
التطور التاريخي لبعض الكلم في العربية
Historical development of some words in Arabic language
د. أحمد ضو البيت إدريس ضو البيت – الاستاذ المشارك في جامعة الفاشر – كلية التربية .
د. جمال الدين إبراهيم عبد الرحمن أحمد – الاستاذ المشارك في جامعة نيالا – كلية التربية.
د. صديق الساير علي الدومة – الاستاذ المشارك في جامعة الفاشر – كلية التربية. السودان
Ahmed Dawelbate Idrees Susan, Elfasher university
Jamal Eldin Ibrahim Abdelrahman Ahmed, Nyala university
Sedig Elsayer Ali , Elfasher university
مقال نشر في مجلة جيل الدراسات الادبية والفكرية العدد 60 الصفحة 117.
Abstract
The purpose of this study is to prove that the vocabulary of a language that expresses certain meanings at a time will not remain associated with it forever, but may be subject to change and action. Therefore, all other aspects of the language are not sound, Change and development according to specific causes and factors.
To reach this end, the study followed the method of inductive and descriptive analytical, where it extrapolated this phenomenon in many words and then subjected to accurate linguistic analysis, which enabled the researcher to reach several results, including: The phenomenon of historical development of the word is the main source of the emergence of the common verbal language and appearance Linguistic synonyms, and also to express all the developments that appear through the continuous human activity is the storehouse that the language resort to meet the need of lack of words when the will to express the emerging signs.
The study recommends further exploration of these sophisticated words to see what they are pointing to in their past and the new signs that have come to them today, as we emphasize the flexibility and vitality of the Arabic language.
مستخلص:
تهدف هذه الدراسة إلى اثبات حقيقة أن مفردات اللغة العربية التي تعبر عن معانٍ معينة في زمن من الأزمان سوف لا تظل ملازمة لها إلى الأبد بل قد يعتريها التغير والتعديل ، وعلى هذا فإن كل مناحي اللغة الأخرى من أصوات وتراكيب ودلالات لا تثبت على حال واحدة بل تخضع لناموس التبدل والتطور وفق أسباب وعوامل محددة
وللوصول إلى هذه الغاية أتبع الباحثون في الدراسة المنهج الاستقرائي والوصفي التحليلي حيث قاموا باستقراء هذه الظاهرة في العديد من الكلم ثم أخضعوها للتحليل اللغوي الدقيق الأمر الذي مكن الباحثون من التوصل إلى نتائج عدة عديدة منها: إن ظاهرة التطور التاريخي للكلم هي المنبت الرئيس للمشترك اللفظي في اللغة العربية وكذلك الترادف اللغوي، وأيضاً تعد ظاهرة التطور التاريخي للكلم العربية وسيلة مهمة للتعبير عن كل المستجدات التي تظهر من خلال النشاط البشري المستمر فهي بمثابة المخزن الذي تلجأ إليه اللغة لسد حاجتها من عوز الألفاظ حين إرادة التعبير عن الدلالات المستجدة عبر العصور المختلفة .
ويوصي الباحثون بمزيد من التنقيب عن هذه الألفاظ المتطورة لمعرفة ما تدل عليها في ماضيها وما آلت إليه اليوم من دلالات جديدة حيث نؤكد ما تمتاز به اللغة العربية من مرونة وحيوية .
مقدمة:
تولد الكلم في اللغات بمعانٍ محددة لا تتعداها إلى غيرها، وتكون هذه المعاني المحددة قسمة مشتركة بين كل المتكلمين بهذه اللغة، حتى إذا ما ذكرت هذه اللفظة فهموها جميعاً بهذا المعنى المحدد.
وقد أطلق بعض الباحثين على هذا النوع من المعنى اسم المعنى المركزي Central Meaning، حيث شبهوه بمركز الدائرة الذي يكون في وسطها تحسباً للظروف الطارئة التي قد تمر بها الكلمة لاحقاً في قابل دهرها، وتفضي بها إلى معانٍ أخرى جديدة Marginal Meanings تدور حول هذا المعنى المركزي، وقد يقترب المعنى بينها وبينه شيئاً ما، وقد يبتعد ابتعاداً كبيراً.
وعلى كل فإن هذه الظروف التي تلم بالكلمة وتغير من معناها إلى معانٍ أخرى جديدة هي في الحقيقة دليل عافية في اللغة ومظهر من مظاهر الحياة فيها. إذ إنها بذلك تؤدي إلى تطور اللغة ونموها.
أسباب اختيار الموضوع:
اللغة كسائر الظواهر الاجتماعية يطرأ عليها التبدل والتغير، ولهذا وجب مراعاة فكرة التطور هذه ودراستها والاهتمام بها في سائر الأبحاث اللغوية.
أهمية الدراسة:
تأتي أهمية هذه الدراسة من أهمية الموضوع نفسه، إذ إن التطور التاريخي للكلم العربية وما تؤدي إليه من استيعاب اللغة ومقدرتها على هضم كل جديد يطل برأسه في الحقل الدلالي لبرهان كافٍ على حياة اللغة ومرونتها.
أهداف الدراسة:
- العمل على إثبات هذه الظاهرة واستجلائها بوضوح في اللغة العربية.
- التوصل إلى ما تفضي إليه هذه الظاهرة من معانٍ جديدة في اللغة.
- التفريق بين كلمات المشترك اللفظي Homonymy التي نشأت عن طريق التطور التاريخي وبين غيرها التي نشأت بطرق أخرى.
- التعرف على الأسباب والدواعي التي تؤدي إلى هذا التطور التاريخي.
منهج الدراسة:
ولتحقيق هذه الأهداف اتبع الباحثون المنهج الاستقرائي والمنهج الوصفي التحليلي، حيث قاموا باستقراء هذه الظاهرة في كثير من الكلم بعد أن اخضعوها للتحليل اللغوي الدقيق ، الأمر الذي مكنهم من التوصل إلى نتائج مهمة.
خطة الدراسة:
شملت خطة الدراسة عدة محاور هي:
أولاً- التعريف بالتطور التاريخي للكلم.
ثانياً- أسباب وعوامل التطور التاريخي وأشكال وصور هذا التطور.
ثالثاً- أشكال ومظاهر التطور التاريخي:
رابعاً- أمثلة تطبيقية للتطور التاريخي لبعض الكلم:
ثم خاتمة البحث ونتائجه وتوصياته. وقائمة المصادر التي اعتمدت عليها الدراسة.
المحور الأول – معنى التطور اللغوي:
التطور في اللغة شأنه كشأن التطور في سائر مجالات الحياة لا يتجه دوماً نحو الأحسن، ولا يكون دائماً بمعنى التقدم والارتقاء فقد يكون تردياً وانتكاساً في بعض الأحيان . إذن فالمقصود بكلمة التطور في هذه الدراسة هو التغير والتبدل للكلم العربية .
يقول محمد المبارك:((تنتقل الكلمة من معنى إلى آخر، أو تضيف إلى معناها معنى آخراً جديداً دون أن تترك الأول، فتتعدد بذلك المعاني التي تدل عليها، وتستعمل في أي واحد منها على حسب الأحوال والمقامات والغالب أن يحصل هذا التبدل على مر الأيام، وتقلبات العصور، ويسمى في هذا الحال تطوراً لأنه انتقال بالكلمة من طور إلى طور)) (محمد المبارك، 1964، 207).
ويقول Cohen :((إن نفس الكلمات – بسبب تطور اللغة خلال الزمن – تكتسب معنى آخر، وتشرح فكرة أخرى، وعلى هذا فإن ما تعنيه بتغير المعنى هو تغيير الكلمات لمعانيها)) (Cohen: 2).
ويقول استيفن أولمان:((لقد سبق أن عرفنا المعنى بأنه علاقة متبادلة بين اللفظ والمدلول … وعلى هذا يقع التغير في المعنى كلما وجد أي تغير في هذه العلاقة الأساسية (أولمان، 100).
الناحية التاريخية وعلاقتها بتطور الكلمات:
لاشك أن تطاول القرون وتبدل الأزمان له دور كبير في تغير معاني الكلم لأن الظروف التي يمر بها المتكلمون في كل عصر ووسائل الحياة التي يمارسونها تختلف من عصر إلى آخر ومن جيل إلى جيل، وهذا كافٍ بأن تختلق دلالات جديدة يضطرون معها في بعض الأحيان إلى تحويل بعض الألفاظ القديمة من مرقدها وخلعها عن دلالاتها الأصلية وإلباسها أثواب الدلالات الجديدة لتعبر عنها.
ويرى اللغوي الفرنسي أنطوان ميه أن هناك ثلاثة أسباب رئيسية تؤدي إلى تغير المعنى هي: الأسباب اللغوية والأسباب التاريخية والأسباب الاجتماعية.
ويقول استيفن أولمان في هذا الشأن:((هذه الأنواع الثلاثة مجتمعه تستطيع فيما بينها أن توضح حالات كثيرة من تغير المعنى ولكنها مع ذلك ليست جامعة بحالٍ من الأحوال)) (أولمان، 157).
وبناءً على ما سبق من هذه النصوص نستطيع أن نؤكد أن معنى التطور المقصود به في هذه الدراسة ما هو إلا انتقال الكلمة من طور إلى طور أو من معنى إلى معنى آخر جديد فقط وقد يكون بين المعنيين تناسب في بعض الوجوه وقد لا يكون البته، وهذا ما عليه الكثير من أهل العلم باللغة.
المحور الثاني – أسباب وعوامل حدوث التطور التاريخي:
الأسباب المؤدية إلى التطور التاريخي للكلم العربية كثيرة ، منها ما يمكن أن تدخل في إطار اللغة نفسها ومنها ما تأتي من خلال الحوادث التاريخية والنشاطات الاجتماعية والدينية والثقافية، فهي على العموم لا يمكن حصرها ولا ضبطها ولكن يمكن أن نعرض بعضاً منها والتي نحسب ان لها أثراً في مجرى التطور اللغوي ، وهي
أ– العامل الديني:
إن للأديان أثر كبير في تطور الالفاظ العربية ودلالاتها وذلك لأن الاديان تأتي بكلمات جديدة وشرائع ومعتقدات لم تكن موجودة قبل نزول الوحي ولهذا لابد من استعمال هذه الالفاظ الجديدة في اللغة لابد أن تكون اللغة مسايرة لهذه الالفاظ الجديدة مم أدى ذلك لظهور الفاظ وجمل وتراكيب ودلالات ومعانٍ جديدة تستطيع أن تحول ألفاظاً كانت مستخدمة لدلالات معينة إلى دلالات أخرى تتسق وما تحملها هذه الأديان من مفاهيم وأفكار. وحسبك شاهداً عليه أن تنظر في ألفاظ كالصلاة والصوم والحج ونحوها لترى كيف تطورت هذه الكلمات في دلالاتها عما كانت عليه في الجاهلية وما ذلك لارتباط صيغها بأفكار ومفاهيم جديدة أتى بها الإسلام. وعليه فأن الدين الاسلامي له أثر كبير في تهذيب اللغة العربية والنهوض بها الى أرقى مستوى في كل النواحي اللغوية كالمعاني والمضامين والآراء والافكار والقيم والاخيلة والأساليب والالفاظ ، وبناءً على ذلك يعتبر العامل الدين هو من أهم العوامل في تطور لغة العرب .
ب- ظهور المخترعات الجديدة:
النشاط الإنساني مستمر، ولا يتوقف إلا بتوقف حياة الإنسان نفسه، فهذا الحراك المستمر ينتج معطيات جديدة يستغلها الإنسان لاستمرار هذا النشاط، فتظهر مخترعات ومبتكرات لم تكن لها سابق ظهور ولذلك يضطر الإنسان أن يضع لها مسميات. وليتحقق له هذا يسلك طريقين لذلك: أولهما- أن يلجأ إلى اللغات الأخرى فيقترض منها كلماً يطلقها على هذه المستحدثات. ثانيها- أن يلجأ إلى لغته الأصلية يحي فيها كلماً قديمة اندثرت ويطلقها على هذه المستحدثات لمجرد وجود علاقة بينهما، وبهذه الطريقة الأخيرة استطاع الإنسان أن ينقل ألفاظاً قديمة لمعانٍ جديدة حديثة. وفي ذلك يقول Waldron :((وفي المخترعات والاكتشافات الحديثة نحن نستعمل ألفاظاً قديمة لمعانٍ حديثة، ولذا يتغير المعنى)) (Waldron-1967-117).
ويقول إبراهيم أنيس:((وهكذا وجدنا أنفسنا أمام ذلك الموج الزاخر من الألفاظ القديمة الصورة، الجديدة الدلالة، مثل المدفع والدبابة والسيارة والقاطرة والثلاجة والسخان والمذياع والذبذبات والتسجيل والجرائد والصحف، وغير ذلك من آلاف الألفاظ التي أحياها الناس أو اشتقوها، وخلعوا عليها دلالات جديدة تطلبتها حياتهم الجديدة (إبراهيم أنيس، 1972، 146).
ج- مراعاة المشاعر العاطفية والنفسية:
إن الآداب الاجتماعية والحياء والاشمئزاز والتشاؤم والتفاؤل كلها أسباب نفسية تدعو إلى تجنب كثير من الألفاظ والعدول عنها إلى غيرها من الألفاظ التي يكنى بها عن الأشياء التي يستحي من ذكرها، أو يخاف أو يتشاءم من التلفظ بأسمائها. وذلك كبعض أعضاء الإنسان وأفعاله وبعض الأمراض والعاهات. فقد استعمل العرب كلمة (البصير) للأعمى، وكلمة (السليم) لمن لدغه عقرب أو نهشته حية وسموا (الصحراء) مفازه تفاؤلاً بالفوز والنجاة من الهلاك المتوقع حين السفر في عرض الصحراء.
واستعمل الناس من بعد كلمة (الكفيف) للأعمى أي مكفوف البصر. (محمد المبارك، 1964، 2016).
وفي العصر الحديث سموا المعهد الذي يعلم فيه العميان بمعهد النور والأمل، وأطلقوا على مجموعة الدول المتخلفة في العالم اسم الدول النامية أو دول العالم الثالث، وقالوا ((افريقيا السمراء)) لإفريقيا السوداء على حد قول الشاعر السوداني محمد محمد علي: نحن من افريقيا السمراء من مهد الأسود. فمثل هذه الألفاظ تسمى في عرف علم اللغة الحديث ((باللامساس) Taboo. وفي ذلك يقول استيفن أولمان: ((تحظر اللغات استعمال بعض الكلمات لما لها من إيحاءات مكروهة، أو لدلالاتها الصريحة على ما يستقبح ذكره، وهو ما يعرف باللامساس أو Taboo)) (أولمان، 177).
ويعلق أحمد مختار عمر على هذا بقوله:((ولا يؤدي اللامساس إلى تغيير المعنى، ولكن يحدث كثيراً أن المصطلح البديل يكون له معنى قديم مما يؤدي إلى تغيير دلالة اللفظ، فكأن اللامساس يؤدي إلى التحايل في التعبير أو ما يسمى بالتلطف، وهو في حقيقته ابدال الكلمة الحادة بكلمة أقل حدة وأكثر قبولاً، وهذا التلطف هو السبب في تغير المعنى)) (أحمد مختار: 2009، 2040).
وأمثلة ذلك في الحياة العامة كثيرة، منها ما يحكي أن رجلاً ذهب إلى السوق ووقف أمام دكان لبيع الملابس ووجد امرأة تقف أمام التاجر تريد شراء ملبساً داخلياً، فلما رأت هذا الرجل خجلت من ذكر حاجتها صراحة، فمكثت ملياً تنتظر ذهاب الرجل لتفصح بحاجتها لصاحب الدكان، ولكن لما طال مكث الرجل وهي ترغب في الذهاب قالت للتاجر وهي تشير إلى الملبس الداخلي ((خلي في سرك دا بكم؟)) وهكذا نرى أنها قد ابدلت اللفظ المعهود لهذا الملبس بهذه العبارة تفادياً للحساسية والخجل الذي سيثيره ذكره المباشر فهذا هو التلطف في التعبير والتحايل الذي يؤدي إلى تغيير المعنى.
وأيضاً من أمثلة اللامساس في الحياة العامة للمجتمع، الأسماء الكثيرة التي تطلق على أماكن قضاء الحاجة مثل الكنيف والمرحاض والأدب خانه والحمام ودورة المياه أو W.C والمستراح والتواليت … هلمجرا، ما ذلك إلا لحساسية النطق باللفظ الأساس والابتعاد عنه إلى ما هو أقل حدة على الذوق والأدب. فكلما شاع لفظ واستهجن استبدل به سريعاً لفظاً آخر ولو كان مستعاراً من لغة أجنبية.
د- الانعزال:
قد تنعزل أمة من الأمم فتبتعد عن مسايرة التطور الحضاري، وتتقوقع في منطقة معزولة. وغالباً ما يكون هذا المنحى لدى الأمم التي توسم بالبدائية حيث يبدأ أفرادها في تحريف بعض الكلم عن دلالاتها الأساسية إلى دلالات أخرى قد لا تكون لها علاقة بالدلالات المركزية لها. وعندئذٍ يحدث تغير دلالي يمكن أن يمثل تطوراً تاريخياً لتلك الكلم العربية . فمن ذلك ما ضربه إبراهيم أنيس مثالاً لبعض الكلمات مثل: ((الأرض)) التي تحمل دلالات عدة متباينة، فهي الكوكب المعروف، وهي الزكام وهي الرعدة كذلك. ومثل كلمة ((الليث)) التي تعني الأسد وتعني كذلك العنكبوت وهكذا. ((إبراهيم أنيس، 1972، 135)). ومثل كلمة ((الفرخ)) التي تعني صغير الطير وتعني الورق في بعض المناطق النائية في دارفور.
هـ- العامل الصوتي:
يعتبر تناغم الأصوات واتساق بعضها بجوار بعضٍ في المباني من الأسباب القوية لبقاء الكلمات مدة طويلة من الزمن، ويمثل درعاً منيعاً تتخذه الكلمة في مقاومتها لعوامل التغير والتبدل.
وإذا كان الاقتراض اللغوي من الأمور الحيوية التي تلجأ إليها اللغات في بعض الظروف فإن هذه الكلمات الدخيلة قد تزحزح بعض الكلمات الأصلية عن حلبة الاستخدام وتقذف بها في عالم النسيان. وتحل محلها، وما ذلك إلاَّ لما تمتاز بها من خفة في النطق وعذوبة في الجرس مما لم يكن متوفر لدى الكلمة الأصلية.
ولهذا السبب نجد كلمات كثيرة في العربية ترك أهلها استخدامها واستعاضوا عنها بكلمات أجنبية دخيلة فمن ذلك كلمة ((الفيل )) الحبشية الأصل رغم وجود ما يقابها في العربية وهو (الزندبيل)) إلا أن الزندبيل طوى في عالم النسيان ومثله كلمة ((الياسمين)) فهي فارسية الأصل حلت محل ((السجلاط)) العربية الأصل، وما ذلك إلا لخفة الكلمة الدخيلة وثقل الكلمة العربية الأصيلة في النطق ، ومثل ذلك الكثير مثل المرآة، والإبريق التي حلتا محل السجنجل والتامورة العربيتين. فقد تطورات هذه الكلم تاريخياً وتحولت عما كان ينطق بها قبل اختلاط العرب بهذه الأمم الأجنبية إلى ما ينطق بها اليوم. (الكرملى، 1938، 88).
ويربط بعض اللغويين هذا التطور التاريخي الناتج عن العامل الصوتي للكلم العربية بقضية أسموها بقضية فناء الألفاظ وزوالها. يقول الكاروري: ((إن الألفاظ كما تتحول من معنى لآخر كذلك تتحول من وجود إلى عدم … وفي العربية قدر كبير من هذا الذي درس وباد، ويسميه بعضهم عقمى الكلام. (الكاروري، 1986، 15).
وفي هذا السياق يقول ابن فارس:((ذهب علماؤنا أو أكثرهم إلى أن الذي انتهى إلينا من كلام العرب هو الأقل)) (ابن فارس، 34).
ويقول أيضاً:((وقد كان لذلك كله ناس يعرفونه، وكذلك يعلمون معنى ما نستغربه اليوم نحن من قولنا ((عيسجور)) في الناقة و((امرأة ضناتي)) و((فرس أشق أحق خبع)) ذهب كله بذهاب أهله ولم يبق عندنا إلا الرسم الذي نراه (ابن فارس، 37) ولعل السبب الرئيس لذهاب هذه الكلم واندثارها هو عدم تناغم الحروف في مبانيها الأمر الذي أدى إلى مشقة في نطقها ، فقد دفع ذلك المستخدمين إلى هجرها وتركها.
المحور الثالث – أشكال ومظاهر التطور التاريخي:
يتم هذا التطور التاريخي بوسائل عدة فيبرز في شكل صور وأنماط مختلفة يجدر بنا عرض هذه الصور والأنماط في الأسطر التالية:-
أولاً- توسيع المعنى Widening:
وذلك بأن يكون المعنى القديم منحصر على لفظ معين، ثم يتمدد استعماله مع مرور الزمن ليشمل معانٍ أخرى. وذلك مثل كلمة (عقيله) التي كانت تطلق في الماضي على الناقة المربوطة، انتقل هذا اللفظ ليطلق على المرأة المتزوجة الحصان الرزان، ثم أصبحت الآن تطلق على كل زوجة كانت حصاناً رزاناً أم غير ذلك.
ومثلها كلمة (Salary) التي تعني المرتب من أي نوع، كانت في أصلها اللاتيني كما يقول أحمد مختار عمر:((تعني فقط مرتب الجندي، بل إذا تتبعنا اللفظ في تاريخه القديم نجده كان يعني فقط حصة الجندي من الملح)) (أحمد مختار، 2009، 244).
وكلمة (العم) تطلق في الأساس على أخ الأب، فأصبحت الآن يطلقها الأطفال على كل رجل في عمر الأب، فقد اسقطوا عنها ملمح القرابة واكتفوا فيها بمجرد الذكورة والبلوغ ومساواة الأب في العمر.
ثانياً: تضييق المعنى Narrowing
وهو أن يكون اللفظ في الماضي دالاً على معان كثيرة، فيخصص بدلالة واحدة معينة دون الأخريات، مثال ذلك كلمة (المأتم) التي كانت تطلق في الماضي على مجرد اجتماع الرجال أو النساء في مناسبة ما سارة كانت أم حزينة. يقول صاحب مختار القاموس في مادة ((أتم)): ((أتم بالمكان أتماً: أقام، والمأتم – كمقعد – كل مجتمع في حزن أو فرح)) (الطاهر أحمد الزاوي، 1980، 13). ولكن الآن تخصصت بالمناسبة الحزينة فقط.
قال أحمد شوقي:
وإذا أصيب القوم في أخلاقهم *** فأقم عليهم مأتماً وعويلا
ومثلها كلمة ((حرامي)) هي في الحقيقة نسبة إلى الحرام من كل نوع، ثم تخصصت دلالتها واستعملت بمعنى اللص في القرن السابع الهجري (أحمد مختار، 2009، 246). ومازال هذا الاستخدام مستمراً إلى يوم الناس هذا.
ثانياً- انتقال المعنى:
يقول جورج فندريس: ((يكون الانتقال عندما يتعادل المعنيان، أو إذا كان لا يختلفان من جهة العموم أو الخصوص، كما في حالة انتقال الكلمة من المحل إلى الحال أو من المسبب إلى السبب أو من العلاقة الدالة إلى الشيء المدلول عليه أو العكس)) (فندريس، 1950، 256).
وانتقال المعنى يتضمن طرائق شتى منها: الاستعارة والمجاز، واطلاق البعض على الكل … الخ.
ومن أمثلة الكلمات التي تغيرت دلالتها بطريق النقل كلمة (الشنب) التي كانت تعني في القديم جمال الثغر وصفاء الأسنان وبياضها، فقد أصبحت الأن تطلق على الشارب. وكلمة (السفرة) والتي كانت تعني الطعام الذي يصنع للمسافر (الزوادة) أصبحت الأن تطلق على المائدة وما عليها من الطعام، بل وتطلق على مجرد الإناء ولو كان فارغاً من الطعام. (وطول اليد) كانت في الماضي كناية عن السخاء والكرم أصبحت اليوم توسم بها السارق. ولعل السياق هو الحكم الرشيد في التمييز بين هذه المعاني.
ومن أشكال انتقال المعنى ما يعرف بانحطاط المعنى وارتقاء المعنى. فأما انحطاط المعنى فهو أن يكون المعنى في الماضي معبراً عن صفة راقية، ثم تنحدر بالاستعمال في مقتبل الدهر إلى أسفل سافلين، فمثاله كلمة (الأستاذ) التي كانت تطلق على المعلم والعالم، وعلى كل من يتصف بصفة العلم والثقافة، أصبحت اليوم تطلق اليوم على كل شخص اتصف بهذه الصفات أم لم يتصف بها.
ويمكن أن يكون هذا من باب توسيع المعنى الذي ورد ذكره آنفاً، إلا أن الفرق بين انحطاط المعنى هذا وتوسيع المعنى هو أنه في حالة توسيع المعنى تكون هنالك بعض الجوانب المشتركة بين المعنى الأساس والمعنى المتطور إليه، أما في حالة انحطاط المعنى فلا يشترط وجود هذه الملامح المشتركة، بل يطلق اللفظ على المعنى المتطور إليه دون مراعاة للقواسم المشتركة بين المعنيين.
ومن الكلمات التي انحطت دلالتها أيضاً كلمة (الحاج) التي كانت تطلق في الأساس على من حج إلى بيت الله الحرام لأداء فريضة الحج فقد أصبحت اليوم تطلق على كل من تقدم في السن سواء حج البيت الحرام أم لم يحج.
وأما ارتقاء الدلالة فيمكن أن نمثل له بكلمة (الشيخ) التي تطلق في الأصل على من بلغ من الكبر عتياً، قال تعالى على لسان ابنتي شعيب عليه السلم:(( لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير)) (القصص/23) أصبحت الكلمة اليوم تطلق على كل من نال قسطاً من العلم الشرعي حتى ولو كان صغيراً في السن. أو كان إماماً لطريقة صوفية.
المحور الرابع – أمثلة تطبيقية للتطور التاريخي لبعض الكلم:
قال الشاعر:
أؤمل أن أعيش وأن يومي * بأول أو بأهون أو جبار
أو التالي دبار فإن يقتني * فمؤنس أو عروبة أو شيار
خاتمة:
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، ثم الصلاة والسلام سرمداً على المبعوث رحمة للبريات، بهذا يكون البحث قد وصل إلى مرساه، وحقق مبتغاه، وآتى ثمراته التي تمثلت في النتائج الآتية:
- إن ظاهرة التطور التاريخي للكلم العربية هي من أهم العوامل الداعية لظهور المشترك اللفظي والترادف اللغوي.
- التطور التاريخي للكلم يبعث في اللغة روح الحياة للتعبير عن كل المستجدات التي تظهر من خلال النشاط البشري المستمر، فهو بمثابة المخزن الذي تلجأ إليه اللغة لسد حاجتها من عوز الألفاظ حين إرادة التعبير عن الدلالات المستجدة.
- تناغم الأصوات واتساقها بجوار بعضها البعض في الكلم يمثل درعاً منيعاً تتخذه الكلمة لمقاومة عوامل التغير والتبدل التاريخي .
- خفة الكلمة الدخيلة وسهولة نطقها، ونصاعة جرسها تمكنها من زحزحة الكلمة العربية الأصيلة وحل محلها في الاستخدام.
ويوصي الباحثون في هذه الدراسة بمزيد من التنقيب عن هذه الألفاظ المتطورة لمعرفة ما تدل عليه في ماضيها، وما آلت إليه اليوم من دلالات حتى نؤكد على ما تمتاز به اللغة العربية من حيوية ومرونة، لأن الذي ورد في هذا البحث من الأمثلة تعتبر غيض من فيض والله المستعان.
المراجع والمصادر
- القرآن الكريم.
- إبراهيم أنيس، دلالة الألفاظ، دار الأنجلو المصرية، الطبعة الثالثة، 1972م.
- الأب اتستانس الكرملي، نشوء اللغة العربية ونموها واكتهالها، القاهرة، 1938م.
- أحمد يتمور باشا، عيوب المنطق ومحاسنه، دار نهضة مصر، الفجالة، القاهرة.
- أحمد بن فارس، مقاييس اللغة، القاهرة بدون تاريخ.
- أحمد مختار عمر، علم الدلالة، عالم الكتب، الطبعة السابعة، 2009م.
- استيفت أولمان، دور الكلمة في اللغة، ترجمة كمال بشر، القاهرة، الطبعة الأولى، بدون.
- البغدادي، خزانة الأدب، عالم الكتب، القاهرة.
- جورج فندريس، اللغة، ترجمة عبد الحميد الدواخلي ومحمد القصاص، دار الأنجلو المصرية، 1950م.
10-الطاهر أحمد الزاوي، مختار القاموس، الدار العربية للكتاب، 1980.
11- عبد المنعم محمد الحسن الكاروري، التعريب في ضوء علم اللغة المعاصر، دار جامعة الخرطوم للنشر، 1986م.
12- محمد المبارك، فقه اللغة وخصائص العربية، دار الفكر للطباعة والنشر، 1964م.
المراجع الأجنبية:
- The Diversity of Meaning. LJ Cohen 2nd G.B. 1966.
- Sense and Development. RA Waldron. London, 1967.