
مقاصد المؤلف و تجربة تلقي كاتب ياسين لأعماله الابداعية
Interpretation and purposes of the author-the experience of receiving kateb yassine for his creative work
د/ كريمة بلخامسة جامعة بجاية –الجزائر- Dr. Karima BELKHAMSA – University of bejaia – Algeria
مقال منشور في مجلة جيل الدراسات الادبية والفكرية العدد 56 الصفحة 23.
Abstract :
Thinking about the process of building the reception experience in creative work, tracking successive readings over time, and reader reactions, necessarily leads us to take care of the creator and ask whether it is the role of the writer to intervene in the receiving circle when he is free from writing ?
And what adds his remarks to the receiving circle?
What is its function for history of the reality of receiving ?
Thus considering how the author reads his work and his reactions to multiple readings. It is truly unfair to exclude the writer from the receiving circle. He is the spiritual and actual father of this imagined world and this literary structure. He can also be regarded as the primary recipient of his work. Is the mental intent of the author equal to all the meanings of the text?
Is it necessary for the receiver to reach exactly what I mean ? Is it possible to reach this intention through analysis of creative work?
The text can never match the purposes of its author …?
Keywords: receiver, receiving, literature, author, intent, creative work.
الملخص:إن التفكير في عملية بناء تجربة التلقي في الأعمال الإبداعية، وتتبع مختلف القراءات المتعاقبة عبر الزمن، وردود أفعال القراء، يحملنا بالضرورة إلى التوقف عند صاحب العمل الإبداعي والتساؤل هل من دور الكاتب التدخل في دائرة التلقي عند فراغه من الكتابة؟
وماذا تضيف تصريحاته إلى دائرة التلقي و التأويل؟
وما وظيفتها بالنسبة للتأريخ لوقائع التلقي و التأويل؟
وبالتالي النظر في كيفية قراءته لعمله ، وردود أفعاله تجاه القراءات و التأويلات المتعددة، إذ من المجحف حقا إقصاء الكاتب من دائرة التلقي فهو الأب الروحي والفعلي لهذا العالم المتخيل وهذا البناء الأدبي، كما أنه بمكن اعتباره المتلقي و المؤول الأول لعمله ، فهل يتساوى القصد العقلي للمؤلف وكل ما يثيره النص من معان؟
هل من الضروري ان يتوصل المتلقي إلى المعنى الذي قصد إليه المؤلف بالضبط ، وهل الوصول إلى هذا القصد من خلال تحليل العمل الإبداعي ممكن؟
أم إن النص لا يمكنه أبدا ان يتطابق مع مقاصد مؤلفه…؟
الكلمات المفاتيح: المتلقي، التلقي، الأدب، المؤلف، القصد، العمل الإبداعي
تقديم:
لقد طرح هانس روبرت ياوس في كتابه “جمالية التلقي”، فكرة الحوارية بين العمل الأدبي و المتلقي و علاقتها بتاريخية الأدب. ويعتبر التلقي بمثابة إعادة إنتاج و تصنيع للنص من جديد ، إذ لا يكون النص حاضرا إلا بقدر ما يكون مقروءا، كما لا يمكن الفصل بينه و بين أنماط التلقي التي تشكلت حوله. ومن هنا ليس بالإمكان تصور النص في وجوده المتعيّن إلا من خلال تحققه في القراءة، و ليس القارئ أو الجمهور المتلقي مجرد عنصر سلبي يتوقف دوره على الانفعال بالأدب، بل يتعداه إلى تنمية طاقة تساهم في صنع التاريخ ولذلك لا يستطيع أبدا أن يحيا العمل الأدبي في التاريخ دون علاقة بالمتلقين و الإسهام الفعلي للذين يتوجه إليهم، و مساهمتهم الفعالة التي تمنحه أبعادا و إضاءات جديدة ، و يدخل العمل ضمن الاستمرار المتحرك للتجربة الأدبية. ويعتبر ياوس” مفهوم الانتظار “إستراتيجية تقوم عليها جمالية التلقي التي تعيد الاعتبار للقارئ أو المتلقي سواء أكان ذلك من خلال تصور جديد للتاريخ الأدبي، بحيث يدمج المتلقي في الدائرة التي كانت لا تتسع إلا للعمل و الكاتب، وبهذا ترفع القارئ إلى رتبة وسيط بين الحاضر و الماضي، بين العمل و فعله ،أم من خلال اتخاذ تجربة القارئ معبرا لفهم و تأويل الأعمال الماضية.
إن التفكير في عملية بناء تجربة التلقي في الأعمال ألإبداعية و تتبع مختلف القراءات المتعاقبة عبر الزمن و ردود أفعال القراء، يحملنا بالضرورة إلى التوقف عند صاحب العمل الإبداعي و التساؤل هل من دور الكاتب التدخل في دائرة التلقي عند فراغه من الكتابة ؟ و ماذا تضيف تصريحاته الى دائرة التلقي ؟ و ما وظيفتها بالنسبة للتأريخ لوقائع التلقي ؟ ، و بالتالي النظر في كيفية قراءته لعمله ، و ردود أفعاله تجاه القراءات المتعددة ، إذ من المجحف حقا إقصاء الكاتب من دائرة التلقي فهو الأب الروحي و الفعلي لهذا العالم المتخيّل و هذا البناء الأدبي ، كما أنه يمكن اعتباره المتلقي الأول لعمله . فهل يتساوى القصد العقلي للمؤلف و كل ما يثيره النص من معان؟ و هل من الضروري أن يتوصل المتلقي إلى المعنى الذي قصد إليه المؤلف بالضبط ؟ وهل الوصول إلى هذا القصد من خلال تحليل العمل الابداعي ممكن؟ أم أن النص لا يمكنه أبدا أن يتطابق مع مقاصد مؤلفه..؟ نعمل من خلال ” تجربة تلقي كاتب ياسين لأعماله الابداعية ” توضيح كل هذه الاشكاليات و الاجابة على هذه التساؤلات من خلال تتبع تصريحات الكاتب في محافل دولية شتى ، و في استجوابات مع الصحافة المختلفة و البحث في مدى توافق الكاتب مع التأويلات القرائية المتعددة عبر التاريخ لأعماله و وردود فعله تجاهها ، و معرفة دوافع كاتب ياسين وراء تصريحاته فهل هي الرغبة في تصحيح سوء الفهم ؟
و إذا قبلنا بهذا ، فهل معنى ذلك أن هناك دلالة محددة قصد إليها المؤلف ؟ وبذلك نحدد مدى تجاوب القراء مع أفق انتظارات الكاتب التي رسمها في أعماله. .
ولما كانت جمالية التلقي تجعل من التوضيحات والتعديلات التي يقدمها الكاتب ، والتي يطرح فيها مقاصده الحقيقية من كتابة عمله ليزيح ، ويُبعد سوء الفهم أو الغموض أحد وسائل الرقابة التاريخية التي ينبغي أن تخضع لها كتابة تاريخ القراءة([1])، فإننا سنحاول تجميع بعض العناصر من قراءة كاتب ياسين لعمله الإبداعي ، من خلال تصريحات الكاتب في محافل أدبية شتى وفي استجوابات مع الصحافة المختلفة ، والبحث في مدى توافق الكاتب مع التأويلات القرائية المختلفة عبر التاريخ لأعماله، وردود فعله تجاهها، ومعرفة دوافع كاتب ياسين وراء تصريحاته وأحاديثه. فهل هي الرغبة في تصحيح سوء الفهم ؟ أو الانحراف عن القصد الذي رمى إليه ؟ أم أنّ الهدف هو الكشف عن بعض ما غمض عليهم، وتوجيههم وجهة قرائية يراها أقرب إلى الصواب حسبه ؟ وإذا قبلنا بهذا، فهل معنى ذلك أن هناك دلالة محددة قصد إليها المؤلف، وكل ما عدا ذلك فهو خطأ ؟ وأن القارئ بقراءته يذكّر القراء بملكيته لنصه، وأنه الخالق الوحيد لهذا العالم المتخيّل، وهو كامل المعرفة به ؟ ونحدد مدى تجاوب القراء مع أفق انتظارات الكاتب التي رسمها في أعماله الشعرية والروائية والمسرحية، أم أنّ قدرات القارئ في نظر المؤلف لم تكن في مستوى استيعاب أفق هذه التجربة الإبداعية في أعماقها، وبالتالي لم يكن القارئ الذي صنعه كاتب ياسين في ذهنه كفءاً لفهمه ولاستيعاب الآفاق التي يحفل بها عمله.
تأسيساً على ذلك، فإننا نفترض أنّ كاتباً مثل كاتب ياسين قد استوقفته المواضيع الأكثر إثارة في قراءات القراء عبر التاريخ ، والتي كانت حافزاً لتعدد التأويلات والتفسيرات، وشكلت منبعاً للأسئلة غير المنتهية ، واستثمرتها القراءات المختلفة بشكل مكثف نحددها فيما سيأتي:
أ ـ المؤلف قارئا لبنية أعماله الابداعية :
استوقفت عملية التلقي عبر مختلف الفترات التاريخية قضية البنية في أعمال كاتب ياسين المختلفة ، سواء في الشعر أو الرواية أو المسرح، وشكلت محور اهتمام القراء وخلقت نقطة الإبهام والاضطراب في أفق انتظاراتهم ، وعدم فهم هذه التجربة الإبداعية لخروجها عن المألوف ، وخرقها التقاليد الأدبية المعروفة.
ومن هنا، فقد عاد الكاتب في كثير من حواراته وتصريحاته الصحفية وكتاباته في المجلات والجرائد إلى قضية البنية، وتداخل البنى الأدبية فيما بينها، وانكسار الحدود الفاصلة بين الأجناس الأدبية لتتلاحم كلها في نص إبداعي واحد يتميز عن النصوص الأخرى، ويرفض الخضوع للقوانين والقواعد المرسومة في السياق المرجعي للقارئ، بحيث يقول« منذ طفولتي وكنت أرى أن الكتابة الإبداعية لا تقتضي مني اختيار الجنس الذي أكتب فيه أولاً. وأنا من الذين عندما يكتبون عملاً إبداعياً لا يعرفون أبداً إن كان قصيدة أو مسرحاً أو رواية… وفي رأيي ليس هناك قوالب شكلية مهيّأة مسبقاً. فروح العمل الإبداعي وعمقه ترفض البنية التي ينبغي أن يكون عليها العمل »([2]).
وقد تجسدت هذه الفكرة بشكل واضح في كتابه (المضلع النجمي) الفريد من نوعه حسب أغلب التلقيات عبر الزمن، حيث احتار النقد في مسألة تصنيفه ضمن جنس من الأجناس الأدبية، فلم يتحدد إن كان رواية أو مسرحية، وتفجرت فيه الحدود بين الشعر والمسرح والرواية، ويصنع الكتاب ثورة زعزعت القوالب الراسخة في أذهان القراء بمختلف انتماءاتهم، كما تنبني مسرحية “الجثة المطوقة” على اللغة الشعرية، ويصنع خطاب الشخصيات شعراً ويقول:« أنا شاعر وقد سكنني الشعر طبيعياً منذ صغري، وأعترف أن بعض الناس لا يضعون الشعر في اهتماماتهم الأدبية، لكن بالنسبة إليّ السؤال لا يطرح، فكل شيء يبدأ من الشعر »([3]). وهذا ما دفع حركة التلقي عبر التاريخ إلى طرح فكرة “رجل الكتاب الواحد”، أي إن أعمال كاتب ياسين هي تكرار لكتاب واحد، فالشعر يتكرر في الرواية، وتتكرر الرواية في المسرح.
وتتضح المسألة عند الكاتب بقوله:« لقد قلت ذلك وكررته ألف مرة: عند قاعدة كل شيء عندي يوجد الشعر. فهو المنبع الأول للإبداع وأعني بالشعر الفعل الخلاق الذي يعبّر عن كيفية وعينا بالحياة والأشياء… وفيما بعد في أشكال مختلفة كمسرح ورواية، لكن في العمق هو الشيء نفسه »([4]). وقوله أيضاً في 1967 «ـ أظن أنني رجل الكتاب الواحد الذي كان في الأصل قصيدة شعرية، وتحوّل إلى رواية وإلى مسرحيات، لكن هو العمل نفسه الذي سأتركه بالطبع كما بدأته؛ أي آثار وفي الوقت نفسه هو ورشة (chantier)، لا يمكننا إنهاء الكتاب مثلما تُكمل من صنع الأشياء. نحن نحس جيداً في قرارة أنفسنا أنّ العمل لم يكتمل »([5]).
فقبل أن تأخذ نجمة شكل بنية الرواية كانت موجودة في المسرح وفي الشعر أيضاً، ذلك لأن” نجمة أو القصيدة أو السكين” قد نشرت قبلها، ولا يمكن للقراء طبيعياً معرفة كل المعطيات المحيطة بالعمل، إذ لا يعرفون كل شيء، لا سنة نشر الكتاب وسنة تأليفه، وأين أُلّف؟ بحيث يمكن كتابته سنوات قبل نشره.
ويظهر توافق كاتب ياسين لفكرة العمل نفسه والوحيد (une seule et même œuvre) التي طرحها القارئ، ويُقرّ بذلك لكن ليس بمفهوم التكرار لنفس العمل الإبداعي في كل الأجناس الأدبية بين الشعر والرواية والمسرح وافتقاره لروح الإبداع، بل بمفهوم عدم اكتمال موضوع الإبداع في العمل الواحد، وتواصل النصوص المختلفة فيما بينها« وكل فنان يسكنه الشك ويتساءل دائماً هل أحسن وقدّم الأحسن، وهل اكتمل عمله، وهل ذهب إلى أقصى ما يستطيع في الكتابة. والأمر عندي هو إعادة دائماً كل ما أفعل، فمثلاً أكتب صفحة في اللحظة الآنية وتكون جميلة، لكن عندما أعيد قراءتها بعد ست سنوات فتأتي أفكار أخرى وأبدأ من جديد مرة أخرى، وإذا أعدت قراءتها سأعيد كتابتها من جديد وهكذا، وأنا لست الوحيد في هذا، إذ يمزّق الرسام الصديق “إسياخم” رسوماته عندما ينتهي منها، وتكون جميلة فيهدمها في بعض الأحيان. وكان من الواجب في الأخير إبعاد لوحاته عنه لكي لا يعود إليها. وتعتبر محاولة التغير ردة فعل جيدة ودليل على عدم موتنا كمبدعين وهي إشارة إلى أشياء أخرى كثيرة ممكنة، وعندما كتبت نجمة لقد تكلم الكثير عن التكنيك (التقنية) لكن في العمق نلخص الحركة وأنه بسذاجة الكاتب ينطلق من نقطة وفي الأخير يصل إلى نقطة أخرى وتترابط ويرى أنه لم يقل كل شيء. وعندما نكتب فليس كل ما نكتبه هو ما نحمله في ذواتنا لهذا نذهب ونعود إلى نقطة البداية ونحاول محاولة جنونية أخرى لكي نعود إلى نفس النقطة لكن من جهة أخرى »([6]).
ويمكن أن نفسّر ظاهرة التداخل بين البنى الأدبية المختلفة بكونها استراتيجية إبداعية عفوية وتلقائية إذ يقول:« في داخلي شكل من الجن يدفعني إلى أن أتعمق في ذاتي وأذهب إلى أبعد الحدود، وفي العمق يدخل القسم الكبير من إبداعي في اللاوعي واللاشعور »([7]). وبالتالي لم يكن كاتب ياسين يعي ما يحدث على مستوى الكتابة، حيث لم يضع خطة مسبقة لبناء هذا الشكل الإبداعي المتميز، بل ـ مثلما يصرح ـ انطلق من الشعر ليصل إلى الرواية وقرر العمل في الاتجاهات الثلاثة: الشعر، الرواية، والمسرح.
ب ـ المؤلف و الشكل الدائري في أعماله:
لقد شكلت الدائرة نقطة محورية في قراءات القراء، وأثارت الكثير من التساؤل والبحث في أبعادها، وفي كيفية انبنائها عند كاتب ياسين، وفتحت المجال أمام تأويلات عديدة ذهبت أغلبها إلى ربطها بالفكر العربي، وأنها تعتبر جزءاً من المخزون الفني للذاكرة الجماعية التي ينتمي إليها الكاتب ثقافياً وفنياً وأن هذا الهوس بالدائرة ـ حسب كاتب ياسين ـ هو ببساطة طريقة للتعبير عن وجوده الإنساني على أرض دائمة الحركة على محورها ويقول:« أفترض مثلاً أنني أريد أن أحكي حياتي، فأصنع حكاية خطية، كلاسيكية، واقعية. هكذا بدأت أصنع مقطوعات ولكن كنت أشعر أنني لم أكن أتوصل إلى جوهر ما كنت أرغب أن أقوله، أدركت أن هذه الطريقة في الكتابة لا تمكّنني من إبراز خصوصيات عملي، إنها غير قادرة على تمكيني من الوصول إلى أعماق ما أريد قوله. فرحت أكتب بتلقائية دون أية خطة حقيقية كمن يعمل في الظلام تماماً، فاكتشفت متأخراً على كل حال أن عملي يسير في خطوط منحنية. ولهذا قلت في نفسي: لماذا يجب أن تكون لعملي بداية حتى أصل إلى نهاية ؟ فبما أنني أرى فكرتي تدور حول نفسها، فعليّ أن أتركها تدور. فأطلقت الفرامل كلية للكتابة.. فكانت هذه المنحنيات المتفاوتة الاكتمال([8]). ويتبيّن من القول أن البنية الدائرية التي فرضت نفسها في أعمال الكاتب، تحمل جذوراً ممتدة بعيداً في لا شعوره، فهو لم يتنبّه إلى وجودها إلا مؤخراً.
وقد جسدت رواية نجمة هذه الدائرية بطريقة متميزة جداً، حرّكت التقاليد الأدبية واخترقت المرجعيات السياقية، وأثارت انتباه القراء في مختلف الفترات الزمنية، وقد صرّح الكاتب في إحدى محاضراته (1967) أنه لم ينتبه إلى الطابع اللولبي الذي انبنت عليه روايته، وأنه لم يكن يملك أي مفهوم للزمن، وأن انتظام النص على الدائرية يرجع ببساطة إلى طبيعة البنية السردية والظروف التي اشتغل فيها وفرضت نفسها عليه« كنت أكتب جالساً واقفاً وأنا آكل وحتى أثناء نومي ».
وبدأ كاتب ياسين تقنيته في الكتابة بالذهاب من (أ) إلى (ز)، لكن يتبيّن له أن هذا لا يفيده في شيء، وينبغي العودة إلى نقطة البداية والابتداء من جديد. ويتركز عمله على الذاكرة، وبذلك تجزّأ العمل إلى مقاطع، وجزئيات وهو لا يعرف في البداية إلى أين يذهب ببساطة كان يركِّب صفحات لا تحمل بداية ولا نهاية. ويشير إلى أن الأمور كانت عفوية لم يفكر فيها مسبقاً، ويقول:« لقد استيقظت في الصباح ووضعت الترقيم على فصولها ومقاطعها »، فهي ليست عبقرية منه، بل صدفة وعفوية تحمل روح الإبداع عند المؤلف
الذي استطاع أن يضع تقنية تحدث القطيعة مع الرواية السابقة.
ج ـ صورة نجمة بين الحقيقة و الرمز في عين المبدع:
استوقفت حركة التلقي مع مرور الزمن فكرة نجمة بين الحقيقة والرمز، وقد اتجه بعض القراء إلى ربط شخصية نجمة المتخيّلة في أعمال كاتب ياسين بتلك المرأة الحقيقية التي أحبّها الكاتب، وذهبوا إلى أنها ليست من إبداع العقل؛ بل هي امرأة موجودة حقاً في الواقع، وأن الكتابة الإبداعية عند كاتب ياسين تترجم كلها هذا الحب المستحيل تجاه ابنة عمه المتزوجة، وبالتالي فهو يكتب سيرة ذاتية تعبّر عن عمق إحساسه، وهذا الإخفاق العاطفي الصعب. وقد عاد الكاتب إلى الموضوع في إحدى محاضراته، وأقرّ بصحة هذه العلاقة العاطفية، لكن اسم نجمة لا يتوقف هنا؛ بل يخفي كل مفاتيح العالم الأسطوري والرمزي ويتجاوز هذه الحقيقة الواقعية، ويحيل على رمز الوطن، وترتسم صورة الجزائر بين التاريخ
والحاضر والمستقبل، بين المأساة والإخفاق المتواصل. ويرى المؤلف أنه« لا ينبغي أن نذهب بعيداً مع الرموز. الرمز هو دائماً هش ضعيف… وإذا بحثنا عن معناه الحرفي وتجسيده في الحقيقة بالضرورة سيتهدم… ولا يجب أن نحفر كثيراً في عمق الرمز ولا نرجعه حقيقة بسيطة وإلا لن يصبح رمزاً…»([9])، وبالتالي تجتمع الحقيقة بالخيال لتصنع رمزاً يفتح المجال أمام التأويل للبحث في أبعاده ودلالاته المتعددة.
دـ كاتب ياسين بين الأدب والأيديولوجيا:
أكّد الكاتب أن المبدع لا ينفصل عن قناعاته الأيديولوجية والسياسية أثناء كتاباته، وأن مقارنته بكل من جويس (Joyce) وفولكنير(Faulkner) غير مقبول تماماً، فأعمالهما في تضاد ومفارقة مع إيمانهما الأيديولوجي، وأنه يختلف معهما في هذا الأساس، بحيث لا يعترف بالفكرة التي طرحها هؤلاء في مسألة انفصال المبدع عن تفكيره الأيديولوجي ويقول:« بالنسبة إليّ.. هما مخطئان، لأن فصل الكلمة عن الحركة فصل الحياة عن الفن، ويظنون أن هناك رجلاً سياسياً ورجلاً مبدعاً، فالواحد مستقل عن الآخر، لكن في الحقيقة هو الرجل نفسه، وعلى كل حال فكل واحد يغذي الآخر »([10]).
يمكن أن نفهم من هنا أن كاتب ياسين يتوافق مع اتجاه جزء من حركة التلقي الذي فسّر أعماله المختلفة انطلاقاً من الواقع الاجتماعي، بالاستناد إلى سيرته الذاتية وأصبحت لوحة رسمت المأساة التاريخية التي يعيشها الإنسان في تلك الفترة، إذ« لا يمكن أن يتجرد الكاتب عن الحياة الاجتماعية، وقطعاً من المستحيل التغاضي عن الواقع المرّ الذي تعيشه الجزائر…»([11]).
ونلمس أن المؤلف لا يساير أفق انتظاره، ولا يوافق الاتجاه الشكلي الذي ربط الجمالية الإبداعية عنده في الشكل، وأنه خلق بنية جديدة كسّرت التقاليد الأدبية، وبالتالي انحصرت الإبداعية في الشكل، وتجاهلت الموضوع المحوري الذي تأسست عليه الكتابة الروائية والمسرحية عند كاتب ياسين، وهي النضال من أجل استرجاع الجزائر وتغيير القدر المحتوم، والخروج من المأساة.
هـ المسرح ولغة الكتابة و مقاصد كاتب ياسين:
كانت لغة الكتابة عند مختلف القراء موضوعاً أثار الكثير من النقاشات، وفتح المجال للاستفهام والتوهم أولاً من قوة وعبقرية كاتب ياسين باللغة الفرنسية، حيث يتفوق على أهلها، وهو الذي ينتمي إلى الثقافة العربية الإسلامية، وشكّل هذا انكساراً في أفق انتظار القارئ الفرنسي عند “ديجو” (Déjeux) مثلاً، واستغراباً في أذهانهم إلى درجة إدخاله ضمن الثقافة الفرنسية، لكن الكاتب يوضح المسألة، ويرى أنه قد نعبّر بالفرنسية عن شيء ليس فرنسياً.. وأنا أحمل جذوري العربية والبربرية التي لا زالت حيّة.. والكتابة بالفرنسية ليس مساساً بشخصيتي بل العكس، فالتعبير عن عالم الجزائري بالفرنسية يعطي المعنى أكثر دقة ومصداقية([12]).
وتصبح اللغة عند الكاتب هاجساً يراود أفكاره إلى أن قرّر العودة إلى لغته الأم، والإنتاج باللغة العربية الدارجة، ويكتب مسرحيته الأولى “محمد خذ حقيبتك”(Mohamed prend ta valise)، وقد قال« لأول مرة أحقق حلمي القديم وهو التعبير باللغة الشعبية الدارجة، وأُفهَم من كل الجزائريين ومن الأغلبية… ولم يكن الأمر كذلك بالفرنسية إلا للذين يقرأون بالفرنسية »([13]). ووجد في المسرح الطريقة الوحيدة للتقرب من الجمهور، وترقّب ردود أفعاله مباشرة. وفي اللغة العربية الدارجة وسيلة للتواصل مع أغلبية الشعب الجزائري، وإيصال رسالته دون صعوبة، حيث يشير بقوله:« نحن لا نكون مع القارئ عندما يقرأ، فالعلاقة بعيدة وفي الوقت نفسه مهمة أيضاً، لأنه وبخصوص نجمة، مثلاً، تلقيت رسائل رائعة من القراء تعلمت منهم أشياء حول ما كتبته أنا. لكن في المسرح نحن نتواصل مباشرة مع الجمهور، ولا أتكلم عن المسرح البورجوازي الذي يخص العدد القليل من المتفرجين، بل المسرح الشعبي…حيث نملك إمكانية مخاطبة الجمهور وملاحظة ومراقبة ردود أفعاله في اللحظة الآنية. هناك إذن تكهرب (électricité) لا يُعوّض يبيّن مدى تجاوبه وتفاعله معك. فتكون حزيناً عندما لا يتفاعل الجمهور معك، وتعيش الفرح عندما يتجاوب معك، فتحس به مثلما يحس بك »([14]).
وينبغي للكتابة المسرحية ـ حسب الكاتب ـ أن تتقرب أيضاً من الجمهور خاصة بمعالجتها للمواضيع التي يطرحها الواقع الحي للإنسان، ويستشهد بمسرح “بريخت” (Brecht) ويقول« إذا خاطبت الجمهور الألماني بالخطاب الذي نتكلمه نحن فلن يتفاعل ولن يتقبله أبداً، وسيعتبره حملة دعائية (Propagande)، وهذا ما فرض على بريخت إدخال الجانب التعليمي (didactique)، لكن عندما أتوجه أنا إلى الجمهور الجزائري وأكلّمه عن الامبريالية، فهو لا يحتاج إلى دوران من أجل توضيح ذلك، فهو يعيشها ويحس بها. ومسرح بريخت لا يلتزم مباشرة بالأحداث الحاضرة، بينما يتميز مسرحنا بأكثر مباشرة، ويحمل عمقاً سياسياً، ويترجم روح الواقع المعيش »([15]).
ولا يمكن فتح الحوار مع الجمهور والتواصل معه، دون عراقيل إلا بالعودة إلى لغته، والتعبير بها، واللغة العربية الفصحى لا تتجاوب مع أفق الشعب. وقد أصرّ على العودة إلى اللغة الدارجة من أجل تحقيق العملية التواصلية، واكتمالها، ويقول: «أنا أفضّل لغات الحياة لأن الأدب بالنسبة إليّ هو الحياة، فقوة فولكنير، مثلاً، لا تكمن في جمله الجميلة، فهو لا يكتب باللغة الإنجليزية الأدبية، بل يكتب بلغة سود الولايات المتحدة، والكتاب الحقيقيون هم الذين يبحثون عن الأشياء مثلما هي في الحياة، فيجب الكتابة بلغة الشعب والحياة »([16])، ويدعو الكُتاب باللغة الفرنسية إلى العودة إلى اللغة الأم، وإلى اللغة الشعبية (الدارجة) التي هي اللغة الحقيقية التي تقرّبنا من الشعب، وتفتح الحوار المتواصل معه، بينما يغيب الحوار ويبتعد الأدب عن الشعب مع اللغة العربية الكلاسيكية.
ويناقش كاتب ياسين موضوع اللغة بإصرار كبير، ويؤكد ضرورة الكتابة باللغة التي يفهمها الشعب، وتعبّر عن حياته وواقعه، ويتفاعل ويتجاوب معها. و« لنتخيّل الشعب الجزائري وهو يسمع الرئيس بالعربية الدارجة عوض اللغة الكلاسيكية تخيل القنبلة، والثورة في المجال السياسي، ستكون قوة الرئيس مضاعفة، وستصل الرسالة إلى كل الجزائريين، وبينما لا تصل اللغة المحملة بالبروتوكول. وتبقى اللغة الأدبية خطراً توجه المثقفين في اتجاه البورجوازية، وتعتبر اللغة الدارجة السبيل الوحيد لتوجيه الثورة الثقافية مباشرة إلى الشعب الذي يتكلم هذه اللغة »([17]). وبهذا فالفن هو الحياة، ولا نتكلم في الحياة لغة الكتاب، إذ من أجل فن حي يستلزم لغة حية، وبالتالي فعودة المؤلف إلى اللغة الأم كان السبيل الوحيد للتقرب من الشعب، وإيصال رسالته، وعرف أنّ الشعب الجزائري لا يفهم إلا لغته، وقد شكّل هذا الانتقال والتحوّل الذي حدث في تجربة الكتابة الإبداعية عند الكاتب ضرورة لا بد منها من أجل تحقيق العملية التواصلية وتفعيلها.
هكذا، إذن، ينبيّن لنا أن تصريحات كاتب ياسين، وحواراته قد أعطت حركة التلقي دفعاً خاصاً، حيث اتضحت بعض المسائل التي استوقفت القارئ عبر الزمن، وحاول تفسير وجهة نظره للأمور، وللأبعاد التي رسمها في أعماله، فشرح مقاصده الحقيقية، إذ لم ينكر، مثلاً، ازدواجية الحقيقة والخيال الرمزي في شخصية ” نجمة “، وتوافقه مع الاتجاه الواقعي الذي يقرأ الأدب بمنظور الواقع. ولم يُخْفِ عفوية ميزة الشكل الدائري في أعماله المختلفة، وأنها لم تكن تخطيطاً مسبقاً منه، وكذا توضيح موضوع تداخل الأجناس الأدبية في أعماله، وأهداف كسره للحدود فيما بينها، وتحرير الأدب من القوالب الجاهزة، وإصراره على ضرورة العودة إلى اللغة التي يفهمها المتلقي من أجل تفعيل العملية التواصلية، وتحقيق وجود الأدب وبقائه.
نستنتج في الأخير أن توضيحات كاتب ياسين و شروحاته لمقاصده في مختلف الأعمال الابداعية قد أعطت فعل القراءة أهمية أكبر، خاصة و أننا قد سجلنا هذا الانبهار وهذه الدهشة اللذين سيطرا على أفق انتظار القراء.، وبيّنت مختلف القراءات مدى انكسار أفق توقعاتهم ، وصعوبة التجاوب مع هذه التجربة الإبداعية، و بالتالي كانت توضيحاته لمقاصده الحقيقية و أبعاده الرمزية بمثابة الاضافة التي عمّقت الفهم و أعطت عملية التلقي قيمة أكبر.
لكن ينبغي أن نشير أن الكاتب ليس مهمته توضيح وفك الغموض في نصه وشرح مقاصده المباشرة وإلا ما جدوى فعل الكتابة ؟و ما قيمة النص؟ و لماذا القراءة؟.
المصادر والمراجع
1- كاتب ياسين، رواية نجمة، تر: محمد قوبعة، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر 1987.
2ـ هانس روبرت ياوس، جمالية التلقي ـ من أجل تأويل جديد للنص الأدبي ـ تر: رشيد بنجدو، المجلس الأعلى للثقافة، الطبعة الأولى، القاهرة 2004.
3ـ هانز روبرت ياوس، أدب العصور الوسطى ونظرية الأجناس، ضمن الكتاب الجماعي، نظرية الأجناس الأدبية، تر: عبد العزيز شبيل، النادي الأدبي الثقافي، الطبعة الأولى، جدة 1994.
1- Kateb Yacine, Nedjma Paris, éd : Seuil, 1956.
2 – Kateb Yacine, le cercle des représailles (théâtre), éd : Seuil, Paris 1959
3 – Kateb Yacine, le polygone étoilé, éd : Seuil, France 1966.
4- Hafid Gafaiti, Kateb Yacine un homme, une œuvre, un pays, entretien, coll voix multiples, éd : Laphomic, Alger 1986.
5- Hans Robert Jauss, pour une herméneutique littéraire, tra ; Maurice Jacob, Gallimard 1988.
6- Hans Robert Jauss, pour une esthétique de réception – pour une nouvelle interprétation du texte littéraire, tra ; Claude Maillard, éd : Gallimard 1996.
7- Jean Déjeux, littérature Maghrébine de langue Française, éd : Naaman, 1973.
8- Mohamed Lakhdar Maougal, aux sources des mythes dans la parole Katebienne, colloque international, université d’Alger, Bouzerea, office de publications universitaires, Alger 1990.
9- Mohamed Lakhdar Maougal, Kateb Yacine les harmonies poétiques, éd : casbah ; Alger 2009.
المجلات
– Kateb Yacine, Keblout et Nedjma, revue Europe, N° 66, 29eme Année, Juin 1951.
– Extrait d’une conférence l’Algérie en Europe N° 49 Décembre 1967.
– Interviews, Jeune Afrique, N° 324, 26 Mars 1967.
[1] – voir : Jauss, pour une esthétique de la réception pour une nouvelle interprétation du texte littéraire, tra ; Claude Maillard, éd : Gallimard 1996. , p : 281
[2] – voir : nouveau Rhin, 18 octobre 1956.
[3] – France – Observateur, 31 Décembre 1958.
[4] -Hafid Gafaiti, Kateb Yacine un homme, une œuvre un pays, entretien coll voix multiples, éd laphomic Alger 1986, p 21.
[5] – interviews, Jeune Afrique, N° 324, 26 Mars 1967.
[6] – voir :Hafid Gafaiti, Kateb Yacine, (entretien)pp23 – 24.
[7] – Jean Déjeux, réception critique de Nejdma, in Actualité de Kateb Yacine, p : 118
[8] – Voir : Mohamed Maougal ; Aux sources des mythes dans la parole Katebienne colloque international, université d’Alger, Bouzerea, office de publications universitaires, Alger 1990, p : 285
[9] – Ismail Abdoun, lecture (s) de Kateb Yacine,ed casbah ;algerie 2006 p : 225
[10] – Hafid Gafaiti, Kateb Yacine, (entretien) pp 41 – 42.
[11] ـ Ibid. pp: 44 ـ 45.5
[12] – Voir extrait d’une conférence, l’Algérie en Europe n° 49, 15 Décembre 1967.
[13] – Hafid Gafaiti, Kateb Yacine, (entretien) pp 9 – 10
[14] – Hafid Gafaiti, Kateb Yacine, (entretien) p p : 28.
[15]– Ibid31.
[16]– Ibid p 56.
[17]– Hafid Gafaiti, Kateb Yacine, (entretien) p p 60 ـ 59.