فنون أوروبا في مرآة “بُرْنُس” محمد المقداد الورتتاني
European Arts in the mirror of “Bornos” Muhammad al-Miqdad al-Wertetani
د.خالد رمضاني/كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالقيروان، تونس
Dr.Khaled Romdhani/Faculty of Arts and Humanities in Kairouan Tunisia
مقال نشر في مجلة جيل العلوم الانسانية والاجتماعية العدد 85 الصفحة 67.
Abstract:
The trips undertaken by the Arabs towards Europe during the nineteenth and twentieth centuries turned into an intellectual material conducive to monitoring the culture and arts of the West. Among the benefits that the trip also provides to the writer, is the special view or vision that it holds for the advanced other, a view that presents its observations and ideas in a way that makes the trip present at the same time its vision of itself. Muhammad al-Miqdad al-Wertetani saw the progress of the West not only in scientific achievements, but also praised the role of the arts in advancing European civilization. He often made a comparation between the European and Arabic arts, and sought to highlight the similarities between them, taking into account the temporal circumstance, the advantages of those arts, and the traditions that line the boundaries of each art. He also worked to reduce the disparity between the European and the Arabic societies.
Keywords:Travel literature, Tunisia, Europe, arts, archeology, language, theater, music, fine arts.
ملخص:
لقد تحولت الرحلات التي قام بها العرب نحو أوروبا خلال القرن التاسع عشر والعشرين إلى مادة فكرية مواتية لرصد ثقافة وفنون الغرب. ومن الفوائد التي تقدمها الرحلة أيضا للكاتب، النظرة أو الرؤية الخاصة التي تحملها للآخر المتقدم، وهي نظرة تقدم مشاهداتها وأفكارها بالصورة التي تجعلها تقدم في الآن نفسه رؤيتها لذاتها، لقد رأى محمد المقداد الورتتاني أنّ تقدم الغرب ليس فقط بالمنجزات العلمية، بل أثنى على دور الفنون في رقي الحضارة الأوروبية. وكثيرا ما كان يقارن ما بين فنون أوروبا وفنون العرب، وسعى أن يبرز التشابه بينهما، آخذا في الاعتبار الظرفية الزمنية ومميزاتها والتقاليد التي تسطر حدود كل فن وعمل على تخفيف وطأة التفاوت بين الحاصل بين كل مجتمع.
الكلمات المفتاحية: أدب الرحلة، تونس، أوروبا، فنون، آثار، مسرح، لغة، موسيقى، فنون جميلة.
مقدمة :
لم نختر الاهتمام بأدب الرحلة وبمحمد المقداد الورتتاني[1] ورحلته “البُرْنس[2]في باريس: رحلة فرنسا وسويسرا 1913″[3]، لأنه مفكر ومثقف تونسي أو لأن رحلته كانت الأولى، فقد سبقه الكثير من العرب والتونسيين، بل تناولنا بالدراسة أثر هذا المؤلف بعد ما دفعنا ما تقدم من مقالاتنا حوله[4]، إلى الإقرار بتعدد زوايا الرؤية لديه، لقد رصد ملامح التحول الذي حصل في حياة تلك البلدان الغربية علميا وثقافيا كالحديث عن الجامعات والاهتمام بالكُتاب والمكتبات والفنون الجميلة والمسارح والمتاحف وما تضمنته من قطع فنية. سنتتبع في هذا المقال رؤية مفكر تونسي في بداية القرن العشرين، لفنون أوروبا باعتباره شاهد عيان، فقد زار بعض البلدان هناك واختبر الاحتكاك المباشر بها، ودوّن ملاحظاته حول فنونها وثقافتها، وسنعرج على البيئة التي نشأ فيها والوسط الذي يتربى فيه مما له تأثير على الإرادة ومتانة العزم والتفكير الصحيح.
لقد سعى إلى الاقتباس والتأثر بفنون الحضارة الغربية التي مثلت عنوان التقدم والازدهار، إلا أنه خشي أن يكون التطرف في اقتباسها سببا في فقدان الهوية والأصالة. وتمثل هذه المفارقة “صراعا” من خلال الإحساس بالاختلافات الفكرية والثقافية العميقة بين الأنا والآخر بالإضافة إلى الحيرة في المواقف في كل مناحي الحياة. قام الورتتاني برحلته انطلاقا من مدينة القيروان ودوّن أحداثها في كتابه، وكان هدفها في البداية استكشافيا واستجماميا، لكنه وجد نفسه مندهشا بالبشر والعمارة والفنون في المدن الأوروبية التي زارها، وربما قد طرح في ذهنه السؤال الذي تكرر طرحه “لماذا تقدم الغرب وتأخر العرب”؟ وفي ما يتعلق بالعنوان، لقد اخترنا أن يكون عنوان مقالاتنا حول فنون أوروبا بصفة عامة وليس فقط فرنسا وسويسرا، لأننا قدرنا أنّ رؤيته كانت شاملة، حتى أنه كثيرا ما استعمل مصطلح “أروبا” أو “الأروباويين” عوض الفرنسيين أو السويسريين.
هل أنّ حديث المؤلف عن الفنون كان بدون سند، أي هل هو مجرد هاوي ومراقب وناقل للمعارف؟ أم هو تجسيد لشخص صاحب اطلاع ودراية نتيجة خلفية ثقافية وممارسة وظيفية ساهمت في ترسيخ فكرة أنّ الفنون مجال دال على تطور الشعوب وتقدمها؟ وبالنظر إلى مُسَلَمة ترجيح كفة ميزان الغرب المتقدم أمام أيّة مقارنة مع العرب، كيف خفف الورتتاني من وطأة هذا التناقض في علاقة بالفنون والتاريخ والماضي للعرب المسلمين؟
- رحلة الورتتاني في سياقها التاريخي والاجتماعي
يؤكد علم اجتماع المعرفة، على العلاقة الوثيقة بين أنساق الفكر والوقائع الاجتماعية، وبين أنماط الإنتاج الفكري ومعطيات البيئة الاجتماعية، حيث إنّ كل معرفة مرتبطة بسياقها الاجتماعي. ويؤكد العلم أيضا، أن المعلومات الخاصة ببيئة المفكر التي نشأ فيها، والجماعات المرجعية الأولية التي احتك بها، الأسرة والأقارب والأصحاب والأساتذة، ذات قيمة كبيرة في هذا المجال.[5] لقد نشأ الورتتاني في بيئة تقدس العلم والمعرفة فيقول في هذا الجانب: “ولقبيلتنا امتياز بانتحال العلوم والأخذ بطرق الصلاح، وجدنا الأعلى هو “علي بن القروي” صالح تلك الجهة ومقصد التماس التبرك ومدفن القبائل المحيطة في حوالي تربة ضريحه رجاء الرحمة من الخالق في جواره، وابنه القروي جدنا الأدنى هو عالم جهته وثقة نشأته”[6].
ويشدد هذا العلم على أنه كلما ازدادت معرفتنا بالتاريخ الشخصي للمفكر، كلما أمكننا أن نشرح بشكل أكمل الأسباب التي بنى تفكيره عليها، كما أنّ الإحاطة بالبيئة الأولى التي ظهر فيها المفكر مثل التاريخ والجغرافيا والمعتقد الديني والتنشئة والتعليم والثقافة والسياسة والأفكار السائدة هامة للغاية في فهم أفكاره، فهي ترتبط دائما ببيئتها[7]، وفي هذا الاطار وجب التنصيص على أهمية التكوين الذي تلقاه الكاتب، فهي الأرضية بنى عليها شخصيته واتجاهاتها وقناعاتها. لقد درس علمي التاريخ والجغرافيا بالمدرسة الخلدونية… وقد تتلمذ علي يدي كل من البشير صفر[8] ومحمد بن الخوجة[9] “وهما بالمنزلة المعلومة في سعة الاطلاع وإصابة المرمى في التقرير وبلاغة التحرير”[10].
ولقد أخذ عن “محمد النخلي القيرواني”[11] علوم اللسان والمنطق والعروض، بالإضافة إلى احتكاكه بمجالس ومحاضرات سالم بوحاجب[12]. كما أن شغفه بالأدب مكنه من أن يكون عضوا بالنادي الأدبي الذي يديره “الخضر حسين”[13]. وللمؤلف قصائد نشرت في مجلة الزيتونة: المجلد الثاني، الجزء العاشر وفي المجلد الرابع، الجزء الرابع والخامس والسادس، وكتب في المجلد السابع، الجزء الأول مقالا عن المكتبة الصادقية، وبالإضافة إلى اهتمامات الكاتب الأدبية، لا بدا من الإشارة إلى النفحة الدينية المحافظة في كتاباته، كيف لا وهو صديق “محمد الطاهر بن عاشور”[14] الذي أهدى له كتاب “البرنس في باريس” بمناسبة تقلده منصب المفتي: “فرسمت هذا الكتاب باسمه تذكارا بعام ولايته لهاته الخطة وأداء لما توجبه روابط الوداد من التهنئة التي جعلت هدية هذا الكتاب عنوانا عنها بدل قصيدة من الشعر الذي أكثر له منه أرباب الود والأدب”[15]، وبعد كل ما سبق نرى أن الورتتاني تتلمذ واحتك برجال مثقفين مرتبطين ببلدهم وتقاليدهم وهويتهم.
كما لا يمكننا إغفال عنصر هام ميز تلك المرحلة الزمنية التي نشأ فيها، وهي حقبة الاستعمار والغالب على هذه المرحلة، الثقافة الأوروبية والمثقف المنبهر بالغرب نتيجة التقدم الحاصل في أوروبا، لقد كانت نشأته خصبة متنوعة التجارب، وإذا أضفنا إلى عوامل النشأة والسياق، ما تخلل سنوات حياته من خبرات اكتسبها في مجال عمله نائبا لجمعية الأوقاف في القيروان[16]، فالخلفية الثقافية والوظيفية جعلت الحديث عن فنون أوروبا أمرا طبيعيا.
من جانب آخر تعتبر المرحلة التي تعرضت فيها البلاد التونسية إلى الاستعمار، مرحلة مهمة في تعرّف العالم العربي الإسلامي على حضارة الغرب وتعرّف العالم الغربي على الحضارة الإسلامية بعد أن أصبح في بوتقة الحضارة الغربية[17].
بدأ هذا “الانفتاح” الأوروبي بشكل حاسم منذ القرن الثامن عشر خاصة في فرنسا والذي أطلق عليه قرن “الاستشراق”[18]، حيث تغيرت صورة العالم الإسلامي بشكل عميق، فلم يعد يشعر بأنه خطر على المسيحية، وفي القرن التاسع عشر لعبت مجهودات المستشرقين دورا هاما في التعريف بالثقافة الشرقية، ورغم أنّ الأثر الاستشراقي مثّل مطية وذريعة لدخول الاستعمار إلى البلدان العربية الإسلامية، إلا أنه يمثل ثروة معرفية أفادت العديد من البحوث اللاحقة وهي متواصلة إلى يومنا هذا وساهمت في نفي الصورة النمطية حول المجتمعات الإسلامية باعتبارها مجتمعات جامدة، ولا يمكن أن نحكم عليه سلبا بالمطلق ونضعه في قفص الاتهام، بالجزم أن الاستشراق يمثل “أسلوبا “للخطاب” أي للتفكير والكلام تدعمه مؤسسات ومفردات وبحوث علمية وصور ومذاهب فكرية بل وبيروقراطيات استعمارية وأساليب استعمارية للتعامل مع الشرق من قبل الغرب لتغذية عقيدة الاستعمار”[19].
إنّ هذه الإشارة البسيطة إلى ملامح المرحلة التي نشأ فيها ومميزاتها ستحيلنا إلى شخصيته ونظرته وموقفه من فنون أوروبا من عمارة وآثار ولغة ومسرح وموسيقى وفنون جميلة.
- العمارة والآثار
سجل الورتتاني انتشار الحضارة في كل أنحاء أوروبا، إذ “لا يخلو بلد من آثار مع مكتب للتعليم ومعبد ديني ومستشفى صحي ومحل للتمثيل ونزل للمسافرين”[20]، وقد وصف التماثيل والصور وكنائس فرنسا وسويسرا، وكأنه شرقي يصف قصور ومساجد وفنون الشرق أو كأنه غربي يصف فنون حضارته لا نظرة الشرقي التي ميزت الكثير من الرحالة العرب خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، أي “لم يحكم على الفنون بمقاييس الأخلاق بل بمقاييس الفن نفسه”[21].
لقد دخل الكنائس في فرنسا وذكر غايته في ذلك، وكأنه سعى أن يستبق أي محاولة مفترضة لمهاجمته بسبب هذا الفعل وهو العربي المسلم، وقد أعطى مثالا على التسامح في دخول غير المسلمين للمساجد من أجل التعريف بها والدعاية لهذه المنجزات: “وقد دخلت بعضها وبالأخص العتيق منها لمجرد الاطلاع على الذوق في البناء، والإبداع في الزخرفة والتفنن والنقش والعناية بهياكل الدين، والمسيحيون أنفسهم يدخلون لمثل هذه الغاية فقط…أَذِن سيدنا عمر بن عبد العزيز للوفد المسيحي الذي قدم من الروم إلى دمشق بدخول المسجد الأموي لما كان المراد الاعتبار بقوة بنائه وإبداع هندسته”[22]. ذكر المؤلف المدارس الفنية التي تنتمي إليها الكنائس والآثار واللوحات التي وصفها وبيّن اتجاهات هذه المدارس الفنية وخصائصها وتطورها والمؤثرات التي خضعت لها وذكر تاريخ وظروف تشييدها، وأشار أحيانا إلى طرازها الهندسي، ووصف ما فيها من زخارف وصور وتماثيل وما فيها من تحف قيمة، لقد استنتج أن الفن تعبير عن حياة الأمة ومرآة تطورها أو انحطاطها، بل أكثر من ذلك، فقد نوه لأهمية المتاحف ووظائفها المتعددة والمتنوعة، التي لا تتوقف عند استعراض تاريخ الأمم للأجيال حفاظا على هويتهم، وإذا كانت لهذه المعروضات وظيفة تاريخيَة تتمثل في تقديم صورة عن تاريخ فترة أو حقبة بعينها، فقد صار لها وظائف أخرى تربويّة وثقافيَة وتاريخيَة[23].
لكن، وبالرغم من إعجاب الورتتاني بتذوق الغربيين للفن، ومساهمة هذه الفنون في ترقية أخلاق الغربيين، إلا أنه ندد بتجاوزاتهم، حيث أنهم يستغلون تخلف العرب خلال القرون الماضية في تقدير الفن وتذوقه، فيسرقون كنوزهم الفنية والأثرية أو ينسبون سبق العرب والمسلمين العلمي لأنفسهم فيقول: فأعمال المستشرقين ووقوفهم على حل رموز الآثار ما هي إلّا نتيجة بحثهم في هذا الكتاب ووقوفهم عليه وإخفائه عنا حتى لا نسبقهم فيه[24]. ورد على الأوربيين مثلا ادعاءهم أنفك الرموز القديمة هو نتاج مجهود عالم الآثار الفرنسي “شمبرلاين”، فقد عرّج مثلا على “أحمد بن وحشية النبطي” استطاع أن يفك رموز اللغات القديمة بشكل مبسط يجعل ترجمة الكتابات أمرا سهلا، وفي هذا الإطار استطاع الكاتب في أربع ساعات فقط أن يترجم كلمات من الكلدانية واليونانية القديمة وأن يكتب بهما[25].
نتجت هذه النظرة لفنون أوروبا عن تطور ثقافي ظهر في معادلة الذوق الفني لدى الكاتب، إذ شعر أن “الفنون الجميلة مظهر آخر من مظاهر الرقي الحضاري”، فيما اقتصر هذا الرقي، بالنسبة إلى رحالي القرن التاسع عشر مثلا، على الحياة العلمية والسياسية والاقتصادية[26]، ما هو ظاهر للعيان أنه وبقدر ما كان اتساع الثقافة الفنية سبيلا إلى تطوير الذوق الفني عند الورتتاني، كان سبيلا أيضا إلى المزيد من الدفاع عن العرب في هذا المضمار من الحضارة، كان التراث العربي الفني القديم بالنسبة إليه مبعث افتخار وقدّر أن أسباب الجمود ظرفية لا بد أن تزول، فيعود العرب المسلمون إلى سابق إبداعهم في مجالات الفن المختلفة، وكان في كل مرة يُذَكر بالقصور والجوامع وفنون الزخرفة العربية، وكأنه يريد التعويض عن تخلف العرب الفني في العصر الحديث، فبيّن فضل الفن العربي على فنون أوروبا وأثره في تطويرها، وكثيرا ما كان ينوه إلى فخر المسلمين، وهي مدينة القيروان، لما لها من تاريخ عريق في كل الميادين الفنية: “وألمعت في كل مناسبة إلى طرف من غابر القيروان وحاضرها حتى يكون الكلام شاملا لمبدأ خط السفر ومنتهاه، وربما كان المطالع في حاجة إلى العلم بالقيروان والحديث عنها. والقيروان ملأت الأسماع قديما وحديثا بالاعتبار والآثار…والحديث عن القيروان متى عنّت المناسبة هو طرف من تلك الجملة، وقوس من دائرة الرحلة”[27].
- اللغة: هوية الشعوب
لقد ركز الكاتب على اعتناء الفرنسيين بلغات الشعوب الأخرى خاصة الشرقية منها، وتعتبر فرنسا أول دولة دعت علماء الدول الأخرى بصفة رسمية للاجتماع والبحث في العلوم الشرقية، ولقد لعبت مجهودات المستشرقين دورا هاما في التعريف بالثقافة الشرقية، ففي “مؤتمر المستشرقين” في باريس سنة 1873، أُقترح إنشاء دورات إقليمية خاصة بفرنسا ومستعمراتها، حتى تتم “مناقشة القضايا العملية المثيرة للاهتمام وعلاقات شعوب الشرق والغرب”[28].
كما استثمرت فرنسا في تعليم اللغات الأجنبية، منها العربية، في مدرسة اللغات الشرقية بباريس التي تأسست في مارس 1795 للاطلاع على لغة ودين تلك الشعوب[29]، يؤكد الورتتاني من خلال هذا الاستدلال على أهمية اللغة العربية التي تمثل هوية حضارة كاملة ومدى تقديرها من قبل الأوروبيين، بعد أن طالبت فئة من العرب بالاستغناء عن اللغة العربية الفصحى على أن تتخذ العامية بديلا، فكان من الطبيعي أن ينبه بأن الفصحى هي الصلة بين حاضر العرب وماضيهم: “وذلك ما أودى باللغة العربية وصيرها في السنة العامة لغة أخرى، وكاد أن يقيم على أطلالها أشباح تلك الكلمات المحرفة لو لا متانة بنائها الذي لا يزال يقاوم طول الزمان وعادية الإنسان، واحتماؤها من مقذوفاتهما بسلاح الدين وتاريخ الناطقين بالضاد…ودون تعميم قواعد اللغة على كافة الأفراد وعدم تلقين الدخيل ما يراد استوى في التهاون والتلاعب بها الحاضر والبادي”[30].
ورغم إقراره بجهل الكثير من أبناء الوطن قواعد لغتهم ومفرداتها، إلا أنه كان متفائلا ببقاء اللغة العربية مزدهرة شريطة بقاء العرب في وضع حضاري جيد: “وعلى كل حال فاللغة العربية هي حية، وحياتها باقية ما بقي الجنس العربي حيا، كما أن حياة الجنس الأدبية باقية ما بقيت لغة دينه وتاريخه وآدابه في رواج”[31]، نستخلص من خلال هذا القول، أنّ اللغة ظاهرة اجتماعية تكون مرآة الشعب الذي ينطق بها، ولقد جزم أنّ اكتشاف والاطلاع على اللغة والأدب الأوروبي عموما والفرنسي بشكل خاص يساهم في توسيع زوايا الوعي بثقافة الآخرين وتثمينها والاستفادة منها.
ونظرا لتقديره للغة الفرنسية، فلا يتوانى الكاتب في إعطاء بعض المعلومات عن الأدباء الفرنسيين وآثارهم، ويقوم أحيانا بنقد لمسيرتهم كما فعل مع الأديب الفرنسي “فيكتور هيغو” وخاصة “بالزاك”: “كان بالزاك كاتبا معينا لبعض العدول ثم ولع بالكتابة مثلما ولع الفقر المدقع بمصاحبته ليأخذ حظه منه قبل أن تدفعه عنه في آخر عمره علومه وسمعته…ألّف كثيرا في الفلسفة والروايات والانتقاد وأطوار الحياة في الحواضر والبوادي وفي الغرام ومبادي الدخول في معترك الحياة، ورغبت تآليفه وبذل فيها المال سلفا قبل إتمام إبرازها، وذلك مما زاد في نشاطه إلى أن صار كأنما قلمه متخذ من الكهرباء وفيه ما فيها من المنافع مثل السرعة وإضاءة الأفكار ونسمات الحرية في الصدع بما في الخاطر وحرارة التأثير على العقول”[32]، وبذلك لم ينكر الورتتاني تفوق الأدب الأوروبي على الأدب العربي الحديث، إلا أنه اعتمد أساليب الغرب النقدية ليعلل ذلك ويبرر النقص في الأدب العربي الحديث، ويظهر مواطن الروعة في الأدب العربي القديم، وضرورة إحيائه لكي لا تنقطع الصلة بين الحاضر والماضي، وبيّن أن في الأدب العربي القديم ما يشبه الفرنسي في الجمالية، فاستشهد بمؤلفات ابن المقفع والجاحظ وابن مسكويه والغزالي وأمثالهم. ولعل في هذا الاعتزاز أسلوب “للتعويض النفسي عن الإحساس باندحار اللغة العربية في وجه اللغات الأوروبية”[33]. وتراه في مواضع أخرى يفتخر بقدرة التونسيين على إتقان لغات أخرى رغم صعوبة المهمة: “قلت إلا أن التونسيين متى تعلموا لغة أخرى برعوا فيها وضاهوا أبناءها وقبضوا على لغتهم بيد وعلى الثانية بيد أخرى.. سمعت بعض الفرنساويين يعترف لهم بذلك ولا يفرق بين كتابات بعض التونسيين والفرنساويين أنفسهم لشدة التساوي والالتباس”[34].
وفي مواضع حديثه عن الأدب واللغة الفرنسية نستشف خوفه على اللغة العربية من الانحدار إذا أصبحت أقل قدرة من اللغات الأوروبية على تلبية حاجات الحضارة الحديثة مثل اللغة الفرنسية سريعة الانتشار، وكثيرا ما كان يستطرد داعيا إلى النهوض باللغة العربية من خلال تطوير أدوات تعليمها حتى تكون حية وتتجاوز الجمود والأساليب القديمة، وقد أعطى وصفة تساعد على تدريب ملكة التعلم: “فلا يقرأ كتابا أو يحفظ متنا حتى يأتي على فك ألفاظه وتدقيق غوامضه قبل الاشتغال بما سواه، ولا يخطر بباله أن يعلق آماله على ما هو أعلى من تلك المرتبة التي بلغ إليها في التعليم ما دامت منها بقايا غير مفهومة أو فصول غير معلومة، كل هذا من أهم طرق التعليم والتعود على الاستفادة وأسهل وسائل الوصول إلى غايات المسائل وأصناف العلوم”[35].
ولقد اعتبر أن اللغة من الروابط الأساسية بين أبناء الوطن، فبيّن حرصه على لغته لأنها من أهم مقومات الشخصية القومية والهوية المميزة، فخاف على الأدب العربي من الإهمال والنسيان وقد حرص على بقائه لشعوره بأنه جزء من التراث المكون لهويته ورابط حاضره بماضيه، لذلك كانت وحدة اللغة في الأمم جامعة متينة، “فالإنسان بلسانه الذي جعله كجزء من أفراد بني جنسه قوي بذلك الجموع البشري، الذي هو كالبنيان المرصوص والحصن المتين يشد بعضه بعضا…والأمم تحب لغتها بقدر ما تحب جنسها ووطنها ضرورة، إنها رفيقة الإنسان من يوم عرف الدنيا، وعلم خبايا النفوس وخواطر العقول بواسطتها، وتغذى بها مع لبان الأم وحنان الوالد ومدنية القرابة وعلائق الشعب”[36].
- المسرح: بين التمثيل والأوبرا:
لقد أطلق الرحالة العرب على المسرح عدة تسميات منها “تياترو” و”مرسح” و “ديار تمثيل” وبينوا أنها من بين أهم مظاهر المدنية الأوروبية، ويعتبر الورتتاني أن من بين شروط تأسيس المدن لايدامة عمرانها وإسعاد سكانها، هي المسارح التي يسميها ديار التمثيل، ولقد كان يشير أحيانا إلى الأوبرا التي اعتبرها الدليل الصادق على درجة اعتناء الأوروبيين باللهو والانهماك فيه[37]. وربما أراد أن يقول أن فن الأوبرا باعتباره “مادة”، يمثل محركا هاما للأنشطة الثقافية وخاصة الترفيهية[38]. لقد اعتبر الكاتب أنّ التمثيل يصور التاريخ وينشر الآداب ويحيي اللغة، مثل تمثيل الوقائع التاريخية الصحيحة بأسلوب “أبعد عن الهزليات وأرقى عن الوهميات”. “اعتنى الأروباويون بديار التمثيل للغاية التي ذكرناها ومحاربة النقائص ونشر الفضائل، وأصل التمثيل عندهم للاحتفالات الدينية في القديم، وتمثيل القسيسين هيئة القصص الدينية وتقريبها للعقول عيانا كإظهار بعض الصبيان بلباس مخصوص كأنهم ملائكة، أو بعض أشخاص يوهمون الناظرين أنهم القدماء المذكورون في القصص التي يلقونها في الكنائس، ثم ترقوا في ذلك لإقبال الناس على المحسوسات حتى مثلوا الجنة والنار وغير ذلك، ثم راجت صناعة التمثيل الديني وخاصة الفكاهي واعتنى به الكاردينال ريشليو وأسس له جمعية”[39]. ولقد اعتبر البعض أن هذه الأخيرة، أي الفكاهة، من أكثر المؤسسات أهمية في الفن المسرحي[40].
يذكر المؤلف تشابه المسرح لدى الأوروبيين بما كان للمسلمين في مجالس اللهو والمجون، فيصف مشهدا مسرحيا فيقول: فتخرج الممثلة وتضع يدها على فيها ثم تمدها نحو المتفرجين إشعارا بالشكر والاحترام منها، فطابق هذا التسليم من الجواري ما كان مألوفا منهن عند ملوك الإسلام[41]. وقد ذكر حوار ابن خرداذبة مع الخليفة المعتمد العباسي حول الرقص وأنواعه وصفاته وقد شبهه بما عند الأوروبيين في الأوبرا[42]، هذه الأخيرة التي تعتبر مزيجا بين الدراما والموسيقي وتوفر ميزة التداخل بين الفنون[43].
تحدث الورتتاني عن المسرح، حيث أنه كان جديدا في المملكة التونسية، فقد انتشر بعد الاستعمار. وتوسع الكاتب في ذكر مواضيع المسرحيات، فقد قدم وصفا مفصلا عن قاعات التمثيل والديكور وأزياء الممثلين وأداءهم: “برنامج التمثيل يشتمل على مجموعة أخبار وحوادث جديدة ملتقطة من عدة جهات، وبالأخص باريس، وغالبها فيما يتعلق بالسياسة والحب ومحلات التمثيل وهذا الموضوع يسمى عندهم روفو”[44]، لقد شبه المسرح الأوروبي بمجالس الطرب لدى العرب قديما، لكنه غفل على أن الفارق جوهري، ويبدو أنه لم يلم بعد بكامل مقاييس المسرح ليقيمه تقييما دقيقا.
رأينا أنه من الضروري الإشارة إلى دور المرأة في هذا الميدان، فرغم حديثه عن مشاركتها والرجل على حد السواء في التمثيل، إلا أنّ الورتتاني لم يتطرق إلى مشروعية اختلاط الرجال والنساء في أداء المشاهد من عدمه، ويمكن أن يكون سهوا مقصودا كي لا يتحدث في مسائل قد تحرجه، ورغم ذلك لم يذهب إلى ما ذهب إليه بعض العرب من خلال وصفهم للمسرح والأوبرا في أوروبا، إذ قال الرحّالة المصري محمد فريد إن المسارح والغناء في ايطاليا “من السلع الفاسدة”[45]، وأكد المويلحي أن رقص الأوروبيين دليل على “الدعارة والانحلال الخلقي”[46].
- الموسيقى:” فن لذيذ محبوب”
على عادته في الحديث عن كل مناحي الفنون والثقافة الأوروبية، عرّج الكاتب عن فن الموسيقى عند حديثه عن مدينة مرسيليا، ونسب إليها اللحن الموسيقي المعروف بالمرسييزLa Marseillaise وهي “الأغنية الراقية”[47]الذي ألفه “روجي دوليسل” [48]Roger de Lisle سنة 1792 واخترع لحنها في إحدى الليالي بعد السمر بدار شيخ المدينة وعائلته ومنادمتهم. ولما أصبح، نشر اختراعه الحماسي وأنشده…حتى أبكاهم جميعا وحملهم على القيام كجسد واحد في الدفاع عن الوطن”[49]، تمّ تأليف النشيد بين ليلتي 25 و 26 أفريل 1792 وأطلق عيها في البداية اسم “أغنية الحرب لجيش نهر الراين” ومن ثم اقترن اسمها باسم مدينة مرسيليا لأن الجنود الفرنسيين المنحدرين من تلك المدينة كانوا يرددونها كثيرا[50].
لا يترك الورتتاني مجالا حتى يقارن بين ما لأوروبا من فنون وما كان للعرب قديما منها، ولم تشذ الموسيقى عن هذا النهج: “والعرب أعيانهم وملوكهم بلغوا حد الغاية في الاعتناء بمجالس الموسيقى ومجالس الأنس في أوقات مخصوصة لترويض النفس وجمع الفكر، وربما كانت للروح علاقة بالنغمات، ولأهل التصوف ذوق في هذا الفن والأطباء يستعينون به في المداواة…الأروباويون عرفوا قيمة الموسيقى وتأثيرها على النفس مثلما عرفها العرب قبل ذلك، ولا زالت تآليفهم شاهدة بالاعتناء والإتقان…والموسيقى التي هي فن لذيذ محبوب، وللعرب بها شغف واعتناء في اعتبارها من توابع ما يكرم به الضيف “[51].
يتبين لنا مما سبق أن الورتتاني لم يهاجم الموسيقى فقط، بل اعتبرها وسيلة تؤثر في النفوس، لكنه حذر من طغيان الجانب المادي للحياة على الجانب الروحي والإنساني، فقد لاحظ أن كثرة الاستماع إلى الموسيقى قد يؤدي إلى نتائج عكسية، “وتأثير الألحان محسوس فعال حتى في عجم الحيوانات يطربها ويحثها، غير أن العكوف على آلات الطرب وألحان الغناء لإضاعة الوقت والسير مع الهوى مما ينافي صفات الرجولية ويذهب بالشهامة”[52].
- الفنون الجميلة:
ما يلفت النظر في كتاب البرنس في باريس أن الكاتب كان متصالحا مع فنون أوروبا، فلم يغفل عن روائع الرسم والنحت. وكان في كل مرة يثبت أنه متشبع ثقافيا بهذه الفنون من خلال الاستطرادات الطويلة التي يتحدث فيها عن فنون الأمم السابقة في مختلف المجالات كالتصوير والنقش والنحت، لكنه كان أحيانا لا يخفي خلفيته الثقافية الشرقية عند وصف بعض القطع الفنية: “ويذم في هذا البستان –تولوز- صورة رجل من رخام مكشوف السوأتين كأصل الخلقة، مع أن ثيابه منحازة إلى جانب منه، فلم أدر لما ذا أبعدت عنه ولا لأي شيء أقيمت هذه الصورة المشوهة في بستان عام للنساء والرجال كبارا وصغارا”[53]. كان حكمه هنا على فن النحت حكما نابعا من بيئته المختلفة عن البيئة الأوروبية، هذه الأخيرة التي تمثل مثل هذه الأعمال جوهر انجازاتها الفنية خلال عصر النهضة وما تبعه. لكن لم ينظر الكاتب إلى الفنون في أغلب الأوقات نظرة اجتماعية أخلاقية بل قيمها تقييما فنيا صرفا. ومثال ذلك أننا لم نرى أحسن من إطنابه في وصف بديع لصورة الموناليزا ،كدليل على العمق الذي يتمتع به في الحديث عن الفنون الجميلة، وأثنى على صاحبها ليوناردو دافنشي ورسم صورة تخيلية رائعة حول دواخل الرسام وصورته الخالدة: “فلا عجب إذا قدرت النفوس منزلة هذا المصور المفتون الذي رق طبعه وخفت روحه وصفا فكره بالعلوم الرياضية، حتى إذا فتح عينه وهي مرآة التصوير على ذات تلك الفتاة في بعض الأوقات وكان قلبه مغلقا عما سوى الولع بالعلوم انطبعت تلك الصورة جبرا في مرآة قلبه، وكلما حاول غسلها بالتفكر فيما سواها إلّا وازدادت ارتساما فلم يجد بدا من أخذ مثال من مرآة القلب لتراها العيون الباصرة فتعذره، والعذر لهم متى كانت نظرات الفتاة في الصورة غير مفهومة وتحملت معاني كثيرة، وكانت ملامح تبسمها مبهمة وداعية للتفكر في المراد، فلعل هذا المحب كلما خطرت بباله هيئة الإقبال ونظرات المفاجأة بالزيارة وبوارق البشرى من الثغر رسمها كما هي، ثم تأتي بخياله صورة ضحك المداعبة وملامح هيئة المحادثة فتنشر أنامله ثوبا رقيقا من ذلك على الذات، ثم تمر صورة تبسم إعجابها بإقدامه على محاكاة ذاتها بفعل يمينه فيرسم مسحة من ذلك على العيون وخاتم الثغر، ثم تظهر هيئة الوجه في حالة الوداع ونظر العين ضئيلا والتبسم بالشفاه الذابلة قليلا، فتتحرك يده الضعيفة بريشة الرسم أمام هجمات حر الضمير وتكفكف رذاذ الدمع فتأخذ الصورة طرفا من ذلك المنظر أيضا. لذلك يتوسم في الصورة طرف من هاته الأحوال”[54].
قد يخيل للبعض أن هذا الوصف هو نتيجة لمعاينة الكاتب لدافنشي وهو يرسم أو على الأقل مشاهدته للصورة مباشرة في متحف اللوفر، لكن الحقيقة أنّه لم يرها الصورة الأصلية أبدا! نعم، فعند زيارته للوفر في شهر جوان من سنة 1913 كان اللوحة مفقودة[55]، وقد أورد أنها أعيدت للمتحف بعد ذلك حين كان مؤلفه تحت الطبع: “وبينما أوراق الرحلة مهيأة للطبع وإذا بجرائد الأخبار أتت بنبأ العثور على صورة موناليزا المفقودة من قصر اللوفر في مقاطعة فلورانسا من إيطاليا”[56].
أقر الورتتاني من خلال هذه الأوصاف وغيرها أهمية فن الرسم في التأريخ للأحداث الهامة، وهو فن يساعد الإنسان على اختراع وإتقان القطع الفنية، لكنه رأى “أن التصوير والتمثيل والقصص أحسنها ما كان مطابقا للواقع أما النسج في هاته الثلاث على حسب التخمين والاختراع فإبداع أرباب الصناعة وأعمالهم فيها أشباح بلا أرواح، وأنت بالروح لا بالجسم إنسان”[57]. من الملفت للإنتياه أن الكاتب لم يهاجم فني التصوير والنحت ولم يعتبرهما أصنام، وكأنه يقول أن الوثنية قد زالت، فلا معنى لمهاجمة هذه الفنون.
في علاقة بمقارنته بين فنون أوروبا وفنون العرب المسلمين، لم يتخذ الورتتاني موقفا فيه استنقاص أو دونية من بيئته بتاريخها ودينها ولغتها وثقافتها وفنونها، ولم ينفصل عن محيطه العربي الإسلامي. وقد وظف كل الفنون التي كانت لها جذور في التراث، فما من ظاهرة ثقافية مثل المكتبات والمسارح والمراقص والمتاحف إلا وعرضها عبر منظور المقارنة والتقابل بين أوروبا والحضارة العربية الإسلامية، فخلص إلى أنّ سبب تقدم الغرب ليس إلا سبب تقدم المسلمين في القديم. وقد اعتمد الكاتب على هذا النهج في الكتابة من خلال الإعجاب بالحضارة الغربية دون نقمة تجاهها، لكنه سعى إلى تخفيف وطأة التفاوت بين “عالمين” مختلفين من خلال ذكر أوجه الشبه بينهما زمن ازدهار الحضارة العربية الإسلامية[58]، ومن خلال التركيز على ما كان للمسلمين من اعتناء بالحرف والفنون والأدب والعمران.
خاتمة :
لقد سجل الورتتاني إعجابه بالحضارة الغربية متمنيا أن يصل العرب والمسلمون إلى ما وصلت إليه تلك المجتمعات تمدن، دون أن يفقد ثقته في حضارته وقدرة أمته على تحقيق تقدمها وهي التي كانت في الماضي مزدهرة. ما يلفت انتباهنا ليس ثقافة فنية وقدرة على نقد الفن وتقديره فقط، بل يهمنا أيضا ما يظهر فيها من اعتزاز بالفن الإسلامي ودفاع عنه في الآن نفسه، فقد اعتز بتراث المسلمين الفني وأكد سبقهم الأوروبيين إلى بعض الفنون، وكأنه أراد أن يثبت تفوق المسلمين في المضمار الفني نفسه في السابق، وليس من أجل أن يقلل من قيمة المنجزات الغربية، ما دامت الفنون الأوروبية نفسها قد نهضت بفضل الحضارة الإسلامية، ويبدو ربما أن شعوره بأن “انحطاط الفنون من مظاهر الانحطاط الحضاري كله”[59]، ساهم في فخره بفنون العرب القدامى.
ولم ينحصر رأيه في التقليد الكامل للغير أو التنظير كمثقف ومتقن للغة الفرنسية، بل كعربي مسلم يريد نقل فنون أوروبا للنهوض بأمته، وكانت غايته قراءة الأنا في مرآة الآخر والعكس، لا مجرد وصف الفنون التي شاهدها. ولم يكن مبالغا في تعقب السلبيات فحسب أو إشهار الإيجابيات فقط، ولكن كان يورد كل رأي في محله، فما كان إيجابيا لم يبخل بالثناء عليه، وما كان سلبيا لم يتوان في نقده، وهو يتسم بالحيادية النقدية، وتتسم مشاهداته بعدم الانبهار والمبالغة في الوصف، وجمع بين الوصف والتحليل، والحكم الإيجابي والسلبي على ما يشاهد ويرى. لقد طرح بذلك صورة دقيقة عن الحضارة الغربية، وهذه الصورة ترتكز إلى المعايشة والاختلاط ولا تقوم على التخيل والتجني. ويضاف إلى ذلك أنه يكن لبلاده الاحترام والتبجيل وهو يحمل غيرة عليها وحبا لها، ولذلك كان كثير المقارنة سلبا أو إيجابا بين تونس وبين الدول الأوروبية.
وإن رحلة “البرنس في باريس” بما ضُمِنت من وصف وتحليل ونقد تؤطرهما الحيادية والموضوعية والبعد عن التجني والحكم المسبق أو الحكم الأخلاقي، ساهم في تشكيل نظرة عن رؤية الذات والآخر، سعى الكاتب في طيات مؤلفه للانتفاع من الثقافة الأوروبية وفنونها. فلقد وصف المتاحف وما تحتويه والآثار المعمارية والتاريخية التي زينت المدن والساحات العامة كالقصور والدور الأثرية والأقواس والجسور والأعمدة، وقد أشاد المؤلف بعناية الفرنسيين بتنسيق الحدائق والمدن تنسيقا فنيا رائعا، ووصف ما حضر من موسيقى وغناء ورقص، وإن الاهتمام الكبير التي حظيت بها مختلف الفنون الجميلة ترينا مدى تأثر الكاتب بالثقافة الغربية التي تلعب فيها هذه الفنون دورا هاما.
نجح الورتتاني في نقد الفنون الغربية نقدا يبين إلمامه بمبادئ الموسيقى والرسم والتصوير والنحت والهندسة أو خصائص كل من المدارس الفنية التي وصف آثارها، فقد نقل ببراعة المشاهد التي عاينها، وشرح أحيانا ما ترمز إليه اللوحات والتماثيل التي شاهدها، وذكر القصور والمتاحف أو بعض الشخصيات ذات الأثر البيّن في التاريخ الفني والثقافي الأوروبي.
قائمة المصادر والمراجع:
- ابراهيم المويلحي، “حول حديث عيسى بن هشام”، الرسالة 488، سنة 1942.
- ادوارد سعيد ، الإستشراق، ترجمة محمد عناني، رؤية للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 2006.
- خالد رمضاني، “الاستشراق معكوسا وتمثّل الآثار الأوروبيّة في أدب الرحلة التونسية: رحلة “البُرْنس في باريس” لمحمد المقداد الورتتاني أنموذجا”، دراسات استشراقية، العدد 27 ، جويلية 2021.
- خالد رمضاني، “الثقافة السويسرية في أدب الرحلة التونسية من خلال مؤَلف “البُرنس في باريس” (1913)”، مجلة جيل العلوم الإنسانية، العدد 81، طرابلس لبنان، ص ص 143-159، ديسمبر 2021.
- عبد الله عصام، من تاريخ الأفكار إلى علم اجتماع المعرفة، القاهرة، 2001.
- عماد الدين عشماوي، “قراءة في رحلات محمد ثابت إلى الغرب: معرفة الآخر ونقده، تجارب استغرابية: الغرب في مرآة الرحالة العرب والمسلمين”، مجموعة مؤلفين، تحرير وإعداد محمد حيدر، المركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية، النجف، العراق، الطبعة الأولى، 1440 هجري 2019 ميلادي.
- محمد المقداد الورتتاني، البُرْنس في باريس: رحلة فرنسا وسويسرا 1913، حررها وقدم لها سعيد الفاضلي، دار السويدي للنشر والتوزيع أبو ظبي، والمؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت، 2004.
- محمد فريد، من مصر إلى مصر: رحلات 1901-1902-1903-1904، الإسكندرية، 1905.
- سعيد بن سعيد العلوي، أوروبا في مرآة الرحلة، منشورات كلية الآداب والعلوم الانسانية بالرباط، 1995.
- Hilaire-Pérez (Liliane),« Introduction : les identités à l’épreuve de la modernitédans les expositionsuniversellesaux XIX et XXe siècles Les expositions universelles », Les identités au défi de la modernité, Christiane Demeulenaere-Douyère et Liliane Hilaire-Pérez (dir.), Rennes, Presses universitaires de Rennes, 2014.
- « Chambre des députés, séance du vendredi 27 mai », Moniteur universel, 28 mai 1836
- Dautry Jean, « S’agit-il de la Marseillaise ? », In : Annales historiques de la Révolution française, n°175, 1964. https://www.persee.fr/doc/ahrf_00034436_1964_num_175_1_3660_t1_0098_0000_2
- Patrick Taïeb, L’ouverture d’opéra-comique de 1781 à 1801. Contribution à l’histoire du goût Musical en France à la fin du XVIIIe siècle, thèse de doctorat, Tours, Université François Rabelais, 1994.
- Tiersot Julien, « La « Marseillaise » à l’école », In: La revue pédagogique, tome 58, Janvier-Juin 1911, pp. 340-348; https://www.persee.fr/doc/revpe_2021-4111_1911_num_58_1_6117
- DOTRAM, « La Muséologie, science ou seulement travail pratique du musée ? » Revuede débat sur les problèmes fondamentaux de la muséologie, Stockholm, 1980.
- Kopf, British Orientalism and the Bengal renaissance. The dynamic of Indian Modernization, 1773-1835, Berkeley, University of California press, 1969.
- Lacombe Hervé, « Histoire et opéra », In: Histoire, économie et société, 2003, 22ᵉ année, n°2. L’opéra, à lacroisée de l’histoire etde la musicologie. https://www.persee.fr/doc/hes_0752-5702_2003_num_22_2_2314
- Le Mansois Du Prey (Charles), Le Congrès des orientalistes, ce qu’il est aujourd’hui, le rôle important qu’il peut être appelé à jouer dans l’intérêt du commerce français, en facilitant ses relations avec les peuples de l’Orient, le but pratique qu’il devrait se proposer, Saint-Etienne, Imprimerie J. Besseyre Et Cie Rue de la République, 14, 1875. https://gallica.bnf.fr/ark:/12148/bpt6k5608636m.texteImage
[1] – ولد محمد المقداد بن نصر بن عمّار الورتتاني سنة 1875 وتوفي سنة 1950 في منازل ورتتان القبيلة البربرية المتعربة بجنوبي الكاف قرب مدينة أبّة وهو كاتب وشاعر ومؤرّخ. وقد اشتغل في عديد المناصب في العاصمة تونس أو في الجهات، ويعتبر الورتتاني أول من أرّخ لتاريخ الطريقة الصوفية “الشابية” في القيروان والتي استلهم منها المراقب المدني في المدينة “شارل مونشيكور”Charles Manchicourt مادة دراسته “القيروان والشابية (1450- 1592)”، وله العديد من المؤلفات الأخرى مثل “المفيد السنوي” و “النفحة الندية في الرحلة الأحمدية”.
[2]– لقد استعمل الكاتب لفظ البُرْنس في عنوان كتابه لأنه لباس مشهور في البلد وقد برر ذلك في فصل اللباس “لما كان هو الوحيد شهرة في المملكة عنونت به كتاب الرحلة ليعلم بمجرد سماع الاسم مرجع جنسية ووطن صاحب الرحلة”، ص 309.
[3]– محمد المقداد الورتتاني، البُرْنس في باريس: رحلة فرنسا وسويسرا 1913، حررها وقدم لها سعيد الفاضلي، دار السويدي للنشر والتوزيع أبو ظبي، والمؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت، 2004.
[4]– ينظر:
– خالد رمضاني، “الاستشراق معكوسا وتمثّل الآثار الأوروبيّة في أدب الرحلة التونسية: رحلة “البُرْنس في باريس” لمحمد المقداد الورتتاني أنموذجا”، دراسات استشراقية، العدد 27 ، جويلية 2021.
– خالد رمضاني، “الثقافة السويسرية في أدب الرحلة التونسية من خلال مؤَلف “البُرنس في باريس” (1913)” ، مجلة جيل العلوم الإنسانية، العدد 81، طرابلس لبنان، ص ص 143-159، ديسمبر 2021.
[5]– عبد الله عصام، من تاريخ الأفكار إلى علم اجتماع المعرفة، القاهرة،2001 ، ص 42.
[6]– محمد المقداد الورتتاني، البُرْنس في باريس، ص 58.
[7] – عماد الدين عشماوي، قراءة في رحلات محمد ثابت إلى الغرب: معرفة الآخر ونقده، تجارب استغرابية: الغرب في مرآة الرحالة العرب والمسلمين، مجموعة مؤلفين، تحرير وإعداد محمد حيدر، المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية، النجف، العراق، الطبعة الأولى، 1440 هجري 2019 ميلادي، ص ص 267-288، ص 269.
[8]– البشير صفر 1865)-(1917، هو أحد قادة الحركة الإصلاحية التونسية حتى أنه لقب ب”أبي النهضة التونسية” الثاني بعد خير الدين التونسي.
[9]– محمد بن البشير بن محمد بلخوجة (1869 –1942) ، سياسي ومؤرخ تونسي.
[10]– محمد المقداد الورتتاني، البُرْنس في باريس، ص 36.
[11]– سياسي ومؤرخ تونسي ولد في القيروان سنة 1869 وتوفي في تونس سنة 1943.
[12]– سالم بوحاجب كان قاضي وإمام ومصلح، ولد عام1824 أو1827 ببنبلة وتوفي في14 جويلية 1924 بالمرسى.
[13]– محمد الخضر حسين )1876-1958(عالم دين تونسي من أصل جزائري، تولى مشيخة الأزهر بين 1952 و1954.
[14]– محمد الطاهر بن عاشور )1879-1973( عالم وفقيه تونسي تعلم بجامع الزيتونة ثم أصبح من كبار أساتذته.
[15]– محمد المقداد الورتتاني، البُرْنس في باريس، ص 41.
[16]– رمضاني خالد، “الاستشراق معكوسا وتمثّل الآثار الأوروبيّة في أدب الرحلة التونسية: رحلة “البُرْنس في باريس” لمحمد المقداد الورتتاني أنموذجا”، مجلة دراسات استشراقية، نسخة الكترونية، العدد 27، 2021.
[17]– Hilaire-Pérez (Liliane), « Introduction : les identités à l’épreuve de la modernité dans les expositions universelles aux XIX et XXe siècles Les expositions universelles », Les identités au défi de la modernité, Christiane Demeulenaere-Douyère et Liliane Hilaire-Pérez (dir.), Rennes, Presses universitaires de Rennes, 2014, pp 07-25, p21.
[18]-الاستشراق أو الدراسات الشرقية هو المصطلح الذي ظهر في الهند، والذي يشير، إلى جميع التخصصات التي تدرس لغات وثقافات وعادات وآداب وتاريخ الشعوب الشرقية. ينظر:
-Kopf, British Orientalism and the Bengal renaissance. The dynamic of Indian Modernization, 1773-1835, Berkeley, University of California press, 1969.
[19]– ادوارد سعيد، الاستشراق، ترجمة محمد عناني، رؤية للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 2006، ص44.
[20]– محمد المقداد الورتتاني، البُرْنس في باريس، ص 176.
[21]– نازك سابا يارد، الرحالون العرب وحضارة الغرب في النهضة العربية الحديثة، دار نوفل، الطبعة الثالثة، مصححة ومنقحة، 1992، ص 357.
[22]– محمد المقداد الورتتاني، البُرْنس في باريس، ص 218.
[23]– DOTRAM, « La Muséologie, science ou seulement travail pratique du musée? » Revue de débat sur les problèmes fondamentaux de la muséologie, Stockholm, 1980, p 4.
[24]– نفس المصدر، ص 218.
[25]– نفس المصدر، ص 217.
[26]– نازك سابا يارد، الرحالون العرب وحضارة الغرب في النهضة العربية الحديثة، ص 223.
[27]– محمد المقداد الورتتاني، البُرْنس في باريس، ص 40.
[28]-Le Mansois Du Prey (Charles), Le Congrès des orientalistes, ce qu’il est aujourd’hui, le rôle important qu’il peut être appelé à jouer dans l’intérêt du commerce français, en facilitant ses relations avec les peuples de l’Orient, le but pratique qu’il devrait se proposer, Saint-Etienne, Imprimerie J. Besseyre Et Cie Rue de la République, 14, 1875, p 75.https://gallica.bnf.fr/ark:/12148/bpt6k5608636m.texteImage
[29]– محمد المقداد الورتتاني، البُرْنس في باريس، ص 202.
[30]– نفس المصدر، ص 298.
[31]– نفس المصدر، ص 298.
[32]– نفس المصدر، ص 261.
[33]– نازك سابا يارد، الرحالون العرب وحضارة الغرب في النهضة العربية الحديثة، ص 336.
[34]– محمد المقداد الورتتاني، البُرْنس في باريس، ص 197.
[35]– نفس المصدر، ص 130.
[36]– نفس المصدر ص 161.
[37]– نفس المصدر، ص 232.
[38]-Lacombe (Hervé), « Histoire et opéra », In : Histoire, économie et société, 2003, 22ᵉ année, n°2. L’opéra, à lacroisée de l’histoire etde la musicologie. pp. 147-151;p 150 https://www.persee.fr/doc/hes_0752-5702_2003_num_22_2_2314
[39]– محمد المقداد الورتتاني، البُرْنس في باريس، ص 231.
[40] – Voir:
– « Chambre des députés, séance du vendredi 27 mai », Moniteur universel, 28 mai 1836.
– Taïeb (Patrick), L’ouverture d’opéra-comique de 1781 à 1801. Contribution à l’histoire du goût Musical en France à la fin du XVIIIe siècle, thèse de doctorat, Tours, Université François Rabelais, 1994.
[41]– محمد المقداد الورتتاني، البُرْنس في باريس، ص 233.
[42]– نفس المصدر، ص 234.
[43]-Lacombe (Hervé), « Histoire et opéra », p 150.
[44]– محمد المقداد الورتتاني، البُرْنس في باريس، ص 235.
[45]– ابراهيم المويلحي، “حول حديث عيسى بن هشام”، الرسالة 488، سنة 1942، ص 290.
[46]– محمد فريد، من مصر إلى مصر: رحلات 1901-1902-1903-1904، الإسكندرية، 1905، ص 98.
[47] -Dautry (Jean), « S’agit-il de la Marseillaise ? », In : Annales historiques de la Révolution française, n°175, 1964, pp. 98-99 ; p 98 https://www.persee.fr/doc/ahrf_0003-4436_1964_num_175_1_3660_t1_0098_0000_2
[48] – كلود جوزيف روجيه دي ليسلي : Claude Joseph Rouget de Lisle وهو ضابط في الجيش الفرنسي تواجد في فترة حروب الثورة الفرنسية ولد في يوم 10 مايو 1760 في بلدة لونس لي سونير في فرنسا وقد عرف بكتابته كلمات وألحان النشيد الوطني الفرنسي في سنة 1792 لامارسييز والذي لا يزال النشيد الوطني الفرنسي حتى اليوم وتوفي في 26 جوان 1836.
[49]– محمد المقداد الورتتاني، البُرْنس في باريس، ص 113.
[50] – Tiersot (Julien), « La « Marseillaise » à l’école », In: La revue pédagogique, tome 58, Janvier-Juin 1911, pp. 340-348; p 348https://www.persee.fr/doc/revpe_2021-4111_1911_num_58_1_6117
[51]– محمد المقداد الورتتاني، البُرْنس في باريس، ص 235.
[52]– نفس المصدر، ص 235.
[53]– نفس المصدر، ص 275.
[54]– نفس المصدر، ص 209.
[55]– تمت سرقة اللوحة يوم 21 أوت 1911 من قبل عامل سابق في متحف اللوفر يدعى فيتشنزو بيروجي وهو ايطالي وقد أخفاها في شقته في فرنسا لمدة سنتين ومن ثم نقلها سرا إلى فلورنسا بايطاليا أين عرضت في جميع أنحاء ايطاليا. وبعد نشوب أزمة ديبلوماسية ومطالبة فرنسا بالصورة أعيدت للوفر ومنذ تاريخ سرقتها أصبحت من أشهر الأعمال الفنية وأعلاها قيمة في العالم.
[56]– محمد المقداد الورتتاني، البُرْنس في باريس، ص 211.
[57]– نفس المصدر، ص 253.
[58] – سعيد بن سعيد العلوي، أوروبا في مرآة الرحلة، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، 1995، ص 9.
[59]– نازك سابا يارد، الرحالون العرب وحضارة الغرب في النهضة العربية الحديثة، ص 227.