حضور الإيتوس في الخطاب النقدي لدى عمر عتيق
The presence of the Itos in the critical discourse of Omar Atik
د. ياسين سرايعية، جامعة محمد الشريف مساعدية الجزائر
Yassine Saraye, University of Mohamed Sharif Musadia, Algeria
مقال منشور كتاب أعمال ملتقى المنجز النقدي الفلسطيني وخصوصيته عند عمر عتيق في اصفحة 97.
الملخص:
يعدّ الإيتوس واحدا من المفاهيم التي نالت اهتمام الباحثين منذ أرسطو في البلاغة الكلاسيكية إلى برلمان وتيتكي وديكرو في البلاغة الجديدة، وقد ركز على الدور الذي يلعبه المخاطب في كسب ود المتلقي واقناعه وحثه على الثقة والتصديق من ناحية ومثل هذا التوجه البلاغة الكلاسيكية والبلاغة الجديدة وعلم التداول، ووجه من جهة أخرى اهتمامه إلى الذات المتلقية باعتبارها عنصرا مهما في العملية الحوارية ومهم في التفاعلات الاجتماعية وتناول هذا القسم تحليل الخطاب والسوسيولوجيا.
لذلك تسعى هذه الورقة البحثية الكشف عن أهمية حضور الإيتوس من زاوية البلاغة الجديدة (الحجاج) في الخطاب الفكري لدى عمر عتيق الذي تناول قضية الوطن الأم المسلوب فلسطين كتيمة كونية ذات بعد انساني وتاريخي، و يتجلى ذلك في نظرته التقويضية للفكر الكولنيالي من خلال المراهنة على أهمية مشاركة المتلقي لقضيته.
الكلمات المفاتيح:
الإيتوس- الحجاج- البلاغة- عمر عتيق- الذات- القدس
Abstract :
Itos is one of the concepts that has attracted the attention of scholars since Aristotle in the Classical Rhetoric of Parliament, Tatetic and Decro in the New Rhetoric. On the other hand, he drew his attention to the receiving self as an important component of the dialogue process and important in social interactions. This section deals with discourse analysis and sociology.
Therefore, this research paper seeks to reveal the importance of the presence of the Etos from the angle of the new rhetoric (Al-Hajjaj) in the intellectual discourse of Omar Atik, who dealt with the issue of the stolen motherland, Palestine as a universal impermeability with a human and historical dimension. The recipient shares his cause.
Key words :Omar Atik – rethoric- etos- palestine
مقدمة:
إن الحديث عن الإيتوس ينبني عن الحجج التي يحدثها المتلقي حين يكون المبدع موضع القبول العاطفي لدى القارئ/ المتلقي، وارتبط أيضا بالخطاب المتعلق بالحضور الفعلي للخطيب والمخاطب، وعليه وجب على آليات التحري باكتساب الثقة التي تتأتاها من عوامل ثلاث هي السداد والفضيلة والبر.[1]
يتمظهر الإيتوس في أعمال الباحث الناقد عمر عتيق من خلال معالجته لموضوعات ذات حضور قوي، وتمثلات أقوى وانفتاحات ثقافية وإنسانية ودينية وإصلاحية متباينة، وبالتالي فإن موضوعاته لا يمكن درجها بوصفه مبدعا أو ناقدا أو قارئا بل بوصفه رجلا سياسيا يدافع عن قضية انسانية وكونية تجلت مأساتها في آثار الكتابة والرمز الإيقوني.
يدرك القارئ لنصوص عمر عتيق ذلك التفاعل بينه وبين المقاربات التي يشعر بها في أعماله، ويتجلى ذلك في محاولة الباحث الدفاع عن قضاياه والسعي إلى كسب ود المتلقي في أعماله لالتصاق الموضوع بالطرفين، لذلك فهو يستغل في آثاره أقصى جهده ليدافع عن تطلعاته عبر العمود السردي المشكل لأعماله، والمتجلي في قراءاته النقدية، وإبراز نقاط ضعف الجهات الأخرى المتمثلة أساسا في الكيان الصهيوني الذي يمثل بالنسبة للكاتب الأوجه المتدرجة للآخر/ الاستعمار، العدو، ….. .
وسأقتصر هنا عن تجليات الإيتوس في أعمال عمر عتيق انطلاقا من نموذجين من أعماله والمتمثلين في الدراستين الموسومتين بــــــــ “ّالقس في صورة الكاريكاتير – دراسة أسلوبية في الثقافة البصرية ” و” الشعبونة في مدينة نابلس بين التقاليد والدين” التي أبرز فيها امتداد الشعبونة في أعراف وأعراق أهل نابلس ومالها من حضور راسخ في ثقافتهم وفي لاوعيهم التاريخي وتأثيراتها على العالم الاسلامي في الاحتفالات الدينية وما عليه من تكافل اجتماعي وعائلي، وما تضفيه من حضور ديني متمثلا في إقبال أهلها على شعيرة الصيام اقتداء بسنة خير الأنام. ولإبراز تجليات الإيتوس في العمل انقدي لدى عمر عتيق يمكن أن ندرسه من الوَجهات الآتية:
- الايتوس / عرض الذات:
تتأسس دراسات عمر عتيق على مبدأ إظهار التكافل الاجتماعي المضمر والمتجلي في دراساته التي تتداخل فيها الابعاد السوسيولوجية وتتدخل معها التفاعلات الاجتماعية المتمثلة في التأثير المتبادل الذي يمارسه الأفراد، والذي يتطلب تعبيرا منهم ومشاركة فعالة، مثلما ينص على ذلك كوفمان سواء إراديا أو غير إرادي، فيقع التأثير في الآخرين إيجابيا ويولد هذا ما يسمى بصورة الذات.
ونستقرأ هذا النوع في نموذج القدس في صورة الكاريكاتير التي تكشف عن معاينة صورة الأقصى الموجودة في اللافتات التي تجسد معاناة القدس كمطلب رمزي بأبعاده السياسية والدينية والإنسانية، وتسهم الدراسة التي قدمها الباحث في خلق التفاعل بين القارئ وقارئ القارئ وبالتالي يتخلق من دراساته السمة المميزة للخطاب الذي يرتقي به إلى مستوى مميزات الخطاب الحجاجي البرهاني الاستدلالي، ويعني هذا أن الباحث ينخرط في عمله ليس فقط على مستوى الدراسات التحليلية المتعارف عليها بل إنه يعمد فيها إلى مراعاة فكر القارئ الذي يقصده والذي ينكشف بدوره لا شعوريا في مراعاة فكر الناقد وفي مراعاته هو لفكر القارئ وتقديره له، ومبرر ذلك أنه يختار أيقونات كونية إنسانية دينية في دراساته حيث شكلت حضورا قويا في عمقه، وانخرطت في ما يمكن أن يؤثث قضيته، ذلك أن الصورة الذاتية التي يحملها الناقد واللغة التي يستخدمها في عمله تؤثر في القارئ بناء على صورته هو، كون أن الصورة الذاتية كما يذكر بيرلمان تتعاظم في الأذهان أو تتناقص وفق تأثيرات الحجاج؛ فحجاجا ضعيفا ومحتشما وغير متسق لا يمكنه إلا أن يضر بالخطيب…،[2] لذلك يسعى الباحث إلى إظهار خصمه في صورة سلبية تقلل من قدره وتظهره في صورة العدو الذي اغتصب أرضا وشرّد شعبا ودمّر أمة، ويتمظهر هذا في مقارنته للتناص التاريخي أين تظهر في صورة المشهد أبرز الأحداث التاريخية التي تتنضح في الوجدان العربي وتنخره، فالصورة هنا تستحضر صورة أبرهة الحبشي الذي عزم على هدم الكعبة، ومن أبعادها أن اللوحة تجسد همجية الاحتلال للقضاء على الرمز الكوني للإنسانية إنه جامع الحضارات وخارقها دون تمييز، فقضية القدس قضية كونية تحتكم إليها الإنسانية قاطبة، وتعكس هذه اللوحة الصراع القائم بين الأنا والآخر، بين القوي والضعيف، بين الفلسطيني والكيان الصهيوني، وتتخذ من صورة الفك المفترس كما يذكر الباحث ضعف الموقف العربي الذي تبنى مقولة عبد المطلب ” للكعبة رب يحميها”.
ويسرد الباحث قائلا: “أزعم أن في اللوحة تناصا للونيات؛ فاللون الأسود في أعلى اللوحة يجسد غياب آفاق الأمل لتخليص الأقصى من محنته، واللون الذي يقترب من اللون الرمادي يجسد الواقع الرسمي المرير، ويمكننا أن نتسامى على هذا الزعم التشاؤمي إذا أعدنا استنطاق اللوحة لنتفاءل بمقولة للبيت (رب يحميه)… .
إن الإشارات التي يتبناها الباحث من الأفعال الدالة على الذات والصور التي ينسج بها ألياف نصه، والصفات التي يلصقها بالصور الكاريكاتورية تجسد إيتوسا باذخا بتكريس أعماله للدفاع عن قضيته. واستحضر الباحث هذه الغاية في دفاعه عن رسول الله عليه الصلاة والسلام من خلال صورة الكاريكاتير التي تحمل محنة خير الأنام في هجرته من مكة إلى المدينة، حيث ترتبط فيها مناجاته علية الصلاة والسلام بمناجاة الفلسطيني للوطن (القدس)، ينضاف إلى هذا المعادل الموضوعي استجابة المعتصم لصرخة إمرأة في عمورية ” وامعتصماه” …. فكلها صور وحجج وظفها الباحث ليخص بها قضية كونية تعكس تجارب إنسان كوني، ويظهر ذلك في منافحة الباحث ودفاعه عن قضايا إنسانية من خلال دفاعه عن مكسب أخلاقي يؤكد أنه يحمل صفات خلقية معينة بالنظر إلى ما يختزنه الإيتوس المتعلق به، وما له من قدرة على التأثير في قارئه ويتقاطع هذا مع مميزات الخطيب الناجح الذي يستحضر خطبا سياسية على نحو تلك التي يذكرها غوستاف لوبون حين قال “إن الخطيب الذي يستهوي الأفئدة ويجلب ألباب الناس بشخصه أكثر من كلامه فكأن روح سامعيه تتأثر من أقل تلحين عليه، وهو يعلم ماذا يجب أن يقول وكيف يقول… ويظهر أنه يبرز من هؤلاء مؤثرات جاذبية خفية”.[3]
إن إيتوس الذات الفاعلة هنا تتجلى بصورة الملهم والمؤنس والمتواضع في الفعل والقول، ذلك أن قيمة الإنسان تقاس بما يصنعه عليه الآخرون من صفات، فالذات هنا تلجأ إلى تحقيق فعالية خطابها انطلاقا من اعتمادها على عناصر لغوية وآليات أسلوبية تحقق الفعل التصديقي للنص الذي يجعل المتلقي يدرك ما قصده الباث دون إفصاح، لذلك فإن القدرة التواصلية عبر القراءة والحفر في ثنايا النص الكاريكاتوري تبقى في جزئه الأكبر ضمنية.[4]
ويتبلور هنا الايتوس الذاتي المتخفي في مقولات الافتراض المسبق التي تأبى الانكشاف وتتوق التأويل وهذا ما يجعل جل القراءات تقف عند الكثير من المضمرات دو افصاح وتجلي.
كما يحضر ايتوس الذات انطلاقا من استحضار المنظور التفاعلي الضمني الذي يتجلى بين الباحث والقارئ في لوحة الكاريكاتير التي تمثل الثوابت العقائدية في سياق الدعاء للأقصى ونصرته وتختار ليلة القدر كليلة مباركة يتبدى فيها الفلسطيني متضرعا إلى الله وصاحبتها هذه الصورة الشذرية:
يا رب في ليلة القدر
حرر أقصانا من الأسر
وألهم شعبنا الصبر.
لقد علق الباحث عن هذا الدعاء بقوله :”… لا شك في أن توافر عنصر الإيقاع بوساطة القافية في عبارات الدعاء، وحرارة الدعاء الذي يتمثل بالدموع التي يذرفها الداعي يضاعفان تفاعل المتلقي مع الخطاب اللغوي الديني…”.[5]
يتمظهر هنا حضور إيتوس الذات في الشروط التي حدُدِتْ للباث سلفا والمتمثلة في الفضيلة والفطنة والتلطف بالسامعين، وتتجلى هنا الغاية الإيتوسية في ما يتوخاه الباث من متلقيه وهي الإيحاء بالثقة إلى من يسمعونه والمعرفة التامة بالقارئ الذي يستمد حضوره كشريك فعال وتعاوني لزيادة التشاور في الشأن المشترك.[6] (أرسطو).
كما يتجلى ايتوس الذات في صورة عمر عتيق المثقف الذي يأبى أن تكون مهمته دبلوماسية تنطق بجهة ما أو تشكيل سياسي معين زاعمة أنها تدافع عن الحقيقة، بل يتمظهر في صورة الإيتوس المثقف الذي يروم الفضح والنقد ويتجلّى هذا في انخراطه في شبكات المقاومة التي تكشفها أعماله عمّا إذا كان هو حق.
- إيتوس الحياد الكاريكاتوري:
لا يقتصر انخراط الذات الفاعلة / الناقد في خطابها على المواقف التواصلية التي يعمد فيها إلى مراعاة السامع، بل حتى في حالة توصيل الوقائع الخطابية، ومراعاته لسامعيه/ قرّائه وتقديره إياهم من خلال البحث في قضايا التواصل الإنساني وأخلاقياته التي تهتم بها علوم عديدة، وتتحد جملة من الضوابط التواصلية التي تخص التخاطب.[7] ويتخفى هنا الباحث وراء ذات أخرى فاعلة ولكن يظهر في فعله وانفعاله في الصورة الكاريكاتورية التي تحمل بعدا إشهاريا، والغاية هنا من إيتوس الحياد نزع التعاطف المباشر مع المتلقي، حيث تتستر الذات وراء أثر جيني الوجي مشجع وإيجابي وحتى لا يتجلى بشكله الحقيقي والمنوه له ولكن يتسلل في اللافتة الشعارية التي تزخر بصور إيقونية وومضات إشهارية تلفت بال المتلقي، فيتحول التركيز من على الذات المولدة للخطاب إلى صورة الآخر الأكثر قوة والمولدة للخطاب..
ومن أجل تحقيق هذا الانفصال الخطابي المتعلق بهذا النوع من الإيتوس في الصور الكاريكاتورية للقدس التي يشعرنا فيها أنّه موزع بين هموم كثيرة، هموم تنعكس في البدايات الرسمية الأولى المحاطة بسياج من الصمت والاهتمام، حيرة بين الانطلاق والحركة، انطلاق الباحث وحركة الرسوم الكاريكاتورية، وهي ذات الصورة التي يستمدها دولوز حينما يميز بين حركة تؤكد على الانطلاق والوصول، وأخرى تتم فيما يجري بين بين.[8]
وبالتالي فإن الانفصال الخطابي لهذا النوع من الإيتوس يستثمر فيه الباحث صورة الذات الفاعلة، الذات الممتلئة من الداخل الذي يأبى الخواء، صورة تعار للآخر الأكثر قوة / المتلقي الذي يتسلل عبر الصور الكاريكاتورية المتمثلة في نلك التي بدا فيها المسجد الأقصى خاويا من الداخل، ويتبدى هو في صورة إنسان داعيا متوكلا على الله من خلال كتابة عبارة (الله كريم)، لتضيف هذه اللوحة حسب الباحث بعدا عقائديا متمثلا في عبارة ” الجمعة الأخيرة ” التي تشتمل على ظلال العبارة والخشوع والتقرب إلى الله، كما يبرز في هذا االمقطع :” … وينبغي أن أنوه إلى عبارة الدعاء ( الله كريم) تمثل أيقونة لغوية تتردد على ألسنة الفلسطينيين تعبيرا على الأمل بزوال الاحتلال”.[9]
إن هذا الاستبدال بينه وبين الصورة يعد غاية في الأهمية حيث يعوض عنصرا بآخر دون إحداث إخلال بأهمية المبتغى أو الموضوع، فيحتفظ دائما بسياق ثابت، والمتلقي هو الذي سيصل إلى الربط مباشرة بين الصيغة والشعار، ويعزز هذا الوصول إلى المعرفة الخلفية المشتركة بين طرفي الخطاب، ولأنها صورة لها مشروعيتها بين الطرفين فيمكن إعادة تفكيكها وتشغيلها وبالتالي تمريرها لتحقيق غايتها.
إن الخطاب الكاريكاتيري يركز على الملفوظ الموضوعي، يعني أنه منفصل عن الكلام، وغير مرتبط بشخص محدد، إنه الشخص الثالث/ هذا الشخص الذي لا يتكلم بل نتكلم عليه نحن ( بنفينيست)، فلا يحضر في الشكل التلفظي أو المخاطبي كما يذكر باتريك شارودو.[10]
فليست الغاية هنا من إظهار إيتوس الانفصال هي إثبات تفتيت الهوية وإنّما جعلها حركة وليس سكونا، خطا وليس نقطة، هجرة وليس عمارة، نسيانا وليس ذاكرة، اختلافا وليس تطابقا.
إن ايتوس الحياد في الرسوم الكاريكاتيرية يضعنا داخل مفهوم دوري في الزمان يجعل الفروع تعلق بأصولها… .[11]
إن تعدد الأصوات في إيتوس الحياد لدى الباحث والمتمظهر في قراءة الرسومات الكاريكاتيرية وفق قراءة مشاركة يجعل كلام هذا المؤلف مغلّفا بمطلبا اجتماعيا، يشاركه فيه المتلقي/ القارئ، لذا فقد يشيء إيتوس الحياد هنا إلى تلك اللحظة التي كان الأوائل يختفون فيها وراء رواتهم مثلما يظهر لدى الجاحظ في كتاب البخلاء حيث يقدم نفسه كراوية مهمته نقل المعلومات وما قيل عن البخلاء أو ما قالوه هم أنفسهم، ويجلى أيضا في ألف ليلة وليلة ومقامات الهمذاني والحريري، وإذا كان التزييف هنا ينقص من قيمته كراوية فإنه يعلي من قيمته ككاتب.[12]
إن إيتوس الحياد في دراسات الباحث يشترك مع إيتوس الذات في خلق قيم روحية مشتركة سواء تعلق الأمر بقيم مجردة كالحرية والعدالة أو بقيم مادية متمثلة في سفك الكيان الصهيوني لدماء الفلسطينيين، واغتصاب الأقصى واستباحته وتشريد العائلات وغيرها….، لذلك فإن إيتوس الحياد في الرسوم الكاريكاتورية يرد بهذه الصورة لتكون أكثر نجاعة وحضورا في ذهن الجماعة لتقوية لحمتها، ولخلق حلف بين الجماعات باستشعارهم للعدو المشترك، ومنه يسهم انفصال الباحث ( إيتوس الحياد) في خلق أحلاف مشتركة مجدها الوحيد هو النصر.
فإيتوس الحياد في الرسوم الكاريكاتورية يخرق طرس الكثير من الموضوعات التاريخية والدينية والأسطورية، ويبرز ذلك في النجمة السداسية المقترنة بالمسجد الأقصى حيث يسرد الباحث هذا القولٍ “يحسن بنا أن ننوه إلى أمرين: الأول اختلاف المؤرخين والباحثين حول أصل النجمة السداسية، والأمر الثاني مزاعم مستمدة من تفسير التوراة تزعم أن درع الملك داوود يشبه النجمة السداسية (…)، وما يعننيا مما تقدم أن النجمة السداسية تجسد واقعا سياسيا صهيونيا في فلسطين المحتلة، وقد أضحت شعارا صهيونيا لكل مناحي حياته العسكرية والمدنية.
الأمر سيان في موقفه من باقي الصور (الهيكل المزعوم)، وفي التناص الشعبي والرقمي، وحضور الصورة الرمزية (الأفق، المفتاح)، الاتجاهات، اللوحات الجدارية، المرأة…، وقد يتواصل حضور الإيتوس الحيادي في الصور الكاريكاتورية حيث تتكرر التيمات التي يطرقها الباحث كتيمة الحفريات التي تتكرر في كل نمط تصويري، فتُظْهِرُ إحدى اللوحات أن الأقصى معلق في الهواء الطلق، ويذكر الباحث أن هذه اللوحة تمثل تجسيدا لما هو آت: “إذ لم تتوقف الحفريات وغيرها من الممارسات الاغتصابية لأهل الحق، وهي استشراف زمني لما سيؤول إليه الأقصى الذي هدمه الحفار اليهودي الذي يرفع شارة النصر فرحا ونشوة بهدمه في أعلى الصورة، والموقف العربي مازال غارقا في قراءة الخطابات والبيانات”. [13]
يكشف هذا الشكل التلفظي اللساني عن هذه البيانات اللسانية والأسلوبية المتنوعة، ويتداخل فيها ههنا الإيتوس مع الباطوس الذي يعد إحدى الاستراتيجيات التي يلجأ إليها الخطيب/ المبدع/ الناقد لإيصال دعوته، وهو يكرس الحالة التي يكون عليها المستمعون عندما يثير الخطاب انفعالاتهم ذلك أننا لا نصدر الأحكام نفسها في حالتي الحزن والكراهية، ويتجلى بشكل أوفر، فــــــــــــــــ”الانفعالات هي كل التغيرات التي تجعل الناس يغيرون رأيهم فيما يتعلق بأحكامهم، وتكون مصحوبة باللذة والألم، مثل الغضب والرحمة والخوف وكل الانفعالات المشابهة وأضدادها.” [14]
فتوظيف الباحث الضمير الدال على جمع ضمير المتكلم “نحن” واستعماله له يمكّن كل متكلم من ربطه بالضمير “أنا” آخذا بعين الاعتبار الملفوظ، وهذا ما يجعل انخراط القارئ مشاركا فعالا في تشييد أفكار الباحث.
ومنه فإن الغاية من تقاطع الايتوس هنا في الرسم الكاريكاتوري مع الباطوس يكشف في الوعي عن كثافة وجدانية وكفاية لغوية وموسوعية، فليس الغاية هنا رسم ملامح شخصيته أو استعراض أخلاقه، فهو يقدم لنا الخطاب / القراءة انطلاقا من منظوره الخاص وصورة الأخر المتمظهرة في الأنا الفاعلة التي تمثل مسرحا تتكرر فيه شخوص كثيرة وتؤدي أدوارا مختلفة دون أن ترى بعضها بعضا..
فتكرار الأحداث الدالة على الإيتوس هنا هي دعوة إلى الخلود، خلود القضية الأم قضية الأرض / فلسطين، وامتزاج الباتوس هنا بالإيتوس شكل نبرة دعائية في الرسوم الكاريكاتورية والتي يجب أن لا تغيب عن بال من تعترضه.
دعني أقول:
إن انخراط شخصية عمر عتيق في خطابه شكل حضورا لمفهوم الإيتوس باعتباره تشكيلا خطابيا أوفنيا بلاغيا، ويمكن أن نصطلح عليه باسم “الإيتوس الموحي” الذي يحتاج إلى تأويل، وهذا هو عنوان الشطر الثاني من الدراسة الخاص “ الشعبونة في مدينة نابلس بين التقاليد والدين” لاحقا.
أما هنا فحاولنا قراءة تيمة الرسوم الكاريكاتورية للأقصى انطلاقا من تناول “بيرلمان” للإيتوس الذي ورد في سياق تحليله لمختلف ىالأشكال التي تعززها العلاقة الحجاجية القائمة بين الشخص وأعماله، فالخطاب ليس إلا عملا من الأعمال الخطيب أو هو تجليا له، ومن ثمة ينبغي تقدير أحدهما في ضوء الآخر. [15]
الخلاصة:
إن حضور الإيتوس في هذا النموذج للباحث الألمعي عمر عتيق شبيه بحضور خطابات الفلاسفة التي تبدو في الغالب ثورية، لأنها تعالج قضايا إنسانية خالدة تتجاوز التاريخي والثقافي والسياسي وتخترقه، تتوجه لوعي الناس بشكل متواتر وتتميز بمقاصدها الكونية.
[1] – محمد الولي، مدخل إلى الحجاج/ أفلاطون وأرسطو وبيرلمان، عالم الفكر،/ م 4، ع2، الكويت، 2011، ص28.
[2] – محمد مشبال، الإيتوس في البلاغة الجديدة، البلاغة وتحليل الخطاب ، ع 10، 2017، المغرب، ص107.
[3] – غوستاف لوبون، روح السياسة ، ترجمة عادل زعيتر، كلمات عربية للترجمة والنشر، القاهرة، 2012، ص99-100.
[4] – ذهبية حمو الحاج، التحليل التداولي للخطاب السياسي، مجلة الخطاب، منشورات تحليل الخحطاب، جامعة تيزي وزو، ع1، 2006، ص234.
[5] – عمر عتيق، القدس في صورة الكاريكاتير، دراسة أسلوبية في الثقافة البصرية، مجلة جامعة القدس المفتوحة للأبحاث والدراسات، ع8، كانون الثاني 2011، ص243.
[6] – محمد العمري، في بلاغة الخطاب الاقناعي، أفريقيا الشرق، 2002، ص31.
[7] – محمد مشبال: بلاغة الخطاب السياسي، منشورات الاختلاف، الجزائر، 2016، ص173.
[8] – عبد السلام بنعبد العالي، حركة الكتابة، دار توبقال للنشر، ط1، 2012، ص10.
[9] – عمر عتيق ، القدس في صور الكاريكاتير، ص 243.
[10] – جورجينيا بوربيا، الايتوس أو يناء الهوية في الخطاب، ترجمة أحمد الوظيفي ، ترجمات، قسم الفلسفة والعلوم الانسانية، 2019، ص11.
– عبد السلام بنعبد العالي، الفلسفة أداة للحوار، دار توبقال للنشر، ط2، 2011، ص15.[11]
[12] – عبد الفتاح كيليطو، الكتابة والتناسخ، مفهوم الأدب في الثقافة العربية، ترجمة عبد السلام بنعبد العالي، دار توبقال للنشر، ط2، 2008، ص69.
[13] – عمر عتيق، القدس في صور الكاريكاتير، ص 216.
[14] – أرسطو، الخطابة، ترجمة عبد الرحمن بدوي، ص 103-104.
[15] – محمد مشبال ، منزلة الإيتوس في البلاغة الجديدة، ص110.