
المنعطف الأبستمولوجيي وتأويل الواقع
The linguistic turn and the interpretation of reality
د. حراث سومية – د. عمران جودي/جامعة باجي مختار عنابة، الجزائر
Dr.Harrat Soumaya – Dr.Amrane Djoudi/ University of Badji Mokhtar Annaba, Algeria
مقال نشر في مجلة جيل العلوم الانسانية والاجتماعية العدد 66 الصفحة 91.
ملخّص:
لعلّنا لا نتجاوز الحقيقة إذا قلنا أنّ التيّار الأساسي والجديد في اللّغة هو النّقد، والبحث في القوانين المحايثة للظّواهر والابتعاد عن أسباب حقيقيّة لا تتبدّى إلى الواقع بطريقة مباشرة، فإذا كان العلم مجموعة من العبارات التي تترجم على ضوء أنساق لفضيّة، ومشكلات الميتافيزيقا والفلسفة التقليديّة خلاصة فهم لمنطق اللّغة، فإنّ ضرورة معالجتها على ضوء التّحليل المنطقي والتحقّق التّجريبي أمر وارد، وكان تحليل لغة العبارات أو القضايا التي صبغت فيها تلك المشكلات قد بيّن أنّ معظمها ليس كاذبا وإنّما كان خاليا من المعنى، من هنا كان التّركيز على المعرفة العلميّة من جانبيها التّركيبي بوصفها مجموعة من الدّلالات ومجموعة من الاختبارات .
الكلمات المفتاحيّة: العقلانيّة، المنطق، الأبستمولوجيا، الاختبارات التّجريبيّة، التّكذيب، التّعزيز.
Abstract:
Perhaps we will not go beyond the truth if we affirm that the fundamental and new tendency of language is criticism, the search for laws immanent in the face of the phenomenon and the removal of real causes that do not manifest themselves directly in reality. The analysis of the language of the sentences or problems in which these problems were formulated showed that most of them were not false, but were meaningless. From there, it becomes necessary to focus on its structural aspects as a set of semantics and tests.
Key words: Rationalism, Logic, Epistemology, Empirical tests, Falsification, Corroboration.
تمهيد:
لم يعد الموضوع العلمي معطى في الواقع بقدر ما أصبح بنيانا عقليّا لا يمتّ بأيّ صلة إلى الواقع الحسّي، إنّه بنيان من العلاقات التي تربط الظّواهر فيما بينها، بحيث تنطلق من النّظرية إلى التّطبيق؛ ففي الفيزياء المعاصرة تظهر القطيعة الإبستمولوجيّة بين المعرفتين العلميّة والعامّة على مستوى الموضوع بوضوح، بحيث أنّ موضوع المعرفة العامّة هو المعطى أو ما يمكن ملاحظته بالتأمّل العياني المباشر، وموضوع المعرفة العلميّة هو كلّ ما يتمّ بناؤه عقلانيّا.
التفوّق الحديث الذي سجّله علم الفيزياء الريّاضي يوحي باختلاف واضح بين هذه العقلانيّة والعقلانيّة التقليديّة، لأنّها ذات طبيعة استكشافيّة/ مستقبليّة تحاول استثمار الواقع في شتى جوانبه وكذا إحالته إلى برنامج تنفيذي، وكي يتسنّى لنا معرفة هذه العقلانيّة الجديدة ومبادئ العقل العلمي الجديد – على الأقلّ كما يتصورها باشلار- لا بدّ من وضعها في مقابل العقل العلمي القديم
يعدّ مثل هذا التّسويغ المنهجي مرحلة انتقاليّة من ميدان فلسفة العلم الطّبيعي وتاريخه إلى ميدان العلوم الإنسانيّة والاجتماعية ، لإزالة الفوارق التي يمكن أن توجد في الفلسفة العلميّة بالتّأكيد على الطّابع الإنساني للظّاهرة العلميّة وهي خاصية من شأنها أن تضمن التّنافس النّزيه بين العلماء من حيث التّأييد والمعارضة. بقي شيء واحد وهو أنّ الاختبار العقلاني هو الاختيار التّقدمي، فلمّا كانت فلسفة العلم تزودنا بتفسير عقلاني لنموّ المعرفة الموضوعيّة فإنها تزوّدنا بنظريّات منهجيّة أو ميتودولوجيّة معياريّة تشكّل إطارا نظريّا يستطيع المؤرّخ من خلاله إعادة بناء التّاريخ الدّاخلي للعلم الذي هو تاريخ العقلانيّة، فكلّ فلسفة للعلم هي ميتودولوجيا باعتبارها محاولة لإعادة بناء العلم عقلانيّا في خطوط معياريّة ترشد مؤرّخ العلم وتوجّه خطاه، ونقصد الصّياغات الرئيسيّة لعقلانيّة التقدّم العلمي بوصفها برامج بحث يتوقّف عندها العالم وينتقي حيثياتها، وبالتّالي ضرورة التّفريق بين ما هو علم وما هو فلسفة للعلم؛ لأنّه في حالة العلم نصف الظّواهر وصفا مباشرا، وفي حالة فلسفة العلم نبحث في قضايا العلم من حيث هي تعبيرات لغويّة من شأنها تحليل القضايا العلميّة تحليلا يبرز طريقة بنائها ليتّضح معناها، بالفلسفة نفسّر القضايا وبالعلم نتحقّق منها، الفلسفة تهتمّ بالمعنى والعلم غرضه الوقوف على قيم الصّدق… ومنه فإنّ البحث عن المعنى هو ألفباء كلّ معرفة علميّة.
لقد أدرك فلاسفة التّحليل والتّجريبيّون المنطقيّون أنّ العلم يقوم على الطّريقة التجريبيّة والرياضيّة وهو ما يجب على الفلسفة أن تستخدمه في نظريّة المعرفة والمنطق إذا ما أرادت أن يكون لها مكان ضمن المنظومات المعرفيّة الأخرى، ويرجع الفضل إلى الوضعيّة المنطقيّة في رفض إحدى دلالات الميتافيزيقا وهو القول بتوافر إمكانيّة إدراك العقل الإنساني (المحدود) للوجود الغيبي (المطلق)، وهو التّصور الذي كان متوارثا في الفلسفة التّأمليّة عكس العلم الذي يؤسّس منهجه على قضايا التّجربة والعلوم الصّوريّة.
- نحو أبستمولوجيا الحقيقة:
تظهر إشكالية العقلانيّة واللّاعقلانيّة في مسألة الحدود والقيمة في الفيزياء الكوانطيّة، التي طوّرت إلى جانب النّسبيّة عقلانيّة عميقة وسّعت من دور المنطق من حيث أنّه لا معنى للبحث عن صدق مطلق لمخطّط التّصوّرات أين تصبح فيها المفارقات مواضيعا للعقلانية[1]، وهو نوع من التّراجع إلى مالا نهاية يكون فيه الحسّ المشترك حلّا إيجابيّا، وذلك لغياب منطلق إجباري للمعرفة ومن ثمّ للحقيقة، حيث نستطيع تأكيد معارفنا دون أن ندّعي اليقين، لذا يستبدل بوبر فكرة اليقين بفكرة التّعزيز بحيث أنّ تعزيز الشّيء عبارة عن وضعه في إمكانية القابلية للخطأ، الأمر الذي يلغي اكتساب اليقين كلفظ نهائيّ في المعرفة، وفي هذا يقول:” نظريّاتنا قابلة للخطأ وستبقى كذلك، حتّى بعد إثباتها بتفوّق”[2]، ومنه فإنّ الميزة النّهائيّة للمعرفة هي عدم إمكانيّة الوقوف على نقطة انطلاق قابلة للتّعيين من شأنها أن تقيم التنوّع المعرفي وتقدّم قاعدة إبستمولوجيّة للتّسامح، إذ لابدّ من الحياد إزاء كلّ تصوّر للمعنى، والحياد إزاء المواضيع الذّاتية للقناعات أو موضوعيّة اليقين، يتعلّق الأمر إذن بـ” حقيقة موضوعيّة” أثارت اهتمام بوبر في ما يخصّ قضيّة التّعريف وبالضّبط التّعريف المنطقي للحقيقة، فحسب تارسكي هو الشّرخ المعروف بين التّعريف المنطقي للحقيقة والموقف الإبستمولوجي إزاء هذه الحقيقة؛ كما أنّنا لم نر عند فريجه هذا الموقف من التموضع في المنطق الريّاضي لأنّه لا يهتمّ بإبستمولوجيا تطوّر التّفكير، وفي تعريف الحقيقة أيضا يقول داميت:” الشّرخ بين ما يجعل من الحكم صادقا والقاعدة التي من خلالها يمكننا معرفة ما إذا كانت أحكامنا صادقة”[3]، كما يعبّر فتجنشتاين عن موقفه من الحقيقة بالتّساؤل الآتي: هل أنا أختبر في هذه الحياة حقيقة القضيّة بمجرّد أن أعرف أنّ هناك يد ولتكن يدي بالأخصّ؟ هل نستطيع إتمام العبارة “أعرف أنّ هنا يدا” ونقول: “بالضّبط يدي وأنا بصدد رؤيتها”، فالكلمات مثل “أعتقد” “أعرف” يجب أن تعبّر عن حالات مختلفة، بنفس الدّرجة من القول أنّ كلمة “لودفيج” وكلمة “أنا” يجب أن تعبّر ضرورة عن شخصين مختلفين لأنّ المفهومين مختلفين.[4]
2.النظريّة بين المفهوم والتّطبيق:
أوضح بوهر من خلال تطبيق مبدأ ماوراء النظريّة في مطلع القرن العشرين، بعدا مفارقا عند محاولتنا تطبيق المنطق الكلاسكي على الميكانيكا الكوانتيّة، فمبدأ الهويّة المطبّق على الجسيمات Corpuscules يبدوا جليّا بالنّسبة لنقاط التّماس في مجال هندسيّ، مترجم إلى جزيءParticule وتفاعلInteraction يخضع بدوره إلى قوى مختلفة، في المقابل التناقضات الموجودة بين منطق التطوّر الموجي المتتابعLogique des processus continus ondulatoiresومنطق التطوّر الجزيئي المتقطّعLogique des processus discontinus des particules تمنع من الوقوف على تحديدات علميّة دقيقة، ممّا يطرح مشكلة استعمال اللّغة المناسبة في الميدان المناسب، إذ نجد غاليلي مثلا يجيب على إشكالية اللّغة الريّاضيّة بالقول أنّ منطق الطّبيعة والريّاضيّات بمثابة قانون ناظم، وتتعلّق الثّورة الغاليليّة باعتبارات تكاد لا تميّز بين لغة الريّاضيّات ولغة الطّبيعة ” ما يحدث في عالم الحسّ يسري وبنفس الطّريقة على عالم المجرّدات” كما أنّ النّظريّة الفيزيائيّة ليس لها معنى إلّا من خلال ترجمة العناصر الأساسيّة المؤسّسة لها، وليس هناك من طريقة أخرى لترجمة معطياتها إلّا من خلال ما وراء النّظريّةmétathéorie[5]باعتبارها مجموعة من المفاهيم، ونظام من الحساب والمبادئ المنطقيّة والرياضيّة والمعرفيّة التي تمّ التّعبير عنها لغويّا؛ وتبقى المشاكل المطروحة في تحليل المضامين، وتحديد بنية، ووظيفة النّظريّة في علاقتها مع الواقع مرهونة بما تمتلك النّظريّة العلميّة من خصائص مثل:
-الصّورنة الرياضيّة.
-العلاقات الإبستيميّة التي تجمع بين المفاهيم وعناصر الواقع، وهي حقيقة تظهر بوضوح تام عندما نفترض أنّ كلّ أدوات الملاحظة هي أدوات تسجيل وتجميع للواقع المحيط بنا.
-التّمثّلات الفيزيائيّة التي تحكمها علاقات إبستميّة على مستوى الذّات العارفة وموضوع المعرفة.
-التمثّلات الفيزيائيّة القابلة لأن تترجم إلى لغة وصور على مستوى الوعي، ويتعلّق الأمر بالطّريقة التي نستدلّ بها على الواقع من معطيات ذهنيّة.
-اللّغة المنطقيّة واللّغة العامّة.
- 3. منطق الكشف ومجاوزة التّبرير:
أوضح بوبر مرارا أنّه كتب “منطق الكشف العلمي” بهدف زعزعة الأفكار الوضعية، خاصة فتجنشتاين في القضية 6.53 و6.54 و5 وفي tractatus، وفي هذا يقول بوبر :”إنّه مؤلف فتجنشتاين عند ظهوره، الذي أفهمنا أنّ كلّ هذه الأطروحات لم تكن شيئا، لذا أصدرت هذه النّتائج 13 سنة فيما بعد على شكل سلسلة من الانتقادات لمعيار المعنى عند فتجنشتاين”[6]، فالقول بأنّ المنهجيّة الصّحيحة في الفلسفة لا تسمح بقول إلّا ما يسمح لنا بقوله، وقضايا العلم الطّبيعي أشياء ليست لها علاقة بالفلسفة، يجعل من هذا القول دفاعا مباشرا عن معيار المعنى المتعلّق بالدّلالة، حيث لا نستطيع الحديث إلّا إلى ما يشير إلى واقعة.
ما يمكن فهمه من هذا الموقف الذي أشار إليه بوبر مرارا أنّ العبارات المختلفة “القابليّة للتحقّق”، “امتلاك المعنى”، ” أن تكون من طبيعة علميّة”، هي عبارات مختلطة فيما بينها لم يعرها بوبر أيّ اهتمام كما لم يهتم بمعيار المعنى بقدر ما اهتمّ بالنّتائج المترتّبة عنه، كالفصل بين العلم واللّاعلم، الأمر الذي جعله يستدعي ما يسمّيه السّذاجة المدهشة للرّسالة L’étonnante naïveté de tractatus باعتبارها نظريّة في الحقيقة كصورة وإسقاط.([7])
لنأخذ هذه القضايا في الرّسالة 4.041*، 2.161**، 2.223***،3.11****، نستنتج منها أنّه يجب على القضيّة أن تحمل خصائص مشتركة مع ما تتحدّث عنه أو تستعرضه إلى درجة أنّه لا شيء صحيح قبليّا، كما أنّه لا يمكن أن نعزى قيمة الصّدق لأيّ قضيّة بل يجب دائما مقارنتها بالواقع.
يوافق بوبر فتجنشتاين في تصوّره بضرورة الحذر من الفلسفة، لكنّه بالمقابل ينفي أن تكون خالية من مشاكل حقيقيّة، حتّى وإن كان حقّا أنّ المشاكل ليست خالصة إلّا أنّها في علاقة دائمة مع مواضيع أخرى([8])، فطبيعة العمل الفلسفي إشكاليّ في جوهره وإعمال للعقل وتحقيق لا ينتهي، كما تكون فيه المشاكل أقلّ أهميّة من الأجوبة التي تثيرها، ثمّ إذا كان معيار فتجنشتاين مطبّقا بطريقة منسجمة، فستبدو قوانين الطّبيعة أشباه قضايا خالية من المعنى وكنتيجة لهذا فإنّه يمكننا فهم معيار المعنى على أنّه ميتافيزيقا([9])، فإذا كان مستحيلا تحديد الخبرات المتوقّعة، فسيستحيل منطقيّا أن نحدّد صدق أو كذب معارفنا بحيث يجوز لنا أن نتساءل عمّا كان بإمكاننا إدراك الشّيء من عدمه.
ما يأخذه بوبر على فتجنشتاين أيضا مراوغته ومرافعته على وجود مشاكل حقيقيّة في الفلسفة لا تتعلّق بتاتا بلعبة اللّغة أو الألغاز الشّفهيّةPuzzlesverbaux، ويؤكّد بوبر في مقابل ذلك أنّه لا يوجد أيّ أثر لموقف قبليّ سلبي إزاء الميتافيزيقا، حيث أنّه إذا بدأنا بمقدّمات تجريبيّة وحصرنا أنفسنا فيما تنبّئنا به، فسيستحيل أن نستبدل وجود شيء أو صفة تخرج عن نطاق التّجربة، ثمّ إنّ الطّريقة النّقديّة في الفلسفة لا تسعى إلى البرهنة على مبادئ الأشياء وإخضاعها لمنطق تجريبي، بقدر ما تكتفي بالبحث عنها واستكشافها لاستخدامها كمساعد في معرفة الواقع.
وسنحاول الآن في هذا الجدول أن نعقد مقارنة بين العبارات العلميّة والعبارات الميتافيزيقيّة، بغية الوقوف على بعض خصائص كلّ منهما([10]):
عبارات العلم |
عبارات الميتافيزيقا |
قابلة للاختبار |
يمكن الحديث عنها عقليّا |
قابلة للتّكذيب |
غير قابلة للتّكذيب، لكن قابلة للنّقد عقليّا |
غير قابلة للتّحقيق لكن قابلة للتّعزيز |
غير مشاهدة لكن قابلة للتأييد عقليّا |
وفي السّياق نفسه أيضا يمكننا الإشارة أيضا إلى الفرق الموجود بين العبارات المتعلّقة بأشباه العلوم Pseudo sciences والعبارات المتعلّقة بأشباه الميتافيزيقاPseudo métaphysique:
عبارات أشباه العلوم |
عبارات أشباه الميتافيزيقا |
غير قابلة للاختبار |
لا يمكن الحديث عنها عقليّا |
غير قابلة للتّكذيب |
غير قابلة للتّفنيد لكن قابلة للنّقد عقليّا |
قابلة للتّحقّق شكلا لكن مستحيلة عمليّا |
لا يمكن مشاهدتها وبالتّالي ليست مؤيّدة عقليّا |
يتضمّن الجدولين استنادا إلى موقف كواين من المعرفة العلميّة مجموعة من النّقاط التي من شأنها أن توضّح صورة المعرفة العلميّة على أساس موضوعيّ ومؤسّس على أدلّة أغلبها تجريبيّة، ويبدو من خلال مختلف هذا أنّ المعرفة العلميّة تستمدّ قيمتها من محتوى العلم أكثر من صورته، كما أنّها تطلب التّفسير ولا تتوقّف على مجرّد ربط الوقائع بواسطة القوانين، ويقوم على محاولة معرفة سبب القوانين وتفسيرها بواسطة البنيّات، في مقابل هذا يعيب بوبر على العلوم الاجتماعية طابعها الماهوي مثل الطّبيعانيّة المنهجيّة التي تسعى إلى استخراج ماهية العلوم الاجتماعية وميزاتها المحدّدة، فالعلم نقديّ وعقلاني، ومن خلاله فقط نبلغ درجة الموضوعيّة، ونسعى إلى اكتساب معرفة من خلال مقارنة النّتائج المتحصّل عليها والنّتائج المرجوّة، ويبقى الفرق بين المنهجيّة في العلوم الاجتماعية والعلوم الطّبيعيّة فرقا في الدّرجة.[11]
- 4. القيمة العمليّة للقضايا العامّة:
ليس بنادر أن يكون سؤال التّمييز ذو قيمة عمليّة لأيّ نظام نظري، وبالمقابل لا يلعب سؤال الخاصّة التّجريبيّة في هذه العلوم –بالكاد- أيّ دور على مستوى البحث العلمي، لأنّنا كثيرا ما نصطدم بأخطاء الملاحظة، ممّا يعني أنّنا نصطدم بقضايا جزئيّة، وهنا لابدّ من معالجة بعض الغموض كالعلاقة بين قضايا الأساس (ملاحظة الواقع) والخبرات الإدراكيّة، لكن لدينا إحساس بالمقابل أنّ القضايا لا يمكن تبريرها منطقيّا إلّا من خلال قضايا أخرى، نحن نصف هذه العلاقة على ضوء مجموعة من الألفاظ والعبارات الغامضة التي لا تشرح شيئا بقدر ما تخفي كلّ شيء.
وإذا قبلنا مرّة أخرى أنّ المعنى ينتقل استنباطيّا، ما سيبدو مجرّد تحييد وتضييق لنظريّة المعنى فسيكون للنّظريّة التّجريبيّة نتائج ميتافيزيقيّة تحمل معنى بالضّرورة[12]، وتظهر إشكالية هذا الفرق في الدّرجة عندما ينتقد بوبر كارناب في نقاط مهمّة هي التّمييز بين العلم واللّاعلم (موقع الميتافيزيقا)، و”العبارات الكلّية” و”المعنى والضّرورة”، وهى مشكلات تتعلّق بكيفيّة تنظيم أفكارنا عن المعنى والإشارة بطريقة تمكّننا من الاستفادة من المنطق الكمّي والحفاظ على حدوسنا عن منطق الجهة، وبصفة عامة تقديم صورة واضحة ومرضية حدسياً تتشكل من مفاهيم “الحقيقة” و”المعنى”، و”الضّرورة” و”الإسم”. فإذا كان مشروع كارناب هو تأسيس العلم على قاعدة لغويّة موحّدة، فإنّ مشروع بوبر هو تحليل الطريقة والإجراء الخاصّ للعلم التّجريبي، حيث تمّ إدراج الميتافيزيقا ومعيار التّمييز كمركزي البحث في مشروعه الإبستمولوجي، أين ينطلق من القول بأنّ العبارات الكليّة لا يمكن التّحقّق منها على ضوء القرار الذي يفيد أنّنا لا نستطيع أن نعزى للعبارات العامّة المتعلّقة بالواقع سوى قيم الحقيقة السلبيّة[13]، إذ يتناول بوبر بالنّقد في كتابه” المشكلتين الأساسيتين في نظريّة المعرفة” (1931،1932) هذا النّوع من التّرجمة الآلية للقوانين العامّة عند كلّ من فتجنشتاين و”شليك” و”فايزمان”، حيث يرى أنّه لا يوجد أيّ مبرّر لعدم تمديد محتوى نظريّة مقيّدة المعنى، في الوقت الذي تحال هذه المهمّة إلى ما يمكن أن نتحقّق منه بأنفسنا، من خلال عدد محدود من حالات الملاحظة. هذا يعني أنّ القوانين الكليّة غير ممكنة التّحقق والخالية من المعنى يجب أن تؤخذ كقاعدة بسيطة للإحالة أين تسمح بتوليد تنبّؤات فرديّة ممكنة التحقّق، هذه النّتيجة في نظر بوبر كارثيّة لأنّها تنافي بداهة العقل للمتمرّسين في الحقل العلمي.
5.جدل اللّغة بين الإثباتات والاحتمال ات:
في إطار البحث عن عدم تموضع أيّ لفظ من شأنه أن يصدر حكما مسبقا على العلاقة بين الإثبات والاحتمال ، يستخدم بوبر التّعزيز ودرجة التّعزيز من أجل التّعبير عن درجة إثبات فرضيّة، ومن أجل أن يتوفّر بحثه على لفظ يلتزم الحياد للتّعبير عن الدّرجة التي تقاوم فيها الفرضيّة الاختبارات الصّارمة وكذا الوقوف على أدلّته. كما أنّه يستعمل كلمة الحياد للتّعبير عن عدم استباق الأحكام في المعرفة – في حالة خضوع النّظريّة للاختبارات القاسية- لكي تكون الفرضيّة أكثر احتماليّة، يقول بوبر:” نقول عن نظريّة أنّها معزّزة متى أمكن لها أن تجتاز كلّ الاختبارات بتفوّق، التّقدير الذي يثبت التّعزيز (التّقدير المعزّز) يقيم بعض العلاقات الأساسيّة كالتّوافق وعدم التّوافق؛ نترجم التّوافق على أنّه تكذيب للنّظريّة، لكنّ توافقا واحدا لا يكفي لمنح النّظريّة تعزيزا إيجابيّا: النّظريّة التي لم يتمّ تفنيدها بعد لا يمكن اعتبارها بأيّ حال من الأحوال كافية، بالمقابل ليس هناك ما يمنع من بناء عدد ما من الأنساق النّظريّة المتوافقة مع أيّ نسق معطى من عبارات الأساس المقبولة”[14]. ولكي نفهم هذا علينا العودة إلى ما يقوله الوضعيّون من حيث أنّه لابدّ لنا من التّفريق بين وظيفتين مختلفتين للّغة:
وظيفة تعبّر عن بعض العواطف والرّغبات، ووظيفة قد تعني شيئا أو تدلّ عليه، حيث لم تتمكّن الفلسفة الكلاسيكيّة من التّمييز بين هاتين الوظيفتين، ممّا ترتّب عنه أن أصبحت ألفاظ الفلاسفة مجرّد عواطف غير دالّة، ومجرّد تعبيرات عاطفية من شأنها أن تكشف عن انفعالات ومشاعر دفينة، وبالتّالي لم تشتمل الفلسفة على قضايا علميّة ولكنّها مع ذلك تعبّر عن شيء ما، وما هذا الشّيء الذي تعبّر عنه سوى الشّعور بالحياة. وهنا ظهرت اللّغة العلميّة لتعمل على إقصاء الميتافيزيقا نهائيّا؛ دائما لنفس السّبب وهو أنّ العبارات الميتافيزيقيّة ليست قابلة للاختزال إلى الواقع اليومي أو حتّى للبناء التّجريبي، لهذا جاء مشروع وحدة العلوم عند حلقة فيينا معادلا لمشروع الاستبعاد[15]، كون أنّ النّظام العلمي صورة أقلّ اقترابا من الصّورة المنطقيّة التي تعبّر عن حالات الأشياء، وهي أكثر تخطيطيّة من سيمانطيقيّة بيرس التي تعبّر عن أنظمة اختيار لا تعبّر عن التّعارض. كما أنّه يجب أن تكون هناك أسبابا أخرى أكثر ملاءمة وأكثر تنبّؤيّة لكي نتمكّن من المفاضلة بين نموذج وآخر، وفي نفس السّياق وخلافا لماخ، لا يعتبر فتجنشتاين النظريّات اختصارا بقدر ما يؤيّد فلسفة واقعيّة تعتبر الوجود مستقلّا عن المعرفة حيث يفترض أنّ هناك ارتداد لا نهائيّا في المثاليّة الإبستمولوجيّة لا تستطيع فيه المعرفة أن توجد إلّا في حالة ما إذا تجسّدت في موضوع معرفة أو على الأقلّ قابلا للمعرفةaccessible àla connaissance على ضوء علاقة توجب على حدث معطى أن يكون قادرا لأن يكون رمزا لمعرفتنا. فالعلم لا يعبّر حسب اهتمامات فتجنشتاين عن موقف تفوّق خارجي من شأنه أن يضع حدودا للمعرفة العلميّة، وليس عن موقف خضوع من شأنه أن يقتلع منه مواضيع تخصّه. وفي الفلسفة الثّانية يقدّم فتجنشتاين العلم باعتباره نشاطا إنسانيّا، أو “طريقة حياة” تتحدّد معالمها من خلال المجتمع العلمي (الاتفاقات) Un système de convention[16].يلاحظ بوبر أنّ تمييز فتجنشتاين بين ما يمكن قوله ومالا يمكن قوله يستلزم رفضا
خارج اللّغة الدّالة وخارج جميع الفرضيّات العلميّة، ونفس النّقد كان موجّها لكارناب عندما حدّد العلم برفض الميتافيزيقا، بالمقابل تملك الفرضيّة العلميّة دائما خاصيّة عبارة كليّة ونحن نجهل تمام الجهل كيف يمكن لعبارة لها معنى- كما افترض فتجنشتاين – أن تكون دالّة صدق لقضايا أوليّة؛ في حين لا يوجد دالّة صدق إلّا من خلال عدد محدود من القضايا.
وأخيرا نظريّة صورة اللّغة بقيت قيد السّؤال عند بوبر خاصّة عندما حاول فتجنشتاين إقامة مطابقة بين الواقعة والقضيّة، ويعترض بوبر بالقول أنّ القضيّة وحدها من تستطيع مجابهة قضيّة أخرى، واعتبرها مقاربة وسطيّة لنظريّة الإنسجام والحقيقة أين تبدو فيها هذه النظريّة بلا معنى. فنقطة انطلاق فتجنشتاين حسب هذه الفرضيّة تتمثّل في حكمه أنّ النّظريّات لها معنى من الناحيتين الشكلية والدلالية بتطبيق طريقة التحليل المنطقي للغة؛ كما يهتمّ منهجه باستنباط الشّروط المتعلّقة بإمكانية توفّر المعنى من خلال القضايا، ونتيجة هذا البحث هي ذاتها من جعلته يضع نفسه في مواجهة هذه اللّحظة الثّوريّة التي تمثّل روح المعرفة العلميّة بحيث لن يكون هناك أيّ مكان لتبرير قضايا العلم، كيف لا ومعظم الأقوال المأثورة التي تضمّنتها الرّسالة تصبّ في تعريف المعنى (وكلّ قضايا العلم تحمل معنى)؛ والمعنى هو البنية المنطقيّة التي يعرف بها الفكر من خلال علاقة القضايا بالوقائع.[17]
يؤيّد فتجنشتاين لأوّل مرّة في ” ملاحظات حول المنطق” 1913 كيفيّة فهم القضيّة بمعزل عن صحّتها أو كذبها[18] ، وهو ما استوجب معارضته بشدّة خاصّة عندما يؤكّد مرّة أخرى أنّ المعنى يسبق الحقيقة؛ فبالعكس تماما يجب التّفكير في صحّة القضيّة لكي تكون مشروعة كموضوع للتّفكير باعتبارها تتضمّن معنى، ومن جانب آخر يؤكّد فتجنشتاين أنّ القضايا التي تحدّث عنها صحيحة وقطعيّة، لكن ما تغافله هو أنّنا عندما نبحث في القضايا فإنّنا نراها من خلال رؤيتنا لها وعلاقاتنا بمحتوياتها بغضّ النّظر عن الأحكام التي أصدرها هو عنها، وإذا بدت لنا قضاياه سخيفة فلأنّه تراجع هو نفسه في الحكم عن قضاياه من خلال الوقائع، وأصبح يطالب بقضايا تتمتّع بصحّة عارضة وليس بصفة نهائيّة.
بالنّسبة لفتجنشتاين تبدو الموضوعيّة فعلا متّفقا عليها من طرف أولئك الذين يتّفقون في لعبة اللّغة، لكن الانسجام بين اللّغة ومتطلّبات الحياة يفترض أن ينتج اتفاقا على مستوى الأحكام وهو ليس قابلا للتّبرير، فنحن لا نعمد إلى نشاط إلّا بتمعّن سواء من خلال سيطرة الوقائع أو الأشكال المنطقيّة خلافا لما قاله فتجنشتين[19]؛ إذ نجد تناقضا عندما يقول في Tractatus أنّ معظم الأسئلة والقضايا التي كتبت من وجهة نظر فلسفيّة ليست خاطئة، بل خالية من المعنى، وفي البحوث الفلسفيّة عبارة “خالية من المعنى” تمّ تفاديها بكلّ عناية في وصف النّظريّات الفلسفيّة.[20]
يجب التّمييز بين الجملة كرمز قضوي والجملة كصورة تعبّر عن حالة من حالات العالم والشّرط الذي يقتضيه الرّمز القضوي ليصبح جملة أو قضيّة هو نشاط الفكرة التي تُحدث من تتابع الكلمات قضيّة تحمل معنى، من هنا يعرّف فتجنشتاين الفكر ذاته على أنّه صورة منطقيّة للوقائع من جهة، وقضيّة تتضمّن معنى كونها تحيل إلى حالة من حالات العالم من جهة أخرى.[21]
يتمّ تركيب القضايا من منظور فتجنشتاين بطريقة واحدة وهي الطّريقة التي تعتمد فقط كلّ الرّوابط المنطقيّة في عمليّة بناء القضايا المركّبة انطلاقا من القضايا الذريّة البسيطة، هذه القاعدة لا تطبّق فقط بالنّسبة للقضايا الجزئيّة مثل (ق Λ ل) و(ق V ل) ولكنّها تطبّق أيضا على القضايا العامّة مثل قولنا: “كلّ النّاس فانون”، فالعموم يكون من خلال مفهوم جزئيّ ففكرة استغراق الذّات للعالم واستغراق العالم للذّات، بحيث لا تكون هذه الذّات أقلّ من العالم أي جزء منه ولا هي أكبر منه بحيث يمكنها أن تتحدّث عن أشياء خارجه ( الأنا الفلسفي)، من هنا يبدو اعتناق راسل للنظريّة المسمّاة “الواحدية المحايدة” Monisme neutre كحلّ لثنائية العقل والمادّة بمثابة نقد لاذع لأفكار فتجنشتاين التي تردّ الذّات إلى سلسلة من التّجارب النّفسيّة، وتنكر أن يكون هناك روح أو عقل وراء هذه التّجارب.
نأتي الآن إلى مسألة الماصدقيّة إذ لاحظ آير أنّ الماصدقيّة ليست شاملة لكلّ القضايا، إذا كانت القضيّة “أ يعتقد ق” منظورا إليها على أنّها دالّة لـ “ق” فإنّها من البديهيّ ليست دالّة ماصدقيّة لأنّ قيمة صدقها لا تبقى ثابتة عندما نستبدلها بقضيّة أخرى لها نفس قيمة صدق:
فإذا استبدلنا عبارة (إقليدس كان يعتقد أنّ السّطح مستوي) بعبارة (قليدس كان يعتقد أنّ السّطح كرويّ)، فإنّنا سنلاحظه أنّ المثال الأوّل صادق بالرّغم من أنّ المثال في الجملة الثّانية كاذب ممّا يدلّ على أنّ الصّدق والكذب في الجملتين لا يتوقّفان على الجملتين التّابعتين ولكنّهما يتوقّفان على اعتقاد إقليدس، لذا فإنّ القراءة العقلانيّة لبوبر ومنطقه للكشف العلمي يبيّنان أنّ الأمر لا يتعلّق بمعيار المعنى كما اعتقد أعضاء حلقة فيينّا، خاصّة معتمدي عبارات البروتوكول (التّفريق بين عبارات ذات معنى وأخرى خالية من المعنى) وإنّما يتعلّق الأمر بمعيار علميّ من شأنه أن يفصل بين العبارات التّجريبيّة (القابلة للتّكذيب) والعبارات الميتافيزيقيّة ذات المعنى (غير القابلة للتّفنيد استنادا إلى الخبرة)، وهنا كان فتجنشتاين أقرب إلى بوبر من كارناب كون أنّ البرنامج الاختزالي للتّجريبيّة المنطقيّة كان غريبا بالنّسبة إليه وبالمقابل فإنّ ما يحمله بوبر على فتجنشتاين يتمثّل في موقفه المعادي للعقلانيّة؛ وهو الذي يعلن من جهة أنّ الألغاز ليست موجودة، ومن جهة أخرى أنّه يوجد مجموعة من القضايا التي لا تحمل أيّ معنى، وهذا النّوع من القضايا اللّاعقلانيّة تفتح الباب واسعا أمام جميع أشكال الوثوقيّة والتصوّف.[22]
يتمّ التّعبير عن هويّة الشّيء من خلال هويّة الرّمز وليس بمعونة رمز الهويّة، واختلاف الأشياء من اختلاف الرّموز[23]؛ هذه الفكرة جعلت فتجنشتاين يتساءل عن ماذا نقصد من وراء القول “الخضوع للقاعدة”؟ وهل هي مهمّة لا يمكن أن يقوم بها إلّا شخص واحد ومرّة واحدة طيلة حياته؟
لاحظ فتجنشتاين أنّ هذه الفكرة تعبّر عنقضيّة نحويّة تتطلّب تحليلا منطقيّا لمفهوم عبارة “الخضوع للقاعدة”، والتي تتمظهر في قالب فرضي استنباطي للقضيّة يجمع بناء فوق بناء[24]. كنّا نعتقد منذ ديكارت أنّ اللّغة النظريّة يجب أن تكون رياضيّة، وعرفنا مع اسبينوزا إلى أيّ مدى ساهمت التّمارين الهندسيّة في إخضاع التّفكير الفلسفي، ورأينا أنّ تصوّر نيوتن يدافع عن النظريّة التي تقوم على العبارات الآتية:” عالميّة، حتميّة مغلقة، أكثر موضوعيّة، بريئة من دلالة الملاحظ وخارجة عن إطار الزّمان”[25]، إلّا أنّ مواقفهم متباينة فيما يخصّ حدود استقلال قوانين المنطق عن التّجربة والعقل، وفي الوقت نفسه ليس هناك ضرورة عقليّة تحكمها الحتميّة ومصدرها عقلي ممّا يجعل من المعرفة اتّفاقا واختيارا. و على هذا تؤمن الوضعيّة المنطقيّة بوجود ما هو تركيبي بعدي وما هو تحليلي قبلي لكنّها تنكر ما هو تركيبي قبلي، ونحن نلاحظ ممّا لا يدع مجالا للشّك أنّ مطابقة فتجنشتاين بين حالات الأشياء والقضايا الأوّليّة للّغة هو وجه آخر لواحدية راسل، ويهدف من وراء ذلك إلى جعل اللّغة الوسيلة الوحيدة التي تعبّر عن الفكر، في المقابل لم تعد الفلسفة النّقدية عند بوبر تبحث عن منطق تحلّل من خلاله لغة العلم، بل كشفا آخر من نوع مخالف يتطابق فيه العلم مع المنهج والمنطق، وتشارك اللّغة في صناعة عالمه الموضوعي من خلال مجموعة من الشّروط وليس مجموعة من المصطلحات، لأنّ القضيّة ليست لغويّة بقدر ما هي تقدّمية وتطوريّة؛ بحيث أنّ كلّ فرضيّة عامّة من صنف (أ) تنقاد وراء كلّ معلومة تجريبيّة من صنف (ب)، مجموع احتمالهما ح ( أ/ ب) تبقى دائما مساوية للصّفر، وتحمل بالمقابل عدد لا نهائي من الحالات التي نعبّر بها عن الفرضيّة، وعدد محدود من حالات الملاحظة
7.اللّغة العلميّة ورهان الموضوعيّة:
من هنا يتّضح أنّ التّحقيق كإجراء عملي تكتنفه صعوبات كثيرة، ذلك أنّه إذا كان بإمكاننا تحقيق المجموعات (القضايا) الجزئيّة، فإنّ القضايا الكليّة مثل القوانين العلميّة غير قابلة للتحقّق بالمعنى الموضوعي، كما تبيّن هذه البرهنة استحالة إثبات النظريّة من خلال استقراء احتمالي، ذلك لأنّ لا أحد من الإستقرائيّين استطاع أن يترجم ح ( أ/ ب) عندما يكون “ب” نفسه محتملا، ما يجعل العلم إذن في تقدّم مستمر هو إمكانية تكذيب عباراته، وليس النّظريّات التي تشرح كلّ شيء لغويّا، فالمحتوى التّجريبي* (الإخباري) لعبارة نظريّة لا يتوافق مع مجموع عبارات الملاحظة التي تثبت تلك النظريّة**، لكنما يثبتها هو مجموع تفنيداتها التّقديريّة. فالقول: – “كلّ الإوّز إوّز” تعبّر عن محتوى منطقي صفر.
– “كلّ الإوّز أبيض” تعبّر عن محتوى تجريبي مرتفع يتضمّن جميع الحوادث التي تصف ما لا يتوافق مع المحتوى.
تعتبر العبارات التّفسيريّة illustratives نفيا لعبارات الأساس، ونسجّل أنّ درجة تعزيز عبارة صحيحة هي من -1 إلى +1، بينما صحّة تجريبيّتها تكون بالضّرورة من 0 إلى 1 الأمر الذي يسمح لنظريّة مفنّدة بالاحتفاظ على محتوى تجريبي موجب، ولمّا كانت فكرة “المحتوى” هي العامل الرّئيسي في تحديد رجحان الصّدق، فإنّ ما يعطي صفة العلميّة لنسق الفضايا التّجريبيّة، ليس جملة الوقائع والملاحظات التي من شأنها أن تحسم في صدق قضيّة أو نظريّة، خاصّة وأنّ تأييد النّظريّة يكمن في تفنيدها، وعليه يقرّ بوبر أنّ المحتوى التّجريبي لكلّ نظريّة يتزايد بتزايد درجة قابليتها للتّكذيب، كونها تقول أكثر عن عالم الخبرة وتستبعد أكثر فئة من قضايا الأساس.
سنحاول في هذا الشّكل أن نتحدّث عن إمكانية التّعبير عن محتوى نظريّة كليّة درجة احتمالها صفر.
تعامل العلم فقط مع العلاقات التي تربط الأشياء بعضها ببعض، أمّا التّقديرات الاحتمال ي ة المستنتجة فإنّها تختلف عن اللّغة التي تعكس الوقائع التّجريبيّة، أين تقارن فيها الجمل بالجمل وليس بالخبرة الحسيّة، وقد جعل كارناب العبارات الأساسيّة أو عبارات البرتوكول أساس لغة العلم وهذا ما جعله يرى في العلم مجموعة من القضايا المرتّبة والتي تعبّر عن منطق العلم، من هنا نرى أنّ كارناب يركّز على زيادة عدد البنّيات من أجل درجة احتمال أكبر، وذلك في الوقت الذي يطالب فيه بوبر بمناقشة مدى تقرير الفرض بدلا من درجة احتماله المنطقيّة، حيث يقول:” في العلم، المنهج ليس الطّريقة التي نكشف بها عن الأشياء لكنّه الإجراء الذي نثبت به”[26]؛ ذلك لأنّ عبارات العلم قوانين كلّية ونفيها عبارة وجوديّة وهي عند الوضعيّين ميتافيزيقا. كما أنّ عبارات البرتوكول تحمل في طيّاتها نزعة سيكولوجيّة تستعمل عبارات دالّة على الحس للتّعبير عن خبرات حسيّة، والوضعيّون أنفسهم لا يقبلون ردّ العبارات العلميّة إلى الخبرة الذّاتية ثمّ إنّنا لا نفهم ما يسمّيه الوضعيّون لغة العلم، خاصّة أنّ هناك لغات أخرى تخصّ ميادين مختلفة إذا لم يتعلّق الحديث بالعلم، وهم إمّا لا يعرفونها وإمّا يتحاشونها لأنّها لا تخدم هدف الحركة، كما أنّ استبدال كارناب للخبرات الفرديّة التي كان ينبني عليها العالم باللّغة الفيزيائيّة الموحّدة يجعلنا نقول أنّ هذه الأخيرة لوحدها قاصرة عن تقييم تقريرات العلم، أمّا بوبر فيستند إلى نظريّة الأنماط المنطقيّة التي جاء بها راسل*ويقول بمستويات مختلفة للّغة، تماما كما يتميّز العالم الطبيعي بمشاكل مختلفة وتكون فيه البداية لغة الموضوع، وتتميز الألفاظ التي تنتمي إلى صنف لغة- موضوع بخصائص عديدة أهمّها: أنّ معانيها يتم تعلّمها، أو يمكن تعلّمها، وذلك بمواجهة الأشياء التي تعنيها أو الحالات التي تعنيها، ولم يستطع فتجنشتاين أن يفصل بين اللّغة الشيئية واللّغة الوصفيّة؛ حيث أنّ هناك لغة لا نستطيع فيها الكلام بلغة الأشياء بل يمكننا الكلام عنها، حيث أنّ لكلّ قاعدة منطقيّة نفيا سواء تعلّق الأمر بمفهوم الصّدق أو بمفهوم الكذب؛ فقد تكون القضية منفيّة لكنّها صادقة، مثل قولنا:” إذا كان اليوم ممطر والسّماء ملبّدة بالغيوم” فإنّ ” الشّمس مشرقة”، فإنّ القضيّة تكون كاذبة في حين أنّ نفيها “ليست الشمس مشرقة” تكون صادقة، وفي هذا يقول بوبر:” لا توجد حاجة لأن تكون هذه الفرضيّات حقيقة، ولا حتّى شبيهة بالحقيقة، بل هناك شيء واحد وهو أنَّ هذه الفرضيات تنتج حسابات تتطابق مع المشاهدات”[27]، ومن هنا نفهم أنّ تصوّر اللّغة بخصائصها ووظائفها المختلفة يتناقض مع منهج الوضعيّين المنطقيّين انطلاقا من كونها انعكاس للواقع.
وسنحاول الآن أن نسلّط الضّوء على تصوّر بوبر لبنية العالم وتفسيره للواقع، على ضوء كيفيّة فهمه وتفسيره للنظرية الكمية:
تمتلك النظريّة الكمّية طابعا احتماليّا وإحصائيّا، والطّبيعة الإحصائيّة لهذه النظريّات تتطلَّب حسب بوبر معالجة إحصائيّة، حيث يؤكّد أنّ القول مباشرة بالطّابع الاحتمال ي للنّظريّة الكميّة يجعلها تنتهي عند التّفسير الذّاتي للعالم الخارجي؛ بمعنى أنّ استخدامنا للاحتمال ات سيعكس مدى تحكّمنا وقدرتنا في معرفة وقائع العالم بصفة كمّية والعكس صحيح، الأمر الذي يجعل من تفسير النّظريّة الكمّية تفسيرا للاحتمال من نفس الدّرجة وهو ما يطرح أساسا مشكلة موضوعيّتها(النّظريّة) وينتج مواقف عقلانيّة إزاء العالم الكمّي. يوازن بوبر هنا بين الاحتمال الذّاتي والإستقراء كونهما متعلّقين بما ليس بعد، وهو ما لا يتوافق مع التّفسير الموضوعي للميكانيكا الإحصائيّة، وقبل الحديث عن إمكانية المعرفة يتساءل بوبر عن كيفيّة فهمها؟ أو ما الذي نريده من النظريّات العلميّة؟
هناك الرّؤية الآلية (الأورثودكسيّة) مع بوهر وهايزنبرج وبوغلي وترى في النّظريّات العلميّة وصفا رياضيّا قابلا للتّطبيق وليس محاولة لفهم الواقع في مظهره، وبالمقابل نجد الرّؤية الواقعيّة مع أنشتاين وشرود ينجر (ويشاطرهما بوبر هذه الرّؤية)، وترى أنّ الفيزياء وسيلة لمعرفة العالم في جميع تجلّياته، ولا يمكننا ترجمتها آليّا لأنّها رغم أهمّيتها تبقى قابلة للنّقد العقلي، ولأنّها ستكون حدّا فاصلا بين نظريّاتنا وموقفنا من الواقع الخارجي من قبيل علاقة الذّات بالموضوع، وهي علاقة يترجمها بوبر في نوع من التّوافق على الطّريقة الكانطيّة*.
إذا كانت القوانين العلميّة تتمتّع بخاصيّة الاحتمال فإنّ مهمّتها ستكون وصف ما يحدث دونما إضافة للإطّرادات، ويرى بوبر أنَّ الاحتمال ات في النظريّة الكمية تمثل دائما ميل الجسيمات لتأخذ حالة كمونيّة معيّنة في ظروف معيّنة، وفي الميكانيكا الكلاسيكية يكون الجسيم في جميع الأوقات في مكان محدّد بدقّة وله زخم حركة معيّنة دقيقة، وتحدّد قوانين نيوتن للحركة بكلّ دقة تلك المواصفات الخاصّة بالجسيم أثناء سيرها، أمّا في ميكانيكا الكم فلا يكون للجسيم مواصفات بالغة الدقّة وعندما نقوم بقياسها تكون تلك النّتائج موصوفة بتوزيع احتمالي، وتتنبّأ معادلة شرود نجر Schrödinger بأنّ التّوزيعات الاحتمال ي ة لا تستطيع التعرّف على النّتيجة الدّقيقة لكلّ عمليّة قياس.[28]
لكن ما الذي يثبت هذا التّتابع؟ هل يمكننا الاستناد إلى واقع لا يقبل الخطأ يجعلنا نتأكّد من أن “ب” هو نتيجة ضروريّة لـ “أ”؟
أيّ محاولة للإجابة عن هذا السّؤال يجعل بلانك يقول بالتّفسير الميكانيكي بدلا لتّفسير الإحصائي، والذي يعتبر وجها آخر للميتافيزيقا، وما يمكن الإشارة إليه هو أنّ مشاكل عويصة أثيرت لم يتمّ الوقوف على حلّ لها:
-الجسم الأسود ليس واضحا، خاصّة la constante de Planck h ، لعلاقتها المزدوجة بالتّرموديناميكا و علم البصريّات L’optique.
-مفعول الفوتونات الإلكترونيّة L’effet Photoélectriqueغامض ينتظر توضيحا.
-تطرح الذرّات والجزيئات مشاكل تتعلّق أساسا بالوضوح من خلال الأنواع الفيزيوكيماويّة Physicochimique.
-الأثير ليس قضيّة تقنيّة ولا تجريبيّة ممّا يجعله مجرّد مفهوم نظري.
وانطلاقا من هذه الصّعوبات لم يعد بالإمكان الحديث عن الأجسام الماديّة في ذاتها؛ باعتبار أنّ الجسيمات الماديّة فينشاطها تأخذ صفة أمواج، هذا وقد شغل تفسير آخر لهذه الظّاهرة على ضوء تفسير مشكلة تناهي الموجة إلى نقطة معيّنة في المكان تحت معطى الإنهيار، وكذا تفسير لويس دي بوغلي Louisde Broglieالقائل بأنّ المادّة في حركتها توجّهها موجة قائدة تحمل فيما بعد خواص الحركة الموجيّة القائدة (تحت عامل الإدماج) لمجموع خصائص الذرّات والفوتونات وكلّ نظام كمّي يعبّر عن حالته، وفي حالة النّظام الذي يتوفّر على حالات كثيرة فإنّ إمكانية العودة إلى حالة واحدة أمر وارد. يوجد النّظام إذن في حالات التّراكب والمعارف المتعلّقة بهذه الحالات التي ستكون بدورها متناقضة فيما بينها.
كما أظهرت الفيزياء الحديثة أنّ الفكر التّجريدي و الاستنتاجات الرياضيّة يمكن أن تقدّم معرفة موثوقة تصلح لدراسة أسباب الظّواهر وخواص الأشياء، وهو الأمر الذي رفضته الوضعيّة المنطقيّة بشدّة بحجّة أنّ مفاهيما مثل مفهوم “الأثير” و”الجسيمات الصّغرى” لا تعتمد على الموضوع المدروس بقدر ما تعتمد على الذّات الدّارسة، لذا بات من الصّعب أن نميّز بين الذّات العارفة وموضوع المعرفة في الفيزياء الكوانتيّة.
يضع بوهر تقنية المفارقات هذه في الحسبان، بإدخال تقنية المراسلات والتكامليّة التي لها علاقة مباشرة مع المتطلّبات الخاصّة بالتّرجمات الكوانتيّة([29])، بحيث ستظهر مرّة أخرى إشكالية العقلانيّة واللّاعقلانيّة بالنّسبة لمسألة الحدود والقيمة في الفيزياء الكوانتيّة، وعندما تظهر حدود للعقل تبدأ القطيعة والتّمييز بين الواقع ووصفه الرياضي*، لكن يظلّ الإطار العام للعلم هو العقلانية Un rationalisme de type métaphysique.
يرى كارناب أنّ فتجنشتاين لم يقم أيّ خطّ فاصل للتّمييز بين الصّياغة المنطقيّة للعلم وتلك المتعلّقة بالميتافيزيقا، لأنّ البيان التّركيبي للمنطق هو حكم إقصائي للميتافيزيقا وفي ذات الوقت تطهير للفلسفة، ومن خلال هذا الموقف يحاول كارناب توضيح منعطف جذري يعتبر أنّه لا وجود لبناء ينطلق من الخبرة الفرديّة ولو كان من قبيل الإمكان، والبديل الذي يصوغه كارناب لتفادي نوع من العدميّة في تصوّره هذا، هو القول بأنّ الأمر يتعلّق بكلام صوري، ومن شأن مجموع الحقائق المعبّر عنها أن تحوّل إلى بنية ماديّة[30]، ويوصي كارناب بإقامة لغة شيئيّة لا تكون قضاياها ذات معنى إلّا إذا ترتّبت عنها نتائج تجريبيّة.
تمتدّ فكرة التّراكيب الميتافيزيقيّة -حسب بوبر- إلى إمكانيّة إخضاعها للتأمّل العياني وجعل التّرجمة في اللّغة الصّوريّة، موجّهة نحو تحويل العبارات المقولة على النّوع المادّي إلى عبارات صوريّة، أو بتعبير كارناب عبارات شبه شيئيّة (عبارات الفلسفة)، وهو الأمر الذي يقترح أنّ العبارات الخالية من المعنى والعبارات الصّوريّة شيء واحد، وهذا ما جعل بوبر ينتهي إلى تفنيد مبدأ كارناب القائل أنّ الخطاب يمتلك معنى إذا كان بإمكانه أن يترجم إلى شكل صورانيّ، وفي ظلّ هذا كيف ينقذ كارناب بناءه المنطقي؟
يتراجع كارناب عن هذا التصوّر الصّوري للتّركيب المنطقي كي يعود إلى إشكاليّة المعنى بطريقة تقدّميّة، والتي من شأنها أن لا تنفصل عن البناء المنطقي للعالم، أين لا يوجد منطق للكشف العلمي، لكن منطق للإثبات العلمي من خلال استبدال “فكرة التحقّق” بقكرة “القابليّة للاختبار” والذي يوجب النّظر إليه من زاويتين:
باعتباره وصفا وحدسا من جهة، وباعتبار فكرة تستبعد وجود تناظر بين التحقّق والتّكذيب من جهة أخرى؛ وهو الأمر الذي سيدفعنا إلى تحديد صورة القضيّة في حالة التّحقّق وفي حالة التّكذيب:
*في حالة التّحقّق:
ب أ
ب
إذن أ استنتاج غير مشروع (إثبات النّتائج).
*في حالة التّكذيب:
أ ب
~ ب
~ أ استنتاج مشروع.
من هنا يمكننا القول أنّ العقلانيّين يسعون إلى منطق القصد (المفهوم) Logique d’intention بينما يسعى الوضعيّون إلى المنطق الماصدقي Logique extensionnelle حيث يشمل الماصدق Extensionalité مع جميع المتغيّرات والكمّيات ثنائيّة الموضوع والمحمول؛ والتغيّرات غير قابلة للتّطبيق والتّعبيرات الكمّية تقود إلى اللّا معنى ممّا يجعلها غير مقبولة.
خاتمة:
بصفة عامّة، يرفض بوبر” المنعطف اللّغوي والمعادي للميتافيزيقا” رفضا قاطعا؛ حيث يبدأ برفض تقسيم العمل على طريقة شليك: مهمّة العلم هي البحث عن الحقيقة، ومهمّة الفلسفة هي اقتفاء المعنى، وهو ما يعبّر عن نوع من الفلسفة المدرسيّة، ولقد رأينا فيما سبق أنّ كواين لا يقول بوجود فرق بين العلم والفلسفة إلى درجة أنّه كان يقظا من لفظة “المعنى” و”المذهب الطّبيعي” أين تتمظهر بعض العبارات الخالية من المعنى في ذاتها، كما يحكم بصرامة على موقف فتجنشتاين – يمكن ذكر كارناب وموقف نويراث ضدّ شليك في هذا الصّدد*– الذي يتميّز بخاصيّة الجزم فيما يتعلّق بنتائج التّحليل المنطقي لمزاعم المشكلات الفلسفيّة، كما رفض في نفس الوقت اختزال المشاكل الفلسفيّة إلى قضايا اللّغة أو قضايا خالية من المعنى.
وعندما يدافع صاحب “النّظريّة العامّة للمعرفة” (شليك) عن تصوّره بعزم وثقة عن تصوّره العلمي للفلسفة، ويقصد بوبر من هذا القول أنّ المؤيّد الجذري لمبدأ التحقّق مثل شليك ليس له إلّا أن يعتبر الميتافيزيقا خلوّا من المعنى، بالمقابل لا تنتقل المعاني من خلال النّتائج؛ فكلّ نتيجة استنباطيّة ليست تحصيلا حاصلا من عبارة يمكن التحقّق منها.
في حالة قبولنا أنّه لا يكون الشّيء ذو قيمة علميّة أو معرفيّة إلّا إذا كان قابلا للتّحقّق سيكون العلم مغلقا وكلّ شيء فيه بديهيّ وواضح، في المقابل عدم قبول مبدأ التحقّق واقتراح مبدأ التّكذيب ينجرّ عنه أنّ كلّ عبارة قابلة للتّكذيب تملك نتائج غير قابلة للتّكذيب، وغير تجريبيّة، و”ميتافيزيقيّة” بالمعنى المنطقي.
هنا يثبت بوبر للوضعيّين المنطقيّين خاصّة شليك أنّه لا يوجد أحكام تركيبيّة قبليّة سليمة، اللّهم تلك التي تحدّث عنها كانط بصفتها (حدسيّة أو مفهوميّة) موجودة في ذاتها.
ينتقد بوبر عقيدة الدّوجما في التّجريبيّة الاختزالي ة القائمة على أساس أنّ العلم مجموعة من المبادئ الملاحظة والموضوعيّة وما عدى ذلك مجرّد وهم، المهمّ أنّه لا مناص من القبلي والتّجريبي والوظيفة النّقديّة من وجهة نظر منطقيّة قبل كلّ شيء، لكن من الواجب الحديث عن فرضيّات قبليّة متعلّقة بالخيال التّجريبي المثمر للعالم الذي يجابه إشكالات بنشاط وليس باعتماد مبادئ كليّة مسلّم بها قبليّا، وعندها بالضّبط ستظهر بالضّبط مهمّة الأبستمولوجيا في إقامة قواعد يتحرّك في إطارها العلم على ضوء الاتفاقات، خاصّة بعد تأسّس منهج التحقّق الوضعي الذي اختزل الفهم العلمي للعالم كرؤية علمية لا تقتنع إلا بالقول العلمي، من خلال اعتماد هذا الأخير كمنهج سيكون ولا شك قادرا على كشف الأقنعة الميتافيزيقية التي تختفي وراءها المفاهيم ذات الطابع الفلسفي، وبالتالي منعها من التسرب مجددا إلى حظيرة العلم، هذا المفهوم يعاكس المفهوم الطبيعي لنظريّة المنهج والتي تعتبر المنهجيّة خاصيّة تجريبيّة بحتة؛ تتعلّق أساسا بدراسة التّصرفات الحقيقيّة للعلماء أو الإجراء الحقيقي للعلم.
وإذا كانت غاية العلم هي الاقتراب الدّائم من الصّدق، فإنّ هذا لن يتمّ بتبرير النظريّات وتحصينها، وإنما بالوقوف حيالها موقفا عيانيّا مباشرا، وهي الفكرة الكفيلة وحدها بتفسير الطّريقة التي من خلالها تنمو المعرفة العلميّة وتتطوّر، فهي تقدّم فروضا لحلّ المشاكل العلميّة التي عجزت النظريّة السّابقة (الوضعيّة المنطقيّة) عن حلّها في إطار منهجيّة تقترح اتّفاقات لغويّة بدلا من إبداء حقائق تجريبيّة، هذه الاتفاقات يجب أن تسمح لنا بتجسيد ما نقبله أو نتعارف عليه كمعرفة علميّة، وكذا التّعبير عن القواعد التي تسمح لنا بالحفاظ على الخاصيّة العلميّة لنظريّاتنا وتطوير معارفنا المتعلّقة بذواتنا والعالم، لأنّ أيّ محاولة للحديث عن طبيعة تطوّر العلم يكشف عن استمراريّة الطّابع الثّوري والتقدّمي للعلم، وفي ذلك رفض للمبادئ التي كرّسها الفكر الوضعي التّبريري، باعتبار أنّ من طبيعة هذا الأخير أنّه سينكروني synchronique ودياكروني Diachroniqueفي نفس الوقت.
قائمة المراجع:
- Omnès, philosophie des sciences contemporaines, Paris: Gallimard, 1994.
- Popper, Les deux problèmes fondamentaux de la théorie et de la connaissance, Paris: Hermann, 1999, p9.
- Dummet, the interpretation of frege’s philosophy, Duckworth, 1981.
- Wittgenstein, De la certitude, trad: Jacques Fauve, Paris: Gallimard, 1992.
- Gille Gaston granger, Dialogue sur les deux systèmes du monde, trad: R. Fréreux, Paris: seuil,
- Popper, Conjectures et réfutations, Paris: Payot, 1985.
- . Popper, Logique de la découverte scientifique, traduit par : Nicole Thyssen – Rutten et Philippe Devaux, Paris: Payot, 1982.
- Popper, Conjectures et réfutations, la croissance du savoir scientifique, la croissance de savoir scientifique, trad: Michelle Irène et Marc B. de Launay, Paris: Payot, 1985.
- André Verdan, Karl Popper ou la connaissance sans certitude, Presse polytechnique et universitaire, Lausanne suisse, 1996.
- Bouvresse, Popper ou le rationalisme critique, librairie philosophique, Paris : Vrin, 1986.
- Bouveresse, « Schlick et le synthétique a priori», Le formalisme en question. Letournant des années trente, sous la direction de F. Nef et D. Vernant, Paris: Vrin, 1998.
- Popper, Les deux problèmes fondamentaux de la théorie de la connaissance, Paris: Hermann, 1999.
[1]– R. Omnès, philosophie des sciences contemporaines, Paris: Gallimard, 1994, p 113.
[2]– K. Popper, Les deux problèmes fondamentaux de la théorie et de la connaissance, Paris: Hermann, 1999, p 9.
[3]– M. Dummet, the interpretation of frege’s philosophy, Duckworth, 1981, p 71.
[4]– Wittgenstein, De la certitude, trad: Jacques Fauve, Paris: Gallimard, 1992, p 39.
[5] – Gille Gaston granger, Dialogue sur les deux systèmes du monde, trad: R. Fréreux, Paris: seuil, 1992, p 122.
[6] – K. Popper, Conjectures et réfutations, Paris: Payot, 1985, p 68.
[7]– K. Popper, Logique de la découverte scientifique, traduit par : Nicole Thyssen – Rutten et Philippe Devaux, Paris : Payot, 1982,p 330.
*القضية 4,041 لا يمكن بطبيعة الحال تمثيل هذا التعدّد الريّاضي. لا يستطيع المرء أن يضع نفسه خارجها من خلال تمثيله.
**القضيّة 2,161 في الصورة وفي الشيء المتمثل يجب أن نجدهما متطابقين، بحيث يكون الواحد صورى للآخر.
***القضية 2, 223 للتعرف على ما إذا كانت الصّورة صحيحة أم خاطئة يجب أن نقارنها بالواقع.
****القضية 3,11 نقرأ العلامة المحسوسة (صوتية أو مكتوبة) للمقترح كإسقاط للحالة المحتملة، وطريقة الإسقاط هو التفكير في معنى الإقتراح.
[8]– K. Popper, Conjectures et réfutations, la croissance du savoir scientifique, la croissance de savoir scientifique, trad: Michelle Irène et Marc B. de Launay, Paris: Payot, 1985, p 115.
[9]– Ibid, p 318.
[10]– André Verdan, Karl Popper ou la connaissance sans certitude, Presse polytechnique et universitaire, Lausanne suisse, 1996, p 52.
[11] – R. Bouvresse, Popper ou le rationalisme critique, librairie philosophique, Paris : Vrin, 1986, p 168.
[12]– J. Bouveresse, « Schlick et le synthétique a priori», Le formalisme en question. Letournant des années trente, sous la direction de F. Nef et D. Vernant, Paris: Vrin, 1998. P 36.
[13]– K. Popper, Les deux problèmes fondamentaux de la théorie de la connaissance, Paris: Hermann, 1999, p 28.
[14]– K. Popper, La logique de la découverte scientifique, Op Cite, p 271.
[15]– Voir Alain Boyer, introduction à la lecture de Karl Popper, Paris: l’Ecole Normale Supérieure, 1994, p 106.
[16]– Voir Pierre Wagner, Les philosophes et la sciences, Paris: Gallimard, tome 1, p p 500, 501.
[17]– L. Wittgenstein, Investigations philosophiques,trad. P. Klossowski, Paris: Gallimard, 1961, p 560.
[18] – L. Wittgenstein, Carnets 1914-1916, trad. G. G. Granger, Paris, Gallimard, 1971, p p 170-171.
[19] – Jacques Poulain, La loi de vérité (ou la logique philosophique du jugement), Paris : Albin Michel, 1993, p. 143
[20]– Linsky Leonard. Wittgenstein, Le langage et quelques problèmes de philosophie, In: Langages, 1ᵉ année, n°2, 1966, p 93.
[21]– Shalom Albert, De la langue comme image à la langue comme outil, In: Langages, 1ᵉ année, n°2, 1966, p 99
[22]– Jean- François Malherbe, interprétations en conflit à propos de Wittgenstein, in revue philosophique de Louvain, 4 série, tome 76, n 30, 1978, p p 189, 190.
[23]– Chins Michel, La forme et le sens dans le Tractatus de Wittgenstein, in Revue philosophique de Louvain, 4 série, tome 75, n 27, 1977, p 477.
[24]– Henri Poincaré, La science et l’hypothèse, Paris: Flammarion, 1968, p 173.
[25]– Ilya Prigogine et Isabelle stengers, La nouvelle Alliance métamorphose de la science, Paris: Gallimard, 1979, p 217.
* يقصد بوبر بالمحتوى التّجريبي فئة القضايا التّجرريبيّة التي تمنعها النظريّة، أي فئة القضايا التّجريبيّة لتي تتناقض مع النّظريّة.
**سبق أن رأينا هذه الفكرة مع القول المأثور لفتجنشتاين المتمثّل في مجموع القضايا الصّادقة وكلّ علوم الطّبيعة.
[26]– K. Popper, Les deux problèmes fondamentaux de la connaissance, Op Cite, p 28.
* يعنى راسل في نظرية الأنماط بالتمييز بين “الفئات Classes” و”الأشياء Choses” التي هي عبارة عن وقائع تجريبية تحدّد البنية المنطقيّة للغة الطّبيعيّة بشكل يجعلها تستبعد “الانعكاسيّة”، وفي نفس الوقت تحتفظ بالمنطق الثنائي القيمة” .
إنّ فئة الأشياء ليست أعضاء ضمن هذه الأشياء، فلفظة إنسان مثلاً اسم لفئة مجموع البشر، لكن لفظة إنسان ليست واحداً من البشر، ومن ثم فلفظة فرد تشير إلى نمط يختلف عن النمط الذي تشير إليه لفظة الفئة. وعلى أساس التفريق بين اللغة التي تشير إلى واقعة معينة بوصفها اللغة الأساسية Langage de base، واللغة التي تتحدث عن اللغة هي لغة شارحة مثل عبارة: “السّماء تمطر… عبارة عربيّة”، أي ما حول اللغة Métalangage، واللغة التي تتحدث عن اللغة التي حول اللغة Métamétalangage،
ما حول حول اللغةMétamétalangage: القضية من نوع “إنها تمطر” صادقة.
ما حول اللغة Métalangage: القضية “إنها تمطر” صادقة؛
لغة- موضوع Langage-objet: “إنها تمطر”.
[27] – K. Popper, Conjectures and Refutations, London: Routledge, 2002, p 131.
* يرى كانط أنّ المعرفة بناء في مقابل هيوم الذي يرى أنّ المعرفة اعتقاد. لا تثير الفيزياء النّظريّة حقيقة الأشياء، بل تكتفي بعرض المظاهر الحسيّة من خلال نظام العلامات والرّموز.
[28]– Voir K. Popper, Logique de la découverte scientifique, Op Cite, p 108.
[29]– Catherine Chevalley, « introduction », in Niel Bohr, physique atomique et connaissance humaine, Op Cite, 1991, p p 23, 24.
*نجد هذا الطّرح في التّرجمة التي قدّمها بوهر فيما يتعلّق بميكانيكا الكوانتم.
[30]– R. Carnap, The logical syntax of language, London: Kegan Paul, 1937, p 201.
*يؤيّد كارل هامبل (1935-1936)Carl Hempelموقف نويراث ضدّ شليك، ويرى في هذا الأخير أحد اثنين: إمّا ميتافيزيقيّ وإمّا شاعر، وذلك بسبب الطّابع الثّنائي بين التّأسيسيّة Fondationnisme و الحقيقة المراسلاتيّة La vérité correspondance.