صورة المجتمع الجزائري إبان الاستعمار في كتابات إيزابيل إبرهاردت
المجموعة القصصية: (ياسمينة وقصص أخرى) – أنموذجا-
The image of the Algerian community during colonialism in the writings
of Isabelle Eberhardt story collection ( yasmina ans others) as a model
الدكتور / بكادي محمد ، المركز الجامعي أمين العقال الحاج موسى أق أخموك بتمنراست- الجزائر
BAKADI Mohammed – University Centre – Amine Elokkal El Hadj Moussa Eg Akhamouk. Tamanghasset – Algeria
مقال منشور في مجلة جيل الدراسات الادبية والفكرية العدد 51 الصفحة 57.
Abstract
Western tourists have played a main role in introducing the Algerian society. Regardless of how they have dealt with it , they have contributed effectively to documenting many of the attitudes, customs, traditions and lifestyles of Algerian society, Century.
Perhaps one of the most important of these Western travelers who had a significant impact not only on the portrayal of Algerian society, its environment, customs, traditions, patterns of thought, culture and religious belief, but also its support for its struggle and freedom and independence, is the French traveler Isabel Eberhardt; Many Algerian cities have settled for a long time in their southern desert cities.
This research will highlight the image of the community of Algeria in her writings , and make it clear to all those who want to know more ab out it .
Keywords : the The image; Comparative Literature; Algerian society; Isabelle Eberhardt; Western tourists.
الملخــــــص:
لقد كان للرحالة الغربيين دور كبير في تصوير بيئة المجتمع الجزائري ، وبغض النظر عن موضوعية ذلك التصوير أو نمطيته، فقد ساهموا مساهمة فعالة في توثيق الكثير من المواقف والعادات والتقاليد، وأنماط العيش التي كانت سائدة في المجتمع الجزائري ، وخصوصا في حقبة الاستعمار الفرنسي الذي دام لأكثر من قرن من الزمان .
ولعل من أهم هؤلاء الرحالة الغربيين الذين كان لهم الأثر البليغ ليس ، فقط، في تصوير المجتمع الجزائري و بيئته وعاداته وتقاليده وأنماط تفكيره وثقافته ومعتقده الديني، بل أيضا في مساندته في كفاحه وطلب حريته واستقلاله، هو تلك الرحالة الفرنسية المسماة: إيزابيل إبرهاردت ؛ التي جالت العديد من المدن الجزائرية واستقرت لفترة طويلة في مدنها الصحراوية الجنوبية .
وبحثي هذا سيسلط الضوء على صورة المجتمع الجزائري في كتابات هذه الرحالة الغربية التي عرفته عن قرب واحتكت به احتكاكا عميقا، وتعمقت في أدق تفاصيل حياته، وذلك بغرض دراسة تلك الصورة وتقييمها والوقوف على مالها وما عليها.
الكلمات المفتاحية: الصورة؛ علم الأدب المقارن؛ المجتمع الجزائري ؛ إيزابيل إبرهاردت؛ الرحالة الغربيون.
تمهيـــــد:
إن علــــــم الصـــورة الأدبيـــــــــة، أوالصـــورولوجيا[1]، أو الصورية كما عرفته الترجمة، والمسمـــــــى بالفرنسية (l’imagologie) [2] ،هو ذلك العلم الذي يعني: “ما يصوره الأدب في نتاجاته عن الثقافات والمجتمعات في لحظة اتصالية ما،”[3] ، وهو مجال من المجالات الهامة التي يدرسها علم الأدب المقارن، والذي قد ازداد الاهتمام به إلى حد كبير، نظرا لخصوصية الدراسة المتميزة التي ينتهجها ويقوم بها، وتتيح لنا الوقوف على الصورة التي ترسمها الآخر للآخر وتصورها له، وكذلك لما يقدمه من معلومات عن شعب ما أو بيئة ما أو عادات ما لمجتمع أجنبي ما، ولمساهمته الفعالة في معرفة الآخر، ولكونه، أيضا، مصدرا أساسا من مصادر الاتصال الثقافي والاجتماعي والفكري والحضاري بين مختلف الشعوب .
وما سأقف على معالجته في هذا البحث، هو موضوع من المواضيع التي تدخل تحت هذا المجال أي: مجال الصورة الأدبية، وذلك من خلال التطرق إلى موضوع صورة المجتمع الجزائري في عين إحدى الأديبات الغربيات التي كان لها اتصال مباشر واحتكاك وثيق بالمجتمع الجزائري، وعرفته عن قرب، وهي: الرحالة الفرنسية (إيزابيل إبرهاردت) وذلك بتسليط الضوء على مجموعتها القصصية: (ياسمينة وقصص أخرى)* محاولا معالجة هذه المسألة معالجة موضوعية علمية حسب ما تقتضيه منهجية الدراسة المقارنة، من خلال الوقوف على الصورة المرسومة، وتبيان مدى مطابقتها للحقيقة والواقع، وهل هي مجرد تصوير نمطي ـ فحسب ـ أو تصوير موضوعي مبني على معاينة حقيقية تمت بناء على اتصال عميق وواع، أدى إلى رسم صورة موضوعية في تلك الأعمال الأدبية للأديبة إيزابيل إبرهاردت .
1- التعريف بإيزابيل إبرهاردت
تعد الرحالة الفرنسية إيزابيل إبرهاردت من الرحالة الغربيين المتميزين الذين ذاع صيتهم، وأسالت نشأتهم وحياتهم الكثير من الحبر، وأثارت مواقفهم الكثير من الجدل، وخلفت مسيرة حياتهم ،من بعدهم، العديد من الغموض والتساؤلات ونقاط الاستفهام .
فلقد ولدت إيزابيل إبرهاردت ، بحسب أغلب المصادر التي تناولت سيرتها الذاتية، في السابع عشر من فبراير سنة ألف وثمانمائة وسبع وسبعين في فيلا (فاندت) (Fendt) الواقعة (بحي الكهوف) (Quartier des Grottes) في سويسرا من أم من أصل ألماني اسمها : ناتالي إبرهاردت تتبع المذهب اللوثري* ، ومن أب اختلف بشأنه المهتمون بسيرتها؛ فمنهم من قال بأنه الشاعر الفرنسي الشهير : آرثر رامبو وهو القول الذي قالت به وأكدته الكاتبة الفرنسية فرانسواز دو آبون، ومنهم من قال بأن أباها هو؛ ألكسندر نيكولايفيتش ثروفيوفيسكي، الرجل ذي الأصول الأرمينية الذي كان يوصف بأنه رجل مثقف وعالم وفيلسوف، متقن للعديد من اللغات، من بينها العربية، والألمانية، والتركية، والروسية، والذي بدأ حياته كقس آرتذوكسي ثم تحول إلى ملحد عدمي.[4]
ولكن الحقيقة الأكيدة ، هو أن إيزابيل إبرهاردت ، لم تحمل لقب أي منهما ولكنها بالمقابل حملت لقب جدتها إبرهاردت.[5] ، وذلك لكون أبيها ألكسندر نيكولايفيتش ثروفيوفيسكي، كما يدعى،لم يعترف بها كبنت له. وهو الأمر الذي رد سببه البعض إلى عدم اعتراف الأب بالعادات والتقاليد، ورده البعض الآخر إلى تحريض من أطراف أخرى. ولكن رغم هذين الرأيين إلا أن السبب كان،في الغالب، مجهولا [6].
نشأت إيزابيل إبرهاردت في سويسرا مع عائلتها في ميرين (Meyrin)، بفيلا نوف (Villa Neuve)، رفقة أخوتها الأولاد الأربعة؛ نيكول ،وأوغستين وناتالي، وفولوديا، ولم تدخل المدرسة في البداية، ولكن أباها قد تولى تعليمها فدرسها الفلسفة والجغرافيا والتاريخ والكيمياء، كما علمها العديد من اللغات التي كان يتقنها مثل اليونانية، التركية، العربية، الألمانية الايطالية، والروسية، بالإضافة إلى تعليمها ركوب الخيل والفروسية.[7]
عاشت إيزابيل إبرهاردت في فيلا نوف ، وهو المكان الذي أدى دورا كبيرا في تثقيفها وتكوين شخصيتها، وانفتاحها على العديد من الثقافات العالمية،إذ كانت تسمع العديد من اللغات من الذين كانوا يتوافدون على تلك الفيلا، بالإضافة لإتصالها الدائم بمكتبتها الكبيرة التي كانت تزخر بالمعاجم والكتب المختلفة، وهو ما أهلها للاتصال بالعديد من الثقافات المختلفة، وفجر فيها، فيما بعد، رغبة الاستكشاف.
لقد كان أول اتصال لإيزابيل إبرهاردت بالجزائر عن طريق السماع ، وذلك بعد أن ألتحق أحد أخوتها بجيش الأجانب في الجزائر سنة: 1888، حيث سمعت منه لأول مرة أخبار الجزائر، من خلال مراسلاته لها ووصفه لها يومياته بها، فكان أن نتج عن ذلك تأليفها لكتاب عن الجزائر تصف فيه هذا البلد قبل أن تراه حتى، أسمته :(رؤية المغرب).[8]
كتبت إيزابيل إبرهاردت العديد من المؤلفات تم جمعـهــــا ونشر أغلبها بعد وفــــاتها، وكان من أهمها : “في الظل الدافئ للإسلام” و”ملاحظات على الطريق” و”صفحات إسلامية”، و”المتشرّد”، و”في بلاد الرمال” و”يومياتي”، و”كتابات حميمية”، و”ملاحظات وذكريات”، و”رسائل ويوميات” و”كتابات على الرمل” و”ياسمينة وقصص أخرى”..وغيرهم من الأعمال والمؤلفات التي قد تنوعت بين التحقيقات الصحفية، والقصص التوثيقية، تميز جلها بتوظيف مفردات اللغة العربية الفصحى أحيانا، والدارجة في أحايين أخرى .
كانت حياة إيزابيل إبرهاردت قصيرة حافلة بالمغامرات والترحال، فلقد فارقت الحياة وهي في عمر السابعة والعشرين. هذا العمر القصير الذي سخرت معظمه لمعايشة معاناة الجزائريين ومشاركتهم نضالهم وأفراحهم وأتراحهم، قبل أن ترحل بشكل تراجيدي يوم الواحد والعشرين من أكتوبر سنة 1904، بعد أن أغرق سيل جارف منزلها، ليجدها الأهالي، وهي بكامل لباس الفروسية العربي التي دأبت على ارتدائه .تم دفنها في “سيدي بوجمعة ” ؛ بعين الصفراء حيث تحوّل قبرها، لاحقا، إلى معلم ثقافي.[9]
2- صورة المجتمع الجزائري في المجموعة القصصية
لقد تنوع تصوير إيزابيل إبرهاردت للمجتمع الجزائري، فشمل كل ما يتعلق بهذا المجتمع، تقريبا، الحسي منه والمعنوي. من تصوير البيئة والمدن إلى إبراز عاداته وتقاليده وأعرافه ،كما شمل معتقداته وفكره الديني.وهو ما سنتناوله ونقف عليه تباعا بالشرح والتفصيل.
2-1- تصوير بيئة ومدائن المجتمع الجزائري
لقد افتتنت إيزابيل إبرهاردت بالبيئة الجزائرية وبكل ما يتعلق بها افتتانا شديدا، وأحبتها حبا جما. ولاسيما البيئة والمدن الصحراوية، فنجد أن ذلك الحب والوجد الذي كانت تكنه لها قد انعكس انعكاسا واضحا في تصويرها لها، إذ نجدها تصور تلك المدن والأماكن التي شكلت تلك البيئة الجزائرية وخصوصا الصحراوية منها، تصويرا شاعريا فتقف على أدق تفاصيلها، التي بالرغم من قساوتها وصعوبتها المعروفة، إلا أنها تصبها في قالب وصفي جميل وأخاذ معتمدة في ذلك على جميل العبارات والمفردات التي تنتقيها بعناية تامة. فنجدها مثلا تصف منظرا ليليا، من ليالي مدينة وادي سوف، تلك المدينة الجزائرية الصحراوية الواقعة جنوب الجزائر والتي تبعد حوالي مائتين وعشرين كيلومتر جنوبا عن مدينة بسكرة [10]،فتقول في قصة ” اليد ” :” كان الوقت ليلا، بشمال مدينة الوادي على طريق البهيمة،[…] والصمت يخيم على كل المكان.آه من الليالي القمرية على صحراء الرمال، ليال وهل تضاهيها ليال روعة وسحرا وغموضا ؟.
فوضى الكثبان الرملية، والأضرحة والصورة الظلية لمنارة سيدي سالم البيضاء المطلة على المدينة، كل شيء يتلاشى ينصهر يتبدد ويأخذ مظاهر شفافة وخيالية”[11].
و نجدها بالحس نفسه وسحر الكلمات نفسه القائم على رص الكلمات في معادلة أدبية يقل نظيرها، تصور في قصتها ؛ ” نحيب اللوز ” شكل مدينة صحراوية أخرى هي مدينة “بوسعادة”، فتقول: “…تنام بوسعادة، الملكة الضاربة متسربلة بحدائقها الداكنة ومحروسة بروابيها البنفسجية، لذيذة مثيرة على الضفة المنحدرة للوادي حيث يدمدم الماء على الأحجار البيضاء والوردية .وقد انحنت كما على لامبالاة حلم على الجدران الطينية الصغيرة، أشجار اللوز تذرف دموعها البيضاء تحت مداعبة الريح …وأريجها الزكي يحلق في دفء الجو الرطب ناثرا كآبة مبهمة فاتنة…
إنه الربيع وتحت مظاهر الذبول، ورقة الأشياء الشجية.
تنام الحياة كامنة عنيفة طافحة بالحب والشوق ، يتدفق النسغ الغامر من ينابيع الأرض الخفية، كي تولد في نشوة مولد جديد. “[12]
ولم يقتصر هذا الأسلوب في تصوير المدن الجزائرية على المدن الصحراوية فحسب، بل كان سنة يتبعها قلم إيزابيل إبرهاردت كلما صادف مدينة جزائرية شمالية كانت أو جنوبية، شرقية كانت أو غربية. ولا أدل على ذلك من تصويرها “لتيمقاد” وهو الموقع الأثري المسمى قديما (تاموقادي) المصنف ضمن قائمة التراث العالمي،[13] والواقع في مدينة “باتنة ” بمنطقة الأوراس الأشم مهد الثورات الجزائرية[14]،إذ اعتمدت إيزابيل إبرهاردت في تصويره على التقنية نفسها التي اعتمدتها في تصوير المدينتين السالفتين “وادي سوف “و” بوسعادة “، حيث تقول : “…تقبع أكواخ قريتها بجنب آثار تيمقاد الرومانية، وسط سهل كبير، تناثرت بين جنباته صخور مجهولة بلا اسم ولا عمر، حطام تناثر وسط حقول البلان الشائك ذي السيماء الشرسة، النبات العشبي الوحيد الذي استطاع أن يقاوم الحرارة اللفوح لفصول الصيف المستعرة.”[15]
وعلى هذا المنوال نجد إيزابيل إبرهاردت قد اعتمدت في تصويرها لكل المدن الجزائرية التي ذكرت في مجموعتها القصصية، والتي كان الجامع المشترك بين تصاويرها جميعا، هو تلك الصورة الإيجابية التي كانت ترسمها هذه الرحالة لتلك المدن.
2-2- تصــــــوير العادات والتقاليد
لم تقتصر إيزابيل إبرهاردت في مجموعتها القصصية (ياسمينة وقصص أخرى) على تصوير المدن والأماكن الجزائرية، بل نجدها قد صورت كذلك، العديد من عادات وتقاليد وأعراف هذا المجتمع، هذا التصوير لم يقف عند سكان منطقة دون غيرها ، إذ نجدها صورت عادات وتقاليد القبائل العربية كما صورت عادات وتقاليد منطقة القبائل سواء بسواء، ومن ذلك نجد تصويرها لكوكبة من النسوة والفتيات من سكان مدينة “بوسعادة “في قصتها ” نحيب اللوز”، وهن يرتدين الألبسة التقليدية، حيث تقول في ذلك :” يخيم صمت مدائن الجنوب على بوسعادة، في المدينة العربية يندر المارة، غير أنه في الوادي تتجول أحيانا كوكبة من النساء والفتيات في أثواب ساطعة .
ملاحف بنفسجية، زمردية، وردية ناصعة، صفراء ليمونية، حمراء رمانية، زرقاء سمائية، برتقالية ،حمراء أو بيضاء، مزركشة بالأزهار والأنجم المتعددة الألوان…رؤوس مغطاة بالبناء الثقيل للتسريحة الصحراوية والمتكونة من ضفائر من أياد فضية أو ذهبية وسليسلات،ومرايا صغيرة، وتمائم، أو متوجة بأكاليل شعرية مزينة بأرياش سوداء .كل هذا يمر، متألقا في الشمس، تتشكل المجموعات وتتبدل في شكل قوس قزح متغير باستمرار، كأنها فرق فراشات ساحرة.”[16]، وفي موضع آخر، من القصة نفسها، نجدها تصور،كذلك، عجوزين وهما ترتديان ،أيضا، الملابس والحلي التقليدية المعروفة في تقاليدهما وعاداتهما فتقول:”…كانت العجوزان ترتديان ملحفتين داكنتي الحمرة يشكل صفوهما الكث ثنايا ثقيلة حول جسديهما الموميائيين.
والتسريحة وفق عادات البلد، بضفائر صوف أحمر وضفائر شعر شهباء مخضبة بحناء برتقالية تنير لونها، وفي أذنيهما المتعبتين حلقات ثقيلة، بسليسلات فضية مشبوكة في المناديل الحريرية للتسريحة. وعلى الصدر الهابط قلائد من قطع الذهب والعجائن المعطرة المجففة، وصفائح ثقيلة من الفضة المرصعة؛ ومع كل حركة من حركاتهما النادرة والبطيئة ترن كل هذه الحلي والأساور والخلاخيل” [17]
أما في قصة أخرى من المجموعة نفسها ،وهي قصة “تاعليث”، فنجدها تصور في أحد سطورها لباس العروس القبائلية التقليدي فتقول:” راحت زوينة مسرعة تُلبس تاعليث أقمصة الشاش المفضفض وقندورات فساتين الحرير فاتحة الألوان، والمناديل اللامعة …وتابعت تثقلها بكل حليها القبائلية :على رأسها ذي الشعر الطويل المصبوغ، وتثبت تاج الفضة المزين بالمرجان، وتحيط جيدها العاري النقي بعقد من زجاج ومن قطع ذهبية ومرجانية على الطوق المرصع .ثم شدت خصرها الممشوق بحزام فضي وقلدت معصميها المدورين بأساور، وكعبيها بخلاخل رنانة.[18]
إن من يمعن النظر في دقة تصوير الرحالة إيزابيل إبرهادرت، لبعض عادات وتقاليد المجتمع الجزائري شرقه وغربه، شماله وجنوبه، يكاد يجزم أنها ليست مجرد سائحة غربية لبعض المدن الجزائرية تسجل في دفاترها ما تقع عليه عيناها من عادات وتقاليد لهذا المجتمع الجزائري، بل هي أكثر من ذلك بكثير، إذ نكاد تجزم أنها جزء منه ولدت وتربت في كنفه.
2- 3- تصــــــوير نمط العيش وأسلوب الحياة
لقد كانت الرحالة إيزابيل إبرهاردت،كما أسلفنا، قريبة جدا من المجتمع الجزائري، وذلك بحكم أنها قد عاشت في أوساطه، فخبرته جيدا، وهو ما أهلها لتعلم دقائق نمط عيشه وأسلوب حياته، ولذلك كان تصويرها لهذا المجتمع في ظل الاستعمار تصويرا هو أقرب للتأريخ منه للتصوير، لأن تلك الصور التي صورت بها طبائع هذا المجتمع وأسلوب عيشه وتعاملاته، هي بمثابة توثيق للعديد من الأساليب والأنماط السلوكية والحياتية التي يحياها .
ومثال ذلك الصورة التي صورت لنا بها أم وأب البطلة في قصة “ياسمينة” والتي وردت في القصة كالآتي :” …والد ياسمينة الحاج سالم، أصبح عجوزا مقعدا، أمها حبيبة وهي في الخامسة والثلاثين من عمرها لم تعد إلا مجرد مومياء هرمة، بسبب اعتكافها على الأعمال الشاقة للكوخ وحقل الشعير الصغير. “[19]
فالمتفحص في هذا التصوير يجده علاوة على كونه تصويرا لزوجين عاشا تحت وطأة الاستعمار وقهره [20]، فهو في الآن نفسه، يوثق لأمرين يتعلقان بنمط عيش الأسرة الجزائرية خلال الحقبة الاستعمارية. أولاهما ؛ هو أن الفتاة الجزائرية في منطقة الأوراس كانت تتزوج في سن مبكرة، بدليل أنها صورت لنا الزوج قد أصبح عجوزا مقعدا لا يقوى حتى على الوقوف، في حين أن الزوجة مازالت شابة في عمر الخامسة والثلاثين من عمرها. أما ثانيهما؛ فهو أن المرأة في تلك الحقبة كانت تقوم بالأعمال الشاقة في الأكواخ والحقول لتساعد زوجها في توفير لقمة العيش التي كان توفيرها في غاية الصعوبة في ظل الاستعمار، وهو الأمر الذي يجعلها تفقد شبابها وصحتها قبل أوان فقدهما.
و الأمر نفسه عندما نقف عند الصورة التي رسمتها للبطلة “ياسمينة” في القصة نفسها حين تقول:” … حين رجعت ياسمينة إلى الدار، أخبرتها أمها بأنه سيتم تزويجها إلى محمد لعور، نادل بباتنة .
بكت ياسمينة أولا لأن محمد لعور كان أعور وذميما، وثانيا لأن هذا الزواج جاء مفاجئا ولم يكن في الحسبان.ثم هدأت وابتسمت،لأن ذلك ما كتب لها.”[21]
فمن خلال هذا التصوير للبطلة أرى أن إيزابيل إبرهاردت قد وثقت بطريقة غير مباشرة لمسألة أخرى على درجة كبيرة من الأهمية ، وتتمثل، من وجهة نظري ،في كون المرأة في تلك الحقبة ليست صاحبة قرار، وأن القرارات المصيرية التي تتعلق بها، بما في ذلك زواجها أو اختيارها لشريك حياتها أو القبول به حتى، هي قرارات تؤخذ بالنيابة عنها ولا شأن لها بها ،وهي بالرغم من ذلك ترى أن هذا الأمر طبيعي ولا اعتراض لها عليه.
وبالأسلوب نفسه، نجد إيزابيل إبرهاردت، تصور لنا مدى القهر والظلم والرعب الذي كان يعيشه المجتمع الجزائري في فترة الاستعمار، والذي جعله يتهيب من كل فرد من أفراد ذلك المستعمر الغاشم، حتى وأن كان هذا الفرد المنتمي لذلك المستعمر طبيبا جاء لغرض العلاج . وهو ما نستشفه ، من ذلك المشهد من قصة ” النقيب ” الذي صورت لنا من خلاله حال الأهالي المرضى الذين كانوا ينتظرون الطبيب “جاك” الفرنسي لعلاجهم ، والذين أصيبوا بالخوف والرهبة الشديدة عند قدومه، بالرغم من انتظارهم له لمعالجتهم ، فتقول : “…وعندما ظهر جاك، وقف المرضى، بعضهم بعناء، وحيوه بلا خبرة تحية عسكرية.
النساء خمس أو ست، رفعن أيديهن المفتوحة بفظاظة فوق رؤوسهن المنحنية، وكأنهن يلتمسن الصفح. لاحظ بوضوح الخوف والحذر تقريبا في عيون أولئك الناس .[22]
وهكذا فقد كان كل تصوير إيزابيل إبرهاردت، لنمط وأسلوب الحياة التي كان يعيشها المجتمع الجزائري في فترة الاستعمار، عبارة عن تصوير توثيقي للعديد من المواقف والحالات والأوضاع الاجتماعية كان يحياها ويعيشها ذلك المجتمع في تلك الحقبة .
2- 4- تصـــوير المعتقد الديني السائد
لم تقف الرحالة إيزابيل إبرهاردت عند تصوير الجوانب الخارجية للمجتمع الجزائري فحسب، بل نجدها قد نفذت بتصويرها إلى داخل وجدان وأحاسيس ومعتقدات أفراد هذا المجتمع. ومن جملة ما صورته هذه الرحالة في مجموعتها القصصية، طبيعة المعتقد الديني عند الفرد الجزائري. من ذلك صورة حفاظ أفراد هذا المجتمع ،على فريضة الصلاة ، حيث نجدها تبين لنا ذلك في قصة ” نحيب اللوز ” وهي تصور العجوزين اللتين كانتا تصليان كلما سمعتا آذان المؤذن فتقول:”…وحين ينبعث صوت المؤذن الوئيد الأنيني مناديا المؤمنين تنهض الصديقتان لتؤديا الصلاة على سجادة طاهرة، وقد أحدثتا صليلا كبيرا بحليهما.”[23] وفي موضع آخر من القصة نفسها، نجدها تصور كيفية تغسيل ودفن الميت في المجتمع الجزائري وفق الشريعة الإسلامية، فتقول في تصوير غسل ودفن العجوز “حبيبة ” بعد وفاتها:”… يغسل الجسد في ماء غزير، ويلف في كفن أبيض، يرش بالطيب وينوم، الوجه مولى للشرق. في منتصف النهار يأتي رجال ويأخذون حبيبة إلى إحدى المقابر غير المسيجة حيث يدحرج رمل الصحراء طوعا موجه السرمدي على الأحجار الرمادية الصغيرة المتعددة “.[24]
ونجدها توثق عن طريق التصوير لبعض القيم العقدية الإسلامية التي كانت سائدة في ذلك الوقت في أوساط المجتمع الجزائري، والتي كان يحترمها ويتمسك بها، حين صورت بطلة الرواية “ياسمينة”، وهي تشرح لحبيبها الفرنسي” جاك ” حين صارحها بحبه لأول مرة، بأنه لا يمكنه التقرب منها لأنه كافر ، وهي مسلمة ،حين تقول على لسان البطلة : ” مستحيل، قالت وفي صوتها نبرة حزن كئيبة. أنت رومي، كافر ، وأنا مسلمة ، تعلم أنه حرام عندنا، أن تتزوج المسلمة مسيحيا أو يهوديا”[25]. كما نجدها في موضع آخر تعطينا صورة عن الفهم الساذج للدين عند بعض بسطاء المجتمع الجزائري الذين يقتصر مفهومهم له على أمور سطحية، فيفسرونها وفق ضآلة ثقافتهم وسذاجة أفكارهم البسيطة. فنجدها تقول مصورة تلك السذاجة، في تصرف وقول البطلة ياسمينة لحبيبها الفرنسي “جاك” :” …بكل سذاجة أخذت يده وقالت، وفي عينيها نظرة حنون: أسلم …إنه بسيط جدا ! ارفع يدك اليمنى، هكذا، وقل معي : لا إله إلا الله ، محمد رسول الله […] كانت تعتقد أن ذكر كلمات الشهادتين، والمجاهرة بالإيمان وحدهما، يجعلان من جاك الرومي مؤمنا .”[26]
إن من يقف على هذا التصوير يدرك تماما أن إيزابيل إبرهاردت، كانت قريبة جدا من المجتمع الجزائري ومن معتقده الديني، إلى درجة أنها تفطنت حتى إلى تلك المعرفة الساذجة لهذا المعتقد عند بعض أفراده .
الخــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاتمة
وختاما، فإننا إذا ما أردنا تقييم الصورة التي صورت بها الرحالة الفرنسية إيزابيل إبرهاردت المجتمع الجزائري إبان فترة الاستعمار الفرنسي، سواء تعلق الأمر بتصوير المدن والأماكن التي كان يقطنها هذا المجتمع، أو بتصوير عاداته وتقاليده وأعرافه، أو بتصوير معتقداته وشعائره الدينية، أو بتصوير نمط حياته، وأسلوب معيشته، لوجدناه تصويرا ينم عن شخصية عايشت هذا المجتمع وتغلغلت في أعماقه وخبرته خبرة جيدة ، وعرفته معرفة تامة، لذلك نجد أن تلك الصورة التي صورت بها هذا المجتمع لم تكن صورة نمطية، أو صورة اعتباطية، بل كان تصويرها إياه تصويرا على جانب كبير من الدقة ،ويتسم إلى حد بعيد بالموضوعية، بالرغم من مزجه أحيانا بالشيء القليل من ذاتية هذه الكاتبة، وتسريبها لبعض من أفكارها وآرائها من خلال ذلك التصوير من حين لآخر .
[1] – عبده عبــــــــود، الأدب المقـــــــــــارن مدخل نظـــــــــــــري ودراسات تطبيقية، جامعة البعث، حمص، سوريا 1991 ص 371
[2] – ماجدة حمود ، مقاربات تطبيقية في الأدب المقارن ، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق سوريا 2000 ص 107
[3] – نوافل يونس الحمداني ، الصورولوجيا في السرد الروائي عند مهدي عيسى الصقر ، مجلة ” ديالـــى للبحوث الإنسانية” ، العدد الخامس والعشرين ، جامعة ديالـــــى ، العراق ، 2012 ، ص643
* – المجموعة القصصية : ( ياسمينة وقصص أخرى )، هي مجموعة قصصية للرحالة إيزابيل إبرهاردت، ترجمت وطبعت ونشرت عدة مرات ، منها، طبعة ترجمها وقدم لها بوداود عمير، ونشرتها مجلة الدوحة التي تصدرها وزارة الثقافة والفنون والتراث بدولة قطر ،و التي تضمنــــــــت ستة قصص، وهي : ياسمينة ؛ الـــــــــــــرائد ؛ لمتــــــورني =
= نوار اللوز؛ المنافسة ؛ مجرم. وطبعة أخرى ، ترجمها :حسن دواس ، ونشرت في مجلة إبداعات عالمية التي تصدر عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بدولة الكويت، والتي تضمنت ــ هي الأخرى ـــ ستة قصص هي : الغريمة ؛ نحيب اللوز ؛ ياسمينة ؛ النقيب ؛ تاعليث ؛ واليد، وهي المجموعة المعنية بهذه الدراسة.
* – المذهب اللوثري، أو اللوثرية؛ هو مذهب البروتستانتية، يرجع تأسيسه إلى مارتن لوثر ،والذي كان راهبا أوغسطينيا حاول في القرن السادس عشر القيام بحركة إصلاحية في الكنيسة الكاثوليكية فأدى ذلك لاصطدامه مع القيادات الكاثوليكية، فانفصل عنها وأسس كنائس مستقلة ذات تنظيم وإدارة جديدة عرفت بالكنائس الإنجيلية أو البروتستانتية. كانت ألمانيا والبلدان الاسكندنافية أبرز مواطن انتشارها. يتبع هذا المذهب اليوم حوالي 70 مليون مسيحي ينتمون للكنيسة اللوثرية العالمية، وهناك علاوة على ذلك أربعمائة مليون مسيحي بروتستانتي يتبعون هذا المذهب بشكل جزئي في كنائسهم المختلفة في جميع أنحاء العالم. أنظر ويكيبيديا الموسوعة الحرة ؛ موقع : https://ar.wikipedia.org/wiki
[4] – انظر ؛ إيزابيل إبرهاردت ، ياسمينة و قصص أخرى ، تر :حسن دواس ، ابداعات عالمية ، مجلة شهرية تصدر عن المجلس الوطني للثقافة و الفنون و الأدب ، العدد390 ، الكويت ، أوت 2012 ، ص 16
[5] – انظر ، المصدر نفسه ، ص ن
[6] – نفسه ، ص ن
[7] – نفسه ، ص 17
[8] – أنظر؛ المصدر نفسه ، ص 19
[9] – أنظر ؛ محمد الأصفر، إيزابيل إيرهاردت: ينابيع الحياة الجزائرية، العربي الجديد، 08 أكتوبر 2015، لندن موقع : https://www.alaraby.co.uk/portal
[10] – أنظر ؛ إبراهيم محمد الساسي العــــوامر، الصروف في تاريخ الصحراء وسوف، تعليق : الجيلاني بن إبراهيم العوامر ، منشورات ثالثة، الأبيار، الجزائر2007 ، ص 29
[11] – أنظر ، إيزابيل إبرهاردت ، مصدر سابق ، ص 117
[12] – نفسه، ص 37
[13] – أنظر؛ صديقي عز الدين، صديقي عز الدين، دراسة أثرية لفوروم تيمقاد ومرافقه، مذكرة ماجستير (غير منشورة) ، جامعة الجزائر، 2003- 2004، ص32
[14] – أنظر؛ محمد العيد مطمر، الغزو والاحتلال الفرنسي للأوراس وأثره على الحالة الاجتماعية لسكان المنطقة،(1844-1884)، مجلة العلوم الإنسانية، العدد العاشر، كلية الآداب والعلوم الإنسانية والاجتماعية جامعة محمد خيضر بسكرة، ص 87-91
[15] – أنظر ، إيزابيل إبرهاردت ، مصدر سابق ، ص 43
[16]– المصدر نفسه، ص 37
[17] – نفسه، ص 38
[18] – المصدر نفسه، ص 114
[19] – نفسه، ص 44
[20] – أنظر، محمد مبارك كديدة، الصحراء الجزائرية بين مخططات الفصل الجدية وطاولة المفاوضات النهائية، دار المعرفة، الجزائر 2013 ، ص 45
[21] – إيزابيل إبرهاردت، مصدر سابق، ص 46،45
[22]– المصدر نفسه، ص 88
[23] – المصــــدر نفسه،ص 39
[24] – نفسه، ص 41
[25] – نفسه، ص 54
[26]– المصدر نفسه، ص 54