المعضلة الثقافية والمنهجية في صناعة المصطلح النقدي وفق منظور
(عمر عتيق) -قراءة وتحليل-
The cultural and methodological dilemma in making the critical term according to a perspective (Omar Ateeq) -reading and analysis-
د. مصطفى بوجملين، قسم اللغة والأدب العربي، جامعة العربي بن مهيدي –أم البواقي- (الجزائر)
Mustapha Boujemlene, University of Larbi Ben M’hidi – Oum El Bouaghi – (Algeria)
مقال منشور كتاب أعمال ملتقى المنجز النقدي الفلسطيني وخصوصيته عند عمر عتيق في اصفحة 105.
الملخص
تسعى هذه الورقة النقدية إلى الكشف عن معالم التأزم والتوتّر في الطروحات النقدية التي جابهت ميدان المصطلح النقدي في ضوء مداراته الثقافية وضبابيته المنهجية؛ وذلك عبر قراءة نقدية تحليلية للخطاب النقدي لدى الناقد (عمر عتيق) المتصدّي لهذه التيمة البحثية الشائكة.
وبناء على ذلك، فإنّنا سنقف عند مدوّنته النقدية الموسومة بـــــ(في قضايا المصطلح النقدي والبلاغي والعروضي والإعلامي)؛ وكذا مقالته البحثية المعنونة بــــ(المصطلح النقدي بين الأصالة والتغريب)؛ وذلك بهدف النظر في معالم رؤيته المعرفية والمنهجية لمسائل المصطلح النقدي المحمومة والمتشظّية في الخطاب النقدي العربي المعاصر؛ وكذا معاينة القوانين والمعايير التي يراها مفتاحا لمستغلقات الأزمة المصطلحية العربية المعاصرة في ظلّ المد التغريبي واللا توحيدي.
الكلمات المفتاحية: الثقافة-المنهج- المصطلح- البيئة الأصل- عمر عتيق.
Summary
This paper seeks to reveal the features of the crisis and tension in the critical propositions that confronted the field of critical terminology in light of its cultural orbits and methodological ambiguity. And that is through a critical and analytical reading of the critical discourse of the critic (Omar Ateeq) who confronts this thorny research theme.
Accordingly, we will stop at his critical blog tagged with (in the issues of critical, rhetorical, presentational and media terminology); As well as his research article entitled (The Critical Term between Authenticity and Westernization), with the aim of looking at the features of his epistemological and methodological vision for the hectic and fragmented critical term issues in contemporary Arab critical discourse; As well as examining the laws and standards that he sees as a key to the exploits of the contemporary Arab terminological crisis in light of the Western and non-monotheistic tide.
Keywords: Culture- Curriculum – Term – Original Environment-Omar Ateeq
شكّلت التيارات المعرفية والعلمية جلبة داخل فضاءات التلقي العربي المعاصر لها؛ حيث ساهمت نظرياتها في بعث ركام مصطلحاتي وسمه التعقيد والتوسّع؛ وأضحى الكشف عن نواميسها ومراياها مطلبا ينشده الباحثون المتخصّصون وكذا المؤسسات العلمية المشرفة على فكّ طلاسم المواد المصطلحية، وتتبّع منابعها عبر التأثيل والتأصيل العلمي والمنهجي.
وما دام الأمر -ههنا- متعلّقا بالتعرض إلى إشكالات المادة المصطلحية في شقيها الثقافي والمنهجي وفق منظور الناقد (عمر عتيق)؛ فإنّه يمكن القول إنّ هذه التيمة البحثية ستظلّ قضية مستشكلة ومتأزمة وعصيّة؛ حيث دوّنت الأقلام النقدية هذا الموضوع التأزّمي في أبحاث ومقالات شتّى؛ والتي تؤكّد في مجموعها عظم القضية المطروحة أمامها، والتي ستخلق تشويها وتشويشا داخل دوائر التواصل بطرفيه (العام/التخصّصي)؛ فإذا كان “إيجاد المعادل اللغوي العربي لألفاظ الحياة العامة ليس مستعصيا بحكم ما تتوفر عليه اللغة العربية من مخزون غنيّ، تراكم عبر العصور وكاف لكي يفتح منه المصطلحيون بكل ارتياح، فإنّ المشكل يكمن في الكمّ الهائل من المفردات العلمية التي تتطلّب مقابلا لها، ولا يوجد في الرصيد العلمي العربي ما يوازي ذلك على مستوى المفاهيم؛ إمّا تطرأ لجدتها وحداثتها أو لغرابتها بالنسبة للثقافة العربية التقليدية” ([1]).
وبناء على ذلك، فإنّنا سنعاين طبيعة المعضلتين الثقافية والمنهجية المتعالقتين بالمصطلح النقدي وفق منطور الناقد (عمر عتيق)؛ وبيان ذلك الآتي:
أ/ المعضلة الثقافية:
شكّلت الثقافة Culture)) بشتى تقاطعاتها مع المكوّنات الفكرية والمعرفية و المعتقداتية والتاريخية والسلوكية مجالا خصبا لنشوء المفاهيم الحياتية والفلسفية والعلمية، والتي ظلّت متداولة في بيئاتها الأصلية؛ ولكنها حتما ستعبر الحواجز الإقليمية والحدود الوطنية؛ لأنّ الغاية الأسمى هو النقلة النوعية إلى حضارات الأمم والتعاقد والترابط مع الفكر الإنساني عموما؛ وذلك من باب التأثّر والتأثير؛ الذي يشكّل ركيزة أساسة في نطاق الأدب المقارن العالمي.
وهنا، نجد الناقد (عمر عتيق) مثمّنا هذا الوفاق الثقافي بين الأمم المختلفة؛ لأنّه سيدفع إلى النهضة الفكرية والمعرفية، وأمّا خيار التفاصل فإنّه مدعاة للجمود والسكونية؛ ولكنّه ما فتئ منوّها إلى مزالق الاندماج الكلّي معها والذي عبر عنه بمفردتي (الانصهار/الذوبان)؛ ورؤيته هذه سليمة نقديا وفكريا؛ لأنّ لكل أمّة دعائم مخصوصة تؤسس لهويتها، ولا يمكن المساس بركن من أركانها؛ وهذا الذي نوّه إليه قائلا: “لا خلاف في أنّ رياح التأثّر والتأثير تحمل جينات التلاقح بين الثقافات، وأنّ التلاقح ينجب فكرا إنسانيا مشتركا في كثير من مناحي الحياة، وكلّ ثقافة لا تتعاطى التأثّر والتأثير هي ثقافة عقيمة ليس لها خيار إلا الجمود والتلاشي. ولكنّ التلاقح الثقافي لا يفضي أبدا إلى انصهار الثقافات وذوبان الأنا في محلول الآخر؛ لأنّ لكلّ ثقافة خصوصية أو هوية تجسّد البيئة بكل أبعادها وأطيافها؛ ولو غامر أحد باستيراد لون فلكلوري أوروبي وحاول إقحامه في منظومة الفلكلور العربي لوجد أنّ الذائقة العربية تنفر منه، بل تلفظه؛ لأنّه ليس من نسل البيئة العربية”[2].
فهنا، يجلّي الناقد (عمر عتيق) أهمية التقاطع الحضاري والمعرفي والثقافي مع الآخر، والذي رآه نهجا سليما لتجاوز الجمود والتلاشي، وتأكيده على ضرورة صيانة الهوية الثقافية العربية -التي لها مقوّماتها الخاصة بها-؛ لأنّ أهل لغة الضاد يملكون ذائقتهم المميّزة لهم؛ والتي قد تنساق وتتألف مع الجديد، وقد تنفر وتتفاصل عنه. وهنا، فإنّ الناقد قد سلك -في منظورنا- الوجهة العلمية القويمة؛ ذاك أنّ التلقائية والعفوية والتجاوزية في تلقي المعارف الغربية بمنظوماتها المصطلحية المشكّلة لها هو بمثابة الانتحار الثقافي -إن جاز التوصيف-؛ لأنّ الغاية الهدمية التفكيكية لمعمارية الثقافة العربية الإسلامية يظلّ مقصدا للفئة الناقمة على الميراث الحضاري العربي؛ وهذا ما جعل (عمر عتيق) ملغيا فكرة ذوبان الأنا في الآخر؛ لأنّ ذلك لا يحيل إلى ثقافة التلاقح إطلاقا.
ويسترسل الناقد في طروحات التيمة الثقافية العربية؛ حيث عقدها بالمصطلح الموحّد الواجب توافره فيها؛ إذ شدّد على مسألة مسيسة تختصّ بها وتميّزها؛ والمتعلقة أساسا بارتباط المادة المصطلحية المعرفية بالوحدة القومية العربية لأنّ هذه القضية لم تعدّ لسانية بين أهل العربية فحسب؛ بل إنّها ترتقي إلى الخطاب التواصلي التخصّصي؛ والذي يتأسس من خلال المصطلحات العربية الموحّدة؛ والتي ستخلق -حتما- اتصالا معرفيا وعلميا سليما بين بلدان العربية قاطبة؛ وهذا ما يفهم من قوله: “العلاقة بين المصطلح والخطاب الثقافي لا تنفصل عن الخطاب القومي الوحدوي الذي يعدّ هدفا مركزيا يسعى المثقفون لإنجازه؛ إذ إنّ مقومات وحدة الأمة لا تقتصر على اللغة -قناة التواصل- والإطار الجغرافي الموحّد والسجل التاريخي…، وإنّما تتجاوز تلك المقوّمات إلى وحدة المصطلح”[3].
ولعلّ التنبيه الصارم منه لخطورة التعدد المصطلحي دون التقيّد بالمصطلح الموحّد الجامع داخل المعترك البحثي العربي مردّه عدم استساغة المتلقي للمضمون المعرفي الواحد المتشظّي في دوال متباينة شكليا؛ فتظلّ رحلة البحث المفهومي عصيّة شاقة لدى المتلقين المتعدّدة أصنافهم ومداركهم المعرفية والعلمية. كما أضاف الناقد قضية مهمة -قد تكون غائبة في طروحات الباحثين وفق علمنا وقراءتنا-؛ والمتعلّقة أساسا في نفور الطلبة والباحثين الأكاديمين من دراسات نقدية لمنجزات فنّية في ظلّ تباين المسمّيات المصطلحية؛ والتي تشكّل ميكانيزمات قرائية لها؛ لأنّ التشتت المعرفي سيخلق ضبابية واضطرابا داخل منظومة المنهج النقدي الإجرائي. وهذه الرؤى النقدية قد أبان عنها الناقد بقوله: “وعلى الرغم من تعدّدية المصطلح للمضمون الواحد، فإنّ تذوّق المتلقي للمضمون لا يتأثّر بتلك التعدّدية، وإن اختلف التذوق باختلاف المتلقين، لكنّ المتلقي الباحث سيجد عناء من هذه التعدّدية، ويتوقّف ويتردّد طويلا في تبنّي واحد منها، وقد يحجم المتلقي الباحث عن دراسة ظاهرة فنّية ما فرارا من تعدّدية المصطلح، وخلاصا من المساءلة، وبخاصة في أبحاث الدراسات العليا التي تقتضي دقّة وموضوعية وشفافية”[4].
ولعلّ تثمينه للمصطلح الموحّد -أو لنقل تفعيل الباحثين والمؤسسات العلمية لبند التوحيد المصطلحي بين المختصّين- له ثمراته العلمية المميّزة؛ ذاك أنّه فتح لمهارتي القراءة والبحث؛ لأنّ الاتّفاق على المسمّى المصطلحي المجمع عليه لا يترك فضاء للخلاف والتشويش، وسيجعل الباحثين منهمكين صوب المسائل الملازمة للمادة المصطلحية؛ كأن يلجوا إلى المقارنة بين المصطلحات المتقاربة مفهوميا، ومن ثمّ الربط بين المعارف والثقافات المتّصلة بينها، وكذا التوجّه إلى الغربلة والتمحيص والتدقيق فيها بهدف التقويم والتعديل فيها؛ حيث “لا يخفى أنّ وحدة المصطلحات في الحقل الثقافي والمعرفي تشكّل شرطا موضوعيا لتحقيق الإدراك والفهم والاستيعاب؛ بل إنّ توافرها يؤسس للمهارات العليا في القراءة والبحث لأنّ وحدة المصطلح ووضوح المفهوم حافز على مهارات التحليل والموازنة والربط والاستنتاج والتقويم”[5].
كما سعى الناقد إلى طرق قضية محمومة وشائكة داخل إطار التلقي العربي لمصطلحات الآخر؛ إذ أبصرناه ملحّا على مسألة النظر إلى خصوصية البيئة الأصل التي ابتكر فيها المصطلح؛ وذلك لأنّ استنباته في البيئة الهدف يحتّم تقليبا لمكوّناته الثقافية والأيديولوجية والتاريخية والمعرفية. وبالتالي، فإنّ الإقدام على تجاوز هذه المكوّنات سيشكّل تعمية معرفية للباحث في الشأن المصطلحي، ممّا يجعل بعضهم مهرعا إلى التعريب بدل التحرّي عن المفردة اللغوية العربية الأصيلة المترجمة له؛ وهذا ما أبان عنه (عمر عتيق) بقوله: “يشكّل الترابط بين المصطلح والبيئة علاقة عضوية إذ إنّ المصطلح هو ابن البيئة بمستوياتها المادية والثقافية؛ فالمصطلح ليس قالبا لفظيا خاليا من منظومة معرفية أو ثقافية منتزعة من البيئة التي يستخدم فيها المصطلح، ولا يخفى أنّ المصطلح الذي لا ينتمي إلى بيئته ماديا وثقافيا هو مصطلح دخيل يشكّل تحدّيا لأنصار التعريب”[6].
ولعلّ هذه الرؤية النقدية المهمة؛ -والتي تجنح إلى مكانة المرجعية في عملية التجاوب مع المصطلح- تقودنا إلى الفكرة ذاتها التي أبان عنها المفكر (محمد عابد الجابري) في سياق تثبيته للمكوّن البيئي في مسألة الكشف عن خصوصية المصطلح الوافد؛ الأمر الذي جعله مطلقا مسمّى “تبيئة المفهوم”؛ والذي يقتضي خطوتين أساستين “الأولى التعرّف عن قرب على تاريخ المفهوم، الذي يراد نقله، تاريخه كما تعطيه المرجعية التي جاء منها. والثانية هي النظر في كيفية إعادة استنبات ذلك المفهوم في المرجعية التي يراد نقله إليها” ([7]).
ولعلّ هذا التقصّي المرجعي للأرضية الثقافية التي ابتكر فيها المفهوم لا تترك مجالا لتلك المساءلات النقدية السطحية والاستعجالية والعفوية له لدى بعض المترجمين؛ وهي المسألة التي استشعر خطورتها الناقد (عبد الملك مرتاض)؛ حيث نوّه إلى سلبيات المكاشفة النقدية العربية؛ والتي تسمها العفوية والتلقائية والتجاوز لتلك العلاقات الثقافية والتاريخية والمعرفية المتشابكة مع المادة المصطلحية الأجنبية؛ وبالإضافة إلى ذلك أفول الغيرة القومية على اللغة العربية؛ والتي يراها -في خطابه المسكوت- قادرة على مجابهة الرصيد المصطلحي المستجد في ثقافة الآخر، وبالتالي، فإنّ تفعيل ميكانيزما التعريب أضحى أمرا مردودا؛ وهذا ما يفهم من قوله: «كثيرا ما نتساهل أو نتسامح، نحن العرب، مع اللغات الأجنبية فندعها تتسرّب إلى لغتنا تحت علل مختلفة من بينها ادّعاء وضوح المصطلح المنقول. والحقّ أن ذلك السلوك المتّسم بالتواكل والتجاوز يعود أساسا إلى التكاسل وضعف الرغبة في البحث عن مقابل دقيق، أو قريب من الدّقة للمصطلح الغربي المراد تعريبه، كما يعود إلى ضعف الغيرة القومية على هذه الضاد»([8]). كما نجد –ههنا- الناقد (أنيس سلوم) متماشيا مع الأطروحة الآنفة الذكر؛ والتي تجد في الكسل البحثي عن المعادلات اللفظية المطابقة للمصطلحات الأعجمية الوافدة منفذا لإشاعة المفردات الدخيلة عن الرصيد اللساني العربي المثبت في المعاجم والقواميس؛ وهنا، فإنّ هذا المسلك الافتراضي مدعاة لتشويه رونق اللغة العربية؛ وسيظلّ الأخذ به مستمرا ومتناميا في ظلّ بروز المستجدات العلمية؛ لأنّنا لو “استعملنا كلّ كلمة جديدة لا مرادف لها عندنا بلفظها الموضوع لها في لسان واضعيها؛ أصبحت لغتنا خليطا من العربية واللغات الغربية، فتشوّهت محاسنها البديعة، وانحطّت منزلتها الرفيعة وإذا دام النقل إليها بهذه الطريقة؛ ازدادت فيها الكلمات الأعجمية بازدياد المكتشفات العلمية، والمصطلحات الفنية والتجارية والصناعية والسياسية وغيرها على توالي الأيام والسنين حتّى تغلّبت عليها، وكان ذلك مدعاة إلى سقوطها ولحاقها بلغة الغابرين، فلا يبقى منها إلا ما حفظته الخزائن من كتب الأوّلين»[9].
ولم يترك الناقد (عمر عتيق) المتلقي في دائرة الاستفهام والغموض حول مسألة الكشف عن بيئة إنتاج المصطلحات -والتي تحتّم وجود معطى ثقافي معيّن استنبت على إثره مفاهيمها الخاصة-؛ إذ نجده مستغربا من ذلك الالتباس المصطلحي، الذي رافق مجالا نقديا كالأسلوبية؛ حيث ألزمت بمواد مصطلحية من ميدان علمي يفقدها حسّها الجمالي المبني على الذوق الكلامي لأنها تظلّ لصيقة بمجالي الإحصاء والرياضيات، والتي تميزها العلامات الرمزية والرقمية؛ وهذا ما أبانت عنه مقولته: “ولعلّ الأمر الأكثر إثارة في إشكالية اختلاف السياق الثقافي المنتج للمصطلح أنّ مصطلحات يتمّ استيرادها من علوم بعيدة عن الدرس النقدي، كما هي الحال في إغراق الدراسات النقدية الأسلوبية بمصطلحات علم الإحصاء التي حوّلت كثيرا من الدراسات الأسلوبية إلى رموز وأرقام ونتائج إحصائية يستحيل على الذوق الأدبي هضمها، ويصبح الدرس النقدي منقبضا منطويا على ذاته”[10].
وتعليقا على هذا المسلك النقدي، فإنّنا نرى في هذه التقاطعات شكلا من الحوارية بين العلوم؛ إذ إنّ مصطلحاتها تتعاقد مع بعض خدمة للمنجز التطبيقي على الأثر الإبداعي الجمالي؛ ولأنّ المشكلة الحقّة تظلّ مرتبطة بصناعة المصطلح وفق رصيد اللغة العربية وقوانينها، دون النظر إلى تجاذبات العلوم والمناهج؛ لأنّها عملية حوارية تقاربية وليست تدافعية انفصالية.
وفي سياق معاينة تبنيه لفكرة التوحيد المصطلحي، فإنّنا نلفي الناقد (عمر عتيق) منكرا على الرؤية النقدية التي لا تنساق إلى اللاتوحيد، والتي تدلّل على ذلك بتباين اللهجات الخاضعة للمبررات السوسيولوجية والثقافية والمكانية؛ إذ المسألة عنده تظلّ محكومة بالتلقي وفق نمط مسمّياتي واحد؛ لأنّ خيار التعدد نهج غير سليم إطلاقا؛ لأنّه سيحدث شرخا داخل الفضاء التواصلي العلمي التخصصي؛ وهذا ما أعلنه بقوله: “إذا كان الاضطراب أو التداخل أو التناقض في اللهجات له مسوّغاته الثقافية والاجتماعية والجغرافية، فإنّ تسويغ غياب وحدة المصطلح ووضوحه لا يمكن قبوله”[11].
إنّ كشوفات الناقد الثقافية لمسائل المصطلح قد جعلته مجلّيا للأزمة الإشكالية حوله؛ والتي قطباها (الأنا/الآخر)؛ إذ يعني بالأولى -الأنا- اللفظة العربية الأصلية المترجمة للمصطلح الأجنبي والمطابقة له مفهوميا، أمّا الثانية -الآخر- فهي المفردة المعرّبة؛ أي تلك المفردة التي حافظت على نغمها الفونيمي الأجنبي ونسجت بالرسم العربي. وهنا، فإنّنا نلفي (عمر عتيق) مستنكرا حجم التسارع الرهيب صوب العمل التعريبي -الاقتراضي- والعزوف عن الصورة العربية التي لها بريقها الصافي؛ فهو يرى في هذا المسلك تغريبا للمصطلح العربي، وشكلا من المسخ والتشويه -وفق توصيفه-؛ ومردّ ذلك أنّ الانقياد نحو اللغة الأعجمية في مجال صناعة المصطلح لا تستقيم إطلاقا مع هوية الباحث العربي؛ والأخطر في كلامه هو توصيفه للباحث المندمج في مرآة الآخر بــــ”العاق”؛ لأنّه تفاصل كلّيا مع لغته الأصل حين اجتبائه للنهج التعريبي لا الترجمي؛ وهذا ما يؤكّده قوله: “لا يعقل أن نكسر مرآة الأنا ونهرع إلى مرايا الآخرين لبريق صورها؛ لأنّ التشويه من تقصيرنا والقبح من عقوقنا للغتنا، أمّا إذا هرعنا إلى مرايا الآخرين فلن نرى صورتنا؛ بل سنرى مسخا مشوّها؛ لأنّ لغة الآخرين لا تعكس شخصية الأنا”[12]. ولعلّ هذا الاستياء من الإسراف في تداول المصطلح المقترض دون العربي الأصيل لا يعني البتّة إقصاءه له من دائرة التواصل العلمي؛ إذ أرجع استخدامه عند الحاجة إلى ذلك؛ وخاصة حينما تفتقد الألفاظ المطابقة له من الرصيد المعجمي العربي؛ ولأنّ الناقد قد سلّط نقده صوب الباحثين الذين يعزفون عن ابتكار اللفظة العربية البديلة الموجودة ويهرعون صوب المقترض الدخيل. وهذا ما عبّر عنه قوله: “إنّ الاقتراض اللغوي أمر مسلّم به، ولكنّه محتوم بالحاجة، فإذا كان المصطلح الوافد جديدا على الدرس النقدي العربي فإنّنا لا نملك إلا الترحيب والتبنّي، وإذا كان ذلك المصطلح الوافد بديلا لمصطلح أو مسمّى عربي فلا ترحيب بالبدائل، ولنضرب مثالا بمصطلح “التناص” الذي شغف بع كثير من النقاد، واتّخذ مسمّيات عدّة، منها: التناص والتناصية، والتداخل النصّي، والتعالق النصّي، والبينصّية، وتنامي النصوص، فهل نحن بحاجة إلى هذا الركام المصطلحي”[13].
ويواصل الناقد في نقده المستغلظ -المشروع علميا ما دام مدلّلا عليه بحجج واقعية وعقلانية- لذلك التبني المسرف فيه لللفظ المقترض من لدن النقاد، وإقصائهم غير المبرر للفظ العربي الأصيل؛ حيث خلص في وصفه المتعالي بيانيا أن شبّه انغماسهم في ثقافة الآخر، ونهلهم لصور مصطلحاتها بشكل كثيف ورهيب بذلك المخمور المسرف حدّ الثمالة ويعني بذلك الوصول إلى درجة الشرود والتيهان والضبابية. وتأسيسا على هذه الصورة الوصفية، فإنّه أراد التعبير عن حجم الأزمة الخطيرة التي تنخر القاموس اللغوي العربي، الذي أفقده المد الاقتراضي بريقه اللامع؛ إذ توارى المصطلح العربي المترجم خلف ركام معجم دخيل استهوى الباحثين المتشدّقين لمصطلحات اللغة الأعجمية الوافدة. وبالتالي، فإنّ هذه القضية التغريبية الشائكة والمحمومة قد حتّمت على الباحث الدفاع عن هوية المصطلح العربي، لأنّ هذا المنظور النقدي يصبو إلى صيانة لغة الضاد، ويعزز مقامها السامق بين لغات العالم؛ لأنّها لغة تحوي العلم، ومفرداتها تحمل دلالات تحوي ما يستجد من مفاهيم مبتكرة. وقد كان خطاب الناقد صريحا وواضحا حين قال: “ينبغي أن ننبّه إلى أنّنا لا نضمر كراهية للآخر ما دامت العلاقة بين الأنا والآخر لا تمسّ حرمة الأنا. كما ينبغي التأكيد على أنّ النظرة إلى الآخر تنبع من واقع الأنا. وتأسيسا على ما تقدّم فقد استباح بعض النقاد حرمة الأنا، وانغمس في مشارب النقد الغربي ينهل من مصطلحاته حتّى الثمالة، فأصبح المصطلح الواحد في الدرس النقدي العربي متعدّد الوجوه باختلاف اللغات التي انحدر منها”[14]. كما أكّد الناقد على هذه الطروحات النقدية الثقافية في سياق نصّي آخر؛ إذ رأى في هذا المد التغريبي شكلا من النقص الذي استشعره الباحثون تجاه لغة الضاد، لأنّهم انساقوا خلف المغالطة الحضارية المستلبة لفكرهم؛ والتي قرنت التقدم التقني والتكنولوجي للآخر في هذا الزمن المعاصر بحتمية تداول مصطلحات لغته دون التحرّي الأركيولوجي داخل المنظومات المفرداتية في القاموس العربي؛ وهم بذلك يعلنون الاندماج الكلّي الشامل مع الآخر وإعلان الردّة الذميمة مع لغتهم العربية المشهود بحضارتها على مرّ العصور والأزمان؛ حيث نلفيه قائلا في هذا الصدد: “النقاد الذين يهرعون للمصطلح الأجنبي ويعزفون عن المصطلح العربي المناظر هم من دعاة التغريب اللغوي والثقافي، فهم نتاج الشعور بالدونية أمام التفوق التقني للآخر، وهم الذين يجهدون أنفسهم لإخفاء عقدة النقص بعباءة الآخر، وهم الذين تخلوا عن الموروث الحضاري والثقافي. ولا يخفى أنّ هذه الردّة اللغوية تمثّل تيار التقليد الأعمى، الذي لا يرى إلا من خلال عيون الآخر، وهو تيار بعيد عن التأثّر الحضاري وإن ادّعى ذلك”[15].
ب/ المعضلة المنهجية:
ظلت المصطلحات مفاتيح للعلوم -منذ أنّ أفصح عنها الخوارزمي قديما وتناقلتها الأقلام المعاصرة تأكيدا وتثبيتا- لأنّها خزّان الفكر والمعارف والثقافات والعلوم؛ ففيها الخلاصات المعرفية المكثّفة والتي تحتاج إلى علماء ضالعين وراسخين في العلوم التي استنبتت فيها؛ وبالإضافة إلى ذلك تسلّحهم بمنهجيات علمية تقودهم إلى فكّ شفراتها المفاهيمية واللسانية.
وبناء على ذلك، فإنّنا سنعمد إلى الكشف عن المعالم المنهجية التي طرحها الناقد (عمر عتيق) في بحوثه النقدية والتي رآها لبنات أساسة لبناء معمارية المصطلح العلمي -عموما- والنقدي -تخصيصا-؛ وبيان ذلك الآتي:
لقد أبان الناقد (عمر عتيق) في مستهل مقولاته المتعاضدة مع الشق المنهجي في الدراسة المصطلحية العلمية عن الداعي الأبرز لتوظيف القانون المنهجي لمساءلة المصطلح؛ إذ رأى الإصرار على ذلك نابعا من التذمّر والاستياء من التعامل مع المصطلح في هذا الواقع الحاضر وليس إلى مستقبله البعيد؛ وذلك لعلمه أنّ مسألة الفصل في شؤونه المتعددة والمتشعّبة في الزمن الراهن سيسهّل المأمورية مستقبلا؛ وهذا ما يفهم بشكل واضح من قوله: “ليس الإلحاح على توفير المنهجية خشية ممّا سيحدث، بل تذمّرا ممّا يحدث”[16].
وفي سياق تناوله للإطار المنهجي لمسائل المصطلح المتعدّدة؛ فإنّنا نلفيه باسطا لرؤى عدّة؛ ولعلّ أولاها تأكيده على خاصية التنظيم الفكري؛ والذي يعدّ نافذة لتقييس وتحديد المادة الفكرية التي تحملها المواد المصطلحية العلمية وبالتالي، فإنّ المكاشفة المصطلحاتية ستكون عبر ميكانيزما التنظيم منسجمة مع جوهر الفكر المنقول عبر تلك الدوال المنزرعة في أقاليم ثقافية مغايرة؛ وهذا ما يوضّحه قوله: “الرصيد المصطلحي هو مرايا الفكر، فإذا كانت أفكارنا تتخلّق من جينات منظّمة في رحم فكري بنيوي، فإنّ ناتج المصطلحات سيكون منسجما مع ماهية الفكر، وستكون تلك المرايا صافية مصقولة”[17].
وفيما يختصّ بالمعلم المنهجي الآخر؛ فإنّنا رأيناه متعالقا بالعملية الترجمية؛ فبعد تأكيده على دورها الوسائطي بين الحضارات المختلفة، وكذا دورها الريادي في نهضة الأمة وتألّقها المزدهر، فإنّه يضع القانون المنهجي فيها؛ والذي يتحدّد في الترجمة العلمية في نطاق العمل الجماعي المنسّق؛ وذلك بعيدا عن البحث الفرداني الذي يخوض غماره المترجّم النرجسي المغرّد في السرب منفردا؛ وهي الميزة السلبية التي أطلق عليها (عمر عتيق) مسمّى “الطقوس الفردية”؛ لأنّها ستقود حتما إلى اللبس والتعتيم والتشوّه المصطلحاتي؛ وهذا ما أثبته قوله: “لا أحد ينكر أنّ الترجمة وفق شروط موضوعية هي قناة تواصل حضاري بين الأمم، وأزعم أنّ الأمّة التي لا تحسن الترجمة لن تخرج من قارورة العجز، وستبقى تجرّ أذيال خيبتها الثقافية وراء عربة الازدهار والانفتاح. كما أنّ الترجمة التي تتمّ في طقوس فردية بعيدة عن أصول التنسيق والمتابعة والعمل الجماعي ستؤدي حتما إلى تشويه الدرس النقدي”[18].
وتتمّة لمسألة الترجمة المصطلحية لمصطلحات الآخر؛ فإنّنا ألفينا الناقد مشيرا في شكل ضمني مسكوت عنه إلى معلم منهجي مهم ليسائل من خلاله المصطلح الأجنبي الوافد إلى اللغة العربية؛ والمتمثّل في الكشف عن البنية المرجعية له والتي يقصد بها الخلفيات الفكرية والمعرفية والثقافية التي تحملها البنية المفاهيمية للمصطلح؛ لأنّ الإدراك الكلّي الشامل لها سيسهّل عملية رصد البديل المفرداتي المعادل له في القاموس العربي؛ وأن لا يكون التركيز على البنية الشكلية في عملية الصناعة المصطلحية؛ لأنّ ذلك إنجاز لا يرقى إلى التنقيب الباطني العميق، فهو سطحي جزئي لا ينفذ إلى كمونية المصطلح. ولعلّ هذا المبدأ التفاضلي بين الشق المفهومي والمورفولوجي مؤداه عدم براءة المصطلح المنقول وهذا ما أشار إليه الناقد قائلا: “ما دام المصطلح المترجم ليس بريئا من مرجعيات فكرية وارتباطات ثقافية، فإنّ أبرز التحدّيات التي تواجه المترجم في سياق العولمة هي التخصص الذي يضمن كشف القناع الثقافي للمصطلح المترجم، ولا يمكن أن يتحقّق هذا الضمان من خلال قدرة المترجم على خلق علاقة لغوية تناظرية بين المصطلح الوافد وما يناظره في لغة الهدف، لأنّ التناظر اللغوي يقتصر على البنية اللغوية السطحية، ولا يصل إلى البنية اللغوية العميقة التي تحوي الأبعاد الفكرية والثقافية للمصطلح المترجم”[19].
ولعلّ هذا المنظور النقدي يجد وفاقا مع ما ذهب إليه الباحث (عبد الرزاق مسلك)، والذي عقد الترجمة المصطلحية بمسألة النظر العلمي في ثنائية (اللغة/الثقافة) معا؛ ذاك أنّ العمل الترجمي وفق الجانب اللساني فقط سيظلّ قاصرا وغامضا ومستغلقا؛ فحين “نقوم بعملية الترجمة فإنّنا لا نترجم من لغة إلى لغة أخرى فقط؛ بل من ثقافة إلى ثقافة أخرى، وذلك نظرا للارتباط العضوي الذي يجمع بين اللغة والثقافة، فعملية الترجمة على هذا الأساس عملية ثقافية لا تنحصر فقط في مجال الوحدات اللغوية؛ بل تتعدّى ذلك لتطال مجموعة من التصوّرات الاجتماعية وطرق التفكير التي تحملها اللغة وتعبّر عنها” ([20]). كما أنّ الناقد اللساني (عبد السلام المسدي) قد أثبت هذه الرؤية النقدية في كتابه (الأدب وخطاب النقد)؛ إذ رأى أنّ صعوبة المصطلح جزء منها لغوي؛ ولكن الجزء الأصعب والشائك هو الجانب المعرفي والثقافي فيه.
وفي سياق نصّي آخر، فإنّنا نجد (عمر عتيق) متوجّها صوب المترجم؛ إذ حدّد الشروط المنهجية الواجب توافرها عنده فبعد أن أكّد سابقا على ضرورة إحاطته بالجانب الثقافي الذي يحوي المادة المصطلحية، فإنّه يضيف إلى ذلك مرتكزين منهجيين أساسين؛ أولاهما المعرفة الوافية بالرصيد المعجمي ومستوياته الخاصة في لغة الأصل؛ لأنّ لغات العالم تتباين وتتفرّد بنواميسها اللغوية الخاصة؛ وثانيهما الإلمام بالميزات الأسلوبية التي تسمها كذلك؛ لأنّ فنّيات الخطاب التعبيري تتلوّن من لغة لأخرى؛ حيث يقول في هذا الشأن: “المترجم ينبغي أن تتوافر فيه حزمة من المواصفات الثقافية، نحو تمكّنه من رصد العلائق بين المصطلح المنقول ومحيطه الثقافي، وإحاطته بالبنية المعجمية والخصائص الأسلوبية للغة المصدر”[21].
كما نستشف بعدين منهجيين آخرين في مقولة نصّية أخرى؛ إذ تتلخص الأولى في ضرورة المناسبة والانسجام بين المفهوم والمسمّى الموضوع له؛ حيث حرص الناقد على تبيان هذه العلاقة التواصلية العلمية بينهما؛ لأنّ غيابها سيفقد اللفظة مصطلحيتها -إن جاز التوصيف-؛ ذلك أنّ المادة المصطلحية تتأسس عبر لفظة عامة مشتركة ومكوّن علمي متعاضد معها؛ أمّا الثانية فهي عنصر التعليل والمحاججة المتعلقة بهذا الاجتراح المسمّياتي؛ لأنّ الصناعة المصطلحية لا تركن إلى الارتجالية والعفوية والتلقائية في اجتباء المصطلح التخصصي؛ وهذا ما أفصح عنه (عمر عتيق) بقوله: “حينما لا يقدّم الباحثون تعليلا لمسمّياتهم، ويغيب التواصل الفنّي والدلالي بين المسمّى والمضمون، فإنّ الأمر لا يعدو رغبة في التفرّد بالمسمّى، وإبرازا للذات الناقدة، وبخاصة حينما تغيب المسوّغات الفكرية والرؤى المنهجية”[22].
وتتواصل معالم الأطر المنهجية في ابتكار المادة المصطلحية عند (عمر عتيق)؛ وهي المسألة التي وقفنا عندها في مقالته الموسومة بـــ:”المصطلح النقدي بين الأصالة والاغتراب”؛ حيث أشار إلى خاصيتين منهجيتين لازمتين للباحث المصطلحي؛ وهما: المهارة والدراية؛ ولكنّه لم يعرض المفاهيم الكبرى والموسّعة لهما؛ بل اكتفى بذكر الهدف منهما؛ إذ حصر الجانب المهاري في عملية انتقاء المفردة الواحدة من ضمن المنظومة المفرداتية التي تتشابك دلاليا معها؛ والتي تحتّم تكوينه العالي في مجال المعجمي؛ بينما دلّ بالدراية المعرفة الدقيقة بالسياق النقدي المنسجم مع المفردة المجتباة. ولعلّ وجهته المنهجية صوب هذين البعدين مردّه إقصاء الترادف؛ وهذا ما نصّ عليه قائلا: “وضع المصطلح أصبح صناعة تقتضي مهارة ودراية؛ أمّا المهارة فهي اختيار اللفظ الواحد من بين ركام الألفاظ التي تتشابه في معانيها، ولا تتأتّى تلك المهارة إلا للناقد المؤسس على بنيان معجمي، وأمّا الدراية فهي وضع ذلك اللفظ المنتخب من بطون المعاجم في سياقه النقدي الملائم، فإذا تحقّق ذلك الربط بين المهارة والدراية في صناعة المصطلح، فإنّنا نجرؤ على القول -على سبيل المثال- إنّ مصطلحات الانزياح والانحراف والعدول ليست بمعنى واحد، وبهذا يتخلّص المصطلح النقدي من إشكالية الترادف”[23].
كما لم يفوّت الناقد على القارئ المعرفة بالشروط المنهجية المتعارف عليها في المصطلح؛ والتي تمثّل خصائص محورية تميّزه عن المفردة العامة العادية -أو المشتركة باصطلاح المسدي-؛ والتي تتأتى في مميّزات شتى، ولكن (عمر عتيق) أشار إلى البارز منها؛ وهي: الوضوح والدقة التعريف المفهومي؛ فهي عنده شروط موضوعية تصون المنظومة المعرفية والثقافية المنبثقة عنها؛ حيث يقول في هذا الصدد: “إذا فقد المصطلح حدّه ووضوحه ودقّته أصاب الدلالة غموض وتعمية واضطراب، وحينما تصاب الدلالة بهذه الأعراض المرضية فإنّ الخطاب الثقافي برمّته يصبح خطابا مفكّكا متداخلا؛ فالمصطلح -وفق شروطه الموضوعية- جهاز مناعة للمنظومة المعرفية”[24].
وضمن هذا الباب المنهجي المستشكل والمتأزم، فإنّه ارتأينا الركون إلى مقولات أخرى رأيناها متواشجة مع المعضلة المنهجية، والتي تتلخصّ في قضية المجامع اللغوية ومعايير الصياغة المصطلحية فيها؛ ذاك أنّنا ألفينا (عمر عتيق) موجّها لسهام النقد لها؛ إذ رأى ان العمل الجماعي التنسيق أولى بالالتزام التام والصارم بقوانين الصناعة المصطلحية وبدرجة أقل الباحثين الفردانيين؛ وكأنّه قد رأى خللا تطبيقيا أو توجّها محدودا في كشفاتها؛ حيث يقول: “إذا كانت الجهود الفردية لرواد الحركة النقدية مطالبة بالالتزام بمعايير منهجية قبيل الشروع بصياغة المصطلح؛ فإنّ جهود المؤسسات اللغوية والفكرية أولى بالالتزام بالمعايير المنهجية”[25].
وبعد استقرائنا لمدوّنته البحثية -قيد الدراسة- بحثا عن المبررات العلمية التي دعته إلى نقد العمل المنهجي لهذه المجامع فإنّنا خلصنا إلى أنّه لم يقصد المعالجة المنهجية للمصطلحات العلمية عموما؛ بل قصد نوعا خاصا منها وهو “المصطلح النقدي”؛ وخاصة أنّ هذا الميدان التخصصي حافل بركام مصطلحي في الفضاءين التراثي والمعاصر معا الأمر الذي يحتّم تسخير فئة علمية متخصصة في مجال النقد الأدبي ومصطلحاته؛ كي تكون عملية المواضعة أدق وأصوب، وهذا ما لمحناه جليّا في قوله: “في كلّ عاصمة عربية صرح شامخ يسمّى (مجمع اللغة العربية)، وهو شامخ باسمه وبأعضائه، ولكنّه متواضع بإنجازاته التي تتّصل بمشكلة المصطلح النقدي؛ إذ لم تسجّل المجامع اللغوية فيما أعلم منجزات ترتقي إلى طموح الدرس النقدي، فما زالت جهوده دون التحدّيات التي تهدّد الدرس النقدي، ولن اجتهد في رصد أسباب قصور المجامع اللغوية كيلا يعدّ اجتهادي تجنّيا أو تطاولا”[26].
وقد يكون الناقد (عمر عتيق) قد ضاق ذرعا بالسياسات المنتهجة داخل المجامع اللغوية المشرفة على صناعة المصطلح العلمي التخصّصي؛ فهو يرى المعضلة قومية أساسا وليست لغوية فحسب؛ إذ ركن إلى المقولة التي فحواها “من لا يتجدّد يتبدّد”؛ إذ استشعر الحاجة الملحّة والمسيسة لتجديد الكفاءات العلمية داخل هذه المؤسسات الكبرى والرهان أكثر على الباحثين الضليعين والراسخين في تخصّصاتهم العلمية الدقيقة؛ لأنّ التحكّم المنهجي في المكاشفات المعمّقة للمصطلحات العلمية يتأسس معماره عبر الأرضية التخصصية الصلدة؛ وهذا ما يفهم من قوله: “الهدف يرتقي من مجرّد هدف لغوي إلى إنجاز قومي يستحق كسر احتكار اتّخاذ القرار وتوسيع دائرة سلطة القرار في المجامع اللغوية، واستحداث آلية جديدة تضمن معايير ومواصفات اختيار أعضاء المجامع اللغوية، كما يستحقّ دلك الإنجاز القومي المصطلحي تفريع سلّة المصطلحات وتوزيعها على ذوي الاختصاص”[27].
ولكي يثبّت الناقد هذه الرؤية النقدية المتعلّقة بعدم تطبيق المعايير المنهجية الجامعة المانعة على مستوى الهيئات العلمية الكبرى، فإنّه استدلّ بمقولة ذكرها الباحث (محمد رشاد حمزاوي) في بحثه الموسوم بـــ(المنهجية العامة لترجمة المصطلحات وتوحيدها وتنميطها)؛ والتي نصّها قوله: “الملاحظ أنّ المنظّمات والهيئات العربية قد بذلت جهودا كبيرة في هذا الشأن دون أن توفّر لنا واحدة منها منهجية شاملة جامعة، تأخذ بعين الاعتبار ما يتطلّبه وضع المصطلحات ترجمة وتوحيدا من معايير ومناهج”[28].
وفي ختام قراءتنا النقدية التحليلة للمقولات النقدية التي خصّها الناقد (عمر عتيق) للمسائل الثقافية والمنهجية ومعضلاتهما المتأزمة في مجال الصناعة المصطلحية عموما، والنقدية بشكل خاص، فإنّنا نخلص إلى جملة النتائج العلمية، والتي نعرضها في الآتي:
– ثقافة الحوارية المصطلحية بين الأمم المتعدّدة والمتباينة لدى الناقد (عمر عتيق) مقصد حضاري منشود في زمننا المعاصر؛ ولكنّه يظلّ معقودا باحترازات شتى؛ ولعلّ أهمها وأوضحها هي خطورة النقل الآلي لمصطلحات الآخر الأجنبي دون التبصّر في البنيات الثقافية والمعرفية التي استنبتت فيها.
– رؤية الناقد لشخصية المترجم المتخصّص في ميدان المصطلح وفق شروط واجب توافرها فيه؛ من مثل المعرفة الوافية والشامل بلغة المصدر، وإدراكه لميزات مستوياتها اللغوية، وكذا إلمامه بالجانب الأسلوبي الذي يميّز اللغات العالمية المتباينة، يمثّل في منظورنا رؤية منهجية فريدة؛ ذاك أنّ التشبّع اللغوي لوحده يظلّ قاصرا في ظلّ غياب طرائق التعبير اللسانية وفق أساليب مخصوصة ومعيّنة.
– تأكيد الناقد على مبدأ التعليل -عبر البرهنة العلمية الموضوعية- لتلك المسوّغات التي اجترحت من خلالها التسميات المصطلحية ملمح منهجي سليم ومنطقي؛ ذاك أنّ العفوية والارتجالية والركون إلى الذوق الإجمالي الانطباعي في عملية اجتباء المفردة اللغوية المعادل للمصطلح الأعجمي يتنافى مع الخصوصية العلمية التي تفرضها الصناعة المصطلحية التخصّصية.
– تنويه الناقد إلى خاصيتي المهارة والدراية لدى مترجم المصطلح، وتبيانه لمقاصدها بشكل سطحي مباشر قد لا يجعل منهما آليتين منهجيتين تملكان القوة والفعالية؛ ذاك أنّه من البداهة امتلاك الباحث المتخصص لهما؛ فهما لا يرتقيان إلى المنهج اطلاقا؛ ولكنّهما يظلان مهمان في معرفة أبعاد المادة المصطلحية الوافدة.
– مسألة التجديد المنهجي داخل مجامع اللغة ومؤسساتها العلمية عند الناقد (عمر عتيق) مطمح علمي مشروع؛ ذاك أنّ استحداث كوكبة بحثية ضليعة بشؤون المصطلح النقدي المغيّبة فيها قد يساهم حتما بوضع قوانين ومعايير جديدة والتي من شأنها تقويم النمطية المنهجية السائدة في تلك المؤسسات البحثية الكبرى.
مكتبة البحث
أ/ المصادر:
عمر عتيق:
1- في قضايا المصطلح النقدي والبلاغي والعروضي والإعلامي، دار جرير، عمان، الأردن، ط1، 2015
2- المصطلح النقدي بين الأصالة والتغريب، مجلة العلوم الإنسانية، جامعة بسكرة، الجزائر، مارس2012
ب/ المراجع:
3- عز الدين البوشيخي، محمد الوادي، قضايا المصطلح في الآداب والعلوم الانسانية، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، مكناس المغرب، (د.ط)، (د.ت)، ج1
4- مصطفى طاهر الحيادرة، من قضايا المصطلح اللغوي العربي، عالم الكتب الحديث، إربد، الأردن، ط1، 2003، ج1
5- عبد الملك مرتاض،تحليل الخطاب السردي: معالجة تفكيكية سيميائية مركّبة لرواية “زقاق المدق”، ديوان المطبوعات الجامعية بن عكنون، الجزائر، (د.ط)، 1995
جــــ/ المجلات:
6- مجلة أفكار، وزارة الثقافة الأردنية، عمان، الأردن، ع250، 2009.
[1]عباس الصوري، بين التعريب والتوحيد، ضمن كتاب: قضايا المصطلح في الآداب والعلوم الانسانية، إعداد: عز الدين البوشيخي، محمد الوادي، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، مكناس، المغرب، (د.ط)، (د.ت)، ج1، ص101.
عمر عتيق، المصطلح النقدي بين الأصالة والتغريب، مجلة العلوم الإنسانية، جامعة بسكرة، الجزائر، مارس2012، ص322. [2]
عمر عتيق، في قضايا المصطلح النقدي والبلاغي والعروضي والإعلامي، ص39-40. [4]
عبد الفتاح القلقيلي، في دلالات المصطلح، مجلة أفكار، وزارة الثقافة الأردنية، عمان، الأردن، ع250، 2009، ص20. [7]
[8] عبد الملك مرتاض،تحليل الخطاب السردي: معالجة تفكيكية سيميائية مركّبة لرواية “زقاق المدق”، ديوان المطبوعات الجامعية بن عكنون، الجزائر (د.ط)، 1995، ص210.
مصطفى طاهر الحيادرة، من قضايا المصطلح اللغوي العربي، عالم الكتب الحديث، إربد، الأردن، ط1، 2003، ج1، ص101. [9]
عمر عتيق، في قضايا المصطلح النقدي والبلاغي والعروضي والإعلامي، ص21. [10]
عمر عتيق، في قضايا المصطلح النقدي والبلاغي والعروضي والإعلامي، ص17. [13]
عمر عتيق، في قضايا المصطلح النقدي والبلاغي والعروضي والإعلامي، ص17. [15]
عمر عتيق، المصطلح النقدي بين الأصالة والتعريب، ص317. [17]
عمر عتيق، في قضايا المصطلح النقدي والبلاغي والعروضي والإعلامي ، ص22-23. [18]
[20]عبد الرزاق مسلك، أهمية البعدين الاجتماعي والثقافي في عملية ترجمة المصطلح الأجنبي، ضمن كتاب: قضايا المصطلح في الآداب والعلوم الإنسانية إعداد: عز الدين البوشيخي، محمد الوادي، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، مكناس، المغرب، (د.ط)، (د.ت) ج2، ص39.
عمر عتيق، في قضايا المصطلح النقدي والبلاغي والعروضي والإعلامي ، ص21. [21]
[24] عمر عتيق، المصطلح النقدي بين الأصالة والاغتراب، ص316.
عمر عتيق، في قضايا المصطلح النقدي والبلاغي والعروضي والإعلامي، ص22. [25]
عمر عتيق، في قضايا المصطلح النقدي والبلاغي والعروضي والإعلامي، ص26. [27]