رأي الدكتور عمر عتيق في مسألة علاقة خط القرآن بالمعنى
Dr. Omar Ateeq opinion about the relationship between the Qur’anic fonts and the significant
د. عبد الحكيم الزبيدي Abdul Hakeem Alzubaidi
مقال منشور كتاب أعمال ملتقى المنجز النقدي الفلسطيني وخصوصيته عند عمر عتيق في اصفحة 131.
Abstract
This paper reviews a study by Dr. Omar Ateeq about the relationship between the Holy Qur’anic font and its significance by presenting a summary of the most important points of it, in addition to some notes and comments that enrich the subject and clarifies it.
In his study, Dr. Omar dealt with one aspect of the miraculousness of the Holy Qur’an, which is the miraculousness of the Qur’anic (Ottomani) font and its difference from the standard (spelling) font.
Scholars have tried to explain this difference and some of them linked it to meaning, and this is what Dr. Omar tried to demonstrate in this study.
Dr. Omar adopted the opinion of ancient and modernist scholars who link the Qur’anic font with meaning, especially Marrakchi, who is considered to be the first to talk about the relationship between Qur’anic font and meaning. Dr. Omar proved that a divine miracle is related to the Qur’anic font.
Dr. Omar discussed the opinions of scholars in justifying the difference in the Qur’anic font, so he accepted some of them and rejected others.
Key words: Omar Ateeq, Qur’anic font, significance.
ملخص :
تتناول هذه الورقة دراسة الدكتور عمر عتيق حول العلاقة بين رسم القرآن الكريم والدلالة وذلك بعرض ملخص لأهم ما ورد فيها، مع إضافة بعض الملاحظات والتعليقات التي تثري الموضوع وتزيل بعض الإشكالات التي قد تطرأ في ذهن القارئ.
وقد تناول الدكتور عمر في هذه الدراسة وجهاً من وجوه الإعجاز في القرآن الكريم، وهو الإعجاز في الرسم القرآني (العثماني) واختلافه عن الرسم القياسي (الإملائي) المتعارف عليه، وقد حاول العلماء تعليل ذلك الاختلاف وربطه بعضهم بالدلالة والمعنى، وهذا ما حاول الدكتور عمر تجليته في هذه الدراسة.
تبنى الدكتور عمر رأي من يربط الرسم بالدلالة من القدماء والمحدثين ولا سيما المراكشي الذي يُعد أول من اتخذ من علاقة الرسم بالدلالة منهاجاً سار عليه، ورفض الدكتور عمر كل الآراء التي شككت بمعرفة الصحابة رضوان الله عليهم بأصول الكتابة العربية وحشد الأدلة والبراهين للتأكيد على أن الرسم القرآني إعجاز رباني يرتبط بالدلالة. وقد ناقش الدكتور عمر أقوال العلماء في تعليل اختلاف الرسم القرآني، فقبل بعضها ورفض البعض الآخر.
الكلمات المفتاحية: الرسم العثماني، القرآن الكريم، علاقة الرسم العثماني بالدلالة، عمر عتيق
المقدمة:
للدكتور عمر عبد الهادي عتيق اهتمام بالدراسات التي تتعلق بأسلوب القرآن الكريم، منذ أطروحته للدكتوراه التي كانت بعنوان: ظواهر أسلوبية في القرآن الكريم، وفيها تناول بالتفصيل ثلاثة من الظواهر الأسلوبية في القرآن الكريم على المستوى التركيبي، والمستوى الكتابي، والفواصل القرآنية([1]).
وتناول في المستوى الكتابي، مسألة الرسم القرآني (العثماني)، وقد استغرق هذا الفصل حوالي (150) صفحة من صفحات الأطروحة([2]). ونظراً لأهمية هذا الموضوع وتشعبه، فقد لخص الدكتور عمر هذا الفصل من الأطروحة في دراسة منشورة له بعنوان (العلاقة بين رسم القرآن الكريم والدلالة)([3]). كذلك قدم الدكتور عمر عتيق محاضرة حول نفس الموضوع في ليلة 27 من شهر رمضان سنة 1442ه (الموافق 9 من شهر مايو سنة 2021م) نظمتها كلية الآداب بجامعة كركوك.
وقد تناول الدكتور عمر في هذه الدراسة وجهاً من وجوه الإعجاز في القرآن الكريم، وهو الإعجاز في الرسم القرآني واختلافه عن الرسم الإملائي المتعارف عليه، كذلك قد يختلف رسم الكلمة الواحدة في المواضع التي ترد فيها من القرآن الكريم، وقد حاول العلماء تعليل ذلك الاختلاف وربطه بعضهم بالدلالة والمعنى، وهذا ما حاول الدكتور عمر تجليته بطريقة مبسطة وواضحة في هذه الدراسة الممتعة والمفيدة.
وسنحاول في هذه الورقة عرض ملخص لأهم ما ورد في الدراسة، مع إضافة بعض الملاحظات والتعليقات التي تثري الموضوع وتزيل بعض الإشكالات التي قد تطرأ في ذهن القارئ.
بدأ الدكتور عمر دراسته بمقدمة جاء فيها:
“اختلف العلماء القدماء والمحدثون في توجيه المواضع التي خرج فيها الرسم القرآني عن الرسم القياسي (الإملاء)، وانقسموا إلى فريقين؛ فريق ربط الرسم القرآني بالدلالة على اعتبار أن الرسم أمر توقيفي، وفريق نفى ربط الرسم القرآني بالدلالة وطعن في معرفة الصحابة رضوان الله عليهم بالكتابة، ولا يقتصر هدفنا في هذا المبحث على تأييد فريق ومعارضة آخر فحسب، بل نسعى إلى حشد الأدلة والبراهين للتأكيد على أن الرسم القرآني إعجاز رباني يرتبط بالدلالة”([4]).
فمنذ البداية يعلن الدكتور عمر عن انحيازه للرأي الذي يربط بين الرسم القرآني والدلالة، ويسعى إلى حشد الأدلة والبراهين التي تؤكد ذلك.
ويتضح من دراسة الدكتور عمر أنه ممن يرى ارتباط الرسم القرآني بالدلالة، وإن لم يصرّح برفضه كتابة المصحف بالإملاء المعاصر، ويرد على القائلين بعدم معرفة الصحابة رضوان الله عليهم بالكتابة، ويسوق الأدلة على معرفتهم قائلاً:
“إن استقراء ظاهرة كتابة الألف في القرآن الكريم يكشف عن المهارة الكتابية للصحابة كتاب الوحي، ويشكل رداً حاسماً على ابن قتيبة وابن خلدون والفراء ومن أخذ بآرائهم، ويمكننا أن نبرهن على إجادة الصحابة (كتاب الوحي) للكتابة من خلال رسم الألف في جمع المذكر السالم، فقد أثبت رسم الألف في جمع المذكر السالم وعياً صوتياً لدى كتاب الوحي”([5]).
ويفصل الدكتور عمر في كتابه (ظواهر أسلوبية في القرآن الكريم) ما أجمله هنا، فيقول:
“وبناء على ما تقدم فإن رسم الألف في جمع المذكر السالم يرتبط بمعايير صوتية، ففي حالة الثقل تثبت الألف، وفي حالة الخفة تحذف، وفي هذا دليل على القدرة الكتابية للصحابة رضوان الله عليهم ورد على مزاعم من قال خلاف ذلك”([6]).
ويدلل على ذلك بثبوت الألف في جمع المذكر السالم (حافين) في قوله تعالى: ﴿وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ (الزمر: 75)، وحذفها في قوله تعالى: ﴿قُتِلَ ٱلخَرَّٰصُونَ﴾ (الذاريات: 10) ([7]).
يقول الدكتور عمر:
لنتأمل ثبوت الألف في جمع المذكر السالم من الفعل المضعف، نحو: “حافّين” في قوله تعالى: ﴿وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾(الزمر 75)، وثبوتها في هذه الحالة يعود إلى ثقل النطق الناجم عن الحرف المضعّف. وحذف الألف من جمع المذكر السالم في كلمة(الخرَّاصون) في قوله تعالى: ﴿قُتِلَ ٱلخَرَّٰصُونَ﴾(الذاريات 10)؟ والإجابة تقتضي معرفة نوع التضعيف ففي حالة الثبوت يكون التضعيف أصليا، نحو: “حَافِّينَ” إذ الأصل “حَفَّ”. وفي حالة الحذف يكون التضعيف طارئا غير أصلي، نحو: “ٱلخَرَّٰصُونَ” فالشدة ليست من أصل الفعل، لأن الأصل (خَرَصَ) بغير تشديد. ويمكن رصد سبب صوتي آخر ففي حالة حذف الألف يكون الحرف المضعّف قبل الألف، فلا يحدث التقاء للساكنين، لأن أول التضعيف حرف ساكن وثانيه حرف متحرك وهو الحرف الذي يجاور الألف، وما دام متحركاً فهو خفيف النطق، ولا حاجة لمد الصوت بالألف، أما ثبوت الألف في الظاهرة الثانية، فقد وقع الحرف المضعّف بعد الألف، فحدث التقاء للساكنين، فثقل النطق، فثبتت الألف للحاجة إلى المد الصوتي، ولم يقع فاصل بينهما، فثقل النطق، فاحتاج الناطق لمد صوتي، فثبتت الألف. وعليه لا صحة لما نص عليه بعض القدماء والمحدثين من أن الألف تحذف إذا سبقت أو تليت بحرف مشدد، فالتشديد الذي يجاور الألف يصلح أن يكون معياراً للحذف ومعياراً للثبوت، وفق موقع التضعيف ونوعه. ولا نهدف مما تقدم إلى تقعيد الرسم القرآني ولكننا ننوه إلى إمكانية تقعيده وتقنينه على أسس صوتية ودلالية”([8]).
ثم يذكر بعض العلماء الذين دافعوا عن معرفة الصحابة في صدر الإسلام بقواعد الكتابة، وذكر منهم أبا الحسين أحمد بن فارس بن زكريا القزويني الرازي (ت 395ه)، وجار الله، أبا القاسم محمود بن عمر بن محمد بن عمر الخوارزمي الزمخشري (ت 538ه)، ويورد أدلتهم.
وبعد المقدمة يدخل الدكتور عمر في صلب الموضوع بعد أن يقدم له بقوله:
“وينبغي أن نشير إلى أننا وقفنا على كل كلمة في القرآن الكريم خرج رسمها عن الرسم القياسي، ولكننا قصرنا بحثنا على رسم الكلمات التي تشكل ظاهرة كتابية واكتفينا بالأمثلة التي تبرز الظاهرة وتحقق ثراء لآليات البحث والمعالجة”([9]).
قسم الدكتور عمر دراسته إلى أربعة مباحث، هي:
أولاً: العلاقة بين رسم الألف والدلالة:
وتناول فيه ثلاثة مطالب هي:
(1) ثبوت الألف وحذفها:
وفي ذلك يقول:
“من الظواهر الكتابية في القرآن الكريم مجيء الكلمة الواحدة مرسومة بألف في موضع وبغير ألف في موضع آخر ، ويترتب على هذا الاختلاف الكتابي اختلاف في المعنى، فقد وردت كلمة “طائف” في موضعين، إذ ثبتت الألف فيها في قوله تعالى (القلم19): ﴿فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ﴾ والطائف هنا هو الهلاك أو البلاء. وحذفت منها في قوله تعالى: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُم طَٰئِف مِّنَ ٱلشَّيطَٰنِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبصِرُونَ﴾ (الأعراف: 201). والطائف هنا ما طاف من وسوسة الشيطان، وقرىء موضع الحذف “طيف” وهو المس والجنون وقيل: اللهو أو الغضب”([10]).
ثم يذكر عدة أمثلة أخرى حذفت فيها الألف في بعض الكلمات في مواضع من القرآن الكريم وأثبتت في مواضع أخرى، ويوضح الفرق في المعنى بينها تبعاً لاختلاف الرسم، وهذه الكلمات هي: القواعد، الأسباب، آثار، شاهد، أفتمارونه، عباد، الأمانة، خاطبهم، جدال، سرابيل، فِصال، لدا، طغى.
(2) زيادة الألف:
أورد الدكتور عمر في هذا المطلب بعض الأمثلة على الكلمات التي وردت مرة بزيادة الألف ومرة بحذفها، وهذه الكلمات هي: مصر، ثمود. أما الكلمات التي وردت مرة واحدة فقط بزيادة الألف فيها وهي: لاأذبحنه، يايئس، يايئسوا، الظنونا، قواريرا، الرسولا، السبيلا، لشأي، وزيدت الألف بعد واو الجماعة في بعض الكلمات وليس كلها.
والفرق بين هذه الكلمات التي وردت في هذا المطلب (زيادة الألف) وبين الكلمات التي وردت في المطلب الأول (ثبوت الألف وحذفها) هو أن المطلب الأول يتناول الألف التي هي من بنية الكلمة، أما المطلب الثاني فيتناول الألف التي ليست من بنية الكلمة مثل ألف التنوين أو الألف الزائدة مثل: (لشأي).
ويرى الدكتور عمر أن الألف التي لحقت كلمة “مصر” في قوله تعالى: ﴿ٱهبِطُواْ مِصرًا فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلتُم﴾ [ البقرة: 61] ليست زائدة كما يرى بعض العلماء القدماء وإنما هي للتنوين لأن الكلمة مصروفة، وقد اختلف معناها عن المواضع الأخرى التي جاءت بمعنى البلد المعروف، فلم يلحقها التنوين لأنها ممنوعة من الصرف([11]). وهذا حق فإن أعلام البلدان إذا لم يكن فيها علامة التأنيث (مثل: دمشق، وعُمان، ومصر) جاز اعتبارها مؤنثة على معنى البقعة أو المدينة، فيمتنع صرفها، ويجوز اعتبارها مذكرة على معنى المكان، فتصرف في الكلام([12]). قال الزمخشري في تفسير قوله تعالى: ﴿ٱهبِطُواْ مِصرًا فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلتُم﴾ (البقرة: 61): “ويحتمل أن يريد العَلَم وإنما صرفه مع اجتماع السببين فيه وهما التعريف والتأنيث، لسكون وسطه كقوله (وَنُوحاً وَلُوطاً)، وفيهما العُجمة والتعريف، وإن أريد به البلد فما فيه إلا سبب واحد، وأن يريد مصراً من الأمصار، وفي مصحف عبد الله وقرأ به الأعمش ﴿ٱهبِطُواْ مِصرَ﴾- بغير تنوين – كقوله ﴿ٱدْخُلُواْ مِصْرَ﴾”([13]). وقول الزمخشري: “فما فيه إلا سبب واحد” يعني أنه غير منصرف، وقوله: “وأن يريد مصراً من الأمصار”، أي: ويحتمل أن يريد مصراً من الأمصار.
كذلك ذكر الدكتور عمر أن كلمة “ثمود”، جاءت منونة في مواضع ، كما في قوله تعالى: ﴿كَأَن لَّم يَغنَواْ فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَاْ كَفَرُواْ رَبَّهُم أَلَا بُعدا لِّثَمُودَ﴾( هود: 68) ولم تنوَّن في مواضع كما في قوله تعالى: ﴿وَءَاتَينَا ثَمُودَ ٱلنَّاقَةَ مُبصِرَة﴾(الإسراء: 59). والحق أن الآية الأولى كانت تكفي للاستدلال فقد وردت فيها كلمة (ثمود) مرتين مرة بزيادة الألف ومرة ممنوعة من الصرف. وقوله إن “ثمود” جاءت منونة في الآية صحيح، فقد جاءت منونة في بعض القراءات، أما في قراءة حفص التي نقل عنها رسم الآية فلا تُقرأ (ولا تُكتب) بالتنوين وإنما بزيادة الألف.
ويناقش الدكتور عمر أقوال العلماء في تعليل إضافة الألف في هذه الكلمات، فيقبل بعضها ويرفض البعض الآخر، كرفضه الربط بين إضافة الألف في (قواريرا) وبين جنس القوارير. يقول الدكتور عمر:
“ولعل اختلاف المصاحف في رسم “قوارير” في الموضعين يجعل الربط بين جنس القوارير والرسم أمراً مستبعداً، فقد رسمت في مصاحف أهل الحجاز والكوفة بالألف في الموضعين، ورسم الموضع الأول بالألف، والموضع الثاني بغير ألف في مصاحف أهل البصرة”([14]).
كذلك لم يقبل ربط أبي عمرو الداني بين زيادة الألف بعد واو جمع المذكر السالم في بعض المواضع ووقوع الواو متطرفة كما في قوله تعالى: ﴿ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَٰقُواْ رَبِّهِم وَأَنَّهُم إِلَيهِ رَٰجِعُون﴾ (البقرة: 46) وقوله تعالى: ﴿قَالَ ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَٰقُواْ ٱللَّهِ﴾(البقرة: 249) وقوله تعالى: ﴿إِنَّا مُرسِلُواْ ٱلنَّاقَةِ فِتنَة لَّهُم فَٱرتَقِبهُم وَٱصطَبِر﴾(القمر27)، وقوله تعالى: ﴿إنَّا كَاشِفُواْ ٱلعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُم عَائِدُونَ﴾(الدخان15)، وإن كان لم يشرح المقصود بوقوع الواو متطرفة.
(3) قلب الألف واواً:
وفيه يستعرض الدكتور عمر توجيهات العلماء لقلب الألف واواً في بعض الكلمات في القرآن الكريم، وهي: (الصلوة والزكوة والحيوة والربوا، والغدوة ومشكوة والنجوة ومنوة). ويتلخص التوجيه في أربعة آراء، هي: التفخيم، والرسم على الأصل، والرسم النبطي، والترتيب الهجائي([15]). ويشرح الدكتور عمر هذه التوجيهات ويذكر آراء العلماء فيها.
ثانياً: العلاقة بين رسم الياء والدلالة:
في هذا المبحث، يتناول الدكتور عمر اجتهادات العلماء للتفريق في المعنى بين الكلمات حسب رسم الياء من حيث الزيادة، أو الحذف والثبوت. ويشمل مطلبين هما:
- العلاقة بين زيادة الياء والدلالة:
وفيه يتناول تعليل العلماء لزيادة الياء في بعض الكلمات، كما في قوله تعالى: ﴿وَٱلسَّمَاءَ بَنَينَٰهَا بِأَييْد وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ﴾(الذاريات، 47)، وقوله تعالى: ﴿بِأَييِّكُمُ ٱلمَفتُونُ﴾(القلم، 6)، ويذكر توجيه أبي العباس أحمد بن البناء المراكشي (ت 721 ه) ويرفض وصف غانم قدوري الحمد له بأنه “مغرق في الخيال” ويرى أنه قد أحسن التعليل في مواضع غير قليلة([16]).
ثم يذكر توجيه ابن البناء المراكشي لزيادة الياء في قوله تعالى: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَد خَلَت مِن قَبلِهِ ٱلرُّسُلُ أَفَإِيْن مَّاتَ أَو قُتِلَ ٱنقَلَبتُم عَلَىٰ أَعقَٰبِكُم﴾(آل عمران، 144)، وقوله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلنَا لِبَشَر مِّن قَبلِكَ ٱلخُلدَ أَفَإِيْن مِّتَّ فَهُمُ ٱلخَٰلِدُونَ﴾(الأنبياء، 34)، ويقتبس قول المراكشي:
“وذلك لأن موته مقطوع به، والشرط لا يكون مقطوعاً به، ولا ما رتّب على الشرط هو جواب له، لأن موته لا يلزم منه خلود غيره، ولا رجوعه عن الحق، فتقديره: أهم الخالدون إن مت. فاللفظ للاستفهام والربط، و المعنى للإنكار والنفي”([17]).
- ثبوت الياء وحذفها:
وفيه تناول الدكتور عمر توجيهات العلماء لثبوت الياء في بعض الكلمات في مواضع وحذفها في مواضع أخرى، مثل (كيدوني)، فقد وردت بحذف الياء في قوله تعالى: ﴿قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنظِرُونِ﴾(الأعراف، 195)، وبثبوته في قوله تعالى:﴿فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنظِرُونِ﴾(هود، 55)، وكذلك حذفها في (تسألني) في قوله تعالى: ﴿قَالَ يَٰنُوحُ إِنَّهُۥ لَيسَ مِن أَهلِكَ إِنَّهُۥ عَمَلٌ غَيرُ صَٰلِح فَلَا تَسـَٔلنِ مَا لَيسَ لَكَ بِهِۦ عِلمٌ﴾(هود، 46)، وإثباتها في قوله تعالى: ﴿قَالَ فَإِنِ ٱتَّبَعتَنِي فَلَا تَسـَٔلنِي عَن شَيءٍ حَتَّىٰ أُحدِثَ لَكَ مِنهُ ذِكرًا﴾(الكهف، 70)،..إلخ.
ويناقش الدكتور عمر توجيهات العلماء في هذه المسألة. فمن ذلك توجيهه لحذف الياء من (تسئلنِ) في سورة (هود) وإثباتها في سورة (الكهف) بقوله:
“ففي سياق الحذف (هود) لم يرد إلا سؤال واحد، أما في سياق ثبوت الياء (الكهف) فقد وردت مجموعة من الأسئلة؛ لأن قصة موسى والخضر عليهما السلام قائمة على تكرار سؤال موسى للخضر. كما أن التحذير من السؤال في “هود” أشد مما في “الكهف”، فقد ناسب حذف الياء التحذير من السؤال إشارة إلى النهي عن أصل الحدث بخلاف ما في الكهف. كما أن السؤال في الكهف هو في مقام الاستفهام والاستفسار، أما في مقام هود فقد جاء في مقام الطلب”([18]).
ومن ذلك أيضاً ذكر قولهم إن الياء تثبت في سياق التحدي، كما يتناسب ثبوت الياء مع تكرار صوت الياء في كلمات عدة في الموضع ذاته، كذلك ينسجم ثبوت الياء مع طول القصة، وحذفها ينسجم مع قصر القصة، بالإضافة إلى توجيهات أخرى([19]).
ثم يذكر الدكتور عمر أن الياء حذفت من كلمة “عبادي” حيثما وقعت إلا في قوله تعالى: ﴿يَٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ إِنَّ أَرضِي وَٰسِعَة فَإِيَّٰيَ فَٱعبُدُونِ﴾(العنكبوت: 56)، ويورد توجيه العلماء لذلك. فمن ذلك الموازنة بين إثباتها في الآية السابقة وحذفها في قوله تعالى: ﴿قُل يَٰعِبَادِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ رَبَّكُم﴾(الزمر: 10)، يقول الدكتور عمر:
“التقييد يتناسب مع الحذف، والاتساع يتناسب مع الثبوت. والطلب في (الزمر) محصور بالتقوى (اتقوا ربكم) أما الطلب في (العنكبوت) فهو طلب العبادة، والعبادة أوسع من التقوى”([20]).
ثالثاً: العلاقة بين رسم التاء والدلالة:
المبحث الثالث تناول فيه الدكتور عمر العلاقة بين رسم التاء والدلالة، وفيه المطالب الآتية:
- التاء المفتوحة والمقبوضة:
وفيه تناول توجيهات العلماء للاختلاف في رسم التاء، حيث وردت في بعض الكلمات مفتوحة في مواضع ومقبوضة (مربوطة) في مواضع أخرى، مثل (قُرة، قرت)، فقد كُتبت مفتوحة في قوله تعالى: ﴿وَقَالَتِ ٱمرَأَتُ فِرعَونَ قُرَّتُ عَينٍ لِّي وَلَكَ﴾ (القصص: 9)، ومربوطة في قوله تعالى: ﴿وَٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَب لَنَا مِن أَزوَٰجِنَا وَذُرِّيَّٰتِنَا قُرَّةَ أَعيُن﴾(الفرقان: 74)، وقد علل ذلك بأن الرسم غير القياسي للتاء في الموضع الأول جاء متناسباً مع الدلالة المجازية، إذ إن الابن (موسى) ليس من صلبهم، وجاء الرسم في الموضع الثاني قياسياً مع الدلالة الحقيقية، إذ إن الابن من صلبهم([21]).
- حذف التاء الأصلية:
وتناول فيه توجيهات العلماء لحذف التاء من كلمة (استطاع) في قوله تعالى: ﴿فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا﴾(الكهف: 97)، وقوله تعالى: ﴿ذَٰلِكَ تَأوِيلُ مَا لَم تَسطِع عَّلَيهِ صَبرًا﴾(الكهف: 82). وذكر أقوال العلماء في ذلك وناقشها، ومنها قول أحمد بن إبراهيم بن الزبير الثقفي العاصي الغرناطي، الذي ربط بين سهولة الصعود وصعوبته، فقال: “ولما كان الصعود فوق السد أسهل من نقبه فقد حذفت التاء من سياق العمل الخفيف والسهل وثبتت في سياق العمل الثقيل والصعب”([22]).
- رابعاً: حذف النون:
وتناول فيه الدكتور عمر حذف النون من مضارع كان المجزوم وعلاقته بالدلالة، ومن ذلك حذفها في قوله تعالى: ﴿فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ﴾(هود، 17)، وثبوتها في قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ﴾)السجدة: 23(، وحذفها في قوله تعالى: ﴿وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ﴾(النحل: 127)، وثبوتها في قوله تعالى:﴿وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُن فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ﴾(النمل: 70). وناقش توجيهات العلماء لحذف النون، ورأى أن بعضها يفتقر إلى مقومات الربط الموضوعي بين حذف النون ومساحة السياق([23])، وبعضها تحوي قدراً كبيراً من التكلف والمبالغة([24]).
ملاحظات وتعليقات على الدراسة:
الدكتور عمر عتيق أستاذ متمكن في علم البلاغة، وأنا أقل شأناً من أن أستدرك عليه في هذا المجال، وهذه التعليقات ما هي إلا ملاحظات أرى أنها لو استوفيت لكانت الدراسة أكمل، ولعل رغبة الدكتور عمر في الاختصار هي التي أدت إلى عدم استيفائه لهذه الملاحظات. يوضح هذا الدكتور عمر بقوله: “ولا نزعم أننا أتينا على كل ما ورد في مسائل الرسم القرآني، فهو موضوع سيبقى بحاجة للبحث والتأمل لاكتشاف مزيد من أسراره”([25]).
الملاحظة الأولى:
هي أن الدكتور عمر يذكر أن العلماء القدماء والمحدثين قد انقسموا في توجيه المواضع التي خرج فيها الرسم القرآني عن الرسم القياسي (الإملاء) إلى فريقين: فريق ربط الرسم القرآني بالدلالة على اعتبار أن الرسم أمر توقيفي، وفريق نفى ربط الرسم القرآني بالدلالة وطعن في معرفة الصحابة رضوان الله عليهم بالكتابة.ويبدو أن الدكتور عمر كان يعني انقسام العلماء في مسألة كتابة المصحف بالرسم العثماني إلى فريقين: فريق يرى وجوب الالتزام برسم المصحف العثماني وحرمة مخالفته، وفريق لا يرى ذلك. يؤكد ذلك قوله: “ولا ريب أن رأي العلماء الذين نصوا على وجوب اتباع رسم المصحف وتحريم مخالفته يعزز آراء العلماء الذين ربطوا بين الرسم والدلالة؛ لأن الظواهر الكتابية التي خرجت عن الرسم القياسي لها حكمتها ومسوّغاتها الدلالية”([26]).
والحق أن اتجاهات علماء السلف في تعليلهم لظواهر الرسم العثماني التي جاءت خارجة على القواعد التي وضعها علماء العربية تصل إلى خمسة اتجاهات هي([27]):
1- تعليل بعض ظواهر الرسم بعلل لغوية أو نحوية
2- حمل تلك الظواهر على خطأ الكاتب: وقال بهذا الرأي أبو زكريا يحيى بن زياد بن عبد الله بن منظور بن مروان الأسلمي الديلمي الكوفي، مولى بني أسد، المعروف بالفَرَّاء (ت 207ه) وأبو محمد عبد الله بن عبد المجيد بن مسلم بن قتيبة الدينوري (ت 276ه)، وعَبد الرَّحمن بن مُحَمَّد ابن خَلْدُون أبو زَيْد وَلْي الدِّين الْحَضْرَمِيّ الإَشبيلي المعروف بابن خَلْدُون (ت 808 ه).
3- اختلاف الرسم لاختلاف المعنى: وأول من تكلم فيه ، أبو العباس أحمد بن البناء المراكشي (ت 721 ه). وخلاصة رأيه أن اختلاف رسم الكلمة يكون إما لاختلاف معناها حسب موقعها الذي ترد فيه أو لمعان باطنة تتعلق بمراتب الوجود والمقامات.
4- تفسير الزيادة والحذف باحتمال القراءات
5- القول بأن الرسم بُني على حكمة ذهبت بذهاب كتبته
ويتضح أن الدكتور عمر قد تناول الاتجاهين الثاني والثالث فقط ولم يشر إلى بقية الاتجاهات الأخرى، وكان الأولى، في رأيي، لو أشار د. عمر إلى الاتجاهات الخمسة كلها، ثم قصر حديثه على اثنين منها.
الملاحظة الثانية:
هي أن الدكتور عمر لم يفرق بين من ربط الرسم القرآني بالدلالة وبين من اعتبر أن الرسم العثماني أمر توقيفي، وكذلك بين من نفى ربط الرسم بالدلالة وبين من طعن في معرفة الصحابة بالكتابة، وذلك في قوله: “فريق ربط الرسم القرآني بالدلالة على اعتبار أن الرسم أمر توقيفي، وفريق نفى ربط الرسم القرآني بالدلالة وطعن في معرفة الصحابة رضوان الله عليهم بالكتابة”، فعبارته توحي بأن من ربط الرسم القرآني بالدلالة فعل ذلك لاعتقاده أن الرسم العثماني أمر توقيفي، وأن الفريق الثاني الذي نفى ربط الرسم القرآني بالدلالة فعل ذلك لاعتقاده بعدم معرفة الصحابة بالكتابة. وقد أشرنا إلى أن هناك من العلماء من علل الرسم العثماني بغير الدلالة دون أن يطعن في معرفة الصحابة بالكتابة. كذلك فإن القول بربط الرسم القرآني بالدلالة لا يلزم أن يكون القائل به يرى أن الرسم القرآني توقيفي بمعنى أنه وحي من الله.
ولعل الدكتور عمر عنى بالتوقيفي وجوب كتابة المصاحف على وفق الرسم العثماني وعدم جواز كتابتها بخلافه. أما القول بأن رسم المصحف “توقيفي” بمعنى أن طريقة كتابة المصاحف كانت بأمر من النبي (صلى الله عليه وسلم) تلقاه عن طريق الوحي من الله فهو مما انفرد به بعض المتأخرين وربما كان الشيخ عبد العزيز الدباغ (توفي 1131 هـ) أشهر من قال بهذا الرأي وتناقله الناس عنه([28]). ولاشك أن القول بأن الرسم القرآني اصطلاحي باجتهاد من الصحابة، هو الأرجح إذ لا يوجد نص صريح بتوقيفه من الكتاب والسنة([29])، وهذا الرأي لا يتعارض مع القول بوجوب الالتزام بالرسم العثماني في كتابة المصاحف. وبذلك يتضح لنا أن القول بتحريم كتابة المصحف بالإملاء المعاصر غير عن القول بأن رسم القرآن توقيفي عن النبي (صلى الله عليه وسلم).
ولعل من المفيد أن نذكر أن العلماء انقسموا في مسألة كتابة المصحف بالرسم العثماني إلى فريقين: فريق يرى وجوب الالتزام برسم المصحف العثماني وحرمة مخالفته، وهو رأي جمهور الأمة من السلف والخلف، وهو الراجح الذي أوصى به مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر (سنة 1391هـ) وهيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية (سنة 1399هـ)([30]). والفريق الثاني يختلفون على قولين: الأول رأي الباقلاني وابن خلدون والشوكاني والزركشي وبعض المعاصرين كالزرقاني وغيره ومضمون هذا القول جواز كتابة المصحف بالرسم الإملائي حسب ما تقتضيه قواعد أهل صناعة الخط فلا يجب على الأمة الالتزام بالرسم العثماني لأنه اجتهاد من الصحابة([31]). والثاني وهو رأي عز الدين بن عبدالسلام وتبعه بعض المعاصرين، وفيه التفريق بين العامة والخاصة فيجوز رسم المصحف لعامة الناس بما يحدثونه من أنواع الهجاء وما يصطلحون عليه من قواعد الإملاء للتيسير عليهم في قراءة القرآن بينما لا يرخص للخاصة أن تكتب إلا وفق الرسم العثماني لتكون مرجعاً عند الحاجة إليها([32]). وبناء على هذا الرأي أجاز بعض المعاصرين كتابة القرآن بالرسم الإملائي في غير المصاحف كالمجلات والصحف وغيرها أما في المصاحف الكاملة فلا يكتب إلا بالرسم العثماني([33]).
الملاحظة الثالثة:
هي أن الدكتور عمر لم يفرد مسألة اختلاف الرسم لاختلاف القراءة بمبحث مستقل وإنما أشار إليها إشارة عابرة، كما في قوله عند توجيه اختلاف رسم كلمة (طائف):
“فقد وردت كلمة “طائف” في موضعين، إذ ثبتت الألف فيها في قوله تعالى: ﴿فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ﴾ (القلم19) والطائف هنا هو الهلاك أو البلاء. وحذفت منها في قوله تعالى: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُم طَٰئِف مِّنَ ٱلشَّيطَٰنِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبصِرُونَ﴾ (الأعراف: 201). والطائف هنا ما طاف من وسوسة الشيطان، وقرىء موضع الحذف “طيف” وهو المس والجنون وقيل: اللهو أو الغضب”([34]).
وكذلك (أفتُمارونه) لم ترد في القرآن الكريم إلا مرة واحدة بحذف الألف ﴿أَفَتُمَٰرُونَهُۥ عَلَىٰ مَا يَرَىٰ﴾(النجم: 12)، ورسمت كذلك لتوافق القراءة التي جاءت بدون ألف، يقول الدكتور عمر:
“وقرئت بفتح التاء من غير ألف حملا على “مرى يمري” بمعنى الجحود، لأن المشركين جحدوا ما جاء به سيدنا محمد عليه السلام، وقرئت بضم التاء بألف حملا على “مارى يماري” بمعنى الجدال، أي: أتجادلونه فيما علمه ورآه”([35]).
وعليه، يتضح لنا أن العلة الأصلية في حذف الألف في الموضعين هي اختلاف القراءة، وليس اختلاف المعنى، وإن كان اختلاف القراءة قد أدى إلى اختلاف المعنى.
وهي بهذا لم تخرج عن المنهج الذي اتبعه الدكتور عمر في تناول الكلمات التي اختلف رسمها في الرسم القرآني عن الرسم الإملائي لاختلاف الدلالة، ولكنا كنا نود لو أنه أفرد الكلمات التي اختلف رسمها لتوافق اختلاف القراءة بمبحث مستقل، لتتضح الرؤية للقارئ أكثر. ومن ذلك أن الدكتور عمر حين ذكر توجيه العلماء لحذف الألف من كلمة (عباد) في الموضع الوحيد الذي حذفت فيه، وهو قوله تعالى: ﴿وَجَعَلُواْ ٱلمَلَٰئِكَةَ ٱلَّذِينَ هُم عِبَٰدُ ٱلرَّحمَٰنِ إِنَٰثًا﴾(الزخرف: 19)، ذكر أن (عباد) قرئت (عند) على اعتبار أنها ظرف وهي قراءة تدل على شرف منزلة الملائكة وفضلهم على الآدميين([36])، ولكنه لم يوضح كيف يمُكن أن تُقرأ (عباد) (عند) وإحداهما بالباء والأخرى بالنون؟ وتفسير ذلك هو أن المصحف في بداية كتابته زمن الصحابة رضوان الله عليهم لم يكن منقوطاً، وإنما أضيفت النقط والتشكيل فيما بعد، وبناء عليه فإن كلمة (عباد) بحذف الألف يمكن أن تُقرأ (عباد) أو (عند)، وبهما قرئ في الآية السابقة.
ومن المعلوم “أن الكلمة إذا قرئت على وجهين تكتب برسم أحدهما كما رسمت الكلمات الآتية بلا ألف في المصحف وهي (﴿مَٰلِكِ يَومِ ٱلدِّينِ﴾(الفاتحة: 4)، ﴿يُخَٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ﴾(البقرة: 9)، ﴿وَإِذ وَٰعَدنَا مُوسَىٰ﴾(البقرة: 51)، ﴿وَإِن يَأتُوكُم أُسَٰرَىٰ تُفَٰدُوهُم﴾، (البقرة: 85) ونحوها وكلها مقروءة بإثبات الألف وحذفها. وكذلك رسمت الكلمات الآتية بالتاء المفتوحة وهي ﴿وَأَلقُوهُ فِي غَيَٰبَتِ ٱلجُبِّ﴾(يوسف: 10) ﴿وَقَالُواْ لَولَا أُنزِلَ عَلَيهِ ءَايَٰتٌ مِّن رَّبِّهِۦ﴾(العنكبوت: 50)، ﴿وَمَا تَخرُجُ مِن ثَمَرَٰت مِّن أَكمَامِهَا﴾(فصلت: 47)، ﴿وَهُم فِي ٱلغُرُفَٰتِ ءَامِنُونَ﴾ (سبأ: 37) وذلك لأنها جميعاً مقروءة بالجمع والإفراد”([37]).
الملاحظة الرابعة:
هي أن الدكتور عمر ذكر أمثلة لا تندرج، في رأيي، تحت موضوع الدراسة، وهو اختلاف الرسم لاختلاف المعنى. أعني بذلك: حذف التاء الأصلية من كلمة (استطاع) في قوله تعالى: ﴿فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا﴾(الكهف: 97)، وحذف النون من مضارع كان المجزوم، كما في قوله تعالى: ﴿وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ﴾(النحل: 127)، وثبوتها في قوله تعالى:﴿وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُن فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ﴾(النمل: 70)، فهذه وإن كان حذفها له علاقة بالمعنى إلا أنها، في رأيي، لا علاقة لها بالرسم القرآني (العثماني)، حيث تُكتب بالطريقة نفسها في الرسم القرآني (العثماني) وفي الرسم الإملائي القياسي.
الملاحظة الأخيرة:
هي أن هناك حالات أخرى اختلف فيها رسم الكلمة الواحدة في مواضع مختلفة من القرآن الكريم لم تشملها الدراسة، مثل التعاقب بين السين والصاد في رسم الكلمة نفسها، كما في قوله تعالى: ﴿وَزَادَهُۥ بَسطَةً فِي ٱلعِلمِ وَٱلجِسمِ﴾ (البقرة247)، وقوله تعالى: ﴿وَزَادَكُم فِي ٱلخَلقِ بَصطَة﴾ (الأعراف 69).
الخاتمة:
عرضنا في الصفحات السابقة ملخصاً لدراسة الدكتور عمر عتيق التي دافع فيها عن معرفة الصحابة رضوان الله عليهم بالكتابة، ودلل على أن اختلاف الرسم العثماني عن الرسم الاصطلاحي (القياسي) إنما جاء لمقاصد اجتهد العلماء القدماء والمعاصرون في تبيينها، فنجح بعضهم، وأخفق بعضهم، وسجلنا بعض الملاحظات التي لا تقلل من قيمة الدراسة، وإنما هي تعليقات نرى أنها لو استوفيت لكانت الدراسة أكمل. ويظل القرآن الكريم كتاباً معجزاً لا تنقضي عجائبه، ويظل المجال مفتوحاً لاجتهادات العلماء المعاصرين ليستخرجوا كنوزه ويفسروا غوامضه.
نسأل الله تعالى أن يجزي الدكتور عمر خير الجزاء على هذه الدراسة القيمة، وأن يجعلها في ميزان حسناته.
المصادر والمراجع:
- الحمد، غانم قدوري: رسم المصحف دراسة لغوية تاريخية، اللجنة الوطنية للاحتفال بمطلع القرن الخامس عشر الهجري، الجمهورية العراقية، 1402ه/1982م
- الزبيدي، عبدالكريم جواد وآخرون: التدريب اللغوي وتطبيقاته، درا القلم، دبي، 1989م
- الزمخشري، محمود بن عمر: الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، دار الكتاب العربي، بيروت، 2006م
- عبد الجليل، أحمد فتحي محمد: من لطائف الحذف في الرسم العثماني حذف الألف أنموذجاً، المجلة العلمية لکلية القرآن الکريم للقراءات وعلومها بطنطا، المجلد 6، العدد 1، 2020م، ص ص 605-657
- عبد الحميد، محمد محيي الدين: أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك، دار الفكر، بيروت، ط6، 1974م
- عتيق، عمر: العلاقة بين رسم القرآن الكريم والدلالة، مجلة دراسات العلوم الاجتماعية والإنسانية، الجامعة الأردنية، المجلد 37، العدد 2، 2010م، ص ص 437-453
- عتيق، عمر: ظواهر أسلوبية في القرآن الكريم، التركيب والرسم والإيقاع، عالم الكتب الحديث، إربد، 2009م
- المراكشي، أبو العباس أحمد بن البناء: عنوان الدليل من مرسوم خط التنزيل، تحقيق: هند شلبي، دار الغرب الإسلامي، تونس، 1990م
- مصيطفى، محمد السعيد: موقف العلماء من أصل الرسم العثماني وحكم الالتزام به، مجلة الباحث في العلوم الإنسانية والاجتماعية، جامعة غرداية، الجزائر، العدد 35، سبتمبر 2018، ص ص 533-550