مدن ومراكز الغرب الإسلامي: حاضرة سجلماسة نموذجاً
Cities and Centres of the Western Islamic: Sijilmassa model
د. العربي بنرمضان العياط/جامعة سيدي مـحمد بن عبد الله، المغرب
Dr. Larbi Ben Ramdan Layat/University Sidi Mohamed Ben Abellah/Morocco
مقال منشور في مجلة جيل العلوم الانسانية والاجتماعية العدد 83 الصفحة 149.
Abstract :
This research paper addresses some of the political, economic, and social aspects of the history of the capital of the South, Sijilmassa in the medieval-era. These ancient and decadent present played central roles in the history of the western wing of the Muslim world. This importance is the result of the demonstration and integration of a variety of different political, economic and geographical factors to create the political history of the city.
The independence tendencies caused by the Islamic Caliphate in Mashreq contributed to the Khaoirij revolutions in Morocco, The persecution of certain elements subject to the Islamic Caliphate was a factor in the emergence of a series of independent tendencies led by Al-Khaoirij, thereby establishing many Emirates independent of the Umayyad and then Abbasid Caliphates of the Mashreq.
At the beginning of its existence, the city relied upon the foreign doctrine, which was based on the principle of consultation, the basis of the political measure of the city, until a Beni Medrar State emerged on the political stage of the city and made the principle of succession as a basis of the government.
Keywords: Centres – Moroccan – medieval-era – Sijilmassa – Cities.
ملخص:
تعالج هذه الورقة بعض الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية من تاريخ عاصمة الجنوب المغربي سجلماسة خلال العصر الوسيط، إذ لعبت هذه الحاضرة القديمة والمندثرة أدوارا مركزية في تاريخ الجناح الغربي من العالم الإسلامي، هذه الأهمية جاءت نتيجة تظافر وتكامل مجموعة من العوامل المختلفة سياسية واقتصادية وجغرافية لتصنع التاريخ السياسي للمدينة.
لقد ساهمت النزعات الاستقلالية التي سببتها الخلافة الإسلامية بالمشرق في قيام ثورات الخوارج خاصة ببلاد المغرب، إذ أدى الاضطهاد الذي تعرضت له بعض العناصر الخاضعة للخلافة الإسلامية إلى ظهور مجموعة من الإمارات المستقلة التي تزعمها الخوارج، مؤسسين بذلك العديد من الدويلات المستقلة عن الخلافتين الأموية والعباسية بالمشرق.
وتعتبر حاضرة سجلماسة نموذجا لإمارة خارجية نشأت في البداية على يد الخوارج الصفرية عام 140 هـ/ 757م، واتخذت من المذهب الخارجي أساس التدبير السياسي للمدينة، إلى أن ظهرت أسرة بنو مدرار على الساحة السياسية للمدينة وجعلت من مبدأ الخلافة أساس الحكم، فإليها يرجع الفضل في تطور سجلماسة حتى أصبحت كيانا سياسيا مستقلا بذاته، وساهمت إلى حد بعيد في رسم جزء من تاريخ المنطقة خاصة وتاريخ الغرب الإسلامي بشكل عام.
الكلمات المفتاحية: مدن- المغرب-العصر الوسيط- سجلماسة- حواضر.
مقدمة:
من الخاصيات المميزة لتاريخ العالم الإسلامي منتصف القرن 2ه/8م ظاهرة الانشطار السياسي خاصة بمنطقة الغرب الإسلامي، الذي شهد تعدد الإمارات المستقلة عن الخلافة بالمشرق، من أشهرها إمارة بنو صالح المعمرة بمنطقة النكور بالشمال المغربي إذ ظلت قائمة قرابة قرن ونصف، كما شهدت بلاد تامسنا بالغرب قيام إمارة بني طريف المصمودية التي عاصرت إمارة بنو صالح، وفي الجنوب اشتهرت إمارة بنو مدرار المكناسية بسجلماسة التي راوحت فترة تواجدها حوالي الربع قرن، في حين ظهرت إمارة بنو إدريس متأخرة مقارنة مع الإمارات المستقلة السالفة الذكر، كما شهد هذا القطر من العالم الإسلامي أيضا، قيام إمارات صغيرة غير ذي أهمية مقارنة مع الكيانات السياسية المستقلة المتقدمة الذكر، من بينها إمارة بنو عاصم بسبتة بالشمال، كما تناسلت العديد من الإمارات بعد تفكك الإمارات المشهورة في كل من فاس وسجلماسة والسوس وأغمات وتادلة واللكوس وتازة[1].
ومن جهة أخرى تجمع جل المصادر التاريخية والجغرافية على مدى الازدهار الاقتصادي الذي شهده الغرب الإسلامي خلال فترة ق3ه-4ه/9م-10م، والذي يمكن تفسيره بالاستقرار السياسي الذي شهده هذا المجال الجغرافي خلال الفترة المذكورة، رغم تواجد العديد من الكيانات السياسية المستقلة عن الخلافة بالمشرق، باستثناء العاصمة القيروان، التي ظلت تابعة من الناحية السياسية للخلافة المشرقية تحت قيادة بني الأغلب.
هذا الوضع السياسي المتفكك يوحي بقيام صراعات سياسية وعسكرية، خاصة حول المصالح الاقتصادية، لكن في واقع الأمر لم تلجأ هذه الدويلات إلى بسط نفوذها السياسي والمذهبي من أجل السيطرة على المسالك التجارية التي كانت بمثابة القلب النابض للتجارة الصحراوية، بل على العكس من ذلك، استطاع الغرب الإسلامي في ظل هذا الوضع أن يحافظ على نوع من الاستقرار والهدوء السياسين، الأمر ساهم بشكل فعال في تطور المسالك التجارية وتأمينها، خاصة في ظل تواجد عواصم هذه الدويلات المستقلة في موقع استراتيجي هام يربط بين أماكن الإنتاج والاستهلاك، كما سهرت تلك الدويلات على توطيد الروابط بين مراكزها التجارية من جهة، وربط علاقات سلمية فيما بينها دون اللجوء إلى محاولات التوسع من طرف دولة معينة على حساب الدول المجاورة.
أولا: التاريخ السياسي لحاضرة سجلماسة:
1- إشكالية النشأة:
تعتبر حاضرة سجلماسة من أقدم العواصم السياسية التي شهدها المغرب الإسلامي خلال العصر الوسيط، فهي تعود من حيث تاريخ تأسيسها إلى القرن الثاني الهجري/ الثامن الميلادي من طرف الخوارج الصفرية، وإذا كان هناك نوع من الإجماع حول مؤسسيها الأوائل (الخوارج الصفرية)، فإن هناك اختلاف كبير بين روايات تأسيسها، فالبكري الذي يعتبر من أقدم المصادر التي أرخت لبلاد المغرب والأندلس، يشير إلى تاريخ تأسيسها سنة 140ه/757م، وسار على منواله كل من كتب عن تاريخ سجلماسة، سواء منهم القدامى أو المعاصرون عربا كانوا أو أوربيون، بل هناك من يرجح تاريخ تأسيسها إلى أبعد من ذلك بكثير، ولكن يجمعون على قدم تأسيسها وأدوارها السياسية والاقتصادية وغناها الاقتصادي وثرائها الاجتماعي.
يقول البكري: “ومدينة سجلماسة بنيت سنة أربعين ومائة 140 (58 – 757) وبعمارتها خلت مدينة ترغة وبينهما يومان وبعمارتها خلت زيز أيضا”[2]، وعلى الرغم مما قيل، يعتبر أبو القاسم سمكو بن واسول المدراري الصفري الزعيم الروحي والقائد السياسي والعسكري لخوارج مكناسة الصفرية، وأول من وضع الحجر الأساس لبناء الدولة في سجلماسة، لكن يعتبر عيسى بن يزيد الأسود أول من حكم المدينة لمدة خمسة عشر عاما، ثم تولى بعده الحكم أبو القاسم بن واسول المكناسي.
وقد سيقت تفسيرات عديدة لهذا الحدث السياسي، فهناك من ربطه بالجانب السياسي واعتبره تجربة فريدة أسهمت في تجنب الصراع بين مختلف الفصائل المكناسية التي كانت تتطلع للسلطة، وهناك من فسره بترسيخ مبدأ المساواة بين المسلمين وأحقية كل واحد منهم في الحكم مهما كان جنسه أو لونه، في حين لجأ البعض الآخر إلى تفسيره بالجانب الاجتماعي المتمثل في ارتفاع الكثافة السكانية للعنصر الإفريقي بحاضرة الجنوب سجلماسة مقارنة مع قبائل مكناسة الساكنة الأصلية، وأخيرا يمكن تفسيره بالعامل الاقتصادي المتمثل في دور الجذب التجاري الذي مارسته حاضرة سجلماسة في إطار تجارة القوافل مع ممالك إفريقيا جنوب الصحراء.
شهدت المدينة في ظل حكم عيسى بن يزيد الأسود مجموعة من الإنجازات على مستوى البنية التحتية، كمد قنوات الري وتشييد الحدائق والبساتين وتوطين قبائل الرحل، وبعد ذلك تطورت المدينة بشكل كبير على جميع المستويات، إذ أصبحت من العواصم الكبرى ضمن العالم الإسلامي وداع صيتها إلى درجة أصبحت محجا للعديد من الفئات الاجتماعية، خاصة منهم فئة التجار نظرا لتظافر مجموعة من العوامل المختلفة.
2- سجلماسة في ظل تعاقب دول المغرب الوسيط:
2-1: سجلماسة تحت حكم الدولة المرابطية:
تعتبر الدولة المرابطية أول كيان سياسي بالغرب الإسلامي جاء بمشروع توحيد هذا المجال الجغرافي، لذلك وبعد توطيد ركائز الدولة باشرت الدولة اللمتونية منذ البداية في شن حملات عسكرية ضد الإمارات المستقلة المتواجدة في العديد من جهات الغرب الإسلامي، خاصة تلك التي كانت تحتل موقعا استراتيجيا بهدف إحكام السيطرة على المراكز التجارية، حتى تتمكن من تحقيق قوة مادية ثابتة تستطيع بواسطتها أن تتحمل نفقات تحركاتها العسكرية.
ونظرا لموقعها الاستراتيجي المتميز في منطقة درعة، كانت سجلماسة من بين المراكز الأولى التي طبقت عليها الدولة المرابطية خطتها الاستراتيجية، وبمجرد خضوع المدينة لسلطة الدولة اللمتونية شهدت تطورا حضريا كبيرا، إذ تحولت إلى مركز تجاري هام للتجارة القوافلية، خاصة بعد إحكام السيطرة المرابطية على مختلف الطرق والمحطات التجارية في العصر الوسيط، الأمر الذي جعل من سجلماسة شبه عاصمة إقليمية، لعبت دورا حاسما في توطيد دعائم هذه الدولة المترامية الأطراف، بل وشكلت جزءاً حساساً من شبكة الاقتصاد المالي للدولة خصوصاً بعد سيطرتها المباشرة على أهم مراكز جنوب الصحراء مثل تمبكتو وأوداغست[3].
وبفضل ذلك أصبح المغرب الأقصى بوابة رئيسية للتجارة الصحراوية، يرتبط بطرق التجارة العالمية بالبحر الأبيض المتوسط عبر الموانئ المتوسطية التي خضعت لنفوذ الدولة المرابطية كمناء وهران[4]، مما مهد لنشأة طبقة تجارية بالمغرب الأقصى زاد من أهميتها الازدهار الاقتصادي والصناعي الذي شهده القطر الغربي من العالم الإسلامي في ظل السيطرة المرابطية التي أمنت الفلاحة والتجارة وأسقطت الضرائب والمكوس.
ومما يدل على مدى التطور الاقتصادي، هو تعدد المدن التي أصبحت مراكز لضرب السكة سواء الفضية منها أو الذهبية، كما تعددت عندهم دور السكة[5]، وقد ساهم في هذا الازدهار الاقتصادي بالمغرب الأقصى، الوضع السياسي الذي شهده محيط المغرب الكبير آنذاك، حيث ومن أجل الحفاظ على المصالح الاقتصادية المشتركة حافظ المرابطون على علاقات سياسية سلمية مع أهم الكيانات السياسية، خاصة مع بني حماد ببجاية التي كانت مركزا لتجارة المدن الإيطالية التي أصبحت تسيطر على تجارة المتوسط خلال ق5ه/11م.
كما كان لخلع المعز بن باديس بيعة الفاطميين دورا كبيرا في تحول تجارة القوافل نحو الغرب، ذلك أن قرار خلع البيعة كانت له انعكاسات وخيمة على المنطقة، فمن أجل الانتقام أطلق الفاطميون يد عرب بني هلال وبني سليم وعاثوا فسادا وتخريبا في المنطقة فانجلى الناس من إفريقية نحو المغرب الأقصى خاصة نحو فاس وأغمات[6].
2-2: سجلماسة تحت حكم الدولة الموحّدية:
هل سلك الموحدون نفس السياسة التي نهجها المرابطون للسيطرة على حاضرة سجلماسة؟ أم أن مستجدات ق 6ه/12م كان لها تأثيرا على السياسة الموحدية؟
يبدو من خلال المصادر التاريخية والجغرافية المعاصرة أن مدينة سجلماسة ظلت محافظة على مكانتها الاقتصادية حتى مجيء الموحدين وإلى حدود سقوط العاصمة مراكش سنة 541ه/1147م، ويمكن القول إن سجلماسة شكلت هدفا من أهداف السياسة الموحدية منذ البداية، يتجلى ذلك من خلال سيطرتهم على جبال درن وخنق منافسيهم المرابطين، عبر قطع الاتصال بين المراكز المؤدية إلى بلاد السودان وسهول المغرب الأقصى وشواطئه، فكان من نتائج ذلك تحول طرق التجارة الصحراوية نحو الشرق، حيث سلك المرابطون وتجار سجلماسة طريقا آخر يربط بين سجلماسة والبهنسا بمصر، رغم أنه كان محفوفا بالمخاطر ولا يسلك إلا بدليل، وقد تزامن ذلك مع هجومات الموحدين على إقليم السوس ومنطقة درعة وبلاد تادلا[7].
كما ساهم التحول الذي شهدته الضفة الجنوبية “لبحر” الرمال دورا كبيرا في تعزيز الانتقال الذي شهدته طرق التجارة الصحراوية، حيث انتقلت مصادر الإنتاج بالسودان الغربي من المنطقة الواقعة على نهر السنغال إلى الشرق بالمناطق الواقعة على نهر النيجر الأعلى، وسطع نجم مالي على الساحة السياسية بإفريقيا جنوب الصحراء، وبموازاة ذلك برز إلى الوجود طريق تجاري آخر عبر الصحراء من تادمكة إلى وركلان، وخفت صوت سجلماسة وبدأت تفقد ثقلها التجاري، إلى درجة أن الموحدين هددوا التجار السودانيين بسبب المنافسة القوية التي أصبح يشكلونها ضد التجار المغاربة[8]، وأصبحت وركلان أساس التجارة مع السودان، فضلاً عن ذلك انشغل الموحدون بإخماد الثورات التي بدأت تظهر ببلاد الغرب الإسلامي، وأصبحت تهدد الاستقرار السياسي والأمني والاقتصادي للدولة الموحدية خاصة ببلاد الأندلس، مما جعل سجلماسة تقع فريسة أطماع حكامها أو بعض الثوار الذين أرادوا الانفراد بمواردها.
2-3: سجلماسة تحت حكم الدولة المرينية:
بعد انفراط عهد الإمبراطورية الموحدية انقسم الغرب الإسلامي إلى ثلاث كيانات سياسية متفرقة في الشرق والوسط والغرب، من أبرزها الدولة المرينية التي استمر تواجدها من منتصف القرن الثالث عشر الميلادي (سنة 1255م) إلى حدود منتصف القرن الخامس عشر الميلادي (1464م)، وقد ظلت سجلماسة من بين أبرز المدن المغربية الكبرى خلال العصر الوسيط، رغم تراجع دورها التجاري الذي ازداد تقلصا بفعل مستجدات نهاية ق15م ومطلع ق16م، والمتمثل في تحول الطرق التجارية نحو المحيط الأطلسي وسيطرة الدول الأوربية على التجارة مع إفريقيا جنوب الصحراء، بعد تمكنهم من الوصول إلى مناطق الإنتاج بشكل مباشر بفضل التحولات التقنية التي شهدتها الضفة الشمالية خلال هذه الفترة، فضلا عن سيطرة قبائل بني معقل على أهم المحاور والمراكز القوافلية، زيادة عن إعطاء الأولوية للطريق الغربي درعة – نول لمطة من طرف الدولة المرينية.
أما من الناحية السياسية، فيبدو أن الأحداث السياسية التي شهدتها بلاد الأندلس قد أخذت مأخذها من جهود الدولة المرينية، فقد كان للزحف المسيحي نحو بلاد الأندلس والصراعات الداخلية المتكررة، سببا في مواجهة الدولة العبدحقية لمجموعة من الإكراهات السياسية والعسكرية، أثرت بشكل كبير على الثقل السياسي والعسكري للمغرب الأقصى في الحوض الغربي للبحر المتوسط خلال هذه الفترة.
كما لم ينج الوضع الاجتماعي المغربي خلال نفس الفترة من صعوبات وإكراهات عديدة، فقد تعرض المجتمع المغربي لضغوطات ضريبية ثقيلة ومتنوعة في ظل تراجع مداخيل الدولة من التجارة الصحراوية، وما فرضته الصراعات العسكرية والقبلية من مصاريف إضافية، وفي ظل هذا الوضع الجديد والمتأزم تعرضت مدينة سجلماسة للتدهور والاندثار مع نهاية الدولة المرينية، واختفت من الساحة التاريخية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية للبلاد، ولم يعد لها أي أثر يذكر في الكتابات التاريخية اللاحقة بشكل شبه تام.
ثانيا: سجلماسة بين الجغرافيا والاقتصاد والمجتمع(الموقع والأدوار الاقتصادية والاجتماعية)
1- سجلماسة من خلال المصادر العربية:
لقد وصف الحموي (ما بين 757م/977م) عاصمة إمارة بنو مدرار المكناسيين سجلماسة في منطقة تافلالت الموجودة على طرف الصحراء بما يلي: «مدينة في جنوب المغرب في طرف بلاد السودان…وهي في منقطع جبل درن، وهي في وسط رمال…يمر بها نهر كبير»[9]، هذا النهر الذي تحدث عنه ابن حوقل قائلا: «يزيد في الصيف كزيادة النيل في وقت كون الشمس في الجوزاء والسرطان والأسد»[10]، وهو نفس المعنى الذي يشير إليه صاحب الاستبصار بقوله: «أنها تقع على نهرين من عنصر واحد في موضع يسمى أكلف وتمده عيون كثيرة ولهم مزارع كثيرة يسقونها من النهر في حياض كحياض البساتين»[11]، فالموقع الحيوي لهذه الحاضرة الرابط بين الشمال الإفريقي وإفريقيا جنوب الصحراء وبلدان المشرق العربي، أهلها لتكون مركزا تجاريا عالميا بامتياز، إذ أن جميع القوافل التجارية القادمة من مراكز عدة، ومتجهة نحو بلاد السودان أو العائدة منها تمر عبر سجلماسة.
كما يظهر الانفتاح التجاري الهام لحاضرة الجنوب من خلال المسالك العديدة التي كانت تربطها بمجمل العواصم في الجنوب والشمال والشرق، ففي اتجاه الجنوب، أي نحو بلاد السودان الغربي وأيام دولة غانا، شكل المحور الغربي سجلماسة نحو الأدرار وصولا إلى مدينة أودغشت، ومن تم نحو العاصمة الغانية في الجنوب الشرقي أو في اتجاه نهر السنغال، أهم المحاور الرابطة بين الشمال والجنوب، يقول اليعقوبي: «ومن سجلماسة لمن سلك متوجها إلى القبلة يريد أرض السودان يسير في مفازة وصحراء مقدار خمسين مرحلة، ثم يصير إلى بلد يقال له غسط وهو وادي عامر فيه منازل، وفيه ملك لادين له ولا شريعة وبلاد السودان ممالكهم كثيرة»[12]، أما البكري فيقول: «ومن مدينة سجلماسة تدخل إلى بلاد السودان، إلى غانة وبينها وبين مدينة غانة مسيرة شهرين في صحراء غير عامرة إلا بقوم ظاعنين…»[13].
وفي اتجاه الشمال، كانت لسجلماسة علاقات وثيقة مع كبريات عواصم المغرب الأقصى آنذاك، في مقدمتها مدينة فاس التي اشتهرت بوفرة بضائعها وتنوع منتوجاتها لمحاذاتها لمدينة عريقة هي مدينة صفرو، التي شكلت المزود الرئيسي لكل من فاس وسجلماسة، فالمسافة التي تفصل «سجلماسة عن فاس ثماني مراحل وهي المسافة نفسها التي تفصل أغمات غربا وبينها وبين مدينة فاس مدينة صفرو، وهي مدينة قديمة اشتهرت بوفرة مياهها وتنوع ثمارها التي تصدر إلى فاس وسجلماسة وغيرهما…»[14].
وفي اتجاه الشرق، كانت هناك مسالك عديدة تربط بين سجلماسة والقيروان ومصر، وحسب البكري «فإن المسلك المتبع من طرف القوافل التجارية بين سجلماسة والمشرق يمر عبر نفزاوة وقسطيلة في مدة زمنية تصل إلى ست وأربعين مرحلة»[15].
كما كان للمؤهلات الطبيعية التي كانت تزخر بها المدينة دورا كبيرا في هذه المكانة الاستراتيجية، فتواجدها على نهر زيز الذي شكل مصدرا للحياة من منتوجات متنوعة ومياه متوفرة للسكان والمارة، ساهم في ازدهار المدينة وثراء سكانها وتنوع نسيجها البشري، يقول ابن حوقل: «كانت القوافل تجتاز المغرب إلى سجلماسة، وسكنها أهل العراق وبخارى والبصرة والكوفة والبغداديون…فهم وأولادهم وتجارتهم دائرة ومفرداتهم دائمة وقوامهم غير منقطعة إلى أرباح عظيمة وفوائد جسيمة ونعم سابغة، فلم يدانيها التجار في بلاد الإسلام سعة حال»[16].
ومما يفسر الموقع الاستراتيجي الهام لحاضرة سجلماسة أيضا، والدور الكبير الذي كانت تلعبه في تنشيط التجارة الصحراوية خاصة مادتي الذهب والملح، هو الاهتمام الكبير الذي أولاه الفاطميون لهذه المدينة، ويبدو من خلال الإشارات المصدرية أن الطريق الرئيسي لهذه التجارة كان الطريق الذي يربط الشرق بالسودان الغربي عبر ورغلة وتوات، والذي كان تحت سيطرة الخوارج الإباضيين، ومن المعلوم أن هؤلاء كانوا أشد عداء للفاطميين مما دفع بهم إلى إيلاء كبير اهتمام لحاضرة سجلماسة، حيث تم فتح طريق جديد أمام التجارة الصحراوية يربط هذه المدينة بأهم مناطق السودان الغربي آنذاك أودغشت والنيجر[17].
2- الرأس مال البشري ودوره في تطور مركز سجلماسة:
يعتبر العنصر البشري المحرك الأساسي للاقتصاد، إذ لا يستقيم الحديث عن تطور وازدهار الأنشطة الاقتصادية في مجال جغرافي معين وفي فترة تاريخية معينة دون الحديث عن القوة المحركة لهذا التطور، وبخصوص الغرب الإسلامي موضوع دراستنا، يظهر من خلال المصادر الوسيطية المختلفة التي تناولت الغرب الإسلامي إبان هذه الفترة التاريخية، أن هذا المجال شهد تنوعا كبيرا من حيث نسيجه البشري، فإلى جانب العناصر المحلية عرف هذا القطر توافد العديد من العناصر البشرية الأجنبية خاصة فئة التجار، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على الازدهار الاقتصادي الكبير الذي شهده مجال الغرب الإسلامي خلال الفترة المدروسة، فقد قصده العراقيون من بغداد والكوفة والبصرة والغرباء من التجار الأندلسيين والمشارقة إضافة إلى أهل الذمة، فرغم بعد الشقة بين الغرب الإسلامي وبلدان المشرق والأندلس، فقد شكل هذا المجال وجهة مفضلة لدى العديد من التجار ومن جنسيات مختلفة، خاصة في ظل تخلف وسائل النقل وأخطار الطريق.
العنصر المحلي:
لم يكن في وسع المدينة أن تلعب هذا الدور المحوري في الربط التجاري وتوفير المواد الضرورية، لولا العناصر البشرية المحلية التي ساهمت بشكل فعال في تنشيط المبادلات التجارية وتسهيلها، فقد كان المجال الممتد من سجلماسة نحو الساحل السوداني هو المجال الصحراوي الذي كان يقطنه الصنهاجيون، وقد سبقت الإشارة إلى أن موقع المدينة جعل منها مركزا تجاريا عالميا بامتياز، إذ جميع القوافل التجارية القادمة من مراكز عدة ومتجهة نحو بلاد السودان أو العائدة منها، كان لا محيد لها عن المرور عبر سجلماسة، يقول ابن حوقل: «القطر الذي يقع بين أودغشت وسجلماسة احتلته عدة قبائل بربرية منعزلة في الصحراء لا تعرف شيئا عن المدينة… يتمتعون بالشجاعة والقوة أكثر من غيرهم…لديهم دراية معمقة بالأشكال والمظاهر الطبيعية والخبرة على معرفة الطريق وتحديد أماكن تواجد المياه»[18].
هذه القبائل البربرية لم تكن سوى القبائل الصنهاجية التي كانت تعمر المجال الصحراوي، في مقدمتها قبائل لمتونة وجدالة التي عمرت شمال المنطقة تخوم سوس ودرعة، ولكونهم رحل فقد كانوا ينزلون حتى منطقة الأدرار، حيث تتواجد قبائل مسوفة التي شكل أبناؤها أهم مرشدي قوافل سجلماسة المتجهة صوب أودغشت التي كانت تحت سيطرة لمتونة، أما القبائل المسوفية فكانت تسيطر على منطقة الأدرار وتاكنت الموريتانيتين بجوار جدالة غربا على طول الساحل الأطلسي الذين احتكروا ملاحات أوليل، وهذا ما يستفاد من كلام البكري حيث يقول: «…وإلى الشرق من لمتونة تقع ديار مسوفة وإلى الغرب تقطن جدالة متصلة ديارهم بالبحر المحيط وممتدة جنوبا إلى نهر السنغال مصاقبة لديار التكرور وتتصل شمالا بديار لمطة وجزولة الذين يتصلون ببلاد السوس الأقصى»[19].
إن الحاجات الملحة لمادة الذهب الذي كان يستخدم في صناعة المجوهرات والقطع النقدية من طرف إمارات الغرب الإسلامي، وكذلك العائدات المهمة للفائض منه الذي كان يصدر إلى باقي بلدان العالم الإسلامي المجاورة بعد نفاذه من أماكن الاستخراج التقليدية، إضافة إلى ارتفاع الطلب المتزايد عليه من طرف أوربا قبل اكتشاف العالم الجديد، خاصة بعد ظهور موجة الاستقلال عن الخليفة الذي كان يحتكر مجال صنع الدنانير الذهبية والفضية، كلها عوامل جعلت من المجال الصحراوي مجالا حيويا ساهم في نجاح وتيسير هذه التجارة القوافلية، ونظرا للمعرفة الدقيقة لسكان الصحراء بالمجال من مسالك ومكونات طبيعية، فقد شكلوا العنصر البشري الكفيل والقادر على حماية القوافل التجارية وإرشادها، كما شكلوا ذلك الوسيط التجاري الذي لا محيد عنه في تسهيل التعامل التجاري بين تجار الشمال وتجار الجنوب.
العنصر الأجنبي:
شكل العنصر الأجنبي مكونا أساسيا من مكونات مجتمع الغرب الإسلامي خلال العصر الوسيط، وقد كانت الفئة الغالبة على هذه العناصر الأجنبية هي فئة التجار، الذين مارسوا الأنشطة التجارية مع دول المغارب بشكل واسع، حيث كانت الموانئ المتوسطية تعج بمراكب التجار الأندلسيين، بل أكثر من ذلك نسجوا علاقات متشعبة مع حكام دول المغارب، وهو ما يستفاد من المصادر الوسيطية كالبكري وابن حوقل.
وإلى جانب التجار الأندلسيين، شكل التجار المشارقة خاصة العراقيون منهم، البغداديون والبصريون والكوفيون فئة تجارية مهمة، إذ انتشروا بشكل كبير في العديد من المدن المغاربية ومارسوا أنشطة تجارية واسعة، خاصة فيما يتعلق بنقل البضائع من المغرب إلى المشرق والعكس.
وتعتبر حاضرة سجلماسة من حواضر الغرب الإسلامي الكبرى التي احتضنت هذه الفئة التجارية المشرقية، حيث كانت تغص بالفئة التجارية العراقية البغدادية والبصرية والكوفية، ويبدو من خلال المصادر الوسيطية، أن هذه الفئة كانت نشيطة بشكل كبير تمكنت من مراكمة ثروة مهمة بفضل الأرباح العظيمة والفوائد الجسيمة التي كانت تجنيها من التجارة القوافلية، يقول ابن حوقل ” كانت القوافل تجتاز بالمغرب إلى سجلماسة، وسكانها أهل العراق وتجار البصرة والكوفة والبغداديون الذين كانوا يقطعون ذلك الطريق فيهم وأولادهم وتجارتهم دائرة ومفردتهم دائمة وقوافلهم غير منقطعة إلى أرباح عظيمة وفوائد جسيمة ونعم سابغة قلما يدانيها في بلاد الإسلام سعة الحال…”[20].
ولم يقتصر تواجد التجار المشارقة بالمغرب الأقصى على منطقة سجلماسة الغنية، بل انتشروا بشكل كبير بمنطقة السوس ومارسوا النشاط التجاري بشكل واسع خاصة بالأماكن ذات الجذب التجاري، كمنطقة أغمات التي شكلت قبلة للتجار المشارقة والغرباء من الناس، وهو ما يستخلص من المصادر الوسيطية التي تحدثت عن مكانة أغمات التجارية، معللين ذلك بتواجد التجار المشارقة منهم العراقيون واليمنيون، يقول البكري واصفا إياها قائلا: «ومدينة أغمات، مدينتان سهليتان إحداهما تسمى أغمات أيلان والأخرى أغمات وريكة (…) وبها مسكن رئيسهم، وبها ينزل التجار والغرباء، وأغمات أيلان (…) بلد واسع تسكنه قبائل مصمودة في قصور وديار (…) وبها أسواق جامعة»[21]، كما أشاد ابن الفقيه بنجاعة التجار المشارقة قائلا:« أن أبعد الناس في الكسب البصري والحميري ومن دخل فرغانة والسوس الأقصى فلابد أن يرى بصريا أو حميريا»[22]، كما كان ينزل بأغمات نفر من التجار المشارقة[23].
إلى جانب العناصر الأجنبية المشرقية والغرباء، شكل أهل الذمة من اليهود مكونا أساسيا من مكونات النسيج الاجتماعي المغربي خلال العصر الوسيط، فقد استقرت فئة اليهود بأهم حواضر المغرب الوسيط آنذاك ومارسوا النشاط التجاري بشكل كبير، بل خضع هذا النشاط الاقتصادي لسيطرتهم التامة إلى درجة أصبحت بعض المحلات التجارية تعرف باسمهم، وقد اختص هؤلاء بنقل السلع والمنتوجات من مختلف أرجاء العالم، وأصبحوا يتمتعون بمكانة اقتصادية واجتماعية مهمة، ومن أهم السلع الذين اختصوا بنقلها مادة الذهب إلى جانب المنسوجات المختلفة وبعض المعادن الأخرى، وما تواجدهم بحاضرة سجلماسة القديمة إلا لاشتغالهم في الأعمال التجارية الخاصة بمادة الذهب الآتية من السودان الغربي.
ومما ساهم في براعة وتحكم اليهود في تجارة الذهب وباقي السلع الأخرى، اتقانهم للغات الشعوب التي كانت سائدة آنذاك، كالعربية والفارسية والأندلسية والصقلية والإفرنجية، الأمر الذي مكنهم من التجوال في أماكن متعددة من المعمور شرقا وغربا، وهو ما يستفاد من المصادر الوسيطية التي تتحدث عن سيطرة اليهود على الأنشطة التجارية، يقول ابن الفقيه: “إنهم كانوا يسافرون من المشرق إلى المغرب طرا وعكسا، حيث يتاجرون بالذهب والديباج والخرز الفائض الذي يأتون به من بلاد الفرنج إلى الفرما، ثم يركبون بحر الروم متجهين إلى الصين ثم إلى القسطنطينية، فيبيعون المسك والعود، ثم يصلون إلى انطاكية ثم يعودون إلى بغداد ومنها إلى البصرة“[24].
ولم ينحصر التواجد اليهودي في حاضرة سجلماسة ومنطقة السوس، بل انتشروا في كل الحواضر التجارية الكبرى كفاس وباديس والنكور وبلاد فازاز ودرعة وتافلالت… وغيرها من المدن والمراكز التي كانت تقع في ملتقى الطرق التجارية العالمية، الأمر الذي مكنهم من تشكيل قوة اقتصادية واجتماعية داخل بلاد المغرب الأقصى.
ثالثا: سجلماسة من الازدهار إلى الأفول:
بعد التطور العمراني والازدهار الاقتصادي الكبيرين الذين شهدتهما المدينة، والدور الكبير الذي لعبته في الربط التجاري والحضاري بين المغرب ودول إفريقيا جنوب الصحراء، والعديد من دول المشرق العربي منذ ق 2ه/8م إلى حدود ق 8ه/14م، آل واقع المدينة إلى التراجع والاضمحلال والأفول، خاصة بعد منتصف ق 14م ومطلع ق 15م، والذي تزامن مع فترة أفول حكم الدولة المرينية بالضفة الشمالية لبحر الرمال، والتطورات السياسية لإمبراطورية مالي في الضفة الجنوبية، وما صاحب ذلك من تغيرات سواء على المستوى الاقتصادي أو السياسي.
فقد شهدت هذه المرحلة نوعا من التحول في المحاور التجارية، حيث بدأ يتراجع دور المحور الغربي الذي كانت تسيطر عليه دول المغرب الأقصى مقابل ظهور أهمية المحور الشرقي، تفسير ذلك أن المنطقة الشمالية ستشهد خلال ق 8ه/14م وصول هجرات القبائل العربية الهلالية التي أحدثت اضطرابات خطيرة في المنطقة، حيث انتشرت ظاهرة اللصوصية وقطاع الطرق وانعدم الأمن، وذلك من أجل الحصول على مغارم القوافل التجارية التي كانت تستعمل الطريق الغربي.
وبالرجوع إلى رحلة ابن بطوطة سنجد شهادات دالة على مدى تأثير الهجرة الهلالية على المنطقة، ومدى التغير الذي طرأ على مستوى طرق مبادلات التجارة الدولية آنذاك، حيث بدأت الأسواق السودانية تتخلص من السيطرة والاحتكار المغربي[25]، وما زاد من الانفلات التجاري للأسواق السودانية من الاحتكار المغربي، التطور السياسي الذي شهدته الدولة المالية التي تمكنت من تحقيق وحدتها السياسية وتوسيع مجالها الجغرافي وتنظيمها الإداري اللامركزي المحكم، حيث ثم تقسيم الإمبراطورية إلى مجموعة من الولايات على رأس كل ولاية حاكم (نائب للملك) يطلق عليه اسم “فاريا”، في الوقت الذي كانت فيه العاصمة خاضعة لحكم الملك.
وبفضل هذه التحولات السياسية تمكنت الإمبراطورية المالية من التحكم في العديد من حقول التبر، التي كانت تتواجد شمال الإمبراطورية ومحاذية لمعاقل القبائل الصحراوية، التي كانت تتحكم في السير العادي لطرق التجارة الصحراوية، كل هذا سيمكن دولة مالي من التخلص من الوساطة التقليدية المغربية وإعادة توزيع المبادلات التجارية لصالحا، وفرض رقابة مشددة على التجارة والتجار الآتين من الشمال.
ومن جهة أخرى، تمكنت مصر من الدخول كمنافس جديد للمغرب على التجارة الصحراوية ومداخيلها، وذلك بعد الانتعاش الذي شهده الطريق الشرقي الذي يربط مصر والسودان، فبالعودة إلى الرحلة التي خلفها ابن بطوطة، نستشف أن المنتوجات المصرية أصبحت أكثر رواجا بالأسواق السودانية وأصبح التجار المصريون أكثر تواجدا بالأسواق السودانية[26]، مما يفسر-إلى جانب باقي المستجدات الأخرى- الصعوبات والإكراهات التي واجهت أواخر الدولة المرينية.
كما شهدت الضفة الشمالية من البحر المتوسط صعود القوى الغربية، بسبب تفوقها التقني وقدرتها على السيطرة شيئا فشيئا على التجارة المتوسطية وتنحية المغرب، وتجدر الإشارة أيضا إلى أن العديد من مدن المغرب الوسيط ارتبط ظهورها وازدهارها بالتجارة الصحراوية وليس بفعل الإنتاج، لذلك وبمجرد تراجع هذا النوع من النشاط الاقتصادي بدأت تلك المدن تفقد دورها وحيويتها شيئا فشيئا، إلى أن اندثرت ولم يعد لها ذكر في الكتابات التاريخية.
وفي الختام، لابد من إبداء بعض الملاحظات العامة حول مدن المغرب الوسيط، فرغم اعتماد بعض الكتابات الأجنبية الترحال والبداوة كقاعدة أساسية طبعت وأثرت في مجمل الأحداث التي شهدها تاريخ المغرب، وأصبحت صفة جينية لصيقة بالمجتمع المغربي، فإنه يمكن الجزم بأن هذه الظاهرة وما أسفر عنها من أحداث، ارتبطت بشكل كبير بالأرياف والبوادي بسبب الصراعات حول الماء أو الكلإ أو الحدود، ولا تعبر عن غياب السلطة والأمن، بل نعتقد جازمين بأن العصر الوسيط بالمغرب، يعد عصر البناء والتشييد، ذلك أن العديد من المدن المغربية تم تشييدها ما بين العهدين الإدريسي والمريني من ق 8م إلى حدود ق 14م.
فبالشمال نجد مدن حجر النسر والبصرة والنكور وفاس، وبالجنوب نجد مدن تامدولت وإيكلي وأغمات…، كما تؤكد العديد من الكتابات التاريخية، أن شمال إفريقيا بشكل عام شهد حركية حضرية كبيرة خلال العصور الوسطى، خاصة بعد وصول العرب المسلمين إلى المنطقة، حيث قاموا ببناء وتجديد العديد من المدن خاصة على طول الطرق التجارية، في إطار استغلالهم للعديد من الموارد خاصة مادة الذهب، مما ساهم في الربط التجاري بين ضفتي الصحراء والعالم المتوسطي والشرق.
غير أنه، وكما أكدته بعض الدراسات[27]، أن الأبحاث العلمية لم تعر الاهتمام الكافي للعديد من مدن مغرب العصر الوسيط باستثناء مدينتي فاس ومراكش[28]، مما فتح المجال أمام نجاح أطروحة الترحال والبداوة وانتشار الفوضى بالمغرب خلال العصر الوسيط.
خلاصة:
خلاصة القول، تعتبر حاضرة سجلماسة من حواضر المغرب الأقصى التي شكلت في العصور الوسطى حاضرة سياسية واقتصادية واجتماعية بامتياز، ساهمت في إخصاب العلاقات بين الغرب الإسلامي وممالك السودان الغربي، وقد تأتت لها هذه المكانة وهذه الأهمية لموقعها الاستراتيجي الهام في الجنوب المغربي، ولتوفرها على مجموعة من الموارد الطبيعية، مما جعلها محجا للعديد من الفئات الاجتماعية خاصة فئة التجار، سواء منهم المحليون أو الأجانب خاصة من المشرق.
وإن تراجع دورها بعد العصر الوسيط واختفى ذكرها في المصادر التاريخية والجغرافية، تبعا للتحولات التي شهدتها الجهة الغربية من البحر الأبيض المتوسط، وظهور قوى جديدة على الساحة السياسية والاقتصادية، فإنه لا يمكن بأي حال من الأحوال تجاوز الحديث عن هذه الحاضرة وأهميتها في الفترة المدروسة.
قائمة المصادر والمراجع:
- الإدريسي، نزهة المشتاق في اختراق الآفاق، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، 1994.
- أبو عبيد الله البكري، المغرب في ذكر بلاد الأندلس والمغرب، تحقيق دوسلان، ط2، الجزائر، 1911.
- ابن حوقل، صورة الأرض، بيروت، 1979.
- تاوشيخت حسن، واحة تافيلالت بين الأمس واليوم، المجال والمجتمع بالواحات المغربية، سلسلة ندوات 6 جامعة المولى إسماعيل كلية الآداب والعلوم الإنسانية، مكناس، 1993.
- الحبيب الجنحاني، المجتمع العربي الإسلامي، الحياة الاقتصادية والاجتماعية، عالم المعرفة، عدد 319، شتنبر 2005.
- ياقوت الحموي، معجم البلدان، ج3، بيروت، 1957.
- ابن بطوطة، شمس الدين أبو عبدالله محمد بن عبدالله اللواتي الطنجي، تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأقطار، بيروت 1985.
- عز الدين موسى، الموحدون في الغرب الإسلامي، تنظيماتهم ونظمهم، بيروت، دار الغرب الإسلامي، 1991.
- ابن ابي زرع الفاسي، الذخيرة السنية في تاريخ الدولة المرينية، الرباط، 1972.
- ابن ابي زرع الفاسي، الأنيس المطرب بروض القرطاس في أخبار ملوك المغرب وتاريخ مدينة فاس، دار المنصور الرباط، 1973.
- القلقشندي، صبح الأعشى في صناعة الإنشا، ج 5، القاهرة، 1963.
- محمد القبلي، تاريخ المغرب تحيين وتركيب، منشورات المعهد الملكي للبحث في تاريخ المغرب، ط 1، الرباط، 2011.
- ابن سعيد المغربي، كتاب الجغرافيا، حققه ووضع مقدمته وعلق عليه اسماعيل بن العربي، الطبعة الأولى، بيروت، 1970.
- مجهول، كتاب الاستبصار، الاستبصار في عجائب الأمصار، نشر وتعليق سعد زغلول، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد د.ت.
- اليعقوبي أحمد بن إسحاق، كتاب البلدان، دار الكتب العلمية، بيروت الطبعة: الأولى، 1422 هـ.
- 16- Abitbol, Tombouctou et les arma de la conquête marocaine du SOUDAN en 1591 à léhégémonie de l’empire PEULH du MACINA en 1833.
- 17- Handaine. M, Tamdoult, histoire d’un carrefour de la civilisation Maroco-Touagègue, monographie du Souss, Bouregreg 2008.
[1]– محمد القبلي، تاريخ المغرب تحيين وتركيب، منشورات المعهد الملكي للبحث في تاريخ المغرب، ط 1، الرباط، 2011، ص: 151.
[2]– أبو عبيد الله البكري، المغرب في ذكر بلاد الأندلس والمغرب،تحقيق دوسلان، ط2، الجزائر، 1911.
[3]– تاوشيخت لحسن، واحة تافيلالت بين الأمس واليوم، المجال والمجتمع بالواحات المغربية، سلسلة ندوات 6 جامعة المولى إسماعيل كلية الآداب والعلوم الإنسانية، مكناس، 1993.
[4]– الإدريسي، نزهة المشتاق في اختراق الآفاق. ابن سعيد المغربي، كتاب الجغرافيا. ابن أبي زرع الفاسي، الذخيرة السنية.
[5]– حسن أحمد محمود، الإسلام والثقافة العربية في إفريقيا، القاهرة، 1962، ص: 352.
[6]– الإدريسي، نزهة المشتاق في اختراق الآفاق، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، 1994، ص: 89.
[7]– عز الدين موسى، الموحدون في الغرب الإسلامي، تنظيماتهم ونظمهم، بيروت، دار الغرب الإسلامي، 1991، ص: 42.
[8]– القلقشندي، صبح الأعشى في صناعة الإنشا، ج5، القاهرة، 1963، ص: 287-290.
[9]-ياقوت الحموي، معجم البلدان، ج3، بيروت، 1957، ص: 192.
[10]– ابن حوقل، صورة الأرض، بيروت، 1979، ص: 90.
[11]– أنظر البكري، ن.م.س. ص: 148. مجهول، كتاب الاستبصار، نشر وتعليق سعد زغلول، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد د.ت، ص: 201.
[12]– اليعقوبي أحمد بن إسحاق، كتاب البلدان، دار الكتب العلمية، بيروت الطبعة: الأولى، 1422 هـ، ص: 360.
[13]– البكري، ن.م.س. ص: 148-149.
[14]– الاستبصار، ن.م.س. ص: 193.
[15]– البكري، ن.م.س. ص: 193.
[16]– ابن حوقل، ن.م.س. ص: 65 .
[17]– نفسه.
[18]-M. Abitbol, Tombouctou et les arma de la conquête marocaine du SOUDAN en 1591 à l’hégémonie de l’empire PEULH du MACINA en 1833, P: 53.
[19]– البكري، ن.م.س. ص. ص: 157-164-172.
[20]– الحبيب الجنحاني، المجتمع العربي الإسلامي، الحياة الاقتصادية والاجتماعية، عالم المعرفة، عدد 319، شتنبر 2005، ص: 141.
[21]-البكري، ن.م.س.ص: 50. ابن حوقل، ن.م.س.ص:76.
[22]-ابن الفقيه، ن.م.س.ص:270.
[23]-نفسه.
[24]– نفسه.
[25]– ابن بطوطة شمس الدين أبو عبد الله محمد بن عبد الله اللواتي الطنجي، تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأقطار، بيروت 1985، ص : 699-700.
[26]– ابن بطوطة، ن.م.س. ص: 677-683.
[27]-Handaine M, Tamdoult, histoire d’un carrefour de la civilisation Maroco-Touagègue, monographie du Souss,Bouregreg 2008, p :107.
[28]– نشير هنا إلى الدراسات الأجنبية التي جعلت من مدينة فاس موضوعا للدراسة وهي دراسة روجي لوتوغنو المعنونة ب “فاس قبل الحماية، ودراسة كاستون دافردون التي جعلت من مدينة مراكش موضوعا لها تحت عنوان “مراكش من الجدور حتى سنة 1912.