
البلاغة الجديدة وتحليل الخِطَاب
د . محمد القاسمي ـ جامعة سيدي محمد بن عبد الله ـ فاس ـ المغرب
Discourse analysis and the New rhetorical
Elkassmi mhamed ـ University of Sidi Mohamed Ben Abdallah Fes Morocco .
مقال نشر في مجلة جيل الدراسات الادبية والفكرية العدد 50 الصفحة 35.
ملخص :
يطرح البحث جملةً من الأسئلة المنهجية والمعرفية التي تتمحور حول علاقة الدرس البلاغي بتحليل الخطاب، وسرِّ تغير آليات التحليل في ضوء تطور معطيات الدرس البلاغي عبر العصور. فقد شغلت البلاغة، بمكوناتها وآلياتها وعناصرها المختلفة، حيِّزًا كبيرا في مختلف المجالات الفكرية والحقول المعرفة،خاصة الدينية والنقديَّة والأدبية منذ البلاغة اليونانية، مرورًا بالدِّراسات العربيَّة في مراحلها المختلفة ، وانتهاء بالمناهج النقدية والتيَّارات الأدبية الحديثة المتصلة بتحليل الخطاب وتجديد الدرس البلاغي.
ويسعى هذا البحث إلى رصد علاقة الدرس البلاغي بتحليل الخطاب وبالدرس الأدبي في شتَّى مَظاهرِه الأدبية وتجلياته الفنيَّة، قبل أن يتحول هذا الدرس إلى بلاغةٌ عامَّة تجمع بين مُعْطيات البلاغة القديمة والبلاغة الجديدة في تحليل الخطاب( جماعة مو البلجيكية)، وإلى بلاغة حجاجية تهتم بأنواع مختلفة من الخطاب بدءا بالخطاب الشعري مرورا بخطاب الصورة وانتهاء بأنواع أخرى من الخطاب كالخطاب القانوني و السياسي والفلسفي وغيرها من النصوص اللغوية وغيراللغوية مع بيرلمان وتيتكا اللذين استثمرا إنجازات البلاغة القديمة و معطيات الدراسات النقدية والسيائية الحديثة ، وإلى بلاغة الصورة التي يمكن أن تكون صالحة للصَّوت المنطوق، والصورة الإشهارية ( خاصة عند رولان بارت ).
Abstract:
This paper examines a number of the methodological as well as the cognitive questions that revolve around the relationship between discourse analysis and the rhetorical lesson. It also traces the dynamic alterations of analysis in light of the evolving rhetorical lesson throughout different eras.Rhetorics,with its different components and mechanisms, has occupied a large scope in all intellectual and cognitive fields, especially the religious, critical, and literary ones starting from the Greek rhetorics through Arabic studies and ending with the modern critical and literary trends that are strongly related to discourse analysis and the rhetorical lesson.
مقدمة
اتجهت مختلف المناهج النقدية الحديثة إلى إعادة قراءة البلاغة في ضوء المعطيات المنهجية الحديثة ومتطلبات آليات تحليل الخطاب، فمنذ الستينات من القرن الماضي بدأ ينظر إلى البلاغة باعتبارها الإمبراطورية التي هيمنت على جميع أنواع الخطاب ومختلف الحقول المعرفة النقدية والأدبية والاجتماعية والقانونية .وهكذا ارتبطت عند مازاليغا وجورج موليني بفن الإقناع في مكوناته وتقنياته لاستنباط الحجج ومعالجتها وبالمقاربة الحجاجية عند كل من بيرلمان وتيتكا وبالتعبير الشعري عند جماعة مو البلجيكية،إضافة إلى اجتهادات رولان بارت وجيرار جنيت وألفييه روبول وتودوروف وفاركا وغيرهم.
وابتداء من منتصف القرن العشرين (1950) أصبحت البلاغة الجديدة، باعتبارها تخصصا مستقلا،موضوع اهتمام المفكرين والباحثين وخاصة في الجامعات البلجيكية مع كل من برلمان Perlman وتيتكا Tyteca وغيرهما، مع التركيز على الجوانب الحجاجية في البلاغة الجديدة.وبعد حوالي خمسة عشرة سنة دعا رواد جماعة لييج البلجيكية إلى ما يسمى ” بالبلاغة العامة” التي ترتكز على اللسانيات والسميولوجيا في إنتاج الوقائع الأدبية والقطع مع كل التصورات التقليدية للبلاغة والصور الأسلوبية القديمة. [1]
وفي ضوء تلك الاجتهادات المختلفة، يمكن التمييز بين وظيفتين أساسيتين للبلاغة الجديدة، منفصلتين لكنهما متكاملتين:
الأولى: تهتم بالمعني التعبيري الشعري الذي يصب في الأسلوبية.
الثانية : تهتم بالمعني الحجاجي الإقناعي الذي يصب في التداولية الحديثة.
وتفرض هاتين الوظيفتين الأساسيتين الاهتمام بالبلاغة الجديدة في بعدها الأدبي والفني، عند جماعة مو البلجيكية ( التي تضم مجموعة من النقاد واللسانيين ) أو ما يعرف ببلاغة الصورة، وببعدها الحجاجي الإقناعي عند بيرلمان وتيتكا.
وتختلف البلاغتان وفق الأهداف العامة لكل منهما وتبعا للقوانين التي تتحكم فيهما.فالبلاغة الأولى ( بلاغة الصورة ) تهتم بدراسة آليات الخطاب بشكل عام وفعاليته التطبيقية وهو مجال اهتمام الدراسات التداولية، لذلك نجد المجال الأفضل لتطبيق هذه البلاغة الجديدة تكمن في بعض الخطابات الجديدة كالدعاية السياسية و التجارية وفي المرافعات القانوني ، والنقاشات الفلسفية وغيرها.
أما البلاغة الجديدة الثانية التي طورها بعض اللسانيين فتهتم بدراسة البنى اللغوية للأدب والتي تولد عنها ما يعرف بالشعرية المعاصرة، التي اعتمدت في كثير من مفاهيمها على البلاغة القديمة،خاصة الجانب المتعلق ببلاغة الصور.وغالبا ما كانت تقدم هذه البلاغة الجديدة باعتبارها ” بلاغة مختزلة “مقارنة بالبلاغة التقليدية الممتدة وبالبلاغة الجديدة الثانية (البلاغة الحجاجية). .”[2]
وإذا كانت البلاغة الحجاجية تهتم بكل ما هو مشترك وترفض كل عمل استثنائي فإن بلاغة الصور تهتم بكل ما هو استثنائي، ولهذا يشكل العمل الأدبي بشكل عام والخطاب الشعري بصف خاص النموذج الأسمى لهذه البلاغة على اعتبار أن ما يميز الأدب عن غيره هو انزياحه عن القواعد والاهتمام بكل ما هو استثنائي.[3]،(وقد طور جون كوهين هذه الفكرة في كتابه المعروف ” بنية اللغة الشعرية”).
ورغم الاختلاف بين البلاغتين الجديدتين فإنه يمكن تسجيل بعض نقط الالتقاء بينهما ومن أهمها:
1 – إن موضوع البلاغتين هو الخطاب، أي الأفعال الكلامية، ومن هنا يمكن دراسة مختلف الصور البلاغية من منظور حجاجي.ولكي تكون الصورة حجاجية ، لا بد من توفر شرطين أساسيين : التنافر الدلالي بين مكونات الصورة ثم إمكانية التغلب على التنافر الدلالي وتحويله إلى التفاعل عوض الصراع بين مكونات الجملة.[4] فدور الحجاج هو إعادة ترتيب التنافر الدلالي والقيام بدور الوساطة بين مكونات الصورة.أما الصورة فتقوم بالربط الجدلي بين معنيين مختلفين.
2 – أن البلاغة الجديدة، بصنفيها، ” انكبت على مدارسة آليات الخطاب الاجتماعي العام وفعاليته العملية”[5]
كما تمر عملية إنتاج الصورة بأربعة مراحل:
– الخطوة الأولى هي تحديد النظائر في الملفوظات، حيث إن كل ملفوظ في السياق يحدد معناه من خلال العناصر التي سبقته.
– الخطوة الثانية هي تتبع المنافرة الدلالية بين العناصر، حيث يلاحظ المتلقي المنافرة بين المعنى ومعنى المعنى.
– الخطوة الثالثة هي إعادة بناء المعنى.
– الخطوة الرابعة عبارة عن عملية تركيبية للمعنى المدرك والمعنى المفترض.
الصورة والحجاج:
وتسمح الخطوات السابقة بتحديد أربعة عناصر حجاجية للصورة :
1 – تنهض الصورة بدور تشاركي في العملية التواصلية بين الباث والمتلقي. فالباث يعمل على خلق انزياح عن القاعدة،مع قدرة المتلقي على تجاوزه (اي الانزياح) وتقديم تأويل مناسب للسياق.
2 – يقوم الباث بخلق الانزياح في العملية الإرسالية، سرعان ما يتم تصحيحه من قبل المتلقي.
3 – المرحلة الثالثة هي إنتاج المعنى البلاغي، فعملية إنتاج الصورة البلاغية وفك شفرتها وتأويلها مهمة مشتركة بين الباث والمتلقي، فكل طرف منهما يتحمل جانب من المسؤولية في بناء الدلالة البلاغية.
4 – بالإضافة إلى المحتوى الدلالي للصورة،نجد أيضا المحتوى الأسطوري والموسوعي الذي يمكن أن يشكل مصدر اهتمام السميولوجيا الأنساق غير اللغوية خاصة السميولوجيا، ونستحضر في هذا الصدد اجتهادات بول ريكور في تحليل بعض الصور الاستعارية التي تتطلب استدعاء بعض الأنساق الثقافية.
5 – الصورة تسمح بإعادة بناء تنظيم المعرفة والمعتقدات.
البلاغة الحجاجية عند بيرلمان :
يرجع الفضل في استعادة البلاغة لمكانتها في هذا الدراسات النقدية الحديثة إلى العمل المشترك لكل من “بيرلمان* *و تيتيكا * المعنون ب “مصنف في الحجاج ” الصادر سنة 1960 والذي يقع في ثلاثة أقسام كبرى، خصص القسم الأول للقضايا المنطقية في معالجة الظواهر البلاغية.[6] في حين خصص القسم الثاني للافتراضات الحجاجية التي تهتم بالوقائع اللغوية والحقائق وكل القيم الثابتة والمتغيرة في الخطاب[7] .
أما القسم الأخير فخصصه الباحثان للتقنيات الحجاجية أي البنيات الحجاجية وطريقة ترتيبها في الخطاب.[8]. وكل هذه الأقسام تندرج ضمن تجديد الدرس البلاغي أو ما يعرف ” بالبلاغة الجديدة ” وبتعبير أدق “البلاغة الحجاجية ” التي يبقى هدفها الأساسي ” إشباع النزوع الحجاجي في معتركاته الفكرية والاجتماعية والسياسية والأخلاقية والجمالية،إذ صار النزوع الحجاجي ملازما لفضيلة التواصل من أجل تشييد مجتمع خال من الاستعبادين الفكري والاجتماعي ، ذلك أن الحجاج الذي ننشده هو الذي يكون سندا قويا للحوار ضمن قيم بلاغية تمجد الحرية، وتتطلع إلى آفاق الإبداع المفتوح” [9]
ويعد الكتاب السابق تأصيلا منهجيا لتجديد الدرس البلاغي وانطلاقة جادة لمجموعة من المحاولات البلاغية الأخرى وفي مقدمتها تنظيرات أعضاء جماعة مو البلجيكية في تجديد الدرس البلاغي من منظور جديد يقوم على استثمار مفاهيم البلاغة التقليدية برؤية منفتحة على مختلف العلوم والمعارف في دراسة الخطاب.
ولتحديد الإطار العام للبلاغة الحجاجية، يحدد أولفيه روبول أربعة ملامح أساسية للحجاج مستلهما آراء كل من بيرلمان وتيتكا وهي :
ـ لابد أن يتوجه الحجاج إلى متلق
ـ يعبر عن المعنى بلغة طبيعية
ـ مسلماته احتمالية لا قطعية
ـ خلاصاته غير ملزمة.[10]
ويستفاد من كل ذلك أن الحجاج الذي لا يندرج ضمن التوجه البلاغي يكتسي طابعا جدليا يغلب عليه السفسطة، أما البلاغة الحجاجية فتنبني على كل ما هو ممكن واحتمالي عبر مقدمات شبه منطقية. ورغم العلاقة الجدلية بين الحجاج والمنطق أثناء التطبيق، فإن هناك وعيا بضرورة الفصل بينهما ـ بين الحجاج والمنطق ـ والقطع مع المفاهيم الصورية للمنطق في أفق تأسيس ” بلاغة جديدة” أو “بلاغة حجاجية” ويوضح الباحث عبد الله صولة ذلك بوضوح وهو يتحدث عن مشروع بيرلمان وتيتكا ” فالباحثان قد عملا من ناحية أولى على تخليص الحجاج من التهمة اللائطة بأصل نسبه وهو الخطابة، وهذه التهمة هي تهمة المغالطة والمناورة والتلاعب بعواطف الجمهور وبعقله أيضا، ودفعه دفعا إلى القبول باعتباطية الأحكام ولا معقوليتها. وعمل الباحثان من ناحية ثانية على تخليص الحجاج من صرامة الاستدلال، الذي يجعل المخاطب به في وضع خضوع واستلاب. الحجاج عندهما معقولية وحرية، وهو حوار من أجل حصول الوفاق بين الأطراف المتحاورة، ومن أجل حصول التسليم برأي الآخر بعيدا عن الاعتباطية واللامعقولية، اللذين يطبعان الخطابة عادة، وبعيدا عن الإلزام والاضطرار اللذين يطبعان الجدل” .[11]
ويؤكد بيرلمان أن نظرية الحجاج المعاصرة تعود إلى مجموعة من المفاهيم النقدية والبلاغية المبثوثة في أعمال أرسطو. وهي مفاهيم تركز كلها على كيفية إقناع المتلقي. ويمكن تلخيص تلك المفاهيم في ثلاثة عناصر أساسية : “المتكلم” الذي أصبح عنصرا حجاجيا يتكلم ويكتب في مختلف المجالات المعرفية ثم ” الخطاب ” بأشكاله المختلفة الإبداعية والقانونية والاجتماعية وأخيرا ” المتلقي ” بنوعيه الحقيقي والافتراضي.
وينطلق بيرلمان في تأسيس مشروعه البلاغي في بعدها الحجاجي من الإرث البلاغي عند أرسطو، ومن منجزات الدرس اللساني والسميائي، حتى صارت البلاغة الجديدة معه نظرية متكاملة لتحليل الخطاب تتكامل معه مختلف العلوم والمعارف، وبعض الآليات المنهجية التي تتقاطع معها كاللسانيات والسميائيات والأسلوبيات والشعريات، وتمكنت بذلك من مقاربة مختلف أفانين القول. وبذلك ” غدت البلاغة الجديدة حجاجية في منطلقها وعمومية في متصوراتها وبرهانية في حقيقتها ، فهي تقتدي من وجوه بمسارات اللسانيات من حيث إنها لا تكتفي بالوقوف على بلاغة بعينها ، وإنما تطمح لوضع قوانين عامة تشمل جميع الأنساق السميائية الدالة بوصفها لغات.[12]
و يرى بيرلمان أن درجة التأثير الحجاجي في أي خطاب يقاس بمدى انحراف الكلمة المستعملة عن اللغة العادية والاستعمال العادي للغة ، مع العلم أن مفهوم اللغة العادية نفسها نسبي، ليس فقط في محيط الاستعمال ولكن داخل الخطاب نفسه. ومن هنا فإن فرضية التمييز بين اللغة العادية واللغة المجازية لا يتم تحديده بشكل دقيق إلا داخل الاستعمال اللغوي.[13] ويوضح تيتكا بوضوح أكثر أن كل انزياح عن القاعدة، يشكل قوة للإقناع في الحجاج ومولدا أساسيا للوقائع الشعرية والجمالية.
ومع ذلك فإن بيرلمان يرى أن التعبير العادي نسبي ليس فقط بالنسبة للسياق أو المتلقي ، ولكن في لحظة معينة أثناء استعماله في الخطاب. ومن هنا فإن تحديد مجازية التعبير اللفظي من عدمه يرجع إلى مدى التأثير في المتلقي ومدى تفاعل هذا الأخير معه وليس إلى التعبير اللفظي في حد ذاته.[14]
إن ما يثير الاهتمام في البلاغة الجديدة عند بيرلمان هو إعادة النظر في موقف أرسطو من البلاغة وخاصة التمييز بين الحجج المنطقية الخالصة الخاصة بالوقائع اللغوية والحجج المرتبطة بالباث أو المتكلم أو الخطيب،والحجج المرتبطة بالمتلقي، وبين تلك الحجج كلها وبين الأساليب الخطابية. وهذا التمييز بين الحجج المختلفة مكنته من إعادة النظر في الدور الذي تنهض بها المقومات الأسلوبية في البلاغة التقليدية، حيث يؤكد بيرلمان في هذا السياق أن المقومات الأسلوبية لا تقتصر وظيفتها في التحسين والتزيين ، بل تؤدي وظيفة حجاجية.[15]
إن التركيز على الوظيفة الحجاجية للمقومات البلاغية جعل بيرلمان، يعيد النظر في الوظيفة التقليدية للبلاغة التي تقتصر على أشكال محددة من أنواع الخطاب خاصة الشعر والخطابة، لتنفتح البلاغة الجديدة على أنواع جديدة من الخطابات الأخرى، كالخطاب اليومي، والفلسفي،والخطاب الأدبي والسياسي والإشهاري والديني وغيرها. وبذلك اقتحمت البلاغة الجديدة عند بيرلمان مختلف العلوم الإنسانية بعد أن ظلت حكرا على العلوم الأخرى.
البلاغة الجديدة وتحليل الخطاب الأدبي : جماعة مو البلجيكية.[16]
تعتبر البلاغة الجديدة عند جماعة مو البلجيكية إحدى النظريات الكبرى والمهمة في مجال تحليل الخطاب في القرن العشرين وبداية الألفية الثالثة، فقد شكلت مصدر اهتمام البحث العلمي في مختلف الحقول المعرفية و العلوم الإنسانية واللغوية وخاصة السميائية والبلاغة وتحليل النصوص الأدبية وغيرها. ولا تكمن أهمية بلاغة جماعة مو البلجيكية في إعادة تعريف البلاغة فحسب، ولكن من حيث كونها إحدى النماذج الناذرة إلى يومنا هذا في مجال تحليل الصورة من منظور سميولوجي. حيث يتم من خلالها التركيز على تداخل المعارف والتخصصات المختلفة، فمهمة السميولوجيا هو خلق تفاعل بين مختلف العلوم الإنسانية.
ويواجه المشروع البلاغي عند جماعة مو مجموعة من التحديات، أولها هو محاولة تطبيق ” بلاغة عامة” على نصوص منجزة وافتراضية، بصرف النظر عن طبيعتها اللغوية وغير لغوية .فالبلاغة العامة فضاء رحب للتطبيق على اللسانيات والسميائيات بأشكالها المختلفة كالصورة الإشهارية، والرسم والسينما والموسيقى[17] وغيرها، ومجال للاهتمام بالكليات والجزئيات داخل الخطاب.
أما التحدي الثاني في التفكير البلاغي عند جماعة مو فيتمثل في ضبط العلاقات الممكنة بين البلاغة والسميولوجيا. فإذا كانت البلاغة مصدر توليد الوحدات الكلامية و المقومات الإبداعية ، فإن السميولوجيا تبحث عن الجانب المعرفي المسكوت عنه في الخطاب كما تهتم برصد العلاقات البنائية داخل الخطاب ، ويوضح جان ماري كلانكينبرج Klinkenberg طبيعة العلاقة بين البلاغة والسميولوجيا في كون البلاغة مرتبطة بفن الكلام، أما السميولوجيا فهي مرتبطة باللغة ، و البلاغة التي تستحق أن تكون عامة يمكن مقارنتها بالسميولوجيا عندما تصل إلى مستوى التجريد[18].
أما المقاربة الثالثة التي استأثرت باهتمام جماعة مو، وهي التي تشكل التحدي الثالث في مشروعها فتتعلق بطبيعة العلاقة بين البلاغة والشعرية (بلاغة الشعر) وبين البلاغة والأسلوبية في مقاربة بعض القضايا والمفاهيم وفي مقدمتها مفهوم الانزياح والذي أثير بشكل خاص في مقال ” Madeleine Frédéric, «Les travaux du Groupe µ: amers pour la stylistique?
ومن هنا فإن المشروع النظري لجماعة مو له جانبان أساسيان لا ينفصلان ، جانب تاريخي وآخر نقدي (أو معرفي )، ولهذا يمكن مقارنة هذا المشروع بما أنجزه بيرلمان قبل عشر سنوات في بلجيكا حول البلاغة الحجاجية، حيث يندرجان معا ضمن ” البلاغة الجديدة”.
إن البلاغة الجديدة عند جماعة مو تقوم على اتجاهين : اتجاه منطقي يقوم على الوظيفة conative للغة واتجاه جمالي يرتكز على الوظيفة الشعرية.وهو الأمر الذي يختلف عن التصور التقليدي للبلاغة الذي يحصر مهمة البلاغة في التحسين والتزيين وفي أحسن الحالات على فن الإقناع.
ومع ذلك فإن البلاغة عند جماعة مو البلجيكية قد أقصت من اهتمامها مجموعة من المباحث الأساسية في البلاغية التقليدية واقتصرت على دراسة جانب من الصور البلاغية و يتعلق الأمر بالمجاز في بعده الأسلوبي.كما أنها انفصلت عن جذورها الفلسفية، وانحصر اهتمامها على المجال الشعري، ولهذا وصف بلاغتهم – بلاغة جماعة مو – بالبلاغة المختزلة، نظرا لتضييق مجال اهتمام البلاغة بعد كانت توصف بالإمبراطورية لتجاوزها مجال الشعر إلى النثر خاصة في بعده السردي.
وقد عمل النموذج اللساني البنيوي على تقوية هذا التوجه الاختزالي للبلاغة من خلال التركيز على مبدأ الانزياح في دراسة الظواهر الأدبية ومن أبرز هؤلاء المنظرين رومان ياكبسون الذي ينظر إلى الانزياح باعتباره ” بلاغة عامة ” يمكن اعتماده في فهم الخطاب وتأويله. ومن هنا يمكن القول إن المنطلقات المنهجية بين اللسانيات البنيوية وجماعة مو البلجيكية واحدة أو على الأقل متشابهة، إذ إن البحث في خصوصية الخطاب الأدبي بأجناسه المختلفة هو الأساس المشترك بينهما، فالوظيفة الشعرية عند ياكبسون باعتبارها صفة ملازمة لكل خطاب فني، تتقاطع مع مفهوم” الوظيفة البلاغية” عند جماعة مو.وكلا الوظيفتين تسعيان إلى ضبط الخصوصية الأدبية من خلال تجاوز الوظيفة التواصلية للغة إلى التركيز على مختلف المقومات التي تجعل من نص ما نصا فنيا، أي إلى وظيفة التأثير الفني والجمالي في المتلقي مع فرق جوهري بين النموذجين أو الوظيفتين وهو أن أن الوظيفة الشعرية عند ياكبسون تقتصر على الخطابات اللغوية عامة والخطاب الشعري بصفة خاصة، في حين تهتم الوظيفة البلاغية عند جماعة مو البلجيكية بالخطابات اللغوية وغير اللغوية.
وبهذا المعنى تسعى جماعة مو إلى تطبيق ” بلاغة عامة” أي “بلاغة الوظيفة البلاغية” وتحديدا مفهوم الانزياح على أنواع مختلفة من الخطاب، فالوظيفة البلاغية هي التي تسمح برصد كل التحولات التي تطرأ على لغة الخطاب . غير أن انحصار الوظيفة البلاغية في مفهوم الانزياح ، جعل مشروعهم البلاغي يقتصر على الخطاب الشعري ولا يتسع لأنواع أدبية أخرى وخاصة الخطاب النثري.
وقد شكل هذا الاختزال لوظيفة البلاغة مجالا خصبا لسلسلة من الانتقادات الأساسية خاصة من قبل التوجه الحجاجي في البلاغة (أولفيه روبول، بيرلمان ، تيتكا) واللسانيات البنيوية (خاصة مع جيرار جونيت وبارت وغيرهما). فقد انتقد جونيت بشدة التوجه المختزل للبلاغة ودعا إلى توسيع وظيفة البلاغة ليشمل الأجناس الأدبية الأخرى.
وخلاصة القول إن هيكلة البلاغة القديمة وبناء بلاغة جديدة منهجا وموضوعا قد تم بشكل تدريجي ومع تطور مناهج العلوم الإنسانية. كما علمت كل العلوم المرتبطة بالدرس البلاغي على إعادة بناء صرحها وفق تصورات جديدة ومفاهيم إجرائية حديثة، وفي مقدمتها الأسلوبية التي تعتبر في الدراسات النقدية الحديثة الوريث الشرعي للبلاغة القديمة من خلال تحويل مفاهيمها وتصوراتها إلى نظرية جديدة تتماهى مع مختلف مع مختلف العلوم المجاورة في دراسة اللغة في علاقتها بالمجتمع وفي مقدمتها السميائيات واللسانيات.
[1] – Perelman, Olbrechts-Tyteca, , .). La nouvelle rhétorique ; Traité de l’Argumentation (Coll. Logos). Paris, Presses Universitaires de France 1958.
[2] – Groupe µ Rhétorique générale , Paris, Éditions du Seuil, coll. « Points 1970 : 37)
[3] – Groupe µ, 1970 : 127)
[4] – لمزيد من التفصيل يمكن العودة إلى مقال الباحث مصطفى الغرافي ” عن البلاغة دراسة في تحولات المفهوم “
http://www.m.ahewar.org/s.asp?aid=402811&r=0
[5] – Jean Marie Klinkenberg Précis de sémiotique générale p 259
[6] – Perelman (Ch.) et Olbrechts-Tyteca (L.). La nouvelle rhétorique ; Traité de l’Argumentation (Coll. Logos). Paris, Presses Universitaires de France, 1958 p 62
[7] – نفسه ص 168 .
[8] – نفسه ص 545
[9] -السميائيات والبلاغة الجديدة، أحمد يوسف مجلة علامات ع 28، ص 111.
[10] – Introduction à la rhétorique: théorie et pratique Presses Universitaires de France – P.U.F.
[11] – http://www.m.ahewar.org/s.asp?aid=402811&r=0
[12] – -السميائيات والبلاغة الجديدة، أحمد يوسف مجلة علامات ع 28، ص 112.
[13] – Perelman, Olbrechts-Tyteca, 1958 : p 201
[14] – – نفسه ص 231
[15] – لمزيد من التفصيل يمكن العودة إلى مقال الدكتورة خديجة بوخشة ” الوظيفة الحجاجية للشعر” مجلة النص العدد 15 جوان 2014 أو عبر الرابط
file:///C:/Users/hp%20pc/Downloads/307-Texte%20de%20l’article-402-1-10-20180301.pdf
[16] – وهذه الجماعة معروفة بثلاثة مؤلفات وهي : Rhétorique générale (1970), Rhétorique de la poésie (1977) et Traité du signe visuel. Pour une rhétorique de l’image (1992
[17] – حيث يتم النظر إلى الموسيقى باعتبارها لغة يمكن دراستها من خلال مستويات لسانية مختلفة صرفية وتركيبية ودلالية ( انظر دراسة :
de Meeùs et Bartoli, « Sémiotique et rhétorique musicales : la Fantaisie en ré mineur de Mozart
[18] – ولمزيد من التفصيل في العلاقة بين البلاغة العامة والسميولوجيا وطرق اشتغالهما في الخطاب ينظر :
- G. Dondero et G. Sonesson (dir.), « Le Groupe µ. quarante ans de rhétorique – trente trois de sémiotique visuelle», Nouveaux Actes Sémiotiques. en ligne: http://revues.unilim.fr/nas/sommaire.php?id=3246