروعية الحداثة إسلامية، تأسيسا حقيقيا، يضاهي تأسيسها عند الغير، سمتها النأي عن تقليد ومحاكاة صناع الحضارة الغربية.
إن الدارس للتأسيس الفلسفي الطهائي للحداثة أو بالأحرى جوابه عن سؤال الحداثة الإسلامية، يجده يتميز بالفرادة والاستثناء في الفكر الفلسفي العربي الإسلامي المعاصر، وذلك نظرا لما تحمله مقاربته أو قل مشروعه الفكري والفلسفي من أبعاد ومميزات قل نظيرها، إذ لا نجدها في اجتهادات ومقاربات غيره من رجال الفكر ومتفلسفة العرب في هذا المجال الفكري المعقد.
ومن هنا كان حري منا التساؤل عن ما هي الشروط التي يستند اليها مشروع طه عبد الرحمن في قيام الحداثة الإسلامية؟ وما هي المبادئ الإسلامية التي يقترحها كبديل لتطبيق النموذج الحداثي الغربي؟
أولا-شروط قيام الحداثة الإسلامية
- الحداثة إبداع وليس إتباع:
لقد سلك المفكر طه عبد الرحمن مسلك الاجتهاد الإبداعي في التنظير للحداثة الإسلامية، مضاهيا في ذلك غيره، إذ مثلما أن الغرب يملك حداثته، فنحن المسلمين في نظره “لا يكون لنا من الحداثة والمعاصرة، إلا ما لنا من القدرة على الإبداع والمبادرة”([1]) فالحداثة لا تنال بطريق التقليد والتبعية، وإنما بطريق الاجتهاد والإبداع في تحقيق مبادئها، “فلا يتصف بالحداثة إلا من أبدع، ويكون وصفه بها على قدر إبداعه”([2]) هذا الإبداع الذي من شأنه أن يجعل الإنسان العربي المسلم مفكرا حرا مستقلا في تفكيره لا الاحتذاء بالغرب، الذي لن يزيده إلا تثبيتا لوصاية الغربي عليه، ما يتولد عنها، الشعور بنقصه، وإهدار كرامته، ومصادرة حربته في الفكر والتنظير.
إن ما يجب على المفكر العربي الإسلامي، هو الاجتهاد في التقريب التداولي لمفهوم الحداثة، لتجنب المضار الناتجة عن سوء فهمه لدى المتلقي العربي، ورفع التهويل القائم حوله، وذلك عن طريق إعادة تحديده وفق مقتضيات المجال التداولي العربي الإسلامي، بما يجعله عند طه قابلا للاستيعاب والإدراك. والذي يمكن تحديده بناءً على مسلمتين اثنتين: الأولى، أن التاريخ الإنساني مبناه الارتقاء بالإنسانية في مراتب الكمال. والثانية، أن كل زمن من الأزمنة المختلفة لهذا التاريخ، يختص بواجبات محددة لتحقيق هذا الارتقاء.
وبناء على هاتين المسلمتين، تكون الحداثة في نظر طه” عبارة عن نهوض الأمة، كائنة ما كانت، بواجبات واحد من أزمنة التاريخ الإنساني، بما يجعلها تختص بهذا الزمن من دون غيرها، وتتحمل مسؤولية المضي به إلى غايته في تكميل الإنسانية”([3]) فقيمة هذا التعريف، تكمن في نقل مفهوم الحداثة من التهويل الأسطوري إلى مجرد فعل حضاري، ومن مفهوم خاص بالغرب إلى مفهوم مشترك، تتداول عليه كل الأمم، انطلاقا من قيام كل أمة بواجبات زمنها في الارتقاء بالإنسانية، فالحداثة ظاهرة إنسانية لا غربية، فكل الأمم تتساوى في الانتساب إلى روحها، سواء أكانت شرقية أو غربية، شريطة القيام في ذلك بالفعلين المقومين لكل تحضر وهما: الفعل العمراني، والمتمثل في الجانب المادي. والفعل التاريخي الذي هو الجانب المعنوي منه([4]). فـ” ليست روح الحداثة كما غلب على الأذهان، من صنع المجتمع الغربي الخاص، حتى كأنه أنشاها من عدم، وإنما هي من صنع المجتمع الإنساني في مختلف أطواره”([5]) فالحداثة “تظل مفهوما ملتبسا يشير في عمومه إلى تطور تاريخي، وإلى تغير في الذهنية”.([6]) وبذلك تكون الأمة الإسلامية، قد حققت حداثتها، حينما سنح لها أمر النهوض بالإنسانية، كما حققتها قبلها أمما أخرى، والتي يشهد لها التاريخ بمدى عطائها وإسهامها الحضاريين، كالحداثة الصينية واليونانية والرومانية، وأمة الغرب اليوم بدورها لها حداثتها الخاصة، ناهضة بما لزمنها من واجبات هذا الزمن.
لقد لاحظ طه أن أغلب المفكرين العرب، قد سلكوا مسلك التقليد المنهجي في التنظير للحداثة الإسلامية، اعتقادا منهم أن التقليد في استمداد مناهج الغرب، مفاهيم وآليات، من شأنه أن يمكن الإنسان المسلم ولوج فضاء الحداثة الكونية، هذا المسلك في نظر طه يعد خروجا عن مقتضى الحداثة، لأنه “لا حداثة مع وجود التقليد”([7]) فلعل ما يثير الاستغراب في هذا الإطار، أن فئة من متفلسفة العرب، والذين ينعتون بالحداثيين، ما لبثوا يرددون بخصوص الحداثة في المجال التداولي العربي الإسلامي، وما علموا من أطوارها وأوصافها في مجالها الأصلي، حيث راحوا يصرون على أنه ينبغي أن تتحقق في المجتمعات العربية، بالأسباب التاريخية التي تحققت بها في الأصل الأوروبي والوضع الغربي، وما ذلك إلا بأخذهم بمبدأ منقول هو الآخر وتسليمهم به، وهو “مبدأ التاريخ الإنساني الكلي”([8]).
وعلى هذا الأساس فإن الدعوة الى تقليد حداثة الغرب والنسج على منواله في النهضة والتحضر دعوة مردودة، وزعم باطل، وحجة ذلك لأننا” لا يمكن أن نصنع التاريخ بتقليد خطى الآخرين في سائر الدروب التي طرقوها، بل بأن نفتح دروبا ومسالك مغايرة، ولا يمكن أن يتحقق ذلك إلا بإبداع أفكار أصيلة، تستجيب لسائر مشكلات، وتعنى بكافة المستجدات”([9])
إن المفكر العربي الذي يسلك طريق التقليد في النهوض بالحداثة العربية، لا يزال يعيش حالة من القصور العقلي، من حيث هو “عدم القدرة على استخدام فكره في الأمور دون إشراف الغير عليه”([10]) هذا القصور، الذي أوقع المفكر العربي في تبعية الغير، والتي اتخذت ثلاث صور هي:
أولا: التبعية الاتباعية، وهي أن يسلم القاصر قياده عن طواعية لغيره، ليفكر مكانه، حيث يجب أن يفكر هو نفسه.
ثانيا: التبعية الاستنساخية، وهي أن يختار القاصر بمحض إرادته نقل طرائق ونتائج تفكير غيره، وينزلها بصورها الأصلية على واقعه وافقه.
ثالثا: التبعية الآلية: وهي أن ينساق القاصر من حيث لا يشعر الى تقليد غيره، في مناهج تفكيره ونتائجه لشدة تماهيه مع هذا الغير.([11])
فالحداثة الإسلامية تقتضي من المفكر العربي، أن يستقل عن الغير في تفكيره وسلوكه، وذلك بالاعتماد على الذات والاجتهاد المستقل في تطبيق مبادئ روح الحداثة على الواقع الإسلامي، فالحداثة الغربية ليست نموذجا حضاريا إنسانيا يقتدى به، بل هي احد تطبيقات الممكنة لروح الحداثة وفق مقتضيات المجال التداولي الغربي، وفق ظروفه التاريخية والاجتماعية، أي إمكان واحد من إمكانات الكثيرة والمتعددة لروح الحداثة. فإذا كانت الروح هي الحقيقة الكونية الذي تأخذ به عموم الإنسانية، فتجليات هذه الروح تبقى مختلفة، باختلاف خصوصيات كل مجال تداولي، وبذلك يكون الإبداع الحقيقي- حسب طه– للحداثة، هو مراعاة خصوصيات المجال التداولي العربي الإسلامي بمكوناته الثلاث، العقدية واللغوية والمعرفية.
هذا ونجد الروح في المقاربة الطهائية، استعملت بمعنى القوة الدافعة للتطبيق التي تجعله يظهر بمظهر الحداثة.
- الحداثة أساسها ومنطلقها الأخلاق(تخليق الحداثة):
إذا كان معظم المفكرين العرب، قد انشغلوا في حداثتهم الاهتمام بالجوانب العقلية المجردة، والمظاهر الدنيوية المادية، اعتقادا منهم أن العناية بتطبيق النموذج الحداثي الغربي، يحقق لهم الحداثة المنشودة، فان نتائجه في نظر طه كانت على عكس ما هو متوقع منه، إذ لن ينجر عنه على واقع الإنسان المسلم إلا الجمود والتخلف والتقهقر، ولذلك كان لزاما عليه نهج سبيل بديل في التحديث، وهو سبيل “تخليق الحداثة”، أو قل”الحداثة الأخلاقية” فالحداثة الطهائية ذات أساس أخلاقي، يكون فيها الجانب الفكري والمادي موصولا بالوجه الأخلاقي. ولذلك نجد أن أهم ميزة تميز المشروع التجديدي الطهائي، هو عنايته بالمسألة الأخلاقية، وإصراره الكبير والمشهود على ضرورة العودة إلى الأخلاق كمنطلق لتحقيق أية نهضة أو استئناف القيام بأي دور حضاري، إذ لا سبيل إلى النهوض أو التطور والتمييز في نظره، إلا بمعالجة الآفات الخلقية، والرجوع إلى أخلاق الدين، تمثلا وتجديدا.
إن الحداثة في منظور طه تتحدد أساسا بماهية الإنسان، المتمثلة في “الماهية الأخلاقية”، لا في “الماهية العقلانية”، كما هو سائد في النموذج الحداثي الغربي، إلى درجة تقريره أن “الإنسان اخص بالأخلاقية منه بالعقلانية” أي أن الإنسان مخلوق أخلاقي قبل أن يكون مخلوقا عقلانيا، حيث يقول: “الأخلاقية – بما هي تنبني على مبدأ طلب الصلاح- هي الأصل الذي تتفرع عنه كل صفات الإنسان من حيث هو كذلك، والعقلانية التي تستحق أن تنسب إليه ينبغي أن تكون نابعة لهذا الأصل الأخلاقي”([12]) فهوية الإنسان ذات طبيعة أخلاقية، إذ لا إنسان بغير أخلاق”([13])، أي “على قدر تخلق الإنسان تتحدد إنسانيته”([14])”لأن ضرورة الخلق للإنسان كضرورة خلقه، سواء بسواء، فلا إنسانية بغير أخلاقية”([15]). ولا شك أن المفاهيم الأخلاقية بدون دين، لا يمكن لها أن تقوم لها قائمة أو تستقر على حال، فمجال الدينيات، يعد المجال المنسي في الحداثة الغربية، “فالفلاسفة قد أصابوا حينما نسبوا المفاهيم الأخلاقية إلى الإنسانيات والمعنويات، لكنهم أخطئوا حينما قصروها على هذين المجالين، ولم يتعدوا بها إلى مجال الغيبيات، والواقع أن هذه المفاهيم لا تقل نسبتها إلى الغيبي عن نسبتها إلى الإنساني والمعنوي”([16]) ومنه “فلا أخلاق بغير دين” و “لا أخلاق بدون غيبيات، كما لا دين بدون غيبيات” ” وبذلك تكون أسباب الأخلاق تكون موصولة بأسباب الدين، حتى انه لا حدود مرسومة بينهما، و” أن الجمع بين الأخلاق والدين أصل الأصول ([17])” وبذلك تكون ماهية الإنسان من منظور الحقيقة الدينية، بالأساس ماهية أخلاقية، وكل خروج عن هذه الماهية، يترتب عنه بالضرورة إخلال منطقي بالماهية الإنسانية.
وعلى هذا الأساس فإن المدخل المناسب، لنقد الحداثة الغربية وتقويم اعوجاجها، هو المدخل الأخلاقي، ذلك لكون هذه الحداثة تعلي من شأن العقل والعقلانية، في مقابل الحط من الأخلاق والأخلاقية، هذا التصور الذي يمتد جذوره إلى فلاسفة الأنوار في القرن الثامن عشر تحديدا، ذلك” أن فلاسفة الأنوار ابرزوا للبشرية تطورا مرحليا يطبع تاريخها الطويل، مؤكدين أن تحررها وانفتاحها سوف يكونان نتيجة أساسية لاستعمال العقل، من حيث أنه إقرار للشك المنطقي، ورفض لكل حكم مسبق، ولكل سلطان مهيمن”([18]). بيد أن طه، لا يقصي في اعتباره العقلانية، وإنما يقصد إلى تخليقها، على اعتبار أن هناك نوعان من العقلانية: “عقلانية مجردة من الأخلاقية” والتي يستوي فيها الإنسان والحيوان. و”العقلانية المسددة بالأخلاق” والتي تخص الإنسان دون غيره، وعليه من الخطأ الشنيع حمل العقلانية على المعنى الأول، وخص الإنسان بها تخصيصا وتعميما.([19])
فإذا كانت الحداثة الغربية تبنى على مقولات العقلانية والذاتية والاستقلالية، فان مسعى طه هو إخراج هذه الحداثة من ضيق افقها العقلاني المجرد، وربطها بمقتضيات المجال الأخلاقي والديني في الممارسة الفلسفية التي ينتمي اليها، كما أن الذاتية التي هي احد لوازم مبدأ الرشد في الحداثة الغربية، والتي تدعو لتوفير الرفاهية والازدهار الفردي، لا يمكن أن يثبت في المجال التداولي الإسلامي، ذلك لأن الازدهار الفردي في الإسلام هو جزء من ازدهار الآخر، والإنسان يرقى برقي الآخرين، فالاختلاف في توظيف المفهوم مرده إلى مسلمة أخلاقية، تضاد التوجه الأناني في الحداثة الغربية، منها” إن الخير مصلحة متعدية لا قاصرة” و “أن الإحسان الى الغير هو إحسان إلى الذات”([20]) وبهذا يكون الاختلاف في مسلمات التطبيق لا يجعلنا اقل حداثة منهم، متى التزمنا بروحها المحددة إلى المبادئ الثلاث المتمثلة في مبدأ الرشد و مبدأ النقد و مبدأ الشمول.
- الحداثة تطبيقا من الداخل لا تطبيقا من الخارج:
إن الحداثة الإسلامية لا يمكن أن تتحقق إلا إذا كانت تطبيقا داخليا مباشرا لروح الحداثة، لا استنساخا للتطبيق الغربي للحداثة، فالمطلوب من الأمة العربية هو أن تكون حداثتها نابعة من الداخل، أي باشتغالها داخليا ومباشرا على تطبيق مبادئ روح الحداثة على واقعها، وفق مقتضيات مجالها التداولي من غير واسطة الخارج، ذلك لأن التوسط بالآخر، ما هو في حقيقة الأمر إلا طلب وصاية الآخر، ونهج طريقته في تفكيره. فمقتضى الحداثة هو رفع وصاية الآخر عن الذات، ذلك لأنه لما كانت مبادئ روح الحداثة مبادئ كونية مشتركة بين عموم الإنسانية، فإن تطبيقها لا يحتاج الى اعتبار الآخر معيارا لهذا التطبيق، لأن حداثة الآخر لا تعدو أن تكون تطبيقا مباشرا بغير واسطة لهذه المبادئ، وكل تطبيق متوسل بالتطبيق الغربي لروح الحداثة، لن يكون إلا “تقليدا ضارا”([21]). ذلك لأن التطبيق الداخلي، يرجع سالكه إلى الأصل الذي هو روح الحداثة، وليس إلى واقعها، الذي هو الواقع الحداثي الغربي.
إن طه يميز بين واقع الحداثة وروحها، روح الحداثة وتتمثل في” جملة القيم والمبادئ القادرة على النهوض بالوجود الحضاري للإنسان في أي زمان ومكان” بينما واقع الحداثة، فهو “تحقق هذه القيم والمبادئ في زمان مخصوص ومكان مخصوص”([22]) وبذلك يكون واقع الحداثة الغربية، ما هو إلا تطبيقا واحدا من الإمكانات التطبيقية التي تحملها روحها، حيث يقول طه:” فيلزم أن يكون الواقع الحداثي غير الروح الحداثية، وهذا يعني أن التطبيقات لا تكون متماثلة من جهة قوة أدائها، لهذه الروح بل يفضل بعضها من جهة، مزيد من تمسكه بها في نهوضها الحضاري”([23]). فالحداثة عند طه هي روح إبداع، وبما أن الحداثة الغربية، ما هي إلا احد تطبيقاتها الممكنة، لذلك وجب أن يكون الإبداع الحقيقي للحداثة، هو مراعاة خصوصية المجال العربي الإسلامي عند تطبيق هذه الروح، لا الاندفاع نحو التقليد والمحاكاة في إنزال الواقع الحداثي الغربي على واقع الأمة الإسلامية، فالحداثة الإسلامية لن تكون حقيقية إلا إذا كانت” تبدع مفاهيمها الإجرائية من داخل التراث العربي الإسلامي”([24]).
- الانطلاق من القاعدة الشعبية:
إذا كانت الحداثة الإسلامية لا تكون بتقليد الواقع الحداثي الغربي، فإن طه عبد الرحمن يراهن على سبيل آخر للنهوض بالحداثة الإسلامية، وليس هذا السبيل إلا الشعوب العربية والإسلامية ذاتها، لا الأنظمة التي تمثلها هذه الشعوب، حيث يقول “تكون هذه الحداثة حداثة صاعدة من القاعدة التي تمثلها الشعوب، وليست القمة التي تمثلها الأنظمة”([25])، ولعل هذا القرار الطهائي لم ينبع من فراغ، وإنما نابع من تأملاته العميقة وملاحظاته الدقيقة لواقع الأمة الإسلامية، حيث قادته إلى وجود تفاوت بين مصالح القمة- الفئة الحاكمة-، ومصالح القاعدة- الفئة الشعبية- في عموم الدول العربية الإسلامية، يجعل المطلب الحداثي للقاعدة الشعبية لا يتفق ومطلب القمة الحاكمة، ذلك لأن الأنظمة الحاكمة في الدول العربية، كثيرا ما تكون تابعة للأنظمة الغربية، مما يعني أن حداثتها، تبقى تابعة لوصاية هذه الأنظمة، ولا يمكن أن تسمح لها إلا بحداثة وفق تطبيق النموذج الغربي، وبذلك تكون بذلك حداثتها، حداثة خارجية مقلدة وكاذبة، بينما القاعدة الشعبية، تكون حداثتها بموجب سعيها إلى التخلص من وصاية الأنظمة الغربية، حداثة داخلية مبدعة وحقيقية.
- اجتناب آفات التطبيق الغربي:
لا يمكن للحداثة الإسلامية أن تقوم، إلا إذا اجتنبت الوقوع في الآفات التي وقع فيها التطبيق الغربي للحداثة، وهي: “آفة النسبية”، و”آفة الانفصالية”، و”آفة الأداتية”، و”آفة التجريبية”، و”آفة الفردانية”، و”آفة المادية”. هذه الآفات التي لا يمكن صرفها، إلا باستبدالها، بقيم إسلامية مضادة لها.
- قيمة الإخلاص ودرء آفة النسبية:
يرى طه عبد الرحمن أنّ الحداثة الغربيّة وقعت في نقيض مقصودها حين ظنّت أنّ الاستقلال عن الدين هو الذي يفضي إلى تحقيق الحرّيّة للإنسان، فأفضى بذلك التطبيق الحداثي الغربي لركن الاستقلال الدخول في “آفة النسبيّة”، حيث أصبح الإنسان الغربي لا يؤمن باليقينيات الدينية والمطلقات، وإنما يؤمن بالنسبية، إذا أن كل شيء نسبي متغير، إلا أن هذا الاستقلال عن المطلق الديني، أوقع الحداثة الغربية في نقيض مقصودها، إذا أفضى الى الوقوع في ضرب من استعباد الإنسان.([26])
إن الإنسان لا يمكن أن يصل إلى الاستقلال الراشد والحرية الحقة إلّا متى توجّه في أقواله وأفعاله إلى المطلق الديني، هذا التوجّه أو الانفتاح على المطلق الديني لا تحقّقه إلّا قيمة “الإخلاص” الإسلاميّة، ذلك لأن” الإخلاص لله وحده هو الذي يورث الحرية الحقة”([27]).
- قيمة الكمال ودرء آفة الانفصالية:
إن التطبيق الغربيّ لروح الحداثة، أفضى إلى الانفصال عن قيم التراث الديني، في حينّ أنّ في تلك القيم ما لا تبلى فائدته أبدا، “فلا ينبغي أن يقدّر الإبداع بقدرته على الانفصال، وإنّما بقدرته على الارتقاء بالإنسان”([28])، وهنا وقعت الحداثة الغربيّة في “آفة الانفصاليّة”.
ولا يمكن حفظ هذه الصلة- حسب طه -، إلا عن طريق القيمة الإسلاميّة، القادرة على مواجهة هذه الآفّة وهي “قيمة الكمال”، ذلك لأن من شأن هذه القيمة الأخلاقية، أن تجعلنا نحن المسلمين “نطلب الإبداع لا في الانفصال عن التراث، وإنما في تحقيق الكمال فيما تنتجه من آثار وما نأتيه من سلوكيات”([29]).
- قيمة الإيمان ودرء آفة الأداتية:
يرى طه عبد الرحمن أنه قد طرأ على قيمة العقلانية في التطبيق الحداثي الغربي آفة سلبية، حيث تم اختزال مفهوم الاستدلال في ممارسة العقل الأداتي الذي لا يعنى إلّا بالوسائل والتقنيّات والحساب، دون جانب القيم والمقاصد الإسلامية، الأمر الذي أدى بها الى التعامل مع الإنسان كما لو كان مجرد آلة لا روح، فوقعت بذلك في “آفة الأداتية”. ولتجتنب المسلمين هذه الآفة، وجب أن تستند العقلانية الأداتية، الى عقلانية أعلى منها مرتبة، وهي “عقلانية المقاصد” او “عقلانية القيم”([30]) هذه العقلانية لا يمكن تحقيقها أو توفيرها، إلا بالاسترشاد بالقيمة الإسلامية التي هي الإيمان([31])، ذلك لكون هذه القيمة- الإيمان- هي التي تزود الإنسان بالقيم المثلى وإلى المقاصد العليا التي تقدر على تهذيب هذا العقل الأداتي وتوجيهه نحو النفع والصواب.
- قيمة التكامل ودرء آفة التجزيئية:
يرى طه أن التطبيق الحداثي الغربي، اتسم بمبدأ الفصل أو قل التجزئة ما بين الدنيوي والأخرون، وعمل على فصل الأشياء، فادى به إلى الوقوع في” آفة التجزيئية” التي تجعل كل مجال من مجالات الحياة ، مستقلا بنفسه، له منطقه الخاص، لا يؤثر ولا يتأثر بغيره، مثل فصل العقل عن الغيب، والفصل بين العلم والأخلاق، والدين والأخلاق، والدين والسياسة…وغيرها، ولحل معضلة آفة التجزئة، يقترح طه، الأخذ بما يقابلها في الإسلام، وهي القيمة الإسلامية “التكامل”، والتي تعمل على التكامل ما بين العالم المرئي وغير المرئي، فـ”مجالات الحياة في الإسلام يأخذ بعضها بأسباب بعض متبادلة التأثير والتأثر، بل أن بعضها يكمل بعضا”([32]) وأن الدين يصل جوانب حياة الإنسان الدنيوية بجوانب الأخروية.
- قيمة الروحانية ودرء آفة المادية:
لقد وقعت الحداثة الغربية في آفة المادية، وذلك بتركيزها واختزالها للفعل الحداثي في جميع مجالات الحياة على الجوانب المادية فقط، وإهمالها للجوانب الروحية المعنوية له، مما أدى إلى الإخلال بتوازنها. إن مجالات الحياة الإنسانية، لا يمكن الفصل بينها، فلا يمكن فصل وجهها المادي عن وجهها المعنوي، ولهذا يقترح طه حلا بديلا لصرف هذه الآفة، وإعادة التوازن بين الوجهين في الحداثة الغربية، ويتمثل في الأخذ بالقيمة الإسلامية “الروحانية”، وذلك باتخاذها مبدأ أساسيا، “يجعل المادي لا ينفك يزدوج بالمعنوي” فالروحانية التي يختص بها الدين الإسلامي، تشبه البؤرة التي ينبعث منتها كل القيم التي يرتقي منها مراتب الكمال، وإذا خالطت الروحانية الأشياء المادية، بثت فيها القوة التي تجعلها تتجاوز ماديتها”([33]).
- قيمة الجمعانية ودرء آفة الفردانية:
لقد طرأ على تعميم الفعل الحداثي الغربي آفة الفردانية، حيث اقتصر تطبيق الحداثة الغربية على الفرد بالدرجة الأولى، إذ أصبح يراعي تحصيل مصالحه الخاصة، وجعلها غاية كل تجمع إنساني، حيث أنها طابقت وسوت بين مفهوم “الفرد” ومفهوم “الإنسان”، على الرغم ما بينهما من فرق، فالفرد تحكم علين من منظور المجتمع، بينما الإنسان نحكم عليه منظور الأخلاق، وحتى نتجنب نحن المسلمين هذه الآفة علينا، الأخذ بالقيمة الإسلامية، المقابلة لها، وهي “الجمعانية” والتي مفادها” أن تنفع الآخر كما تنفع ذاتك، وليس بالضرورة أن تؤثره على نفسك، أي تقتضي أن تكون المنفعة متبادلة”([34]) والقيمة الإسلامية التي تتحقق بمقتضاها الجمعانية، هي قيمة الرحمة، و” الرحمة هي المظهر الذي تتجلى به عناية الفرد بغيره، بقدر عنايته بنفسه، لا لكون هذا الغير به حاجة أكثر من حاجته، أو لأن ضررا لحقه ما دونه، بل لأن إنسانيته لا تتم إلا بأن يكون مع الغير بوجدانه، وان يوصل المنافع إليه كما يوصلها إلى نفسه”([35]).
إن الأخذ بالقيم الإسلامية في تحصيل الحداثة، يدفع الآفات التي يسقط فيها النمط الحداثي الغربي، وأن التطبيق الإسلامي لروح الحداثة، باعتباره مقترحا بديلا معقولا، يرتفع بالحداثة إلى منزلة غير تلك التي توقف عندها التطبيق الحداثي الغربي، أي يفضل ويتميز عنه، وذلك لكونه يستند إلى هذه القيم الإسلامية.
ثانيا- مبادئ الحداثة عند طه عبد الرحمن:
ولما كان من اللازم أن الحداثة لا تكون إلا مع طريق الإبداع، لا مع وجود التقليد، سارع طه في اجتهاده إلى بيان و تحديد المبادئ التي تقوم عليها روح الحداثة الإسلامية البديلة، والتي حددها في ثلاث مبادئ رئيسية هي: مبدأ الرشد ومبدأ النقد ومبدأ الشمول([36]).
1- مبدأ الرشد: والقاضي بـ”أن الأصل في الحداثة هو الانتقال من حال القصور إلى الرشد([37])” وليس المقصود بالقصور إلا التبعية الفكرية والسلوكية للغير، في مقابل الرشد الذي هو تحصيلا لاستقلال والإبداع، فمبدأ الرشد يتكون من ركنين: الاستقلال والإبداع([38]).
2- مبدأ النقد والقاضي بأن الأصل في الحداثة هو الانتقال من حال الاعتقاد إلى الانتقاد”([39]) وليس المراد بالاعتقاد إلا أن يسلم المرء بالشيء من غير أن يحصل أي دليل عقلي، ولا أن يجتهد في طلب هذا الدليل، في مقابل الانتقاد الذي هو الاستدلال العقلي على الأشياء والفصل التقني بيم مجالاتها، بما يتيح ضبط أسبابها وكشف آلياتها([40])”.
وهو يتكون من ركنين: التعقيل والتفصيل.
3- مبدأ الشمول والقاضي أن الأصل في الحداثة هو الإخراج من حال الخصوص إلى حال الشمول،([41]) والمقصود به “خصوص المجال””- كل شيء يوجد في مجال مخصوص تحده حدود معينة- و”خصوص المجتمع” كون أفراد كل مجتمع مخصوص يتميزون بصفات حضارية وثقافية محددة، في مقابل الشمول الذي هو القدرة على تجاوز الخصوصيتين المذكورتين،- خصوصية المجال وخصوصية المجتمع- والتأثير في مختلف المجالات الحياتية من جهة ومختلف المجتمعات الإنسانية من جهة أخرى([42]). وهذا المبدأ هو الآخر يتكون من ركنين هما: التوسع والتعميم. وبتطبيق هذه المبادئ، يمكن لكل أمة – على اختلاف خصوصيتها الثقافية – خلق حداثتها الخاصة، التي إن احتمل تشابهها مع الحداثات الأخرى في بعض الجوانب فمن الحتمي اختلافها عنها في جوانب أخرى.
على هذا الأساس ستتساوى جميع الأمم الحضارية في الانتساب إلى الحداثة متى أخذت بمبادئها الثلاثة: “الرشد” و”النقد” و”الشمول”، شريطة أن يكون “كل أمر مأصول مسلمٌ به، حتى يثبت بالدليل فساده” وعاملا على التثبت النقدي، الفاحص والمسؤول، من كل أمر منقول، إذ”كل أمر منقول معترضٌ عليه، حتى نثبت بالدليل صحته.([43])
ويقترح طه ستة خطوات لإبطال المسلمات المصاحبة لتطبيق الغرب لروح الحداثة، وهي:
– إبطال مسلمات الاستقلال الغربي لأنّ وصاية الأقوى الخارجي لا تعني العناية بالأضعف، وإنما هي وصاية مُستعمر.
– إبطال مسلمات الإبداع الغربي ذلك أن الإبداع لا يقتضي الانقطاع المطلق، لأنّ الحداثة الحقة هي حداثة قيم لا حداثة زمن.
– إبطال مسلمات التعقيل الغربي، فالعقل لا يعقل كل شيء، لأنه لا يمكنه أن يعقل ذاته.
– إبطال مسلمات التفصيل الغربي، إذ لا إطلاق في الفصل بين الحداثة والدين، ذلك لأنّ أهل الحداثة توسلوا بمفاهيم دينية، ورجال الدين ساهموا في بناء الحداثة،
– إبطال مسلمات التوسع الغربي، فالتطبيق الغربي لروح الحداثة ليس واقعا حتميا، لأنّ الإنسان أقوى من هذا التطبيق، وماهية الحداثة ليست اقتصادية، لأنّ ماهية الإنسان أخلاقية.
– إبطال مسلمات التعميم الغربي، أي أن روح الحداثة لا توجب التفكير الفرداني، ولكنها توجب التفكير المتعدي المناسب للمجتمع العالمي.([44])
وبهذه الكيفية يدعو طه إلى تفعيل روح الحداثة بمبادئها الثلاث، بعد إبطال المسلمات التي جعلت من الحداثة في مفهومها الغربي وبكافة مستوياتها المذكورة، نموذجا أوحد للتحديث والنهوض الحضاري. ويبدو أن طه يتغيا من إبراز المبادئ الأساسية لروح الحداثة، التمييز بين هذه الروح والتطبيق الغربي لها، ولنقل الفصل بين ماهية الحداثة وتجلياتها.
ويترتب عن تلك المبادئ و التعريف لروح الحداثة عدة نتائج توصل إليها طه، وهي:
– التفاوت والاختلاف بين واقع الحداثة وروحها.
– أنّ واقع الحداثة الغربية هو واحد من التطبيقات الممكنة لروح الحداثة أو كنه الحداثة.
– أصالة روح الحداثة، أي أنها متأصلة إنسانيا وتاريخيا.
– الاستواء في انتساب جميع الأمم الحضارية إلى روح الحداثة.
– أنّ واقع المجتمعات الإسلامية هو إلى الحداثة المقلدة أقرب منه إلى الحداثة المبدعة.
– أنّ الحداثة لا تُنقل من الخارج، وإنما تُبتكر من الداخل.
– أن ابتكار الحداثة الإسلامية الداخلية، يقتضي إبطال المسلمات التي صاحبت التطبيق الغربي للحداثة.([45])
وغير خاف أن هذه النتائج تروم إلى إزالة اللبس الذي يكتنف مفهوم الحداثة، ورفع التهويل عنه، ومن ثمة الكشف عن جملة من آفات الحداثة الغربية ونقائصها، على نحو يجعلها حداثة غير كاملة، ونسبية غير مطلقة، وخاصة غير عامة.
خاتمة :
كانت هذه هي أهم وابرز الشروط التي سطرها طه عبد الرحمن في مشروعه الفكري، لأجل قيام واستنبات حداثة إسلامية أصيلة، والتي يروم من خلالها طه التنظير لمفهوم حداثة إسلامية حقيقية مبدعة، لا مقلدة سطحية، بجعله بنية متغيرة ومتجددة، وليس جوهرا ثابتا، ذلك أن الكثير من النقاد والمتفلسفة العرب، يسعون في مختلف اجتهاداتهم وتنظيراتهم الفكرية والفلسفية إلى تطبيق النموذج الغربي بكل حذافيره، أي بالاشتغال بنقل المفاهيم والأدوات والمناهج الثقافية الغربية إلى المجتمعات الإسلامية، ومحاولة استنباتها في بيئتها الثقافية، دون مراعاة في ذلك منطلقات وخصوصيات المجال التداولي لهذه المجتمعات.
لقد كان اشتغال واجتهاد طه نابعا من عمق ؤ الثقافة الإسلامية، حيث عمل أولا على تحليل ونقد مسلمات التطبيق الحداثي الغربي، ثم عمل على استبدالها، بما يناسب المجال التداولي العربي الإسلامي، هذا الأخير الذي يعد الخيط الناظم في فلسفة طه عبد الرحمن، حيث يحتكم إليه كثيرا في بناء نسقه الفكري والفلسفي. ذلك أن مبادئ روح الحداثة، وان كانت مبادئ كونية مشتركة بين عموم البشرية، فتنزيلها على الواقع يحتاج إلى محل مخصوص أو قل مجال تداولي خاص، مما يجعل هذا التنزيل لا يعدو إمكانا وتطبيقا واحدا من بين الإمكانات المتعددة، بتعدد المجالات التداولية للأمم. ولعل تقليد النقاد والمتفلسفة العرب في مقاربتهم لهذا الموضوع المعقد، راجع إلى عدم تفريقهم بين كونية مبادئ روح الحداثة، وخصوصية تطبيقها.
لقد آن الأوان للمفكر المسلم المقلد اليوم، أن يعيد النظر في كل ما أخذه وما يزال يأخذه عن الغير من مفاهيم وتصورات وأفكار ونظريات لا تمت بأية صلة بمجاله التداولي ولا تجيب عن أسئلته ولا تنهض بأوضاعه ولا تعالج أزماته، ولا تلتفت إلى واقع الأمة، بل أصبح من الواجب اليوم أن نستفيد من التجارب الفلسفية الإسلامية المعاصرة التي تقيدت بهموم الأمة، ورفضت الوصاية الفكرية، وسعت إلى إعادة الثقة للمسلم بتراثه، أمثال تجربة فقيه الفلسفة وفيلسوف الأخلاق طه عبد الرحمن ، وغيرها من التجارب الفلسفية الأخرى على غرار تجربة محمد إقبال، وعلي عزت بيجوفيتش، وعبد الوهاب المسيري، وإسماعيل راجي الفاروقي، وعلي شريعتي، باعتبار هذه التجارب عطاءات فلسفية إسلامية صريحة، بإمكانها أن تجنبنا تكرار بعض الأخطاء الفكرية التي وقع فيها سلفنا الحديث، وأن تسهم في محاربة آفة التقليد والانبهار بحضارة اللوغوس، التي ارتكس عليها العقل الإسلامي وأدمنها لردح من الزمن.
قائمة المصادر المراجع:
- طه عبد الرحمن: روح الحداثة مدخل الى تأسيس الحداثة الإسلامية، المركز الثقافي الدار البيضاء – بيروت، ط1، 2006.
- طه عبد الرحمن: الحداثة والمقاومة، معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية، لبنان، 2007.
- طه عبد الرحمن: الحق العربي في الاختلاف الفلسفي، المركز الثقافي الدار البيضاء –بيروت، ط2، 2009.
- طه عبد الرحمن: حوارا ت من أجل المستقبل، الشبكة العربية للأبحاث والنشر بيروت –لبنان، ط1، 2011.
- طه عبد الرحمن: سؤال الأخلاق مساهمة في نقد الأخلاقي للحداثة الغربية، المركز الثقافي الدار البيضاء –بيروت، ط5، 2013.
- طه عبد الرحمن: الحوار أفقا للفكر، الشبكة العربية للأبحاث والنشر بيروت –لبنان، ط1، 2013.
- مالك بن نبي: مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي، ترجمة بسام بركة واحمد شعبو، دار الفكر دمشق، ودار الفكر المعاصر، بيروت، 2002.
- عبد الوهاب المسيري وفتحي التريكي: الحداثة وما بعد الحداثة، دار الفكر دمشق، ط1، 2003.
- عبد الرزاق بلعقروز: أزمة الحداثة ورهانات الخطاب الإسلامي، منتدى المعارف، لبنان، 2013.
[1]) طه عبد الرحمن: حوارا ت من أجل المستقبل، الشبكة العربية للأبحاث والنشر بيروت –لبنان، ط1، 2011 ص31.
[2]) طه عبد الرحمن: الحداثة والمقاومة، معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية، لبنان، 2007، ص 14.
[3]) المصدر نفسه، ص 20.
[4]) طه عبد الرحمن: روح الحداثة مدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية، المركز الثقافي الدار البيضاء – بيروت، ط1، 2006، ص 31.
[5]) المصدر نفسه، نفس الصفحة.
[6]) عبد الرزاق بلعقروز: أزمة الحداثة ورهانات الخطاب الإسلامي، منتدى المعارف، لبنان، 2013، ص 22.
[7]) المصدر نفسه، ص 35.
[8]) طه عبد الرحمن: الحق العربي في الاختلاف الفلسفي، المركز الثقافي الدار البيضاء –بيروت، ط2، 2009، ص 75.
[9]) مالك بن نبي: مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي، ترجمة بسام بركة واحمد شعبو، دار الفكر دمشق، ودار الفكر المعاصر بيروت، 2002، ص 162.
[10]) طه عبد الرحمن: الحداثة والمقاومة، مصدر سابق، ص 35.
[11]) المصدر نفسه، ص 25.
[12]) طه عبد الرحمن: سؤال الأخلاق مساهمة في نقد الأخلاقي للحداثة الغربية، المركز الثقافي الدار البيضاء – بيروت، ط5، 2013، ص 14.
[13]) المصدر نفسه، ص 147.
[14]) طه عبد الرحمن: الحق العربي في الاختلاف الفلسفي، مصدر سابق، ص 292.
[15]) طه عبد الرحمن: سؤال الأخلاق مساهمة في نقد الأخلاقي للحداثة الغربية، مصدر سابق، ص 54-55.
[16]) المصدر نفسه، ص25.
[17]) المصدر نفسه، نفس الصفحة.
[18]) عبد الوهاب المسيري وفتحي التريكي: الحداثة وما بعد الحداثة، دار الفكر دمشق، ط، 2003، ص209.
[19]) المصدر نفسه، ص 14.
[20]) طه عبد الرحمن: روح الحداثة المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية، مصدر سابق، ص 31.
[21]) طه عبد الرحمن: الحداثة والمقاومة، مصدر سابق، ص 33.
[22]) المصدر نفسه، ص 75.
[23]) المصدر نفسه، ص 30.
[24]) المصدر نفسه، ص 12-13.
[25]) المصدر نفسه، ص 35.
[26]) المصدر نفسه، ص 27.
[27]) المصدر نفسه، نفس الصفحة.
[28]) المصدر نفسه، ص 28.
[29]) طه عبد الرحمن: الحوار أفقا للفكر، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت –لبنان، ط1، 2013، ص 149.
[30]) المصدر نفسه، نفس الصفحة.
[31]) طه عبد الرحمن: الحداثة والمقامة، مصدر سابق، ص 28.
[32]) المصدر نفسه، ص 30.
[33]) المصدر نفسه، ص 31.
[34]) طه عبد الرحمن: الحوار أفقا الفكر، مصدر سابق، ص 150.
[35]) طه عبد الرحمن: الحداثة والمقاومة، مصدر سابق، ص32.
[36]) طه عبد الرحمن: روح الحداثة، مدخل الى تأسيس الحداثة الإسلامية، مصدر سابق، من ص24 إلى ص 30.
[37]) المصدر نفسه، ص 25.
[38]) طه عبد الرحمن: الحداثة والمقاومة، مصدر سابق، ص 23.
[39]) طه عبد الرحمن: روح الحداثة المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية، مصدر سابق، ص 21.
[40]) طه عبد الرحمن: الحداثة والمقاومة، مصدر سابق، ص 24.
[41]) طه عبد الرحمن: روح الحداثة المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية، مصدر سابق، ص 28.
[42]) طه عبد الرحمن: الحداثة والمقاومة، مصدر سابق، ص 25.
[43]) طه عبد الرحمن: روح الحداثة المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية، مصدر سابق، ص 14-15.
[44]) المصدر نفسه، ص 68- 69.
[45]) المصدر نفسه، ص 67- 68.