شعرية المحاكاة بين الكائن والممكن والحقيقة -قراءة في الأصول التكوينية-
Poetic Emulation between existing possible and reality the -A reading in the formative origin –
أ/ عبد الناصر بوشنافة كلية الآداب واللغات جامعة محمد بوضياف –المسيلة- الجزائر
Abdnaceur Bouchenafa Researcher Faculty of Letters and Languages University Mohamed Boudiaf -M’sila-Algeria
مقال منشور في مجلة جيل الدراسات الادبية والفكرية العدد 67 الصفحة 41.
الملخص:
إن المحاكاة بوسمها خطاب فعل وإبداع وخلق وتقليد وسؤال ورؤية وتاريخ…، ليست بتاتاً بمنأى عن ذلك التخطيب الذي صاحب بدايات وجودها ونهايات حضورها، حينما سعى إلى جعلها مقترنة بجملة من المواضعات الجدلية، كانت ولا تزال كائنة فيها وموجهة صوبها في ذات الوقت إزاء بنية تشكيلها المركزية ومحمولها الأنطولوجي الماثل فيها في نسخته السردية تحديدا.
تخطيب استطاع بفاعلية مضمونه المؤدلج أن يجعلها مأزومة في أصول تكوينها المفاهيمية والعملية، كونها تأتي تارة تراثية المبنى والدلالة وتارة أخرى تُقدم محتوى ذاتها بصورة حداثية، عربياً وغربياً وبينهما لا تزال شِعرية سؤالها تبحث عن سُكناها بصفة مستقلة وسط عوالم و كينونة ذاتها المتشظية دلالياً/ مفهومياً/ وظيفياً.
الكلمات المفتاحية: شعرية، المحاكاة، الأصول التكوينية، التراث، الحداثة.
Abstract:
The Emulation as a discourse of action, creativity, creation, tradition, question, vision and history… , It is not at all far from that speech that accompanied the beginnings of its existence and the ends of its presence, when it sought to make it associated with a set of controversial issues, which were and are still present in it and directed towards it at the same time towards the structure of its central formation and its ontological predicate present in its narrative version specifically.
Discourse has effectively managed its ideological content to make it a dilemma in the origins of its conceptual and practical formation, as it comes at once heritage the formative and the connotation and at other times it presents the content of itself in a modern way, Arabic and we sternly, and between them is still the poetic of its question is searching the autonomous habitation in the middle of worlds and the itself fragmented entity semantic/ conceptually/ functionally.
.Key words: poetry, Emulation , formative origins, heritage, modernity
تمهيد
بدون أي مواربة جدلية يُطالعنا تاريخ السرديات الأدبية على اختلاف محموله الفني ومنجزه الجمالي بأن الأدب بما هو شكل من أشكال الفن والجمال والفكر والمعرفة…، بما هو في الآن نفسه خطاب، كائن، ثابت، متحول، حاضر، غائب، متعدد، مختلف، متنوع…، ظلَّ حينًا من الزمن سجين أنطولوجيات متعددة قدمت مشروع حضوره بصيغ وجودية مختلفة، أهمها تلك التي سعت إلى ربط كينونة ذاته بحتمية حضور نص المحاكاة “Emulation”(*) في صُلب تشكيله وإلزامية وجود شرط الإبداع “Creativity”(**) بوسمِ كُلاًّ منهما بمثابة وسيط دلالي/مفهومي/وظيفي…، يعكس ضمن أفق محتواه شِعريات النظريات الأدبية بكل مخزونها المؤدلج وقوانينها الفنية والعلمية الصارمة ومعاييرها التنظيرية والعملية في نصها المرتبط بسؤال الأدب تحديدا، كونها ذات هرمينوطيقا نوعية تُقدم عبر جسورها الدلالية فهوماً متنوعة تترجم براهنية مقاصدها غاية المحتوى السردي على اختلاف تخطيبه الماثل فيه والمراد تقديمه وتصحيحه، لاسيما حينما تعمل على تقديم فهم لمدلول المحاكاة في علاقته بالأدب وفق رؤى نقدية، تراثية وحداثية، ساهمت عبر مداخلها المفاهيمية ومباحثها الإجرائية في بناء تشكيلها بصورة ذاتية لها من ناحية وتكوين غيرها من ناحية ثانية، بحيث لم تستطع أن تؤكد أنطولوجيا الأدب سمة حضورها وجوديا إلا حينما زاحمت بسؤالها المؤدلج أنطولوجيات وأسئلة غيرها وتسليمها بمحتوى تصوراتها الفكرية والمعرفية، بنيةً/مصطلحاً/مفهوماً/سرداً…، إذ رأت بأن السبيل الوحيد لإثبات شرعية مشروعها وحقائقه الكائنة فيه مرتبط في المحصلة بمدى حسن تمثل واستيعاب وفهم دلالة نصوص الخطابات الأخرى، تلك المتون المؤدلجة في أصولها التكوينية وبنية أنظمة تفكيرها المركزية، مزاحمة أتت في أشكال وصيغ متعددة ذات صور دلالية وأنماط براديغمية مختلفة، غاية في تحصيل منفعة مُعَّينة، إما عن طريق تبني وسائط إستعارية رغبة في خدمة سؤالها بصفة ذاتية/ أحادية، بما هو في النهاية سؤال الأنا/ الذات/الكينونة/الوجود…، وإما تمثلاً راهنياً من أجل تلبية مشاغل غيرها وخدمة لها تحت لواء حق الأخذ والعطاء طموحا في تحقيق نفس الغاية، أملا في إزاحة شرط القلق الوجودي الذي ما لبث يكتنف أصول سؤالهما المركزي ويُطًّوِقُ بنية تشكيل كُلاًّ منهما بوسمه في النهاية قلق الإثبات/التأكيد/الاستقلال…، التام بصفة ذاتية مستقلة عن مقومات الآخر وخصوصيته، ذلك الآخر/ الخطاب/الغيري/التقابلي/الحقيقي/الزائف…، الذي يواليها ويقابلها مماثلة واختلافاً في الآن نفسه، الطامح من خلال طرحه التطابقي تأسيس نص المقابلة/المطابقة/المقارنة/المشابهة…، بين محتوى الخصوصية التكوينية للكائن والممكن والمتعدد بما هو شعرية » Poetry» (*) محاكاتية/ أدبية ولو بصورة عبثية ذات حقائق نسبية/ متناقضة/ متباينة…، متوترة/ زائفة/ مغلوطة…، طالما أن منطق الحتمية والضرورة يتيح هذه الممارسة التبادلية رغم حضور نص التداخل/ التشابك/ التعقيد…، أحيانا، درجة المفارقة الدلالية، بفعل التعدد/ الاختلاف/ التنوع…، لمحتوى الأساس البنائي/التكويني/التشكيلي…، الذي انبنى عليه كل خطاب مركزي على حدة.
في ظل هذه الحتميات وجد الأدب نفسه مطالبا أولاً بتحديد اختياراته المبدئية والأساسية، التنظيرية والإجرائية، خدمة لسؤاله المركزي بطريقة مباشرة ومنتظمة، بما هو سؤال البحث عن الذات وسط حضورها في عوالم غيرها، تلك العوالم الفسيحة/ الشاسعة/ المتناهية/ المتماهية…، والتي لا حدود لبُعدها الفكري/المعرفي/ التاريخي…، بحيث قامت باحتضان جملة من الخطابات الإشكالية في أصلها/فرعها فأمست أكثر تأزيما في رحابها كونها أنساقاً مؤدلجة في بؤر تصورها الأولى، مُتشيئة في أصول تأسيسها، متعددة في صيغ تشكيلها، متنوعة في حقائقها، مختلفة في مقاصدها…، ولعل بحثه مثلا عن حقيقة ذاته في أواسط عوالم شعريات المحاكاة على اختلاف مُدخلاتها/ مُخرجاتها/ تهويماتها/ تفريعاتها/ استدلالاتها/ تكوينها/ تركيبها/ تشكيلها/ مدلولها…، كان بلا ريب أصدق طرح لمحتوى هذا البحث المشروع ضمن سعيه الدائم من أجل إيجاد كينونة ذاته الغائبة/ الحاضرة/ الجلية/ المبطنة…، الكائنة فيه بوعي منه أو بدونه على الرغم من وجود نص التباين والجدل الذي كان ولا يزال ماثلا في دلالة المحاكاة نفسها، تنظيرا وممارسة، بنية وسؤالا، ضيافة وإنصاتا، حقيقة وتاريخا…، عند العرب وعند الآخر/ الغرب, قديما وحديثا.
أبعاد القراءة
من هنا تتضح شيئا فشيء دلالة القراءة التي نحن بصددها بما هي قراءة جنيالوجية بالأساس طامحة في تأطير ما سبق من جهة عبر وسيط النقد/ الحوار/ المقارنة/ الحفر…، في أعماق الجذور التكوينية لخطاب المحاكاة خصوصا، مستندة في أصول حفرها المحوري على معاول التفكيك والمقاربة النقدية، بحثا عن تأكيد شرعية الكائن الماثل فيها ولو بصورة تقريبية تماشيا مع مقام وسعة هذا التخطيب، كائن بما هو في الآن نفسه ممكن موجود في تمفصلاتها الداخلية والخارجية، قدم الفكر النقدي العربي والغربي، التراثي والمعاصر دلالتها بصيغ حضور متنوعة، بوسمها خطاباً حمال أوجه يُخفي ويُضمر ويُظهر في تشكيله دلالات دينامية لم تجنح بعد بمضمونها المتوتر إلى الركون نحو حدود الثبات النهائي بوصفها أنصاف حقيقة، حقيقة علمية/ فلسفية/ ذاتية/ موضوعية/ تاريخية…، مراوغة/ نسبية/ مغلوطة…، قدمت نفسها بأشكال تكوينية مختلفة تأثيثا لذاتها بصفة خاصة ومن أجل خدمة سؤال الأدب وأجناسه بأخص الخاص، ومن جهة ثانية تهدف هذه القراءة إلى الإجابة على محتوى تخطيب تساؤلي مفاده:
1-فيما تمثلت دلالة المحاكاة وشِّعرياتها المؤدلجة بين التراث والحداثة في القديم والحديث؟.
2-كيف قدمت المحاكاة صيغ حضورها أنطولوجياً خدمة لذاتها وللخطاب الأدبي بوجه خاص؟.
3-ما حدود البُعد الإبستيمي لخطاب المحاكاة وبأي محاكاة نؤمن وعن أي محاكاة يمكن أن نتحدث؟.
4-هل يمكن أن نؤسس لمحاكاة تجاوزية متجاوزة في بنية أصولها التكوينية مفهومياً وعملياً مجموع الدلالات الثابتة والسائدة فيها؟.
أولا: شعرية المحاكاة في ضيافة الحتميات
في خضم التخطيب السالف تم تقديم دلالة المحاكاة بوجه أخص بصيغ فهم مختلفة، لم تقارب جل قراءاتها إزاءها محتواها السطحي، إذ لم تكتفي بحدود ما هو كائن فيها بل سعت للبحث عن الممكن داخل جملة أنساقها المؤدلجة بفعل منطق الاختلاف والتعدد فقد تجلى سؤالها كما هو معلوم في بداياته الأولى وسط أغوار وأبعاد الرؤية والتجربة الفلسفية اليونانية في نسختها الإغريقية تحديدا لدى أعلام الفكر الإغريقي آنذاك وذلك ابتداء بما جاء به سقراط مرورا بما أضافه أفلاطون وانتهاء بما وصل إليه أرسطو حول دلالتها وما تحمله من جذور فكرية وإبستيمية عميقة، إذ “لم ينشغل النقد الأدبي منذ بداية وعيه بذاته وخاصة منذ السنوات المبكرة من القرن العشرين بقضية نظرية كما انشغل بقضية المحاكاة التي بدأت عند سقراط وحظيت باهتمام كبير من جانب أفلاطون في مرحلتيه المتناقضتين (…) وأخيرا بعد أن وضعها أرسطو في قلب النظرية الأدبية (…) وحينما نتعرض لآراء أرسطو في هذا الموضوع سيكون ذلك من زاوية البلاغة العربية والمفهوم العربي للمحاكاة أي بقدر ما يساعدنا أرسطو على فهم النظرية في صيغتها العربية”[1] أما عربياً فقد ارتبط مفهومها في الغالب بما جاء ضمن سياق التراث النقدي العربي القديم، بحيث ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بمحتوى النقل الحرفي لترجمة ما كان قد جاء على لسان أعلام المنطق الإغريقي وخاصة ما أضافه أرسطو حولها، ذلك أن معنى” الصيغة العربية للمحاكاة ارتبطت بطريقة أو أخرى بالصيغة اليونانية عامة وبالصيغة الأرسطية خاصة! نعم إن الربط قائم والعلاقة أقوى من أن يتجاهلها أحد وقد حظيت هي الأخرى باهتمام الباحثين العرب الذين قدموا دراسات علمية متميزة حول تأثير الفكر اليوناني في العقل العربي”[2]، فكراً/ معرفةً/ فلسفةً.
تبعا لذلك يُقدم مفهوم المحاكاة بشكل عام وفي ضوء الرؤية الفلسفية اليونانية له، بشكل خاص، على أساس صيغ حضوره في المقولات الأرسطية خصوصا، بالأخص حينما يقدمه أرسطو نفسه في شكل نظرية تمثلت فعل الشعر لذاتها بما هو فن و جنس أدبي مستقل بذاته وعن غيره بمقدوره حمل مواضعاتها المفهومية والعملية، لا سيما عندما “يحصر أرسطو المحاكاة في الفنون سواء كانت فنونا جميلة كالموسيقى والرسم والشعر أو فنونا عملية نفعية كفن البناء والنجارة مثلا على حين يعمم أفلاطون المحاكاة في كل الموجودات ويفسر بها أنواع المعارف المختلفة ومنها الشعر والفن كما رأينا، وبينما يعد أفلاطون محاكاة الفنون الجميلة للأشياء أقل مرتبة من العلم ومن الصناعة لأن فيها بُعدا عن إدراك جوهر الحقائق، ولأن جهدها ينحصر في نقل مظاهرها وخيالاتها الحسية، إذ أرسطو يعد المحاكاة أعظم من الحقيقة ومن الواقع والفنون عند أرسطو تحاكي الطبيعة فتساعد على فهمها (…) فالمحاكاة ليست قصرا على إنتاج ما في الطبيعة أو على نقل صورة لها وليست كذلك وقوفا من الفنون عند حدود التشابه الخارجي للأشياء، ولكنها محاكاة لجوهر ما في الطبيعة لإكمالها وجلاء أغراضها”[3] ، أما فيما يخص ” طرق المحاكاة يحصرها أرسطو في ثلاثة وما دام الشاعر محاكيا شأنه شأن الرسام وكل فنان يصوغ صورة فعلية ضرورية أن يتخذ طريقا من طرق ثلاث: أن يمثل الأشياء كما كانت في الواقع أو كما يتحدث عنها الناس وتبدو عليه أو كما يجب أن تكون”[4] عليه في محور سؤالها مع ذاتها.
زد على هذا وضمن سياق “شرح أرسطو للمحاكاة وعلاقتها بالشعر وطرقها وأنها السبيل للوقوف على جوهر الأشياء، أبان أرسطو قيمة الشعر وفضله في الكشف عن جوهر الأخلاق والوجدانات، وأبان ميزاته الإنسانية وخصائصه الفنية”[5] كونها قد أتت في النهاية من فعل “(حكى) و(حكاه): فعل مثله (والمحاكاة) المشكلة والمحاكاة مصطلح فلسفي نقدي انتقل من الإغريق إلى العرب”[6] انتقال أكد على وجود اهتمام واضح بماهية المحاكاة في التراث النقدي والأدبي العربي القديم وهذا من خلال ما أضافه الفلاسفة العرب في فترات زمنية متعاقبة خصوصا حينما تم “نقل مصطلح (المحاكاة) من النقد اليوناني إلى الفكر العربي عندما ترجم العرب كتاب (الشعر) لأرسطو وغيره، ونتيجة لذلك فقد حاول الفارابي الجمع بين أراء الحكيمين أفلاطون وأرسطو، ولعل أول المتأثرين بنظرية المحاكاة هم الفلاسفة العرب الذين اطلعوا على كتب أرسطو المترجمة، ولعل الفارابي(339هـ) هو أول من استعمل هذا المصطلح نقلا عن أرسطو بعد أن ترجمه متى بن يونس (228هـ) واختصره الكندي (252هـ) كما ترجمه إسحاق بن حنين (298هـ)”[7] علاوة على هذا يأتي مفهوم ثاني لمعنى المحاكاة يضعها في قلب “نظرية أرسطو في ماهية الشعر، فقد جاء في كتابه (فن الشعر): إن شعر الملاحم والتراجيديا والكوميديا والديثرامب أنواع من المحاكاة فالتراجيديا هي محاكاة فعل جليل كامل بكلام ممتع ونظرية المحاكاة الأرسطية هي ردة على ما قاله أفلاطون في (جمهوريته) من أن الشعراء هم الغاوون الذين يبتعدون عن الحقيقة ثلاث درجات”[8] دون الوصول إليها وإلى مبدأ صِدقيتها ومجانبة حقائقها في نسختها الوثوقية على اعتبار أن “المحاكاة اصطلاح ميتافيزيقي الأصل استعمله سقراط وأفلاطون فقد قال سقراط: إن الرسم والشعر والموسيقى والرقص والنحت كلها أنواع من التقليد ومفهوم التقليد عند سقراط وأفلاطون يعود إلى الأساس الذي تُبنى عليه فلسفتها (…) واستعمل أرسططاليس اصطلاح المحاكاة حين قال في كتاب الشعر: شعر الملحمة والمأساة والملهاة والديثرامب، وكذلك موسيقى الشبابية والقيثارة في أكثر خصائصها، كل هذه حين نشملها بالنظرة الكلية تعد أنواعا من المحاكاة”[9] لا المحاكاة كلها.
ثانيا: نحو مقارعة الحتميات
لعل ما يمكن ملاحظته مما سبق ذكره حول دلالة خطاب المحاكاة، هو وجود جذور تعريفية متنوعة، لهذا الخطاب في ثنايا الدرس الفلسفي الإغريقي على وجه الخصوص في زمنه الأول فالإسهامات التي أضافها أعلام المنطق آنذاك كانت بمثابة المنبع المعرفي الأول الذي يتشرب منه محتوى هذا المصطلح في القديم والحديث فالمحاكاة بشكل عام تعددت واختلفت زاوية النظر إليها، لكن الأمر الوحيد الذي لا يختلف فيه اثنان تجاهها هو أنها ببساطة تسعى لخدمة الفن في شتى مستوياته، وخدمة الأدب بشكل خاص في مختلف أشكاله فالمحاكاة إذن كما رآها أرسطو بالتحديد، نجدها في أبعادها الفلسفية مصطلح ليس بمعنى التقليد مثلما هو رائج ومتعارف عليه وإنما هي مفهوم عام يقوم بحث المبدع خصوصا على تجاوز ما هو موجود/كائن/ماثل…، في الطبيعة في صورتها الحسية/المادية أي تجاوز ما هو كائن وراءها وليس ما هو ساكن ومستقر على سطحها لكي يصل إلى درجة الإبداع، والإبداع بما هو خلق لا يمكنه أن يكون خلقاً وإبداعا إلا إذا تمكن من المرور عبر بوابة التقليد فهو لا يمكنه أن ينشأ من عدم، وهذا هو باختصار شديد، أصل نظرية المحاكاة كما قدمها لنا أرسطو ففي بداياتها هي نوع من التقليد ولكن في نهاياتها هي إبداع ثان، يتجاوز مرحلة التقليد صوب حدود شِعريات الإبداع.
وبالرجوع لنص المحاكاة عربياً حول إمكانية تأثر البلاغين العرب القدامى بنظرياتها في نسختها الأرسطية بالذات وفي سياق سعيهم نحو تشييد معالم نظرية أدبية عربية، تكون أفعال المحاكاة قلبها النابض، نظرية مستندة في أصول بناءها على شعريات محاكاتية مختلفة، يمكن صياغة “سؤال افتراضي بالدرجة الأولى: هل كان من الممكن للبلاغة العربية أن تطور بجهودها الذاتية، بعيدة عن التأثير اليوناني، نظرية أدبية خاصة بها، قد تكون نظرية المحاكاة والإبداع، واحدة من أركانها، أو لا تكون؟ وعلى الرغم من أن السؤال افتراضي وجدلي بالدرجة الأولى تؤكد الشواهد المادية الصرفة ونقصد بها إنتاج العقل العربي أن ذلك كان أمرا حتميا وأن التأثير اليوناني كان عرضا تاريخيا لم يكن من الممكن تفاديه ولكنه لم يكن سببا في عبقرية البلاغة العربية”[10] وهو ما يُحيل على وجود تأثير واضح لنظرية المحاكاة اليونانية الموجودة في طيات الفكر العربي على الفكر البلاغي العربي التراثي وحتى الفكر النقدي العربي الحداثي ولكن هذا ليس معناه بأن التراث البلاغي العربي القديم لم يعالج هذه الشعرية التقليدية ولم يعرفها، بالعكس تماما، فالمتتبع للنتاج النقدي والفلسفي لدى النقاد والفلاسفة والبلاغيين العرب القدامى، يرى بوضوح وجود نوع من الاهتمام بهذه النظرية عندهم حتى لو كانت في شكل إشارات معرفية متفاوتة الرؤى تؤكد على هذا الاهتمام الفكري بها، وقد يكفي ربما ” لو غربلنا مع الاعتذار لنعيمه إنتاج حازم من أراء أرسطو حول الشعر، وآراء السكاكي أيضا من الكثير من منطق الفيلسوف نفسه، لما تبقى فيها الكثير، لكن البلاغة العربية التي قدمت الجاحظ قبل أن يعرف الفكر العربي الفكر اليوناني ثم ابن طباطبا وقدامه بن جعفر حينما كان التأثير في بدايته ولا يرجع إليه أفضل ما قدمه البلاغيان المبكران وأخيرا عبد القاهر الجرجاني الذي يختلف مع آراء أرسطو أكثر مما يتفق معها هذه البلاغة كانت تسير في اتجاه كان محتما أن يؤدي إلى تطوير نظرية أدبية متكاملة سواء حدث التأثير اليوناني أو لم يحدث” [11] ، ذلك أنه “من حسن حظ البلاغة العربية أن عمليات ترجمة الفكر اليوناني ونقله إلى العربية تعرضت لعمليات سوء فهم وتشويه خدمت الفكر العربي في أحيان كثيرة من هنا جاءت مناطق الاختلاف مع مفهوم المحاكاة الأرسطية الذي طور فيه البلاغيون العرب وعدلوا فيه وأضافوا إليه”[12] اهتمام رغم وجوده يُحيل على أن دلالة المحاكاة في السياق التراثي البلاغي العربي القديم، قد” توارت من البلاغة العربية، ولم تكد تتجاوز نطاق المعجم الفلسفي في تلخيصات ابن سينا، و ابن رشد لكتاب الشعر لأرسطو، وإذا كان حازم القرطاجني قد استقراها وبسطها في كتابه “منهاج البلغاء” فإن ذلك قد انقطع من بعده حتى إن الذين نقلوا عنه كالزركشي في “البرهان” والسيوطي في “الاقتراح” أضربوا عن ذكر ما له تعلق بها في المنهج الثالث في الإبانة عما تقوم به صنعتا الشعر والخطابة (…) وإذا قلنا المحاكاة فقد قلنا التمثيل”[13] والتمثل والمطابقة والمقابلة والإبداع في الوقت ذاته.
ثالثا: من النهايات إلى البدايات
كل هذا الاهتمام الذي عرفته وحظيت به نظرية المحاكاة في الفكر البلاغي التراثي العربي القديم يكاد لا يقل تماما عما نراه اليوم منجزا ومحققا عند الآخر/ الغرب/ الغريب/ الأجنبي/الغيري/ المتكلم…، في محور تطرقه لهذه النظرية والذي استطاعت جهوده إزاءها أن تقوم بجذب النقاد العرب الحداثيين بوجه خاص المنبهرين بإنجازاته إلى القيام بإحداث نوع من القطيعة الفكرية تجاه مفاهيم الدرس النقدي والأدبي العربي في نصها المرتبط بخطاب المحاكاة، تنظيرا وممارسة، بما أنها تعد بالنسبة له جزءا لا يتجزأ من إسهامات معرفية عديدة تراكمية شملت مختلف القضايا الأدبية والنقدية التي نراها اليوم لا تزال تشغل العقل الغربي خصوصا في القديم/الحديث، عقل غرق في أواسطه العقل العربي، تبعيةً/ تثاقفاً/ بديلاً/ احتذاءً/ مُرغماً…، إما مغالطة لا مبرر لها وإما عن قناعة لا حدود لها أو عن طريق الضرورة المعرفية/التاريخية التي يفرضها حق الاحتكاك/ الآخذ/ العطاء، بالرغم من كلِّ هذا قُدمت المحاكاة تراثيا بصور فهم متعددة عند الفلاسفة العرب فمثلا “يقسم ابن سينا (428هـ) المحاكاة إلى ثلاثة أقسام محاكاة تشبيه ومحاكاة استعارة ومحاكاة الذرائع (…) وموقف ابن رشد (595هـ) من المحاكاة مطابق لموقف ابن سينا فهو يرى أن الأنواع البلاغية للصورة قسم من أقسام المحاكاة وأن الاهتمام بهذه الأنواع يكفل توضيح القيم الكامنة في الشعر من حيث هو نشاط تخيلي (…) أما موضوع المحاكاة فيعتقد ابن رشد أنه يجب أن يكون من طبيعة نفس المحاكي فالإنسان يحاكي شبيهه، ويخفف في محاكاة غير الشبيه”[14] ، عطفا على هذا فإن “الكندي (252هـ) الذي اختصر كتاب (الشعر) لأرسطو أخذ من ترجمة سريانية قديمة كان معاصرا للجاحظ (255هـ) فإننا نستبعد اطلاع الجاحظ على المحاكاة أو فهمه لهذا المصطلح وحتى قدامه بن جعفر (338هـ) الذي كان متأثرا بالمنطق اليوناني فإنه لم يتأثر بالنظرية الأرسطية للشعر وقد تم تأثر النقاد العرب بالمحاكاة متأخرا عن طريق الفلاسفة العرب الذين اتصلوا بالترجمات اليونانية ولعل حازم القرطاجني (274هـ) أول النقاد العرب الذين تأثروا بنظرية المحاكاة من خلال الفلاسفة العرب، وفهمهم لها فهو يعود إلى فكر ابن سينا في التمييز بين المحاكاة عند اليونان، والمحاكاة عند العرب” [15] طموحا في حسن تمثلها.
كل هذا المعطى لا يؤكد في نهاية المطاف بأن العقل العربي التراثي قد فهم ماهية المحاكاة وتمثل أفعالها بالشكل المناسب في صيغتها الأرسطية تحديدا، وذلك من خلال فشل المبدع آنذاك أو الشاعر العربي في محاولة إسقاطه لمحور هذه النظرية على مسار الشعر العربي وما يحمله من أشكال فنية مختلفة على اعتبار “أن هذه النظرية هي أساس كتاب الشعر الذي ترجم إلى العربية ولخص مرات فإنها لم تؤثر في قاعدة الشعر العربي، لأن العرب لم يفهموها فحسب وإنما لأن إمكان انطباقها على الشعر العربي كان أمرا متعذر أيضا فهي قد تبسط ظلها على الشعر الدرامي والبطولي والديثرامب ولكنها لا تستطيع أن تشمل أنواعا أخرى مثل الكوميديا الإلهية وشعر ورد زورت وقصائد المتنبي وما جرى مجرى هذه الأنواع” [16] هذا من ناحية ومن ناحية ثانية يعوز سبب سوء الفهم ونسبية الاحتواء والاستيعاب تجاهها والذي شاب ذهن النقاد العرب القدامى صوبها وما احتوته من مفاهيم متعددة إلى الطريقة العبثية والعشوائية التي قدمتها أسئلة البلاغة العربية في سؤالها وحوارها معها، ذلك حينما “تعاملت مع مفهوم المحاكاة الأرسطية بحرفية واضحة أحيانا وبحرية كبيرة في أحيان كثيرة جاءت نتيجة عمليات تكييف مقصودة ومدركة للمفهوم الأرسطي لمقتضيات البلاغة العربية وواقع الإبداع العربي من ناحية ولسوء فهم المحاكاة بسبب تشوه الترجمة والنقل من ناحية أخرى” .[17]
وإن جُلَّ ما كان قد”حدث وتؤكده البلاغة العربية هو أن العقل العربي كَيَّفَ تعريف أرسطو ليتفق مع الأنواع المعروفة للشعر العربي (…) ونعود إلى مفهوم المحاكاة كما عرفه البلاغيون العرب مُقتبساً مُستعاراً أو مُطوراً وبصرف النظر عن سوء الترجمة وسوء الفهم لنتوقف عند تعريفهم للمحاكاة وتوظيفها في تطوير نظرية أدبية عربية دون أن يعني ذلك إرجاع ازدهار الدراسات البلاغية العربية إلى اكتشاف أرسطو وكتبه، والمؤسف أن البعض فعل ويفعل ذلك في كثير من الإجحاف لقدرة البلاغة العربية على الوقوف على قدميها” [18] من جديد.
عجز إذن عن محتوى تمثلها بلغ ذروته تراثيا لدى “العرب الذين أخذوا نظرية (المحاكاة) عند اليونان، حاولوا أن يطبقوها في ميدان آخر غير الشعر الدرامي، هو الشعر الغنائي المدحي والهجائي فابتعدوا بها عن موضوعها اليوناني، ومعناها وأنشئوا إليها معنى عربياً أسقطوا عليه مفاهيمهم البلاغية والمنطقية، فجعلوها مرادفة للتشبيه والاستعارة ومع أن نظرية (المحاكاة) كانت أساس كتاب (الشعر) الذي ترجم إلى العربية ولخص عدة مرات فإنها على ما يبدو لم تؤثر في قواعد الشعر العربي لأن العرب لم يفهموها ولأن انطباقها على الشعر العربي كان متعذرا، فهي توافق الشعر الدرامي والبطولي و(الديثرامب) ولكنها قد لا توافق الشعر الغنائي”[19] كما سبق ذكره آنفا فقد ” أخذ العرب هذا المفهوم عن اليونان على ما يكاد يكون مؤكدا ولا يفيد هنا القول أن الفعلين حكى وحاكى موجودان في اللغة العربية قبل نقل كتاب الشعر لأرسطو بزمن بعيد (…) وأول من نظن عن أنه تأثر من أدباء العرب بفكرة المحاكاة اليونانية، الجاحظ (ت255هـ) الذي تكلم على الحاكية أي المقلد (…) وقدامه بن جعفر الذي تأثر بالمنطق اليوناني بالنظرية الأرسطية في الشعر اكتفى باستخدام فعل حكى دون المصدر، وحصر الحكاية بالوصف رائيا أن الوصف هو ذكر الشيء بما فيه من الأحوال والهيئات”[20]، ذكره بما هو عليه درجة التوصيف المكتمل/المطلق/ النسبي…، ” فالجاحظ وقدامه بن جعفر لم يستخدما مصطلح المحاكاة ولعل أول من استخدمه الفارابي غير أنه لا ينبغي لنا أن نؤكد أنه هو مخترعه لأن كتاب الشعر كان معروفا قبله (…) فالمحاكاة عنده محاكاة شكل أو فعل أو قول وصفي (…) أبو سليمان المنطقي (…) فيرى أن المحاكاة أدنى من الطبيعة ومكملة لها في آن معا (…) وابن سينا يتبنى تعريفا للمحاكاة منسوبا لأرسطو (…) ولا يخرج ابن رشد عن هذا النهج كثيرا على أن الاضطراب يشوب أفكاره فهو يوحي أن المحاكاة والتخييل شيء واحد (…) وحازم القرطاجني يبدو متأثرا في نظرية المحاكاة بالثلاثة السابقين من نقله أرسطو ومختصريه نقصد الفارابي وبن سينا وابن رشد وصولا إلى المعلم الأول وهو يطمح إلى وضع قوانين للمحاكاة أكثر مما وضعت الأوائل ويعني بالأوائل اليونان في أغلب الظن” [21] لا غيرهم.
رابعا: صوب شعرية محاكاتية أصولية تجاوزية
من هنا يمكن أن نلتمس شبه إجماع حول التأكيد على أن دلالة المحاكاة بوصفها تجاوزا لسؤال التقليد ليست مرادفة لمعنى التقليد في حد ذاته بصفة نهائية، وما حضورها في الفن والأدب بكل أشكاله بصيغة تجاوز كل ما هو ماثل إلا دليل على ذلك، رغم تعدد مفردات جهازها المفهومي وآلياته الوظيفية في أواسط جُلِّ النظريات المعرفية التي اهتمت بها في القديم والحديث، تسليما بأطروحة مفادها: كيفية العمل على تقديم تجاوز تنظيري وعملي لمصطلح المحاكاة، بنيةً/ مرجعيةً/ مفهوماً/ آليةً/ حقيقةً/ تاريخاً…، يتجاوز بدوره سؤال التقليد في ضوء الرؤية الما وراء طبيعية بالنسبة للمبدع خصوصا والأدب عموما، بوسم”المحاكاة تقليد نمط سابق في الزمن/ الطبيعة وتقوم (نظرية المحاكاة) عل مبدأ محاكاة الطبيعة لا بوصفها كُلاًّ بل لما فيها من مظاهر عامة ودائمة صالحة لكل فضاء وزمان وتطورت المحاكاة منذ أرسطو إلى الآن لتدل على مفهوم العلاقة بين الأصل والإنتاج”[22] أي بين الكائن الثابت والممكن المتحول، وما هذه الإحالة المعرفية إلا إشارة واحدة على وجود رؤية مركزية ثابتة تؤكد نظرة عامة/ سابقة/لاحقة، تجاه محتوى سؤال الأدب وموقعه بشكل عام، بين تموضعه وسط نص المحاكاة وحتمية الإبداع بالأخص عربياً، إحالة تُقِّر بأن” موقف العقل العربي من قضية المحاكاة والإبداع وبصرف النظر عن تأثر البلاغة والبيان العربيين بالفلسفة اليونانية عامة وبكتاب الشعر خاصة بل على الرغم من ذلك التأثير استطاع العقل العربي أن يحدد موقفا خاصا به، معتمدا في ذلك على “الاستعارات” التي لا يمكن إغفالها على الثقافة العربية وأغراض الشعر العربي الخاصة ومن هنا استطاع أن يطور موقفا أصيلا من ناحية، ومعاصرا لا نجد كثير عناء في وضعه داخل تيار النقد العالمي في القرن العشرين من ناحية أخرى”[23]، إشارات واضحة تؤكد بلا مواربة إسهامات إبستومولوجية نوعية تستحق الاعتراف تجاه محاولة تمثل نظرية المحاكاة بما هي إبداع وشعرية خلقية/ تكوينية/ تشكيلية…، بلغة التقليد ودورها الكبير في دعم حركة الخلق في شتى فنونه وأشكاله، لا سيما حينما يتعلق الأمر بشقه المرتبط بالنتاج الأدبي وإن الذي وُجد و تم التسليم به في طيات التراث الأدبي والنقدي العربي وبين ثناياه كفيل لحد ما لدعم مختلف طروحات النقاد العرب المشتغلين في حقل التنظير الأدبي والنقدي بالوقوف وإعادة النظر من جديد تجاه ما يحمله هذا التراث من دلالات إبستيمية تؤثث بمحمولها دلالة شعرية المحاكاة بوعي أصولي/تاريخي/قديم…، دون إقصاء وتغريب نفس التصورات الحداثية إزاءها من جهة وتعمل على إلغاء نص القطيعة المعرفية مع محتوى هذا التراث النقدي والأدبي، الذي لم يبخل أصحابه ولو بالجهد المعرفي اليسير في سبيل الاهتداء نحو دراسة ومعالجة مختلف القضايا الفكرية والمعرفية فيه، مع العلم أن سؤال المحاكاة نفسه كان قد شغل العقل الغربي في فترات زمنية متعاقبة إلى اليوم، انشغال نوعي استوقف الكثير من المنشغلين إزاءه لدرجة الشعور بالدونية جراء الانبهار بمنجزه تجاه ما حققه ووصل إليه بذاته أو عن طريق تمثله لمنجز غيره، عطفا على هذا يمكن الوقوف على محتوى محاولة فهم دلالة المحاكاة من مكان آخر مماثل/مغاير، مكان ثراثي مثل الذي قُدِّم سالفا بمقدوره أن يُتيح زاوية نظر جديدة للنظر إليها بعين فكرية ومعرفية مُنصفة تؤثث بسؤالها جُلَّ ما قدمه وأضافه أعلام البلاغة والنقد والأدب آنذاك في تراث الفكر العربي تجاهها، إضافة نوعية تجعل من آرائهم في نظر المتتبع تكاد تتجاوز دلاليا إلى حد كبير ما وصل إليه العقل الغربي نفسه في محور اهتمامه بها رغم تداعيات القطيعة الإبستيمية الكائنة والتي سبق وأن فرضها النقاد العرب الحداثيين مع سؤال التراث نفسه، حينما جعلوا معظم تلك الجهود التاريخية تعيش في غياهب النسيان لاعتبارات معلومة تاريخيا، ذلك أن إعادة قراءة ما قدمه النقاد العرب في أزمنة متفاوتة لمفهوم المحاكاة كفيل بشكل متناهي ولا محدود بأن يضع المُنظِّر العربي في مسار نقدي ومعرفي صحيح يقربه للوصول صوب مفهوم عربي ثابت/متحول/محدد، لدلالة المحاكاة برؤية بلاغية تراثية تمكنه حينها من إضافة دعامة أساسية في صلب مشروعه نحو بناء نظريات وشعريات أدبية تحاكي بسؤالها الخطاب الأدبي تشكيلا وقصدية على اختلاف تشكيله وأشكاله ومضمونه، نظرية تكون مفاهيمها النظرية وقوانينها العملية ومفرداتها الاصطلاحية، مستمدة من ما هو كائن وسط طيات النظرية الأدبية العربية في نسختها التراثية تحديدا وتعمل بالمقابل على محاولة تجاوز محتوى النظريات النقدية المنوطة بنفس الدور السردي/ المفهومي/ العملي/ المحاكاتي…، الموجودة عند الآخر وسط حقوله التنظيرية النقدية/الأدبية/السردية…، المرتبطة بسؤال الأدب/ السرد/الشعرية/ المحاكاة…، بوجه أخص.
خاتمة
هكذا ينتهي جماع القول لهذه القراءة مُؤولاً ما سلف استنادا على المعطيات السابقة إلى الإحالة على نص المُسَلَماتِ الآتية:
1-على الرغم من محتوى التباين والتعدد الذي كان قد ميز واكتنف دلالة المحاكاة تراثيا وحداثيا، إلا أنها قد أوحت في المحصلة بوجود معنى واحد مركزي لا جدال حوله ولا يختلف إزاءه اثنان كان ولا يزال يختص بتقديمها على أساس أنها فعل من أفعال التجاوز والوصف والتقليد وليس التقليد كله أو نصفه بل بما هو تجاوز للكائن/السائد ووصف للممكن/ المختلف وتقليد للحقيقة/المراوغة.
2-مهما اختلفت زوايا النظر لشعريات المحاكاة على اختلاف صيغها الحضورية، سواء أكان ذلك على مستوى المصطلح/ المفهوم/ الوظيفة…، أم على صعيد الطريقة التأسيسية التي انبنت عليها في نسختها الأولى بنيةً/ مرجعيةً/ مدلولاً/ آليةً…، تبقى بلا مواربة سؤالا مركزياً مخصوصاً وجب حضوره فهماً/ مفهمةً/ تفاهماً…، في قلب أي ممارسة نقدية/ إبداعية/ سردية…، تختص بمقاربة كل ما هو ماثل/موجود/ حاضر/ غائب…، عبر وسائطها التنظيرية/ الوظيفية/ الدلالية…، دعماً لذاتها ولغيرها في الآن نفسه.
3-تظل الجهود البلاغية والنقدية والأدبية الموجودة في سياق الفكر النقدي العربي والغربي، التراثي والحداثي، جهودا نوعية مقبولة تستحق الاهتمام والقراءة وإعادة الصياغة بأطر وعي جديدة، كونها سعت عبر ما هو كائن عندها آنذاك/ الآن، إلى محاولة فهم وتمثل دلالة المحاكاة وفق ما يناسب أسئلة ذاتها وأنطولوجيات من هم في مماثلة وحوار معها، أملا في إثبات سؤال الوجود و إزاحة قلقه الأنطولوجي.
4-تقتضي الضرورة قبل كل حوار نقدي حتمية الإلمام بجملة المبادئ النظرية والعملية التي انبنى عليها كل خطاب في حد ذاته يكون محتواه التشكيلي والدلالي طور النقد والمراجعة، فإذا تم التسليم بأن الأدب هو أحد أشكال الخطاب يسعى إلى تأكيد هوية حضوره أنطولوجياً بناءً على وجود كينونة المحاكاة وشرطها التكويني الماورائي/ التجاوزي/ المماثل…، فهذا معناه إلزامية تمثل واحتواء معنى المحاكاة الماثلة فيه أولاً، قبل أن تتم عملية مساءلته بما هو سؤال متؤسس عليها تشكيلا/ تمثلا/ قصدية…، تأثيثا لمشروعه/ كيانه.
5-تبقى المحاكاة بما هي فعل من أفعال السرد والكتابة والنقد طرحاً وجب حضوره رغم ملابساته المتعددة في صميم أي عملية تنظيرية/ مفهومية، تطبيقية/إجرائية، تُعنى بالممارسة النظرية/ الوظيفية للخطاب الأدبي وإن أي سوء فهم إزاء محتوى تمثلها بالشكل المطلوب واللازم سيقف حتما وبلا ريب حائلا أمام تحقيق فهم للأدب نفسه بما هو انعكاس لها وللإبداع بشكل عام في الآن ذاته.
قائمة المراجع
أولا: المراجع باللغة العربية
- إحسان عباس: فن الشعر، د ط، دار الثقافة للنشر، بيروت، لبنان، 1955.
- سعيد علواش: معجم المصطلحات الأدبية المعاصرة، ط1، دار الكتاب اللبناني، بيروت، لبنان، 1985.
- عبد العزيز حمودة: المرايا المقعرة (نحو نظرية نقدية عربية ) سلسلة عالم المعرفة يصدرها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، أغسطس، 2001.
- لطفي عبد البديع: التركيب اللغوي للأدب (بحث في فلسفة اللغة والاستطيقا) ط1، دار نولا للطباعة، القاهرة، مصر،1997.
- محمد عزام: المصطلح النقدي في التراث الأدبي العربي، د ط، دار الشرق العربي، بيروت، لبنان، 2010.
- محمد عزام: المنهج الموضوعي في النقد الأدبي، د ط، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، سوريا، 1999.
- محمد غنيمي هلال: النقد الأدبي الحديث، د ط، دار نهضة للطباعة والنشر، القاهرة، مصر، 1998.
- مصطفى الجوزو: نظريات الشعر عند العرب (الجاهلية والعصور الإسلامية) ط1، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، لبنان،
ثانيا: المراجع باللغة الأجنبية
- Brossa Joan: poetry in literature and creative writing, second edition university of Essex, Scotland, 1986 .
- Moya Del Barrio Victor: study of the techniques for emulation programming computer science engineering, 2001.
- Resource: ambile Teresa M Barsade Administrative Science Quarterly, 2005 Vol 50.
(*)– يقابل مصطلح المحاكاة، المصطلح الأجنبي «Emulation» الذي يعرف ب ـ:
»Emulation«: the standard definition for emulation is “try to be equal or better than someone or something .
Moya Del Barrio Victor: study of the techniques for emulation programming computer science engineering, 2001, p:10.
(**)– يقابل مصطلح الإبداع، المصطلح الأجنبيCreativity» » الذي يعرف ب ـ:
»Creativity« : Is A Phenomenon Whereby Something New And Different Is Formed .
Resource: ambile Teresa M Barsade Administrative Science Quarterly, 2005 Vol 50, P: 367.403.
(*)– يُقابل مصطلح شعرية، المصطلح الأجنبي «Poetry» الذي يُعرف بـ:
«Poetry» : the presentation of a set, of images, […] of course it is But poetry isn’t merely Word- painting.
Brossa Joan: poetry in literature and creative writing, second edition university of Essex, Scotland, 1986, P,;08.
[1] – عبد العزيز حمودة: المرايا المقعرة (نحو نظرية نقدية عربية ) سلسلة عالم المعرفة يصدرها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، أغسطس، 2001، ص: 333.
[3] – محمد غنيمي هلال: النقد الأدبي الحديث، د ط، دار نهضة للطباعة والنشر، القاهرة، مصر، 1998، ص: 48.
[6] – محمد عزام: المصطلح النقدي في التراث الأدبي العربي، د ط، دار الشرق العربي، بيروت، لبنان، 2010، ص:309.
[8]– محمد عزام: المنهج الموضوعي في النقد الأدبي، د ط، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، سوريا، 1999، ص: 162.
2– إحسان عباس: فن الشعر، د ط، دار الثقافة للنشر ، بيروت، لبنان، 1955، ص: 14.
[10] – عبد العزيز حمودة: المرايا المقعرة، ص: 334.335.
[12] – المرجع نفسه، ص: 335.
[13]– لطفي عبد البديع: التركيب اللغوي للأدب (بحث في فلسفة اللغة والاستطيقا) ط1، دار نولا للطباعة، القاهرة، مصر، 1997، ص: 79.80.
[14] – محمد عزام: المصطلح النقدي في التراث الأدبي العربي، ص: 311.314.
[15] – المرجع نفسه، ص: 314 .315.
[16] – إحسان عباس: فن الشعر، ص: 16.
[17] – عبد العزيز حمودة: المرايا المقعرة، ص: 337.
[19] – محمد عزام: المصطلح النقدي في التراث العربي، ص: 316.
[20] -مصطفى الجوزو: نظريات الشعر عند العرب (الجاهلية والعصور الإسلامية) ط1، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، 1981، ص: 92.
[21] – المرجع نفسه، ص: 93. 95 .96 .104.
[22] – سعيد علواش: معجم المصطلحات الأدبية المعاصرة، ط1، دار الكتاب اللبناني، بيروت، لبنان، 1985، ص: 73.