الكتابة الأدبية ووظائفها النفسية
Literary Writings and their Psychological Functions
د. حسن كون، أكاديمية الدار البيضاء- سطات، المغرب
Dr. Hassan KAOUN, Casablanca-Settat Academy. Morocco
مقال نشر في مجلة جيل الدراسات الادبية والفكرية العدد 68 الصفحة 49.
ملخص:
نتناول في هذه الدراسة جانبًا من جوانب الأثر النفسي في الإبداع الأدبي لدى المبدع، وهي بذلك تندرج ضمن النقد النفسي للأدب. إذ نستهل الدراسة بالحديث عن العلاقة الوطيدة بين النفس والأدب، لنعرض بعد ذلك بعض المفاهيم المركزية في التحليل النفسي، ثم انتقلنا إلى رصد بعض الوظائف النفسية المحقّقة بالكتابة الأدبية، لنختم ببسط بعض الانتقادات الموجّهة لاعتماد منهج التحليل النفسي في الأدب.
الكلمات المفتاحية: الكتابة الأدبية- الوظائف النفسية- التحليل النفسي.
Abstract :
This study is directly devoted to tackle an aspect of the psychological impact on literary creativity of the creator, and thus, it could be ultimately included within the psychological criticism of literature. The study starts by the illustration of the closely solid relationship between the soul and literature to present some of the central concepts in psychoanalysis. Then, we observe some psychological functions that are obtained by literary writing, and we conclude by simplifying some of the criticisms directed at adopting the psychoanalytic approach in literature.
Key words: Literary Writing- Psychological Functions – Psychoanalysis.
مقدمة:
النفس والأدب أمران لا يمكن الفصل بينهما، وعلاقتهما قائمة على التأثير المتبادل. إذ لا يشك أحد في تأثير النفس في إنتاج الأدب، فالأخير صورة ومرآة للنفس، إن لم نقل إنّ الأدب هو النفس. حيث يؤثر العمل الأدبي في نفسية منتِجه قبل، وأثناء وبعد، إنتاجه بالدرجة نفسها التي يؤثر بها كذلك في نفوس متلقيه.
فالحالة التي يكون فيها المبدع بعد إنهاء عمله ليست نفسها التي كان فيها قبل أن يهم بالكتابة، ولئن كانت نشوة إنهاء الأعمال، كيفما كان نوعها، قائمةً عند الجميع، فإنها تتخذ بعدًا نفسيًّا عميقًا لدى الكاتب والأديب. كما أنّ قارئ الأعمال الأدبية ينتقل بدوره من حالة نفسية إلى أخرى، إن لم نقل إنه يعيش جميع الحالات والتقلبات النفسية التي عاشها صاحب العمل الأدبي.
إنّ النص الأدبي بمثابة تخطيط لنفسية صاحبه – قياسًا على تخطيطات القلب وغيرها- فالأدب يصنع النفس كما تصنعه، يقول مصطفى سويف:” النفس تجمع أطراف الحياة كي تصنع الأدب منها والأدب يرتاد حقائق الحياة كي يضيء جوانب النفس”[1]. وكما تلتقي النفس بالأدب، تلتقي نفسية المبدع والمتلقي في العمل الأدبي إلى حد التطابق عندما يتعلّق الأمر بحقائق نفسية يشتركان فيها.
ونظرا لهذا التداخل الحاصل بين النفس والأدب، فقد اهتم علماء النفس بدراسة الارتباط بينهما، ويعود هذا الاهتمام في بداياته إلى أفلاطون، حين وقف عند التأثير العاطفي للمحاكاة في حراس جمهوريته الفاضلة، وإلى رد أرسطو الذي ذهب إلى التأكيد أنّ المحاكاة تحقّق للمتلقي تطهيرًا وتنفيسًا.
ورغم هذا السبق الفلسفي في تناول الموضوع، فالاهتمام الحقيقي بالفعل النفسي للأدب يعود إلى الطبيب النمساوي سيجموند فرويد(1856-1939) ، والذي تجاوز إرجاع الإبداع الأدبي إلى الواقع الاجتماعي، وبنى مشروعه على مفهوم اللاشعور الذي أحدث ثورة ابستيمولوجية في تخصص علم النفس، وفي غيره من الحقول المعرفية الأخرى. إذ اعتبر اللاوعي الإطار المناسب لتفسير وفهم العديد من الظواهر السلوكية الإنسانية، وشكّل الإبداع الأدبي واحدًا من تلك السلوكات التي تم إرجاع فهمها إلى اللاشعور. وبذلك وجد التيار النفسي مكانه في النقد الأدبي، متناولًا الظاهرة الأدبية والإبداعية، إنتاجًا وتلقيًّا، باحثًا في الوظائف النفسية التي يحقّقها الإبداع الأدبي.
سنتناول في هذه الدراسة بعض الوظائف النفسية في الكتابة الأدبية، لنتوقف بعدها عند جانب من الانتقادات التي وجهت للتحليل النفسي عامة، وتحديدًا في دراسته للأدب. لكن قبل هذا وذاك نرى أنه من الأفيد التوقف عند بعض المفاهيم المركزية في منهج التحليل النفسي لارتباطها بتلك الوظائف، على أن نكتفي بالمفاهيم الآتية: الهو، والأنا، والأنا الأعلى، واللاشعور، والكبت.
- مفاهيم التحليل النفسي
- الهو: يشكّل منبعًا للطاقة النفسية والبيولوجية التي يُولَد الفرد مزودًا بها، ويتشكّل من الدوافع الفطرية التي تعُود إلى ميراث النوع الإنساني كلّه، والذي يضم الحاجات الفيسيولوجية وغريزتي العدوان والجنس. وبتعبير آخر، فهو:” طبيعة الإنسان الحيوانية قبل أن يتناولها المجتمع بالتحوير والتهذيب، وهو جانب لاشعوري عميق…”[2].
- الأنا: هو الجانب الذي تتشكل فيه شخصية الفرد بالتدرج عن طريق اتصاله منذ صغره بالعالم الواقعي الخارجي باستعمال حواسه فهو:” مركز الشعور والإدراك والتفكير، وهو المشرف على أفعالنا الإرادية”[3]. وفضلًا عن ذلك، فإنه يتموقع في مكان يسمح له بمراقبة الدوافع الغريزية الكامنة في الهو، ويطلّ على العالم الخارجي عن طريق الحواس.
- الأنا الأعلى: يضم المعايير والقيم والمبادئ والمعتقدات على اختلاف مصادرها، والتي تحكم سلوكات الفرد ودوافعه وتُوجِّهها، “إنه حصيلة التطبيع الاجتماعي”[4]، وهو المنتقد لتصرفات الأفراد والموجِّه لرغباتهم، والمعاقب للشخصية في حالة تجاوز أحد المعتقدات أو القيم. إذ إنه” دافع مانع رادع مكتسب على أساس من الخوف والحب والاحترام”[5].
- الكبت: يحصل الكبت عندما تقمع رغبات الفرد، وهو الدور الذي يقوم به الأنا والأنا الأعلى، كما ذكرنا، حيث تخزّن المكبوتات في شكل تمثلات وذكريات داخل اللاشعور. فالكبت” عملية لاواعية تستهدف إقصاء الرغبات والعواطف والغرائز المحرَّمة وإزاحتها من حقل الوعي إلى حقل اللاوعي بكيفية غير إرادية، طالما أنّ حضور الإرادة ينحو بها نحو الكبح”[6]. وخلافًا لذلك، فالكبح عملية إرادية تحدث داخل الوعي من خلال مقاومة الرغبات، وإذا طالت المقاومة واشتدت قد تتحول إلى كبت.
- اللاشعور: يعد من المفاهيم المركزية في التحليل النفسي، فهو الجانب العميق في الحياة النفسية للفرد والذي تتجمع فيه المكبوتات، فـ” اللاشعور هو الجانب الذي لا يستطيع أن يصبح شعوريا بالطريقة العادية”[7]. إذ من الصعب إعادة ما تم كبته بالطريقة نفسها التي كان سيظهر بها في حالته الطبيعية وفي حينه. ومن هنا تبزر أهمية الكتابة الأدبية بوصفها طريقة من بين الطرائق التي تتيح استعادة المكبوت من ساحة اللاوعي إلى ساحة الوعي ومحاولة ترميمه. ويقودنا هذا الكلام إلى الحديث عن الوظائف النفسية للأدب في الفقرة المالية.
- الوظائف النفسية للأدب
لا شكّ أنّ الحديث عن نتائج العمل الأدبي حين تتشكّل مادته من لاوعي صاحبه ورصد ما يخلفه من أفعال نفسية عليه وعلى متلقيه تحت ما يسمى بالوظائف النفسية للأدب، والقول بإمكانية الإحاطة بها كاملة، يبقى أمرًا صعب المنال، كما أنّ الفصل بين تلك الوظائف يبقى فصلًا إجرائيًّا؛ إذ الكاتب نفسه يبقى عاجزًا عن تفسير أثر عمله النفسي فيه والإحاطة به. وهو ما أكده كانط حين قال:” الفنان لا يمارس الفن تبعًا لتصورات وغايات محدّدة، إنه لا يستطيع أن يفسر منهجه ولا أن يفهمه هو نفسه”[8].
- وظيفتا اللذة والتعويض
اللذة إحساسٌ يشعر به المبدع أثناء الكتابة وبعد الانتهاء منها، وهو إحساس نابع من تجاوزه لأمر كان يحرمه من الشعور بالارتياح والاطمئنان، من خلال استحضاره أثناء الكتابة ما يثير فيه ذاك الإحساس. ومن الأمثلة على هذه الوظيفة النفسية، نذكر نموذج أبي نواس في شعره، والذي كان معروفًا بعشقه للخمرة والغلمان، فنظم أشعارًا يتلذذ بهما، وعلى كثرتها نحيل عليها في كتاب محمد النويهي، إذ توقف عند تعقّد نفسية أبي نواس وتفضيله للغلمان واشمئزازه من النساء وعزوفه عنهن. وقد فسر النويهي حالة أبي نواس بعقدة أو رابطة الأم. واللذة تظهر، أيضا، في الأعمال التي تصف النساء والجمال وتقتحم المحرمات والطابوهات…
واللذة والمتعة تحصلان، كذلك، عند الانتهاء من العمل، فالذين” يعانون الإنتاج الفني يقرون بسهولة أنهم طالما أحسوا بالمتعة أو اللذة بعد أن أتموا إخراج العمل الذي يبدعونه”[9]. فاللذة أثناء الكتابة ناجمة عن إعادة استحضار المكبوت من اللاشعور، والذي حالت أسباب تُردّ إلى تكوين الأنا الأعلى دون شعور الكاتب باللذة في حينها. وغالبًا ما تأخذ هذه اللذة بعدًا جنسيَّا كما هي حال أبي نواس، رغم أنّ بعض المهتمين فسروها بالنرجسية.
ويعتبر مبدأ” اللذة من المبادئ المتحكّمة في النشاط العقلي طالما أن أفق النشاط النفسي برمته يتحدد في الابتعاد عن الانزعاج وتحصيل اللذة”[10]، وهو ما يعني، أيضا، أن الكاتب حين يكتب يبتعد عن واقع خارجي يعيشه، لكنه يزعجه ويحول دون شعوره بالسعادة واللذة، وبدخوله طقوس الكتابة يرسم عوالم تجعله أكثر أريحية ومتعة.
والإحساس باللذة المفقودة يكون بمثابة تعويض يتحقّق حين يحاول الكاتب إشباع رغبة أو تحقيق لذة حرم منها. فالتعويض يحصل باستحضار الكاتب ما حرم منه الكاتب في تاريخ تشكّل شخصيته، ذلك أنّ “إبداع الفنان يرجع في مصدره إلى الرغبة في التخفّف من عبء خاص وإلى محاولة تحقيق رغبات في عالم الخيال لم تشبع في عالم الواقع.[11]“
- وظيفة العلاج
لا يمكن فصل هذه الوظيفة عن الوظيفتين السابقتين (اللذة والتعويض)؛ فتحققهما يؤدي طبعًا إلى التخفيف من ثقل المكبوحات على اللاشعور وإلى جعل الكاتب يرقى إلى وضع نفسي مريح وملائم. غير أنّ الحديث عن وظيفة علاجية للأدب لا يعني بالضرورة أنّ الأمر يتعلق بحالة مرضية، فـ” هناك فرق أساسي بين الجريمة المرتكبة في الخيال والجريمة المرتكبة في عمل أدبي”[12]؛ إذ تشكل الروايات والقصص البوليسية مجالًا لإفراغ العنف والطاقة الزائدة والسلبية والأفكار السوداء والإجرامية.
والأدب يمكنه أن يلعب دورًا علاجيًّا من الأمراض الهستيرية؛ فعوض أن يقترب المؤلف من محرّم أو يرتكب جريمة في واقعه، فإنه يفعل ذلك في خياله الذي ينسجه بالكتابة. فالكاتب الذي يعاني من مرض أو يواجه مشكلًا معينًا إما أن يكتم ذلك ويتستر عنه ويخفيه أو يتحدى مرضه، أو مشكله، بالبوح عبر الكتابة، بل قد يذهب الأمر ببعض الكتاب إلى حد الافتخار بمعاناته. وإذا كان هذا الصنف من الكتاب صادقًا في تعبيره، فالكتابة تحقق وظائفها النفسية المرجوة لدى الكاتب والقراء المعنيين على حد سواء.
- وظيفة التطهير
كما تمت الإشارة إلى ذلك في البداية، فقد تحدث أفلاطون عن وظيفة التطهير عند تناوله تأثير المحاكاة في نفوس حراس جمهوريته. فالتطهير في أصله ارتبط بحياة المدينة الإغريقية وبطقوسها الدينية؛ كالزواج، والإنجاب، وغسل الموتى. وقد كان في هذه الثقافة ” للاغتسال بالماء والاستحمام قوة تطهيرية خصوصًا إذا كان بواسطة المياه الجارية أو ماء البحر”[13]. والتطهير الذي تحقّقه الأعمال الأدبية تطهيرٌ للنفس من الشوائب والعقد والأمراض، وإن تحققت هذه الوظائف تحقق العلاج. وقد” تقدم أرسطو بمفهوم التطهير في حديثه عن أثر المأساة في الجمهور أو معلم حقيقي من معالم الطريق إلى شرح العلاقة بين الأدب والنفس”[14]. فالعمل الأدبي يؤدي وظيفة التطهير عبر التنفيس على الكتاب والمتلقين والتخفيف من مشاعرهم الزائدة والحبيسة، وتحقيق رغباتهم المكبوتة، ويقودهم ذلك إلى الإحساس بالسعادة والمتعة.
- وظيفة التسامي
يرى فرويد أن الدافع الجنسي له قدرة على التسامي، وتتحقّق هذه القدرة حين يتم تحويل التفكير في موضوع جنسي إلى موضوع آخر غير جنسي. إذ يستبدل هدفه القريب بأهداف أخرى تمتاز بأنها أرفع قيمة وغير جنسية[15]. ونرى أنّ هذه الوظيفة في حد ذاتها نوع من التعويض، حيث يتم تعويض التفكير في إشباع رغبة جنسية بتفكير في رغبة أخرى غير جنسية، كما أنّ تحويل التفكير قد يتم في منحى معاكس، أي تحويل التفكير في موضوع غير جنسي إلى تفكير في موضوع جنسي. وهذا ما فعله بعض النقاد المتحمسين لعقدة أوديب، وهو ما يدفع إلى التساؤل عن حدود تفسير الأعمال الأدبية تبعًا لغريزة الجنس واللبيدو.
- انتقادات موجهة للتحليل النفسي في الأدب
تلقى رواد التحليل النفسي للأدب انتقادات بمسوغ اهتمامهم بنفسية الأديب أكثر من اهتمامهم بعمله الأدبي، وبدعوى اتخاذهم من إنتاجه منطلقًا لاستقصاء إشارات لتحليل شخصيته. ويعد موقف طه حسين واحدًا من المواقف التي اعترضت اعتماد التحليل النفسي في النقد الأدبي. فقد ذهب إلى التأكيد أن موضوع النقد الأدبي هو الأدب وأنّ الأديب ابن بيئته لا نفسيته. ولم يكن طه حسين مع تطبيق منهج التحليل النفسي الفرويدي الذي اتبعه محمد النويهي في فهم شخصية أبي نواس، ولم يكن أيضا متفقًا مع عباس محمود العقاد الذي اتخذ المنهج ذاته لفهم نفسية الشاعر نفسه – رغم أن العقاد أرجع تفسيره إلى النرجسية، خلافًا للنويهي الذي اعتمد عقدة رابطة الأم – ورفض طه حسين له ما يبرره؛ فقد رأى في ما فعله النويهي وغيره مسًّا بكرامة النفس الإنسانية وتقليلًا منها. ” فطه حسين يشكّ في قيمة التحليل النفسي حتى عندما يعاين المحلل الشخصية المحللة ويحيط بظروفها النفسية فكيف لا يشك في تحليل نفسيات القدامى الذي يعتمد على الظن والتخمين وتأويل الأخبار والأشعار التي وصلت عنهم مع ما اكتنفها من تحريف أثناء انتقالها عبر عقود زمنية عديدة”[16].
ومن الانتقادات، أيضا، التي وجهت لمنهج فرويد أنّ ما وصل إليه ليس سوى مجموعة افتراضات انتقاها من تجربته مع المرضى والشواذ المصابين، وليس من عينة للأفراد عاديين، لذلك رأى الرافضون أن” فرويد أقرب إلى المتنبئين منه إلى العلماء وأنه يرمي بنظرياته وآرائه دون أن يقدم لها البرهان العلمي أو السند الواقعي… إنها تقوم في أغلبها على الافتراض ثم تصديق ما يفترض”[17].
ومن الملاحظات الأخرى الموجهة لفرويد، إسرافه في التركيز على الدوافع الجنسية، وأنّ ما قدمه هو نتيجة لتحليل أحلامه وهواجسه باعتباره طفلًا يهوديا عاش في النمسا المتعصبة ضد اليهود، كما سجل على منهجه كونه ميكانيكيا؛ ففلسفته” تنظر إلى الإنسان على أنه آلة عديمة الحرية خاضعة كل الخضوع لقوى خفية لا يمكن التغلب عليها إلا بالحيلة”[18]، ولا مجال في تصوره للتهذيب بالتربية.
ومهما كانت الملاحظات المسجلة على مشروع فرويد، فإن التيار الذي أسسه جاء بمفاهيم أساسية أحدثت ثورة علمية؛ كمفهوم اللاشعور، والكبت والعقد البدائية والأوديبية، وغيرها من المفاهيم التي تشكل اللاوعي. فقد قاد منهج التحليل النفسي إلى معرفة الشيء الكثير، وليس كلّ شيء، عن المبدع. ثم إن الانتقادات التي وجهت لفرويد لا تعني كافة المنضوين تحت هذا التيار، فمنهم من عارض فرويد نفسه، كما أن اهتمامات التيار النفسي متشعبة، وإن كانت نتائجه محدودة في ميدان معين، فقد نجح في ميادين أخرى.
إنّ أهمية الأدب إبداعًا وتلقيًّا تبرز بعدّه ميدانًا مناسبًا لتحقيق التوازنات، سواء أكانت داخلية مشكّلة للنفس الإنسانية أم كانت بين النفوس ومحيطها الخارجي. فالإبداع الكتابي مناسبة لتحويل الأوجاع والآلام إلى أفراح، وفرصة للتخلّص من الأحزان والضغوطات النفسية ومن الخجل والانطواء… فالكتابة شفاء للنفوس وعلاج للأذهان من الأسقام.
خلاصة:
تتداخل الوظائف السابقة في ما بينها مثل تداخل الأدب والنفس إلى درجة يصعب فيها التفريق بينهما. فالوظائف النفسية السابقة حاضرة في كل عمل أدبي، غير أنّ حضورها يتفاوت من عمل أدبي إلى آخر. ولقد ركزنا الحديث على تأثير الأدب في نفسية الأديب، أكثر من التركيز على أثره في نفسية المتلقي، وهو ما نبرره بتقاطع- إن لم يكن تطابقا في بعض الأحيان- تحقّقات الفعل النفسي للأدب بين المبدع والمتلقي. فالأخير يتفاعل مع العمل الأدبي عند تلقيه، ويعيد إنتاجه بكيفية تجعله يحس به كأنه كاتبه، وكأن الأحداث النفسية أحداثه.
والوظائف المشار إليها ليست كلّ الوظائف التي يحققها العمل الأدبي، سواء أكانت نفسية أم غير نفسية. فقد تساءل جون بول سارتر في كتابه الأدب الملتزم “لم نكتب؟”[19]، ليذهب إلى أنّ أحد الدوافع الرئيسية للخلق الفني هو بلا ريب الحاجة إلى أن نكون أساسيين بالنسبة للعالم. فللكلمة صداها، كما للصمت صداه أيضا. وتبقى أهمّ وظائف الكتابة تسجيلها للتاريخ الإنساني وحفظ البقاء؛ بقاء الفرد والمجتمع والنوع[20].
لائحة المراجع:
- أزدي (ال) عبد الجليل بن محمد: أسئلة المنهج في النقد الأدبي العربي الحديث، المطبعة والوراقة الوطنية، مراكش، ط1، 2005.
- إسماعيل عز الدين: التفسير النفسي للأدب، دار العودة ودار الثقافة، بيروت، (د.ت).
- جسوس عبد العزيز: خطاب علم النفس في النقد الأدبي العربي الحديث، الحديث، المطبعة والوراقة الوطنية، مراكش، ط1، 2006.
- سارتر جون بول: الأدب الملتزم، ترجمة جورج طرابيشي، منشورات دار الأدب، بيروت ط2، 1967.
- سويف مصطفى: دراسات نفسية في الإبداع والتلقي، سلسلة علم النفس في حياتنا الاجتماعية، ع4، الدار المصرية اللبنانية، القاهرة، ط1، 2000.
- شارف (ال) عبد الله: أثر الاستغراب في التربية والتعليم بالمغرب، منشورات نادي الكتاب لكلية الآداب بتطوان، ط2، 2000.
- نويهي (ال) محمد: نفسية أبي نواس، دار الفكر، بيروت، د.ت.
[1] سويف مصطفى: دراسات نفسية في الإبداع والتلقي، سلسلة علم النفس في حياتنا الاجتماعية، ع4، الدار المصرية اللبنانية، القاهرة، ط1، 2000، ص 13.
[2] الشارف عبد الله: أثر الاستغراب في التربية والتعليم بالمغرب، منشورات نادي الكتاب لكلية الآداب بتطوان، ط2، 2000، ص81.
[3] المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
[4] المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
[5] المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
[6] عبد الجليل بن محمد الأزدي: أسئلة المنهج في النقد الأدبي العربي الحديث، المطبعة والوراقة الوطنية، مراكش، ط1، 2005، ص25.
[7] الشارف عبد الله، المرجع السابق، ص89.
[8] أورده مصطفى سويف في المرجع السابق حين تحدث عن رأي الفلاسفة في الفنان بالمرجع السابق.
[9] سويف مصطفى، المرجع السابق، ص48.
[10] عبد الجليل بن محمد الأزدي، المرج السابق، ص 20.
[11] عز الدين إسماعيل: التفسير النفسي للأدب، دار العودة ودار الثقافة، بيروت، (د.ت)، ص9.
[12] النويهي محمد: نفسية أبي نواس، دار الفكر، بيروت، د.ت، ص 147.
[13] عز الدين إسماعيل، المرجع السابق، ص 13.
[14] سويف مصطفى، المرج السابق، ص 23.
[15] عبد العزيز جسوس: خطاب علم النفس في النقد الأدبي العربي الحديث، الحديث، المطبعة والوراقة الوطنية، مراكش، ط1، 2006، ص 199.
[16] المرجع نفسه، ص 199.
[17] عبد الله الشارف، المرجع السابق، ص 99.
[18] المرجع نفسه، ص 98.
[19] جون بول سارتر: الأدب الملتزم، ترجمة جورج طرابيشي، منشورات دار الأدب، بيروت، ط2، 1967، ص 65.
[20] سويف مصطفى، المرجع السابق، ص .87