
الهاجس الاغترابي في رواية “مرايا الجنرال” لطارق بكاري.
The alien obsession in the Tarek Bakari’s novel “Mirrors of the General”
الباحث: عزيز بويغف – دكتوراه في الأدب الحديث – كلية الآداب والعلوم الإنسانية – الرباط المغرب.
Aziz Bouyghf – PhD in Modern Literature – Faculty of Arts and Humanities – Rabat Morocco
مقال نشر في مجلة جيل الدراسات الادبية والفكرية العدد 55 الصفحة 9.
ملخص:
تبتغي هذه الدراسة إماطة اللثام عن أشكال الاغتراب في الرواية العربية بعامة، والمغربية بخاصة، من خلال الاشتغال على رواية “مرايا الجنرال” للروائي المغربي طارق البكاري، وقد حاولنا في هذا الصدد استكشاف عوالم الرواية، وإضاءة موضوعات الاغتراب فيها من خلال النبش في الاغتراب الوجودي والمكاني والقيمي للشخوص، متتبعين مسارات توهجها وخفوتها، قناعاتها وأفكارها ضمن الخط الذي رسمه لها الروائي.
Summary:
This study seeks to reveal the forms of alienation in the Arabic novel in general and Moroccan in particular through the work on the novel “Mirrors of the General” by the Moroccan novelist Tariq Bakkari. In this regard, we tried to explore the realms of the novel and to illuminate the subjects of alienation in it through the of existential, spatial and moral values alienation of the characters, following the paths of glow and disappearance, their convictions and ideas within the line drawn by the novelist.
تقديم:لا غرو أن الاغتراب سمة إنسانية، يتعمق أثرها كلما عظم أثر المادية على الإنسان، وكلما تراجعت القيم والأخلاق أمام جشع النفس البشرية، وجنوحها إلى الدَّنايا، ما يجعلها تختار طريق العزلة عَلَّهَا تنعتق، وقد ارتبط مفهوم العزلة، بإحساس الفرد بأن الآخرين لا يرتقون إليه فكريا، وأن المجتمع أضحى بنية هشة لا تلبي حاجياته الروحية والفكرية، ما يحتم عليه البحث عن بناء ذاته ووعيه من جديد بعيدا عن المجتمع، وعن عاداته وتقاليده المتجاوزة.
وقد شكل موضوع الاغتراب مقوما من مقومات الأدب الحديث بالخصوص، فغدا موضوعا لافتا فيه، إذ يلجأ الأديب إلى نقل رؤيته، وأثر البيئة المحيطة به في بنياته النفسية والفكرية، حتى أننا، لا نجد نصا أدبيا مائزا، أو عملا عظيما، خاليا من ومضات الاغتراب، بدء بالنصوص الأولى عند اليونان، حيث أماطت “الإلياذة” و”الأوديسة” لـ”هوميروس” اللثام عن اغتراب الإنسان، وضعفه أمام عوالم الطبيعة، مرورا بالروايات الخالدة والتي عكست الاغتراب في أعمق تجلياته، كما عند “هوجو” في البؤساء، أو “بلزاك” في الكوميديا البشرية، أو “نجيب محفوظ” في “بداية ونهاية”، وغيرها من الأعمال التي إن دلت على شيء فإنما تدل على حضور حس الاغتراب في الأدب حضورا عميقا.
ورواية “مرايا الجنرال” للروائي والكاتب المغربي طارق بكاري، لا تحيد عن هذا المنحى، إذ تطرح الكثير من صور الاغتراب، وتنفض الغبار عن الواقع المأساوي للإنسان العربي، حيث الضياع، وحيث الظلم والقهر والتسلط، وحيث الإشكالات الوجودية بشتى ألوانها. صدرت الطبعة الأولى من هذا العمل في بيروت، عن دار الآداب سنة 2017م، ويقع في مائتين وثمانية وسبعين صفحة، وقد بنى الروائي عمله هذا على ثلاثة أجزاء هي: “حالة عشق” و“طبول الحرب” و“خريف الجنرال”، وتتضمن هذه الأجزاء عدة فصول، هي رسائل خلفها أصحابها قبل اغتيالهم أو انتحارهم أو موتهم، وتتولى كل شخصية الحكي في الفصل المخصص لها، لتميط اللثام للقارئ عن تجربتها، وعن آلامها و آمالها في الحياة. وسنحاول في هذا المقال الكشف عن بعض مظاهر الاغتراب الوجودي والمكاني لعديد من الشخصيات، وعن صورتها وهي تكابد عزلتها ووحدتها، وتتساءل عن مصائرها بعد أن أذاقتها الحياة مرارة الواقع.
مرايا الجنرال: اغتراب وجودي بلا ضفاف
لا غرو أن الرواية ذاكرة الأمم والشعوب، ذاكرة المهمشين والمقهورين والمعذبين، إنها صوت من لا صوت له، ملجأ من لا ملجأ له، هي الحضن الدافئ في لحظات الاغتراب والخذلان، هي صوت المظلومين في الأرض، الحالمين بغد أفضل، هي لحن الثائرين حين ينشدون أناشيد الانعتاق، هي الوجود حين يخبو ويعود ليتوهج مشرقا حالما. إنها “أداة معرفة، ولكنها المعرفة الجميلة – إذا صح هذا التعبير – إنها تخاطب العقل والوجدان معًا، تتوجه إلى الإنسان، وبتواضع؛ لكي تعلمه وتحرضه، إنها تفعل ذلك بالمناخ الذي تخلقه، بالحياة التي تعرضها، بالنماذج التي تقدمها؛ لكي تقول باللمح والإشارة ما لا تستطيعه الأدوات الأخرى”[1].
هكذا يستحيل طريق الروائي إلى العالم، طريق إبهام وإغراب وإبعاد حتى يحقق غاية الأدب ورسالته. إنه يبث في شخوصه القلق والشك، ويشحذ قرائحهم، ويوجههم إلى مزيد من التأمل حتى يذكي فيهم روح الثورة، وحتى يفجر في أعماقهم تلك الطاقات الدفينة، فيتحول الوجود في رؤياهم إلى فلسفة نضال وكفاح، فلسفة عشق وجمال وأمل، وتستحيل الرواية بعد كل هذا صدًى للحالمين، العازفين على أُوار الجمر، المنشدين مع الثائرين أناشيدهم، الرافضين للمواضعات الاجتماعية البالية. ولأنها كذلك فلابد لها أن تكون شفافة، لابد لها أن تحتفي بالإنسان، أن تنحاز له، وأن تكون في صفه حين يخذله الجميع، “إنها تنمو وتزدهر حين تعم المأساة، ويزيد الظلم، ويقوى التناقض، في تلك اللحظات التاريخية الهامة تصبح الرواية لسان الناس، والمرآة التي يرون فيها أنفسهم، وقد يدهشون أن حالتهم وصلت إلى هذه الدرجة من السوء، ولا بد أن يتساءلوا: هل نحن مذلون ومهانون بهذا القدر؟ وهل وصلت الأمور إلى هذه الدرجة؟ وقد يذهبون أبعد من ذلك؛ إذ يسألون أنفسهم: هل يجب أن نحتمل كل هذا، أم يجب أن نثور؟” [2].
تبدأ أحداث رواية “مرايا الجنرال” بعودة المير “قاسم” المهووس بالقتل والدماء من مرسيليا إلى الغرب العربي، وبالضبط إلى مدينة لِكسوس، المدينة المتخيَّلة، والتي تتحول في هذا العمل إلى فضاء للمتناقضات، حيث المسخ، وحيث الشخوص تبحث عن ذواتها، تبحث عن حقيقتها، فلا تجد طريق الانعتاق إلا بالاعتراف بكل الآثام التي اقترفتها في حق نفسها، وفي حق الآخرين، وكأنها تنشد الصفح والتوبة. إنها تعيش صخب التيه، حيث المكان ضياع وحيث الزمان غربة، فترتبك وتهتز الصورة، وتلجأ الشخوص إلى جلد الذات حتى تتطهر من دنس الخطايا. تتحول عيادة الدكتورة ليلى إلى كُوة يتم عبرها العبور إلى لاوعي الذوات، حيث يتم سبر عوالم شخصية “قاسم” الجنرال الدموي الذي خرب المدينة، وأذاق الناس كل العذابات بدعوى الحفاظ على النظام والأمن، وصيانة المدينة من الأخطار الخارجية المحدقة.
في السياق ذاته، تنكشف أمامنا شخصية “ليلى” الضائعة التائهة، والتي تبحث بدورها عن والديها المفقودين، فنقرأ في ثنايا هذه الشخصية الكثير من الفجائع والآلام والأحزان. إنها تائهة بين البحث عن الذات والبحث عن الحضن الدافئ. وفي السياق نفسه تنكشف أمامنا أيضا شخصية “سيمون” اليهودي الخائن، والذي يرسل الرسائل إلى جواهر، رسائل لن تصلها أبدا، يعترف لها بخيانته، وخيانة كل أولئك المناضلين والثوار الذين غَرَّرَ بهم، وادعى النضال بجانبهم من أجل إحقاق العدل والمساواة. و“جواهر” في الرواية المرأة المنشودة من “سيمون” ومن “قاسم” أيضا، تتحول إلى رمز خيانة، إذ تتخلى عن الأول وترتبط بالثاني وعينها على المال والسلطة. وكأننا بطارق بكاري في روايته، يرسم منحنيات العبث والضياع التي يعيشها الإنسان في الوطن العربي بعامة، والمدن العربية بخاصة، حيث الخيانة أضحت عقيدة أبدية، وحيث الشر منبث في كل الأزقة والدروب. يقول سيمون: “هذه المدينة بنت كلب، وناسها لا تجد مدخلا لفك طلامسهم، أو فهم كتل اللزوجة التي تنام بين جماجمهم الصلدة، ملائكة حينا وأوباش حينا آخر، تركيبتهم النفسية بالغة التعقيد رغم أنها تبدو بالغة البساطة، حاربت حبنا المدينة قاطبة، فعلت ذلك على نحو بالغ المواربة، بالغ الإيلام.”[3]
إن الغوص في عوالم هذه الرواية، هو غوص في أغوار إشكالات وجودية عميقة، هي إشكالات الذاكرة، والوطن، والجسد، إشكالات الأنا والآخر، حيث الواقع المأساوي المُنْفلت، وحيث الشخوص تنشُد خلاصها من عذابات النفس. إنها رواية تنماز بدقتها وقوة رصدها للوقائع الاجتماعية. صحيح أن منطلقها اللغة ولكن عمقها “متجذر في ما وراء اللغة، إنها تنمو مثل بذرة، وليس مثل خط أبدا. الكتابة –فيها- تبدي جوهرا وتهدد بإفشاء سر. إنها تواصل مضاد”[4].
هكذا تعبر بنا الرواية إلى آفاق التراجيديا في أعمق تجلياتها، حيث تمتد يد السلطة إلى الجميع دون تمييز ودون شفقة ولا رحمة، فتُنصَبُ المشانق وتهان كرامة الإنسان، ويتحول الوطن إلى منفي فسيح لا معنى فيه للقيم والأخلاق. يقول سيمون: “في هذه الزنزانة الدبقة التي تضم رفاة أكثر من عشرين رجلا على حافة التحول الأخير.. لا قيمة للحياة ولا تجاربها… قبل أزيد من عام كنا أربعين معتقلا، نقضي يومنا واقفين، وفي الليل نتكوم عراة بعضنا فوق بعض، نتناوب على آلة التعذيب”.[5]
مرايا الجنرال: من اغتراب السلطة إلى اغتراب النضال
تقتفي الرواية أثر جراحات الإنسان النفسية، فتستثير في القارئ جانبه الوجداني المظلم. إنها إذن، تحاول بناء النفس من جديد، وتحريرها من الدنس الذي يعتريها، فتدفعها بعد أن تذيقها عذابات الآخرين إلى نشوة السكينة، خاصة حين ترى الجلاد الظالم يعيش كوابيس ماضيه، حين تتبدى له صور كل أولئك الذين أذاقهم الألم والعذاب، فتُحدِث في دواخله شرخا عظيما. فالجنرال “قاسم جلال” الجلاد السفاح العائد إلى مدينته “لكسوس” كما أشرنا إلى ذلك سابقا، ليس إلا نموذجا للإنسان المهووس بالقتل، المريض نفسيا، الشاذ، الفاقد لذاكرة تمتدُّ لثلاثين سنة. يقول: “لكن ذاكرتي كانت مسروقة، لا أدري قبل أن أصحو أين كنت.. خلاء موحش كان يفترش ذاكرتي، وكنت خائفا لا أدري لماذا أو مم؟؟”[6]، فيحاول أن يستعيد هذه الذاكرة المفقودة عبر زيارة طبيبة نفسية هي “ليلى حداد”.
إن محأولاته استعادة الذاكرة، هي محاولة لاستعادة وجوده وتاريخه المغيَّبِ المغتصب. لقد فقد معنى وجوده، لذلك نجده تائها، ضائعا، مترددا، فاقدا لبوصلة الحياة، لذلك ينتقم من كل من يجدهم في طريقه. لقد وقع في حب جواهر الفتاة المسلمة، والتي كانت بدورها غارقة في حب سيمون الماركسي اليهودي الذي استطاع إقناعها بالعمل السياسي، فأوقعها في بركه الآسنة، لتذوق عذابات الاعتقال والجلد والنفي. كان الجنرال يلهث وراءها إلى أن أسقطها في حباله، أسقطها وكأنه يسقط أحلام اليسار، في حين إن حبيبها سيمون رغم نضاله وانخراطه في صفوف الجماهير ومحاربته للرجعية، إلا أنه خائن حين ارتبط بدوره بفتاة أخرى اسمها ازميرالدا. إن هذا المعطى أبرز ربما استحالة التزاوج بين النضال والحب. تقول جواهر: “سيئة هي الدنيا.. في عز هبلنا بهذا الحب، حين خلنا أن الرب لابد أن يهادن ويبارك ما فقس في قلبينا من مشاعر في عز الطفولة، وجدناه يجدل لنا مصير تشرد.. ألم أقل لك من قبل إن النضال والحب لا يجتمعان، وأننا مهما استمهلنا الرب فلابد سندفع الثمن؟ ألم يكن المنفي وفراقنا على بتر في العواطف ضريبة النضال؟..”[7].
لقد عَرَّت الرواية السلطة والاستبداد، كما أبرزت زيف الحضارة المزعومة، حضارة الوهم التي حولت البشرية إلى آلات تأتمر بأوامر أسيادها، كما انتقدت السياسة وخباياها النتنة، ومحأولاتها طمس الحقيقة. انتقدت الرواية كلا من السلطة المستبدة والسياسيين المزيفين الذين يَدَّعون النضال، كما انتقدت الشعوب التي تصنع من حكامها أصناما، فما أن تسقط صنما حتى تستبدله بصنم آخر، ثم تعود لتغط في نوم عميق. يقول قاسم: “الشعوب تُفيق كلما تبدل الحكام، تعدل اعوجاج المخدة، تعالج الوضع بمَثَلٍ أو اثنين وبسيل من الشائعات، قبل أن تعود إلى نومها الهانئ”[8]. إنها تعكس اغترابها الوجودي لأنها لم تستطع بعد تحقيق التغيير الحقيقي المنشود، والذي لا يكون إلا ببناء الإنسان، لذلك ستختار سلوك طريق الاغتراب حين “ستجتنب المجتمع وما يشيع فيه من معتقدات، وحين ستنفصل عن العامة والناس، باعتبار أنهم من عوامل ضياع الذات الأصلية”[9].
حاولت رواية “مرايا الجنرال” أيضا هدم كل تلك الوثوقيات التقليدية، إنها تتجاوز منطق المسلمات إلى منطق الهدم ثم إعادة البناء، وتحاول إماطة اللثام عن الفوضى التي يعيشها العالم، ويعيشها الإنسان في ظل حياة فقدت معانيها السامية. فشخصيات الرواية بلا ذاكرة، وهي نتاج أعطاب المجتمع، إنها تعيش حالة استلاب وإغراب، وكأنها لقيطة في مجتمع داعر، فالبطل بلا ذاكرة، وحين استطاع تذكر ماضيه اكتشف أنه ضحية استعمار رجعي آثم. لقد مات أبواه أمام عينيه ميتة تراجيدية مأساوية على يد الاستعمار الفرنسي وهو طفل صغير، ليقوده الاستعمار بعد ذلك إلى تجربة بشعة حين تكفل طبيب نفسي مجنون بمحو ذاكرة هذا الطفل، عبر صدمات كهربائية نالت منه، وحولته إلى آلة دموية تنفذ أوامر أسيادها دون أن يكون القرار بيدها. يقول قاسم: “لا أدري من أين جئت، حين أمعن في استرداد الماضي، أصاب بالخيبة والأسى، ذلك أنني أرتطم حقا بكثير من الأحداث والوجوه والأسماء، لكن كذلك أحس أن هناك فراغات جمة، وأنه بين الأحداث المهمة والتي لا تزال راسخة في الذهن خلاء يعسر علي أن أستجلبه، ذاكرتي… تخيلي أنني لا أجد في جارورها أية صورة عن طفولتي.. كأنني ولدت وفي عمري ثلاثون سنة ! أيعقل أن يولد الإنسان كبيرا؟؟..[10].
إننا هنا إزاء صورة مصغرة عن الواقع العربي، الذي تحول فيه الإنسان إلى هيكل بلا روح، تحول الإنسان في أوطاننا إلى صنم يلهث وراء المظاهر والمال، فسقطت القيم وانهارت الأخلاق، وفقد المجتمع كل معاني وجوده، كما طفت على السطح المبادئ المزيفة والتي كانت ضحيتها جواهر، التي هجرتها أسرتها لأنها أحبت يهوديا، تقول: “أن يعشق يهودي مسلمة في هذه المدينة أو العكس، فالأمر أكثر من مجرد فضيحة، إنه إعلان حرب، حرب باردة، رصاصها الغيبة وقنابلها النمائم”[11]، وسيمون الذي اضطر لعيش عزلته ووحدته لأن أسرته اليهودية غادرت الوطن، مدعية أن العيش فيه لم يعد يطاق، أما ليلى في الرواية فقد عكست بدورها اغترابا وجوديا عميقا، حين بدأت رحلة البحث عن أبويها الحقيقيين بعدما اكتشفت أن من ربياها ليسا أبويها البيولوجيين، تقول: “جئت المدينة مدججة بقلق عمر وأسئلة عميقة، هربت أول ما سمحت ظروفي إليها، كأن عناق أبوي البيولوجيين ينتظرني، ساذجة كنت حين لم أنتبه إلى أن الحياة ليست ضيقة كما في خيالات القصص، وأنني قد أسكب كل ما في حوزتي من أيام دون أن أرتق هذا الفتق في الهوية”[12].
هكذا تحملنا الرواية إلى عوالم تنبض بالضياع والاغتراب، الاغتراب الوجودي المغلف بالصراع بين الخير والشر، ما منح العمل قدرة متميزة على رصد الواقع، وتفجيره من الداخل حتى تظهر حقيقة الإنسان التي يحاول دائما إخفاءها. حقيقة المأساة التي يعيشها والتي يذيق كل من حوله عذاباتها، فالشر قابع في جوارح الإنسان منذ الأزل، ورغم محاولته الانعتاق إلا أنه يفشل، لأنه لا يستطيع تجاوز حقيقته. فالبطل “قاسم” حتى لو افترضنا أنه ضحية جلاديه، وضحية تراجيديا الألم التي أفقدته ذاكرته، إلا أنه بدوره تحول إلى جلاد يأتمر بأوامر هؤلاء الذين علموه التسلط والاستبداد، كما أن “سيمون” و“ليلى” عكسا معا معطى الخيانة في الرواية، خيانة العهد والحب، ورغم انخراطهما في النضال اليساري، ورغم الاعتقال والنفي، ورغم حصص التعذيب والجلد، إلا أن هذا لم يخلق منهما شخوصا مختلفة، فالنضال من أجل التغيير ينطلق أولا من الذات، من قيم ومبادئ وأخلاق يجب أن يتشبع بها الإنسان، قبل أن ينخرط في أي نضال تقدمي.
تميط الرواية اللثام عن بطش الأنظمة الشمولية الرجعية، كما تكشف اهتراء السياسة في الوطن العربي، حيث المناضل أضحى رمزا للزيف ونُشدان المثاليات، كما تعري الاستعمار وأساليبه القمعية، حيث الرهان محو ذاكرة الشعوب المستضعفة، وصناعة عملاء مستبدين، بلا أخلاق ولا قيم، وحين يحاول هؤلاء الانعتاق يتم التخلص منهم وتعويضهم بآخرين تم ترويضهم، وإخضاعهم، حتى يحققوا أهداف الاستعمار في الاستمرار في الهيمنة على الشعوب، ولنا في الجنرال قاسم خير مثال، فبمجرد بزوغ أنوار ذاكرته المستلبة، ووعيه بوجوده الحقيقي، تم التخلص منه واستقدام الجنرال “ياسر” بديلا عنه. يقول الجنرال قاسم: البيدق الذي كانت تحركه أصابعهم تمرد، وآن أن يدفع ببيدق آخر يزيحه. الحرب كانت !متى كانت البشرية ولم تكن الحروب ؟ !.”[13]
مرايا الجنرال: من الاغتراب في المكان إلى الاغتراب في الوجود
إن رواية طارق البكاري رواية تطرق إشكالات فلسفية كبرى، قضايا الإنسان والوطن، قضايا الضياع والاغتراب، الاغتراب في الوجود، الاغتراب في المكان، في النضال، في الحب، وغيرها من القضايا التي وسمت الرواية بمياسم الغنى والثراء، مادام أن مهمة الأدب عامة والرواية بخاصة طرح السؤال، لم تكن مهمة الرواية يوما أن تجيب، الرواية قلق، شك، تأمل، كشف. ولتذكي في المتلقي هذه التيمات فإنها ترصد واقع الشخوص والمجتمع من زوايا نظر مختلفة، فتتعدد الأصوات بتعدد الرسائل في المتن، ويفسح الطريق أمام الشخوص لتعبر عما يعتمل في دواخلها من أحاسيس وخلجات. إنها تفصح عن حقيقتها، عن قلقها في مدن عربية داعرة، مدن بلا روح ولا قلب، حيث انهيار القيم والأخلاق، فيتبدى لها السؤال: هل تناضل أم تستسلم، هل تحب أم تخون، هل تعيش حقيقتها المرة أم تنشد الوهم حتى تعيش سكينة الخضوع في ظل واقع انتهازي وصولي. تحولت المدينة في الرواية إلى بؤرة لصراع القيم، تحولت إلى فضاء تراجيدي حيث يمارس الظلم والقهر والاستعباد، حيث الجميع يخوض حربا ضد الجميع. إنها تضعنا أمام جدلية الإنسان والمكان والقيم، تضعنا أمام سادية الإنسان في أعمق تجلياتها، حيث يموت الإنسان وهو حي، وحيث يسارع الخطى إلى حتفه، وهو ما عبر عنه قاسم حين قال: “نسيت أن أحيطك علما بأن لي حالات لا أكون فيها أنا.. لا يكون فيها أناي خلف مقود الجسد..”[14] إننا إزاء اعتراف بالضياع والاغتراب، حيث تعيش الشخصية حقيقتها، حقيقة الانفصام، ولا تجد بدا من الإفصاح عن ذلك فهي منكسرة الجناح متألمة قلقة مترددة، ولذلك فهي تبحث عن خلاصها الأبدي، خلاصها من دنس الخطايا والدماء التي تلطخ وجودها. يحرك الحب خيوط الرواية ولكنه يجعلها تتشابك لتكشف لنا عهر الواقع وانحداره إلى الدرك الأسفل، حيث التيه والغموض والسوداوية، وحيث فهم حقيقة الإنسان، وسبر المخبوء في دواخله أمر مستعص، فالحب بين سيمون اليهودي وجواهر حب مرفوض لأنهما ينتميان إلى ديانتين مختلفتين، وحب جواهر وقاسم حب مريض معطوب لأن أساسه المال والطمع، ولأنه ليس إلا نتيجة للظلم والقهر الممارس من طرف القوي على الضعيف المغلوب على أمره، خصوصا بعدما أودع “سيمون” السجن، هذا الثلاثي الذي يؤثث الحدث في الرواية يعطي الانطباع بأن الشر متأصل في الإنسان، وأن الخير حالة نادرة، فالشر بحسب طارق البكاري فطرة، أما الخير فليس إلا استثناء الوديعين، والإنسان تتجاذبه هذه النزعات ولكنه يستسلم في الأخير لسجيته، حيث الخراب والدمار والردى.
عود على بدء:
خلاصة القول، إن رواية “مرايا الجنرال” رواية تنبش في حقيقة الإنسان، حقيقته في علاقته بذاته، وحقيقته في علاقته بالمجتمع والبيئة التي ترعرع فيها، حيث المدينة التي تؤويه سفينة بلا شراع، وحيث الذاكرة مُرْتَجَّةٌ، مُهتزَّة، مَشْروخة، وحيث السياسة أضحت مرتعا للفساد والقهر والاستبداد، إنها رواية ثرة غزيرة بعوالمها اللامتناهية، فآفاقها الفسيحة بؤر توتر فكري وفلسفي ومعرفي، إنها تقودنا إلى طرح الكثير من الأسئلة المؤرقة، تذكي فينا ربقة الشك والقلق والحيرة، ولأنها كذلك فهي أدب أصيل فتح عيوننا على كوة الحياة في سكونها وأيضا في صخبها، تتفاعل الرواية مع الواقع وتسبر قضاياه وإشكالاته، فتحاول أن تطهر النفوس حتى تصل بها إلى السكينة والهدوء، إلى الأمل والحب والطمأنينة والأمان، ومادامت كذلك فهي روح الوجود، روح الكون، روح اللانهائي الذي لابد له من قارئ يستطيع سبر عوالمه، وكشف صوره المقلقة المنفلتة التي لا تكاد تخفي وجها حتى تسفر عن أوجه أخرى، هي ومضات إجادة تحتفي بالرواية في لحظات عنفوانها وتساميها وسموقها.
المصادر والمراجع:
– رجب محمود: الاغتراب سيرة ومصطلح، دار المعارف، القاهرة، مصر. الطبعة الرابعة. 1993م.
– طارق بكاري: مرايا الجنرال، دار الآداب للنشر والتوزيع، بيروت لبنان، الطبعة الأولى، 2017م.
– عبد الرحمن منيف: الكاتب والمنفي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، لبنان. 2007م.
– Roland Barthes : Le degré Zéro de l’écriture. Seuil/Points. Paris, 1973,P:18.
[1] – الكاتب والمنفى: عبد الرحمن منيف. المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت لبنان. 2007، ص: 42.
[2] – المرجع نفسه، ص 41.
[3] – مرايا الجنرال، طارق بكاري. دار الآداب، بيروت لبنان. الطبعة الأولى. 2017م. ص: 27/ 28.
[4] – Roland Barthes : Le degré Zéro de l’écriture. Seuil/Points. Paris, 1973,P:18.
[5] – مرايا الجنرال، مصدر سابق، ص: 92.
[6] – المصدر نفسه، ص: 12.
[7] – المصدر نفسه، ص: 18.
[8] – المصدر نفسه، ص: 203.
[9] رجب، محمود، الاغتراب سيرة ومصطلح، دار المعارف، القاهرة، مصر. الطبعة الرابعة. 1993م. ص: 44.
[10] – مرايا الجنرال، مصدر سابق، ص: 11.
[11] – المصدر نفسه، ص: 20
[12] – المصدر نفسه، ص: 186.
[13] – المصدر نفسه. ص: 201.
[14] – المصدر السابق، ص: 7.