
بعد إعطاء مفاهيم عامة حول ماهية القانون الدولي الإنساني، و الفئات التي يحميها القانون الدولي الإنساني سنخصص المحاضرة الثالثة للتوقف عند أليات تطبيق هذا القانون، خاصة وأنه يلزم في مختلف اتفاقياته، اتخاذ كافة التدابير المنصوص عليها فيها على نحو يكفل تطبيقه واحترامه خلال نشوء النزاعات المسلحة ويحقق الأهداف الذي نشأ من أجلها ألا وهى حماية الأشخاص والأعيان.
تطبق قواعد القانون الدولي الإنساني حسب حالات النزاعات المسلحة لذا لا باس أن نتوقف عند مفهوم وتصنيف هذه النزاعات:أولا: مفهوم وتصنيف النزاعات المسلحة
النزاع المسلح مصطلح حل محل مصطلح الحرب، على اعتبار أن الحرب من حيث المبدأ محظورة، وبالرجوع إلى مختلف اتفاقيات القانون الدولي الإنساني وكذا اتفاقيات لاهاي، نجد أنه على الرغم من استعمال هذا المصطلح إلا أنها لم تضع له أي تعريف.
وبالرجوع إلى أحكام القضاء الدولي، لاسيما المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا سابقا، وفي حكمها في قضية “تاديتش” قضت بأن اللجوء إلى القوة المسلحة بين الدول، أو العنف المسلح المتطاول بين السلطات الحكومية والجماعات المسلحة المنظمة، أو فيما بين هذه الجماعات داخل الدولة يعد نزاعا مسلحا.
غير أن هذه الصياغة لا تتناول كل النزاعات المسلحة دولية كانت أو غير دولية، لذا سنتوسع في مفهوم النزاع المسلح الدولي وغير الدولي كالآتي:
1 – مفهوم النزاع المسلح
يختلف النزاع المسلح الدولي عن النزاع المسلح غير الدولي كما ستبينه الفقرات التالية:
أ – النزاع المسلح الدولي:
لقد ورد في التعليق الرسمي للجنة الدولية للصليب الأحمر على اتفاقيات جنيف عند تحديد النزاع المسلح الذي يتسم بطابع دولي، بأنه هو “كل خلاف ناشئ بين دولتين من شأنه أن يفضي إلى تدخل من جانب أفراد القوات المسلحة”، حتى وإن أنكر أحد الأطراف وجود حالة الحرب، كما لا يهم مدة بقاء النزاع أو عدد ضحياه.
ويذهب بعض الفقهاء إلى أنه يعتبر نزاعا مسلحا دوليا في حالة اللجوء إلى العنف المسلح بين دولتين أو أكثر، سواء كان ذلك بإعلان سابق للحرب أو بدونه، ويفرض على الأطراف المتحاربة تطبيق القانون الدولي الإنساني، سواء اعترفت بقيام النزاع أو لم تعترف به، وهذا ما عبر عنه البعض أيضا بقولهم أن النزاع المسلح الدولي هو تَدَخُّل القوة المسلحة لدولة ضد دولة أخرى، سواء أكان التدخل مشروعاً، أم غير مشروعاً، وسواء أعلنت الحرب رسمياً، أم لم تعلن.
ولقد اقتصرت اتفاقية لاهاي الأولى المتعلقة بقوانين وأعراف الحرب البرية لسنة 1899، أطراف النزاع المسلح الدولي في:
– الجيوش النظامية التابعة لأحد الأطراف المتحاربة: وهي الجيوش التابعة لدول ذات سيادة، سواء كانت دولا بسيطة أو دولا اتحادية.
– مجموع الميلشيات والمتطوعين: بشرط أن يكون على رأس هذه المجموعة مسؤول عن عناصره، أن يكون لديها أيضا شارة تميزها، كما يشترط حمل السلاح، والتقيد أثناء العمليات القتالية بقواعد وأعراف الحرب.
– سكان الأقاليم غير المحتلة، والتي تحمل السلاح عفويا عند اقتراب العدو لمواجهته، ودون أن يكون لديها مسبقا الوقت الكافي لتنظم ذاتها وفقا للشروط المنصوص عليها بالنسبة للميلشيات، لكن بشرط أن تحترم قوانين الحرب وأعرافها.
ثم جاءت المادة 13 من اتفاقية جنيف الأولى لتضيف إلى الفئات المذكورة أعلاه الفئات التالية:
– أفراد القوات المسلحة النظامية الذين يعلنون ولاءهم لحكومة أو لسلطة لا تعترف بها الدولة الحاجزة؛
– الأشخاص الذين يرافقون القوات المسلحة دون أن يكونوا في الواقع جزءاً منها، كالأشخاص المدنيين الموجودين ضمن أطقم الطائرات الحربية، والمراسلين الحربيين، ومتعهدي التموين، وأفراد وحدات العمال أو الخدمات المختصة بالترفيه عن العسكريين، شريطة أن يكون لديهم تصريح من القوات المسلحة التي يرافقونها؛
– أفراد الأطقم الملاحية، بمن فيهم القادة والملاحون ومساعدوهم في السفن التجارية وأطقم الطائرات المدنية التابعة لأطراف النزاع، الذين لا ينتفعون بمعاملة أفضل بمقتضى أي أحكام أخرى من القانون الدولي.
ولقد خفف البرتوكول الملحق الأول لاتفاقيات جنيف الأربعة (المادة 140 فقرة 3) الشروط الواجب توافرها في الجماعات المسلحة المقاتلة بما في ذلك أعضاء المقاومة المسلحة، ليفرض عليهم فقط أن يميّزوا أنفسهم عن المدنيين، وإن لم يكن ذلك في الاستطاعة فلابد من حمل السلاح علنا.
ب – النزاع المسلح غير الدولي
تعتبر المادة 03 المشتركة بين اتفاقيات جنيف الأربعة من أهم المواد على الإطلاق في حقل معالجة النزاعات المسلحة غير الدولية، حتى أن البعض يطلق عليها تسمية “المعاهدة المصغرة“، وقد حاولت بيان هذا النوع من النزاعات التي ليس لها طابع دولي، من خلال وضع مجموعة من المعايير التي يمكن أن يتحدد من خلالها مفهوم النزاع المسلح من بينها:
– أن يكون التعرف إلى أطراف النزاع ممكنا، أي يجب أن تتمتع هذه الأطراف بحد أدنى من التنظيم والهيكلة وبتسلسل في القيادة.
– أن يصل النزاع المسلح إلى مستوى أدنى من الحدة، إذ يفترض في العادة أن تلجأ الأطراف إلى قواتها المسلحة أو تستخدم الوسائل العسكرية، حيث تشكل المدة التي تستمر خلالها أعمال العنف عنصرا إضافيا قد يؤخذ في الحسبان.
ولقد أكدت محكمة العدل الدولية سنة 1986، على أن أحكام المادة 03 المشتركة ترجمة حقيقية للقانون الدولي العرفي، وتمثل المعيار الأدنى الذي ينبغي للأطراف المشاركة أن لا تحيد عنه في أي نوع من النزاع.
وبالرجوع إلى المادة الأولى من البروتوكول الإضافي الثاني الملحق باتفاقيات جنيف نجد فيها ما يلي: “يسري هذا الملحق “البروتوكول” الذي يطور ويكمل المادة الثالثة المشتركة بين اتفاقيات جنيف …على جميع المنازعات المسلحة … والتي تدور على إقليم أحد الأطراف السامية المتعاقدة بين قواته المسلحة وقوات مسلحة منشقة أو جماعات نظامية مسلحة أخرى وتمارس تحت قيادة مسؤولة على جزء من إقليمه من السيطرة ما يمكنها من القيام بعمليات عسكرية متواصلة ومنسقة، وتستطيع تنفيذ هذا الملحق “البروتوكول”.
وتجد الإشارة هنا إلى أن البروتوكول الإضافي الثاني جاء كي ينطبق على حالات محددة من النزاعات المسلحة غير الدولية، وذهب في تعزيز الحماية إلى أبعد من المعايير الواردة في المادة 03 المشتركة، غير أنه لا يسري هذا البروتوكول إلا إذا صادقت الدولة عليه، وهو يطبق فقط في النزاعات المسلحة بين القوات المسلحة لدولة ما وقوات منشقة أو جماعات نظامية مسلحة أخرى، يشترط فيها أن تمارس أعمالها تحت قيادة مسؤولة على جزء من إقليم الدولة ولها من السيطرة ما يمكنها من القيام بعمليات عسكرية متواصلة ومنسقة، وتستطيع تنفيذ هذا الملحق.
اما فيما يخص أطراف النزاع المسلح غير الدولي فهي حكومات الدول التي يعتبر إقليمها مصرحا للنزاع المسلح، والجماعات المسلحة التي تتميز بتنظيم عال ولها القدرة على السيطرة الفعلية على جزء من إقليم هذه الدولة، وبلغت قوتها حدا معتبرا، لها القدرة على تطبيق البروتوكول واحترامه.
2- تصنيف القانون الدولي الإنساني للنزاعات المسلحة
لتصنيف النزاعات المسلحة أهمية بالغة لاسيما فيما يخص تحديد حقوق والتزامات الأطراف المتنازعة، وكذا قواعد القانون الدولي الإنساني واجب التطبيق.
ويقسم القانون الدولي الإنساني النزاعات المسلحة إلى أربعة أصناف، حيث تتفاوت القواعد والصكوك المنطبقة على كل منها على النحو التالي:
– النزاع المسلح الدولي: وتطبق عليه اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949، والبروتوكول الإضافي الأول لسنة 1977، وقواعد لاهاي ومبادئ قانونية أخرى.
– النزاع المسلح الدولي الذي يعد بمثابة حرب للتحرير الوطني: ويحدده البروتوكول الإضافي الأول لسنة 1977 ويطبق عليه.
– النزاع المسلح غير الدولي: الذي يخضع لتنظيم المادة 03 المشتركة بين اتفاقيات جنيف الأربعة، وبعض المبادئ العرفية.
– النزاع المسلح غير الدولي: الذي ينظمه البروتوكول الإضافي الثاني لسنة 1977 ويعرفه تعريفا ضيقا.
غير أنه يوجد اتجاه كبير اليوم يرفض فكرة تصنيف النزاعات المسلحة، على اعتبار أنه تقسيم اصطناعي وغير مطلوب ويصعب تبريره، ذلك أنه يبطل الغرض الإنساني لقانون الحرب، وهذا الاتجاه ليس بالجديد، بل نجد أن اللجنة الدولية للصليب الأحمر قد قدمت في سنة 1948 تقريرا يوصي بأن تطبق اتفاقيات جنيف في جميع حالات النزاع المسلح، حتى النزاع المسلح غير الدولي وبخاصة في حالات الحروب الأهلية أو المنازعات الاستعمارية أو الحروب “الدينية”.
وفي عام 1971 أوصت هذه اللجنة في المشروع الذي قدمته للخبراء الحكوميين، باقتراح آخر يستهدف وجوب تطبيق مجمل قواعد القانون الدولي الإنساني على الحروب الأهلية عند تدخل قوات أجنبية.
وعلى الرغم من الأمل الذي صاحب المؤتمر الدبلوماسي عند صياغة البروتوكول الاختياري الثاني، حيث كان يتصور صدور وثيقة أكثر شمولا، إلا أن عدم وجود اتفاق سياسي في الأيام الأخيرة لانعقاد المؤتمر سنة 1977 حال دون الوصول إلى مثل هذه الوثيقة.
ومن بين أبرز أسباب انتقاد تصنيف النزاعات المسلحة، هو تحيز تاريخي في القانون الدولي الإنساني تجاه قواعد الحروب التي تنشب بين الدول، حيث أنه اتفاقيات جنيف ببروتوكولاتها تضم حوالي 600 مادة، لا نجد منها سوى المادة الثالثة المشتركة و 28 مادة من البرتوكول الإضافي الثاني فقط التي تطبق على النزاعات المسلحة غير الدولية، يضاف إلى ذلك أن قانون لاهاي المتعلق بوسائل وأساليب القتال وإدارة الجيوش في ميدان المعركة لا ينطبق إلا على النزاعات المسلحة الدولية.
أبعد من ذلك فإنه لا يوجد في المادة الثالثة المشتركة والمواد الـ 28 المشار إليها أي شرط يمنح المقاتلين في الجماعات المسلحة صفة “أسرى الحرب” في المنازعات المسلحة غير الدولية.
كما أجمعت أغلبية الدراسات القانونية المعاصرة بأن هناك تقارب بين هذين الصنفين من المنازعات المسلحة، ذلك أن القانون الدولي العرفي قد تطور إلى درجة أن أصبحت الفجوة بين الصنفين أقل بروزا، وبسبب هذا التقارب فقد تعالت النداءات في السنوات الأخيرة مطالبة بإزالة التمييز القانوني بين النزاعات المسلحة الدولية وغير الدولية، وما زاد من دعم هذه المطالبات هو الارتباك الدولي بشأن القانون الواجب التطبيق على ما يسمى بالنزاعات عبر الوطنية التي تضم كيانات من غير الدول، فيبدو أن هناك منطقة وسطى بين النزاعات المسلحة الدولية وغير الدولية، وهو ما يعرف بالنزاع المسلح عبر الوطني، ففيه من الحالات ما لا تخضع لأي من نوعي النزاعات المسلحة، ذلك أن هذه الكيانات أو الجماعات المسلحة تعمل خارج حدود دولة واحدة.
وقد عبر أنطونيو كاسيس رئيس المحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا السابقة أن تقاربا قد حدث بين كياني القانون الدولي، مما أسفر عن أن المنازعات الداخلية أصبحت تخضع الآن وبشكل كبير لحكم القواعد والمبادئ التي لم تكن تطبق تقليديا إلا على المنازعات الدولية، كما نجد أنه لا محل الآن لمثل هذا التصنيف الذي يفقد القانون الدولي الإنساني أهم خصائصه، ألا وهي الطابع الإنساني، ويبعده عن أهم أهدافه، ألا وهو حماية الأفراد والأعيان أثناء النزاعات المسلحة، حيث يجب أن ينظر دائما إلى الإنسان على أنه محور الحماية في هذه النزاعات، خاصة وأن الفرد أصبح يحتل مكانة متميزة في الكثير من أركان القانون الدولي، وخصوصا مجال حقوق الإنسان، الذي يتقاطع مع القانون الدولي الإنساني في حماية الحد الأدنى من حقوق الإنسان أثناء النزاعات المسلحة. وكذا المكانة التي أصبح يحتلها في نظام المحكمة الجنائية الدولية، وأمام العديد من المنظمات الدولية وفي بنود الاتفاقيات الدولية.
ومع ذلك فإن هناك معارضة قوية لفكرة أن القواعد المنطبقة في المنازعات المسلحة بصنفيها يمكن أن تنسجم في قانون واحد.
ثانيا: نطاق تطبيق قواعد القانون الدولي الإنساني
من البديهي أن الدول ملزمة صراحة بتطبيق المعاهدات الدولية التي تكون طرفا فيها، بما فيها معاهدات القانون الدولي الإنساني.
ولقد وضعت أول اتفاقيات القانون الدولي الإنساني؛ اتفاقية لاهاي الأولى المتعلقة بقوانين وأعراف الحرب البرية لسنة 1899، ضوابط للحروب الدولية المعلنة والمتمثلة في ضرورة أن تبدأ بإخطار سابق لا لبس فيه للدولة الموجه لها الإعلان أو الإنذار النهائي، كما يجب إبلاغ قيام الحرب دون تأخير إلى الدول المحايدة، وبهذا الشكل فقط تطبق القواعد المتعلقة بالعمليات الحربية المنصوص عليها في الاتفاقية.
غير أن اتفاقيات جنيف الأربعة لعام 1949، وسعت من مجال تطبيق قواعد الحرب لتشمل النزاع المسلح إلى جانب الحرب المعلنة، كما أضافت المادة الثانية من اتفاقيات جنيف سريان هذه الاتفاقيات حالات الحروب المعلنة والاشتباكات المسلحة أيا كانت حتى وإن كان أحد الأطراف فيها لا يعترف بقيام حالة الحرب.
وهذا من أجل قطع الطريق أمام كل طرف يتمسك بهذه الذريعة من أجل عدم بدأ سريان هذه الاتفاقيات، وبالتالي فتح المجال لسريان هذه الاتفاقيات عند حصول أي من الأعمال العدائية.
وبهذا لم يصبح القانون الدولي الإنساني مقتصرا على الحروب المعلنة وبمعناها التقليدي الذي كان واردا في اتفاقيات لاهاي؛ بل أصبح يشمل كل أنواع النزاعات المسلحة الدولية، سواء كانت الأطراف المتحاربة أطرافا في الاتفاقيات أم لا.
ثم توسع مفهوم النزاع المسلح مرة أخرى ليشمل الاحتلال سواء كان كليا أو جزئيا سواء كانت هناك مقاومة أو لم تكن، وفقا للفقرة الثانية من المادة الثانية من اتفاقيات جنيف الأربعة دائما.
كما وسعت المادة 03 المشتركة بين اتفاقيات جنيف الأربعة نطاقها المادي لتقرر بأن مسؤولية تطبيق أحكامها لا تقع فقط على الحكومات فحسب، بل تمتد لتشمل كل الفاعلين غير الحكوميين المشتركين في النزاع.
ثم جاء البروتوكوليين المكملين لسنة 1977 ليوسعا مرة أخرى من مفهوم النزاع ليشمل هذه المرة كافة النزاعات المسلحة سواء كانت دولية أو غير دولية، فحدد البروتوكول الإضافي الأول أن النزاعات المسلحة الدولية تشمل النزاعات المسلحة التي تناضل بها الشعوب ضد التسلط الاستعماري والاحتلال الأجنبي وضد الأنظمة العنصرية، وذلك عند ممارستها لحقها في تقرير المصير، مثلما ينص على ذلك ميثاق الأمم المتحدة، وكذا الإعلان المتعلق بمبادئ القانون الدولي الخاصة بالعلاقات الودية والتعاون بين الدول طبقا لميثاق الأمم المتحدة.
وبالرجوع إلى المادة الأولى فقرة ثانية من البروتوكول الإضافي الثاني الملحق باتفاقيات جنيف نجد أن هذا البروتوكول “لا يسري على حالات الاضطرابات والتوتر الداخلية مثل الشغب وأعمال العنف العرضية وغيرها من الأعمال ذات الطبيعة المماثلة التي لا تعد منازعات مسلحة”.
والملاحظ أن هذه الحالات قد عددت على سبيل المثال لا الحصر، فهي كل ما يعتبر من قبيل أعمال العنف المعزولة والمتفرقة، التي تخضع في الأصل للقانون الوطني وفقا لظروف كل بلد وتشريعاته، لأنها لم تحقق الحد الأدنى المطلوب من الحدة أو التنظيم. مع ملاحظة أنه يصعب في الكثير من الأحيان الفصل بين هذه الحالات التي لا يشملها القانون الدولي الإنساني والنزاعات المسلحة غير الدولية المشمولة به، ومع ذلك فهناك مطالبات بتطبيق حد أدنى من قواعد القانون الدولي الإنساني في موجات العنف الداخلي.
ولقد استمر عجز تطبيق هذا القانون في حال نشوب النزاعات المسلحة غير الدولية لفترات طويلة، ما دفع بالمجتمع الدولي بالاعتراف لأول مرة بقائمة من الجرائم التي يمكن أن ترتكب في هذا النوع من النزاعات وذلك باعتماد اتفاقية متعددة الأطراف هي النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية الذي تم تبنيه عام 1998 (نظام روما)، كما سنرى.
ثالثا: آليات تطبيق قواعد القانون الدولي الإنساني
يعتبر القانون الدولي الإنساني قائمًا بذاته من حيث تحصينه بآلية تنفيذ متكاملة تشمل الوقائي والزجري على حد السواء، ولو طبقت قواعده بحزم وحسن لما وقعت انتهاكات صارخة للقواعد الإنسانية في النزاعات المسلحة.
رغم ذلك تتسع الهوة بين أحكام القانون الإنساني وواقع النزاعات المعاصرة وتطبيقه والذي يواجه صعوبات في تنفيذ أحكامه لأسباب عديدة، قد تحكمها مصالح أطراف النزاع أو التقصير دوليًا في متابعة ومعاقبة مرتكبي الجرائم.
وهذا ما جعل واضعي اتفاقيات جنيف يفكرون باتجاه دعم تنفيذ القواعد الإنسانية، حيثتقعالمسؤوليةالأولي لتطبيقهذهالاتفاقياتعلىعاتقالدولالأطراف في مواثيق القانون الدولي الإنساني عمومًا وعلىالأطراف المتنازعة خصوصًا، بالإضافة إلى دور الأطراف المتعاقدة في تنفيذ القانون الدولي الإنسان.
وهناك قنوات أخرى من واجبها المساهمة في احترام هذا القانون والمتمثلة في نظام الدول الحامية واللجنة الدولية للصليب الأحمر واللجنة الدولية لتقصى الحقائق والمحاكم الدولية، نتوسع فيها كالآتي:
- 1. الأطراف المتعاقدة: آليات وقائية
تلتزم جميع الدول المتعاقدة في اتفاقيات القانون الدولي الإنساني بالعمل على احترامها، ويبدأ الإعداد لذلك زمن السلم من خلال آليات وقائية متمثلة في نشر قواعده على نطاق أوسع والتعريف به، وإعداد ناشطين مؤهلين وتعيين مستشارين قانونيين في القوات المسلحة، نتوسع فيها كالآتي:
أ- الالتزام بنشر قواعد القانون الدولي الإنساني والتعريف به:
إن الجهل بأحكام قواعد القانون الدولي الإنساني يؤدي إلى انتهاكات جسيمة تترتب عليها معاناة إنسانية وخسائر في الأرواح البشرية والممتلكات يمكن تفاديها أو الحد منها إذا ما كان هناك علم مسبق بأحكام هذا القانون، كما لن يتسنى للضحايا أن يتمسكوا بحقوقهم التي نص عليها هذا القانون وأن يطالبوا بها ما لم يكن لديهم العلم والدراية الكاملة بأحكامه.
ولضمان حصولهم على هذه الحقوق، لابد أن يلم أيضاً المسؤولون عن العمليات العسكرية بأحكامه، وتأكيداً لذلك نصت اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949 في المواد المشتركة (أرقام 47، 48، 127، 144) على أن تتعهد الأطراف السامية المتعاقدة بأن تنشر نص هذه الاتفاقيات على أوسع نطاق ممكن في بلدانها، في وقت السلم كما في وقت الحرب، وتتعهد بصفة خاصة بإدراج دراستها ضمن برامج التعليم العسكري، والمدني إذا أمكن، بحيث تصبح المبادئ التي تتضمنها معروفة لجميع السكان، وعلى الأخص للقوات المسلحة، وأفراد الخدمات الطبية والدينية.
كما نصت المادة 83 فقرة أولى من البروتوكول الإضافي الأول على نفس الالتزام: “تتعهد الأطراف السامية المتعاقدة بالقيام في زمن السلم وكذا أثناء النزاع المسلح بنشر نصوص الاتفاقيات ونص هذا الملحق “البروتوكول” على أوسع نطاق ممكن في بلادها، وبإدراج دراستها بصفة خاصة ضمن التعليم العسكري، وتشجيع السكان المدنيين على دراستها حتى تصبح هذه المواثيق معروفة للقوات المسلحة وللسكان المدنيين”.
وقد أكدت الجمعية العامة للأمم المتحدة في أكثر من مناسبة على ضرورة نهوض الدول بالتزاماتها بنشر القانون الدولي الإنساني في زمن النزاعات المسلحة، كما أبرزت المؤتمرات الدولية للصليب الأحمر والهلال الأحمر مراراً أهمية نشر القانون الدولي الإنساني، وطالبت الدول بتنفيذ التزاماتها في هذا المجال.
وبذلك يتضح لنا بجلاء أن نشر هذا القانون والتعريف به يعد من أهم الآليات التي نصت عليها الاتفاقيات الدولية وأكدتها مجموعة من القرارات الدولية بهدف الوقاية من وقوع الانتهاكات الجسيمة وللوصول إلى تحقيق التطبيق الأمثل لأحكام القانون الدولي الإنساني على الأصعدة الوطنية.
ب- إعداد ناشطين مؤهلين بهدف تسهيل تطبيق قواعد القانون الدولي الإنساني:
نصت المادة السادسة فقرة أولى من البروتوكول الإضافي الأول على دعوة الأطراف السامية المتعاقدة إلى أن تسعى في زمن السلم أيضاً لإعداد عاملين مؤهلين بغية تسهيل تطبيق الاتفاقيات وهذا الملحق (أي البروتوكول الأول).
وتنفيذاً لذلك يجب أن ترسل الأطراف المتعاقدة التي قامت بإعداد عاملين مؤهلين قوائم بأسمائهم إلى اللجنة الدولية للصليب الأحمر التي تضعها تحت تصرف الأطراف المتعاقدة الأخرى، من أجل الاستعانة بخدماتهم على نطاق واسع ليس فقط من جانب سلطات دولهم بل ومن جانب أطراف متعاقدة أخرى.
ج- تعيين مستشارين قانونيين في القوات المسلحة:
تنص المادة (82) من البروتوكول الإضافي الأول على أن “تعمل الأطراف السامية المتعاقدة دوماً، ويعمل أطراف النزاع أثناء النزاع المسلح على تأمين توفر المستشارين القانونيين، عند الاقتضاء، لتقديم المشورة للقادة العسكريين على المستوى المناسب، بشأن تطبيق الاتفاقيات وهذا البروتوكول، وبشأن التعليمات المناسبة التي تعطى للقوات المسلحة فيما يتعلق بهذا الموضوع.
وتهدف هذه الآلية إلى توفير رأي استشاري للقادة العسكريين حول مدى مطابقة أوامر القتال التي يصدرونها والعمليات العسكرية التي يقومون بها مع أحكام القانون الدولي الإنساني، الأمر الذي قد يساهم على نحو كبير في منع صدور أوامر لعمليات عسكرية تخالف القانون، كما تهدف إلى تزويد أفراد القوات المسلحة بالمعلومات القانونية اللازمة التي قد تمنعهم من ارتكاب انتهاكات لهذا القانون، من خلال تكليف المستشار القانوني بإعداد البرامج التدريبية والكتيبات العسكرية التي تحتوي على تلك المعلومات.
وتختلف طريقة الدول في تطبيق هذه الآلية بحسب الظروف الاقتصادية لكل منها، فالدول التي لا تتوافر لديها الإمكانيات اللازمة لتعيين مستشارين قانونيين متخصصين، تلجأ إلى تكوين القادة العسكريين لديها تكويناً قانونياً متخصصاً في مجال القانون الدولي الإنساني، بحيث يتيح لهم هذا التكوين تقويم الموقف القانوني عند إصدار أوامر القتال أو العمليات العسكرية، في حين تقوم الدول التي تتوفر لديها الإمكانيات بتعيين مستشارين قانونيين متخصصين للقوات المسلحة تتبعهم للقادة لضمان عدم الإخلال بوجوب الحفاظ على الأسرار والمعلومات العسكرية.
2- نظام الدولة الحامية:
طبًقا للقانون الدولي الإنساني فإن الدولةالحاميةهيالطرفالمتعاقدالمحايد الذي يتفق طرفا النزاع على تعيينه لرعاية مصالح أحدهما لدى الآخر، وإذا لم يتوصل الطرفان إلى ذلك يمكن لهما اللجوء إلى “بديل” يتمثل في “هيئةإنسانيةمحايدة” مثل اللجنة الدولية للصليب الأحمر، كما جاء في اتفاقيات جنيف، وذلك دون المساس بالمهام المنوطة بهذه اللجنة بمقتضى وضعها الخاص سواء وجدت الدول الحامية أو لم توجد.
ونظرًا إلى استنكاف الدول المحايدة عن تمثيل طرف متحارب لدى خصمه وفًقا لمقتضيات القواعد الإنسانية، وامتناع الأطراف المتحاربة عن الاستنجاد ببديل، وجدت اللجنة الدولية لصليب الأحمر نفسها عمليًا تقوم بأعباء الدولة الحامية.
3- اللجنة الدولية للصليب الأحمر:
نصت اتفاقيات جنيف على دور اللجنة الدولية صراحة باعتبار علاقتها بتطوير القانون الدولي الإنساني منذ ظهوره ومتابعة تطبيقه قديمة، فاللجنة الدولية للصليب الأحمر هيلجنةغيرحكوميةمعنيةبتطبيقواحترامونشرالوعيبمبادئ القانونالدوليالإنساني.
نشأت هذه اللجنة عام 1863ويتسع عملها الآن على مستوى العالم أجمع، ويتمثل الوضع القانوني للجنة الدولية للصليب الأحمر في كونها منظمةغيرحكوميةمستقلةمحايدةوغيرمتحيزة أسندت إليها الدول مهمة حماية ومساعدة ضحايا النزاع المسلح من خلال اتفاقيات جنيف الأربعة لعام 1949 وبروتوكوليها الإضافيين لعام 1977.
وتلعب اللجنة الدولية للصليب الأحمر ولجانها الوطنية دورًا بالغ الأهمية في العمل على احترام القانون الدولي الإنساني ووقف انتهاكاته والتوعية بأحكامه بين مختلف الفئات المعنية. وعليه فإن علاقة هذه اللجنة منذ وجودها وثيقة مع القانون الدولي الإنساني .
وينص النظام الأساسي لحركة الصليب والهلال الأحمر الدولية على أن المهمة الأساسية التي تتبناها هي العمل على “تطبيق القانون الدولي الإنساني بأمانة”، ومساعدة الضحايا المدنيين والعسكريين في النزاعات المسلحة والاضطرابات الداخلية علىأساسمنالحيادوعدمالتحيز.
وتعترف اتفاقيات جنيف الأربعة بالمهام الملقاة على حركة الصليب الأحمر من خلال المواد 3–9-10 المشتركة وبموجب المادة (81) من البروتوكول الإضافي الأول، والمادة(18) من البروتوكول الإضافي الثاني.
وتقوماللجنةالدوليةللصليبالأحمربمهامالمساعدةوالحمايةللأشخاصالمشمولين بحمايةالقانون الدوليالإنسانيعنطريقالاتصالالدائمبأطرافالنزاع، والعمل علىلفت نظرالسلطاتالمختصةعندحدوثأيةانتهاكاتكماتقومبدوروقائيلتفادى وقوع الانتهاكات.
وفي سبيل تحقيق مهامها تقوم اللجنة بزيارة أسرى الحرب والمحتجزين المدنيين والبحث عن المفقودين ونقل الرسائل وتوفير الغذاء والمياه والمساعدة الطبية للمدنيين المحرومين من هذه الضروريات الأساسية وغير ذلك من وسائل المراقبة والمساعدة والإغاثة.
ويسمحالنظامالأساسيللجنةبتلقيالشكاوىحولانتهاكاتالقانونالدوليالإنساني وتقوم اللجنة بالمساعي اللازمة لدى السلطات المعنية بشكلسري. ويمكن لهذه المساعي أن تأخذ طابع العلنية بشروط معينة أهمها تكرار الانتهاك وعدم استجابة الدولة التي تمارس انتهاكًا بصورة متعمدة لمبادرتها.
وفي وقت السلم تقوم اللجنة الدولية للصليب الأحمر بخدمات تهدف إلى نشر الوعي بأحكام القانون الدولي الإنساني من خلال المنشورات المتخصصة والندوات العلمية والبرامج التعليمية والتدريبية والإعلامية وبرامج التعاون مع الجمعيات الوطنية للهلال الأحمر والصليب الأحمر وكافة المؤسسات والجهات المعنية.
4- اللجنة الدولية لتقصي الحقائق:
تعتبر اللجنة الدولية لتقصي الحقائق الأداة التي يطبق من خلالها القانون الدولي الإنساني والتي أوجدها المؤتمرالدبلوماسيفيالعام1974 ، والتي أقرتبموجبالبرتوكول الإضافي الأول الذي أضاف هيئة جديدة إلى آلية تنفيذ القانون الدولي الإنساني وهي اللجنة الدولية لتقصى الحقائق، وإذا كان إطارعملهامحددافيمايتعلقبالنزاعاتالدولية، إلا أن أعضاء هذه اللجنة أقرواإمكانيةقيامهابأعمال التحقيقفيالنزاعاتالداخليةإذاوافق أطرافالنزاععلىذلك.
وقد دخلعمل اللجنةرسميًاإلىحيزالتنفيذمنذعام 1992، أي عام واحد بعد موافقة عشرين دولة على اختصاصها.
وتنص المادة (90) من البروتوكول الأول على كيفية تشكيل هذه اللجنة، حيث يناط بهذه اللجنة القيام بمهام هي:
أ. التحقيق في أي واقعة يفترض أنها تشكل انتهاكا جسيمًا للقانون الدولي الإنساني؛
ب. تسيير العودة للتقيد بأحكام القانون الدولي الإنساني من خلال مساعيها الحميدة، ويكون للجنة هذا الاختصاص إذا أعلنت الدول الأطراف قبولها مهام اللجنة.
ت. يمكن للجنة في حالات معينة فتح تحقيق بناء على طلب أحد أطراف النزاع شريطة قبول الدولة الأخرى المعنية. وتسلم اللجنة تقاريرها السرية إلى الدولة التي أوكلت إليها هذه المهمة.
وكونأنعمليةالتحقيقبكاملهاتخضعلموافقةالأطرافالمتحاربة،فهذايشكلأحدأهمالأسبابفشل هذه اللجنة، إضافة إلى أن واقع النزاع المسلح لا يلاءم إمكانية إجراء تحقيق بطلب من الخصم، ولهذالميكنلهذهالوسيلةمنوسائلفضالنزاعاتالأثرالملموسفيالحدمنالنزاعاتالمسلحة وما ينتج عنها من انتهاكات .
5- الآليات القضائية: المحاكم الدولية
تضمنت مواثيق القانون الدولي الإنساني وسائل وإجراءات تتطلبها المسئولية المترتبة على انتهاكات القانون الإنساني، حيث تطبق القاعدة العامة للمسئولية المتبعة في القانون الدولي العام على انتهاك القانون الدولي الإنساني أي أن الطرف الذي يخل أحكامه يتحمل عاقبة ذلك، وبالتالي جاء النص على جبر الضرر والتعويض.
وأقرت اتفاقية لاهاي الرابعة لعام 1907 وكذلك اتفاقيات جنيف وبروتوكولها الأول مبدأ المسئولية فنصت على أنه “لا يعفي أي طرف متعاقد نفسه أو طرفا متعاقدا آخر من المسئوليات التي تقع عليه أو على طرف متعاقد آخر بسبب الانتهاكات الجسيمة”. واصطلاحالانتهاكاتالجسيمةهومرادفلجرائمالحرب. وقد جاء بيانها على سبيل الحصر في الاتفاقيات الأربع والبروتوكول الأول.
وطبقا لنص المادة (146) من اتفاقية جنيف الرابعة والمادة (87) من البروتوكول الإضافي الأول، تتعهد الأطرافالمتعاقدةباتخاذالإجراءاتالقانونيةوالعمليةلملاحقةمرتكبيجرائمالحربأياكانتجنسيتهمعلى أساسمبدأالمحاكمةوالتسليم، وما تقوم به مختلف السلطات الوطنية في هذا المجال لا يمنع من الملاحقة القضائية الدولية.
وقد تمثلت بعض تطبيقاتها في محاكمتي نورمبرغ وطوكيو إثر الحرب العالمية الثانية، ومحكمتي يوغوسلافيا السابقة ورواندا وهما محكمتان دوليتان مؤقتان وتقتصر صلاحية كل منهما على إطار محدد خاص بهما وشكلتا بقرار من مجلس الأمن لملاحقة جرائم الحرب التي ارتكبت على أراضي البلدين.
ولا شك أن النزاعات المسلحة التي أفضت إلى تشكيلهما عجلت كذلك من إقرار النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية والتي كانت موضوع مشاريع وجدل طويل منذ أواخر القرن الماضي.
ويقضي النظام الأساسي لمحكمة روما الصادر عام 1998 لمحاكمة مجرمي الحرب والجرائم ضد الإنسانية ويدخل فيها بطبيعة الحال انتهاكات القانون الدولي الإنساني، كون أن المحكمة الجنائية الدولية قد أنشأت بموجب هذه المعاهدة.
وللمحكمة الجنائية الدولية وفق المادة (05) من نظامها الأساسي صلاحيات كاملة لمحاكمة مرتكبي جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية أيًا كانوا، ومن أية جنسية وبأي موقع ومسئولية، ما دامت الأفعال التي ارتكبوها لاحقة على نفاذ الاتفاقية، كما اعتبرت الأفعال المرتكبة لا تتقادم وتلزم تسليم مرتكبيها.