
رِهانُ التَّشعُّبِ في الشِّعريَّةِ، قِرَاءَةٌ في التَّحوُّلاَتِ والإشْكَالاتِ
أ/ محمَّد مزيلط ـ بجامعةُ ابنُ خلدُون. تيارت/ الجزائر
The Challenge of Hypertextuality in Poetics: Reading of Mutations and problematics
MEZILET Mohammed ـ université of ibn khaldoun / Tiaret- Alegria
مقال نشر في مجلة جيل الدراسات الادبية والفكرية العدد 50 الصفحة 43.
Abstract :
The literary text, along its historical evolution, is marked by variations and differences. Thus, hypertext presents a particular model to confirm the simultaneous presence of variations and transpositions affecting the structure of literary discourse. It shows us stylistic and structural options that are distinct from language based texts in its linear and vertical form as a unique mode of writing.
An extensive observation of this type of text confirms the existence of several forms. The alteration of the oral code to the written, then to the digital has generated writings with various forms of hypertextuality to the point that it is justiciable to say that each form bases its own poetics, these same transpositions also generated various problematics .
Thus, this contribution, claims to debate these two axes: the mutations of hypertextuality in the literary discourse, poetic in particular, and the problematics which they arouse. It also tries to propose a series of epistemological obsessions like the identity of the hypertext, as it inquires if it is possible to reduce its mutations to the transpositions of the code, and if there is a numerical poetics, and what is the status of this hypertextual form among texts genres, and what is the most relevant methodological model for analyzing it.
Keywords : Poetic, hypertextuality, tenor, calligraphy, interactionality
مُلَخَّصُ البَحْثِ:
إنَّ التَّنوُّعَ والاخْتِلافَ يحكُمُانِ النَّصَّ الأدبيَّ عَبْرَ مَسَاراتِهِ التَّاريخِيَّة الطَّويلة، ويُقَدِّمُ النَّصُّ المُتشعِّبُ أُنْمُوذجًا مُتَميِّزًا في التَّدْلِيلِ على التَّنويعِ والإبدالاتِ الحاصِلةِ في بنيَةِ الخطابِ الأدبيِّ في آنٍ واحدٍ، فهو يُبِيْنُ لَنَا عن اختِيَاراتٍ أُسلوبيَّةٍ وتَشْكِيليَّةٍ تَنْأَى عن النُّصُوصِ المُعْتَمِدَةِ على اللُّغةَ في مَنْحَاها الخطيِّ العَمُوديِّ كَسبيل أَوْحَد في الكِتَابةِ.
ويَقِفُ المُتتبِعُ الحَصِيفُ لهذا النَّمطِ من النُّصُوصِ على أكْثَر من شَكْلٍ لهُ، فتغيُّرُ الوَسِيطِ من الشَّفَويِّ إلى المكتُوبِ إلى الرَّقميِّ، أَفْضَى إلى كتابَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ في طَرائِقِ تَشَعُّبِهَا، فَكُلُّ شَكْلٍ يُؤَسِّسُ لِشِعرِيَّتِهِ الخَاصَّة، ولقد ترتَّبَتْ عن تلك الإبدالاتِ إشكاليَّاتٌ مختلفةٌ.
وتأسِيسًا عَلَى ما تَقَدَّم، تأخُذُ هذه الورقَةُ العلميَّةُ على عاتِقِهَا مُناقَشَةَ المحورين المُشَارِ إليهما، أي: سَيرورَاتُ التَّشعُّبِ الحاصلةِ في الخِطاب الأدبيِّ وخاصَّة الشِّعريّ منهُ، فَضْلاً عن الإشْكَالات المُترتِّبةِ عن تلك السَّيرُورَات، وتُحَاولُ طَرْحَ جُمْلَةٍ من الهَوَاجِسِ المعرفيَّة، من قَبِيلِ: بيان ماهيَّة النَّصِّ المُتشعِّبِ، وهل يمكنُ اختزالُ صَيرُوراتِهِ في الإبدالاتِ الحَاصِلةِ في الوسيطِ؟ وهل تُوجَدُ شِعْريَّةٌ رقميَّةٌ؟ وماذا عن الوَضْعِ الأجْنَاسيِّ لهذا النَّمَطِ من النُّصُوصِ المتشعِّبةِ؟ وعَن المنْوَالِ المنهجيِّ الكَفِيلِ بِمُقَاربَتِهَا؟
الكلماتُ المفتاحيَّةُ: الشِّعريَّة، التَّشعبُ، النَّبر، كَاليغرَافِيَا، التَّفاعليَّةُ.
تَوْطِئَةٌ:
ثَمَّة اختلافٌ بين المُنظِّرين والنُّقاد حول حَقِيقَةِ الشِّعريَّة، فمنهم من قرَّبها من العِلميَّةِ، في حين لا تَعْدُو أكْثَرَ من مجردِ نظريَّةٍ لدى البعضِ الآخر. وتبعًا لهذا التَّمفصُل يقفُ الباحثُ أمام جُملةٍ من المفاهيم، من قَبِيل: الشِّعريَّةُ انزياحٌ، أو فنٌّ للتَّأليف، أو دراسةٌ للوظيفةِ الشِّعريَّةِ للُّغةِ، أو أسلوبيَّةٌ لجنسٍ ما مِنَ الأجناسِ الأدبيَّةِ، أو توتُّرٌ، أو سمةٌ لنصٍّ من النُّصوص، أو دراسةٌ للخَصَائص النَّوعيَّةِ التي تجعلُ من عملٍ ما عملاً أدبيَّا…لكنّ التَّعدُّدَ المفاهيميّ لا يُلغي وُجُودَ رابطٍ بين تلك المُقترحاتِ المُختلفة، ويكْمُنُ في الشَّكل. فالخصائِصُ المُشارِ إليها آنفًا تُصبِحُ شكلاً، يتألَّفُ من جُملة البُنى النَّصِّيةِ، فيما الانزياحُ يحصُل في اللُّغةِ وباللُّغة، واللُّغةُ هي القالب الشَّكليُّ الحاملُ للنَّصِّ،كما أنَّ الأجناسَ تَتَمَايَزُ عن بعضِهَا بأشكالها، والأمرُ نفسُهُ تقريبًا ينطبقُ على الوظيفة الشِّعريَّةِ لدى “ياكبسون”، وهو ما يؤكِّدُ أنَّ حقيقةَ الشِّعريَّةِ تُلْتَمسُ في أشكال النُّصوص في كثيرٍ من الحالاتِ.
لا يُفْهَمُ من التَّقديم السَّابق أنَّ البحثَ يَرُومُ الخوضَ في الأُطُر النَّظريَّة لمفهوم الشِّعريَّةِ، فالحقُّ أنَّ هذه المسألة تكبَّدَتْ مشقَّتَهَا بحوثٌ أُخرى قدَّمت قَدْرًا معرفيًّا لا يُستَهانُ بِهِ، وإنَّما تسعَى إلى بيانِ الطَّابع الدّيناميِّ للشِّعريَّة إذْ لا تَكَادُ تَشْتَقُّ كينُونَتَها إلاَّ بِهِ، والشَّواهدُ على ذلك كثيرةٌ، ولا سَبِيلَ لحصرها، وسَنَكْتَفِي بما قدَّمهُ الشَّكلانيُّون الرُّوس من أطروحاتٍ، ومقُولاتٍ، فقد «رأوا نواة الادراك الإستطيقي ومنبع القيم الفنية في خاصية الاختلاف differenzqualitàt. يبدو أن هذا المفهوم كان يعني بالنسبة إلى الشكلانيين الروس ثلاثة أشياء مختلفة: فعلى مستوى تمثيل الواقع كانت differenzqualitàt تعني الاختلاف عن الواقع، أي تعني المسخ الخلاق. وعلى مستوى اللغة تعني البعد عن الاستعمال اللغوي الشائع. وأخيرا، على مستوى الدينامية الأدبية، يقتضي هذا المصطلح العام الانحراف عن المعيار الفني السائد أو تغيير هذا المعيار»[1].
إنَّ المُقترحَ الشَّكلانيَّ السَّابق يَقْتَضِي البُعْدَ عن كلِّ أنماطِ القَولَبَةِ، والنَّماذج الجَاهزة سلفًا، فشعريَّةُ النَّصِّ تُقاسُ بمدى اختلافهِ عن غيرهِ من النُّصوص لا بمُطابقته لها. وتَسَاوُقًا مع هذا التَّوجُه، صَاغَ الشَّكلانيُّون مقُولاتٍ أُخرى على غرارِ التَّغريب، فَكُلُّ نصٍّ يؤسِّسُ شِعرِيَّتَهُ الخاصَّة به. وما يَلْفِتُ النَّظر هنا أيضًا ارتباطُ الشِّعريَّةِ باللُّغةِ، ولا يُسْتَغْربُ هذا الأمرُ من الشِّعريَّةِ مادامت لسانيَّة المولد، وفي ظلِّ ما حقَّقَهُ المُنجزُ اللِّسانيُّ الحديث من حُظوةٍ في العلوم الانسانيَّةِ، ولا سِيمَا في الأدبِ ونقدِهِ، لكن يَبقَى رهانُ تلك النَّظريَّة على اللُّغة أو حتَّى من يُشَاطرها الرؤيةَ تلك خِداجًا؛ لأنَّ اللُّغةَ لا تعدو أكثر من ممكنٌ من المُمْكِناتِ التي تحقِّقُّ للنَّصِّ شعريَّتهُ.
ومع عَصْرِ الصُّورةِ حدثت انعطافةٌ نحو الشِّعريَّات البصريَّة، وأَضحَتْ مُكَوِّنًا رئيسًا في الكتابات المُعاصِرة، وقَبْلَ ذلك لم تكد تجد سَبيلَهَا نحو المقْصَدِ المُشارِ إليه آنفًا إلاَّ انطِلاقًا من اللُّغةِ نَفسِها، حيثُ أخَذَتْ مظهرًا كَالِيغرافيًّا* لا يخلو من تَدْلِيلٍ، فحينما «نتحدث عن البصري المقروء يفترض أنَّ الأشكال الكاليغرافية ليست أجسادا غريبة عن النص، ولا هي مجرد وسائط شفافة أو معتمة تستعمل في تشفير الرسالة، بل هي أجساد دالة»[2]، أي أنّها ليست مجرد تَفضِئَاتٌ بَصَريَّة اعتباطيَّة؛ بقدر ما هي أنْسَاقٌ تدليليَّةٌ في عالم النَّصِّ.
لقد تنوَّعت الشِّعريَّات البَصريَّة سواءٌ باللُّغة أو بغيرها، وبَاتَ الفَضَاءُ النَّصيُّ «مجالا لالتقاء وتجاور أشكال لا تهادن العين وفق إنجاز خطي مألوف، بل سيجعل الصفحة مكانا للقاء المُتَعَارِضَاتِ، وتجاور مالم يكن يقبل التجاور من قبل»[3]، وأَضْحَى التَّشَعُبُ مطلبًا إبداعيًّا، وسِمَةً مميِّزةً لحداثة الكتابةِ، ومِسْبَارًا لشعريَّةِ النُّصوصِ، وتجدرُ الإشَارةُ إلى أنَّ تغيُّرَ الوسيطِ من الشَّفويِّ إلى المكتوب إلى الرَّقميِّ أفضى إلى أنماطٍ مُختلفَةٍ في طرائقِ تشعُّبِ النُّصوص ، فكلُّ وسِيطٍ يؤسِّسُ لنصٍّ خاصٍّ، ولشعريَّةٍ لا تقلُّ خُصوصيَّةً عنهُ ، ولقد ترتَّبت عن تلك الإبدالات إشكاليَّاتٌ مختلفةٌ.
ولذلك، تأخذُ هذه الورقة العلميَّة على عاتِقِهَا مُناقشةَ المحورين المُشارِ إليهما، أي سيرُورُاتُ التَّشعُّبِ الحاصلةِ في الخطاب الأدبيِّ وخاصَّة الشِّعريّ منهُ، فضلاً عن الإشكالات المُترتِّبةِ عن تلك السَّيرورات، وهذا تماشيًا مع مُحاولات رصْدِ الشِّعريَّة العَربيَّة في رحلتها لـ اللاَّثبات، وتُحَاولُ طَرْحَ جُملة من الهواجسِ المعرفيَّة من قَبيلِ بيان ماهية النَّصِّ المُتشعِّبِ، ثُمَّ هل يمكنُ اختزالَ صيروراته في الإبدالات الحاصلة في الوسيط؟ وهل يمكنُ الحَدِيثُ عن شِعْرِيَّةٍ رقميَّةٍ؟ وماذا عن الوَضْعِ الأجْنَاسيِّ لهذا النَّمَطِ من النُّصوص المُتَشَعِّبةِ؟ وعن المنوال المَنْهَجِيِّ الكَفِيلِ بمٌقاربتها؟
تلكم هي أهمُّ الإشكاليَّات التي يَرُومُ البَحْثُ الكَشْفَ عن مَكْنُونَاتِهَا، وقَبْلَ ذلك يَحْسُنُ بِنَا بَيَانَ مُصْطَلحَي الشِّعريَّة والتَّشعُب؛ إذْ لا يَسْتَقِيمُ الحديثُ عنهُمَا دُونَمَا تَفْصِيلٍ في مدلُولِهِما.
1/ الشِّعريَّةُ والتَّشَعُبُ:
يَرْتكِزُ البَحْثُ على مصطلحيين مِفْتَاحيَّين: الشِّعريَّةُ والتَّشَعُبُ. يَتَطلَّبان تَحْدِيدًا؛ لِئلاَّ يَقَعَ القَارئُ في التباسٍ بِشَأنِهِمَا، وخاصَّة الشِّعريَّة، والحَامِلَةُ لأكثر من تحديدٍ كما وَرَدَ في مُفتَتَحِ الورقة، فما الشِّعريَّة المقصودة في هذا السِّياق؟ ولم اُختيرَ النَّصُّ المُتشعبُ؟
تَوصَّلَ “تزفيتان تودوروف”، و”أزوالد ديكرو”في: المعجم الموسوعي لعلوم اللِّسان إلى جُمْلَةٍ من المفاهيم الخاصَّة بالشِّعريَّةِ، يَقتربُ أحَدُها من النَّظريَّةِ، حينما يعتبران «السؤال الأول الذي تقدِّم الشِّعريَّة إجابة له هو: ما الأدب؟»[4]. يُعَدُّ السُّؤال المُشارِ إليهِ إلى جانبِ وظيفةِ الأدب ومَصْدَرَهُ المباحث الثَّلاثة الكُبرى لنظريَّةِ الأدبِ، ومن شَأْنِ الاشتغالِ بهِ أن يُقرِّبَ الشِّعريَّةَ من طابع النَّظريَّةِ كما أشرنا، ويُبْعدها أكثر عن الدَّلالةِ المُبتغاة في البحث، بَيْدَ أنَّه لَفَتَ انتباهنا تحديدٌ آخر لها في المعجم نَفْسِهِ، حيثُ «تنطبقُ على اختيارِ مُؤَلِفٍ من عدَّةِ إمكاناتٍ مُتوفرةٍ (نظام موضوعاتيٌّ، تركيبٌ، أسلوبٌ…الخ »[5]. وشعريَّة النَّصِّ المُتَّشعُبِ لا تنأى كثيرًا عن تلك الإمْكَانَات، فهي أُسْلُوبٌ خاصٌّ في الكِتَابَةِ، وتركيبٌ يَتَجَاوزُ الخطيَّةَ والأٌفقيَّة، وتركيبٌ عبر لغويٍّ، بالتَّالي فهي سِمَة نصِّيَّةٌ.
أمَّا اختيارُنا لوصفِ التَّشعُّبِ لم يكن مَحْضَ اعْتِبَاطٍ؛ لأنَّ مُصطلحَ النَّصِّ المتشعِّبِ يُسْتَعْمَلُ كبديلٍ للنَّصِّ المُترابط hypertexte، أو النَّصِّ الشَّبكيِّ cybertexte لدى بعض النُّقاد العرب، وذلك في نَعْتِ انفتاح فعل الكِتابَةِ على الرَّقميَّةِ، وفي الانعطافةِ من الفَضَاءِ الورقيِّ إلى الفضاءِ العنكبوتيِّ، فأفضى كلُّ ذلك إلى ميلادِ الأدبِ التَّفاعليِّ، ونحسَبُ أنَّ هذا الاختيار أي النَّصّ التَّفاعليِّ، أو حتَّى المُترابط أقربُ إلى الدِّقةِ من النَّصِّ التَّشعُّبيِّ، لكن هذا الأمر يَنْطَبِقُ على وَصْفِ أَحْدَثِ الصَّيرورات التي شهدها الأدبُ، بَيْدَ أنَّه لا يُفْسِدُ للوُدِّ قضيَةَ في سياق بحثنا؛ لأنَّنا بِصَدَدِ بيان السَّيرورات التي مرَّ بها النَّصُّ المتشعِّبُ، كَوْنُهُ افتقر إلى خَاصِيتَي التَّفاعليَّةِ والتَّرابطيَّةِ في أَطْوَارِهِ التَّاريخِيَّةِ الأُولَى، واعتمد بَدَلاً من ذَلكَ على التَّنويعِ في طرائقِ الكِتَابَة بالاعتماد اللاَّخطيَّة كما سيُفَصَّلُ في ذلك لاحقًا، وسنقتصرُ في عرضنا على المدوّنات العربيَّة، وخاصَّةً الشِّعريَّة منها؛ نظرًا لِغِنى هذا الجنس بها؛ فَضْلاً تناغُم بنيتِهِ مع تلك الخاصِّية.
2/ التَّشَعُّبُ في الشِّعرِِ العَربيِّ القَدِيم:
إنَّ تَتبُعَ سيروراتِ التَّشعُّبِ يَفْرِضُ علينا العَودَةَ إلى التُّراث العربيِّ القديم، ونخصُّ بالذِّكْرِ هنا الشِّعرَ، قصْدَ الوقوفَ على أُولى صُوَّرِها، فضلاً عن بيان مدى الوعيِ بها. ولا يُمْكِنُ الإيغالُ زمنيًّا في ذلك؛ نظرًا لحداثِتِهِ نسبيًّا، كما يَصْعُبُ الحديثُ عن تَشْكيلٍ بَصَرِيٍّ للشِّعر، وعن الجماليَّات البَصَريَّة في ثقافةٍ عربيَّةٍ تشكَّلت شفويًّا في مُعْظَمِ أطوارِهَا؛ نظرًا لعوامل تاريخيَّة، ومعروفٌ أيضًا عن الشُّعراء أنَّهم لم يكتبُوا قصائدَهُم، ولم يتوقَّفْ الأَمْرُ عِنْدَ هذا فَحَسب؛ بل إنَّ الأمرَ يَتَجَاوزَهُ إلى الرُّواةِ، وهو ما يؤكِّدُهُ “ابنُ النَّديم” في الفِهْرِست«ولم نَرَ لحمَّادٍ كتَابًا وإنَّما رَوَى عنه النَّاسُ وصُنِّفت الكُتُبُ بَعْدَه»[6]. وذكر “الطاهر أحمد مكي” أنَّ «أقدم مخطوط عربي كتب على الورق وصل إلينا في الحديث، اسمه “غريب الحديث” لأبي عبيد القاسم بن سلام المتوفى عام 837م ويحمل تاريخ 252ه»[7]. ولعلَّ هذه الوقائع التَّاريخيَّة تدعمُ حقيقةَ التَّأخُّر، لكنها لا تنفي وُجُود محاولاتٍ سعت إلى إحداث إبدالاتٍ في شعريَّة النُّصوص، بالاشتغال على الفضاءِ النَّصيِّ، والرِّهان على الشِّقِّ البصريِّ. وغالبًا ما يؤرَّخُ لهذه التَّجربةِ مع الأندلسيِّين، حيثُ تحوَّلت الكِتَابةُ على أيديهِم إلى «مساحات بديعية تعتمد توشيح المكان بعد أن كان التناظر الصارم هو القالب الأساس لتخطيط القصائد، تبعا لقالب الإيقاع، فأن قواعد ملء/ إفراغ المكان بالنسبة للكتابة متعددة ولانهائية»[8]، ولا يمكنُ أن تختزل في شكلٍ أوحد، ولا يختلف “بول شاوول”، و”طراد الكبيسي” في عدِّ الموشَّحة من بَواكِير الخروج عن جغرافيَّة القصيدة العربيَّة[9].
ولم يتأتَ التَّحوُّلُ المُشارُ إليه من عدمٍ؛ فالخَطُّ العَربيٌّ شَهِدَ نقلةً نوعيَّةً، لم يعُدْ مجردَ واسطةٍ، وترجمان عن اللِّسان؛ بل أضحى غايةً، ولَبِسَ لِبسَةً فنيَّةً ابتداءً من أواخر القرن الثَّالث هجري[10]، وجَنَحَ نحو الزَّخرفةِ. وتفنَّنَ الخطَّاطون في الطُّغراءاتِ، وزخرفةِ الحُروفِ، وهو ما يؤكِّدُ الأثر الذي تركَتْهُ الحياةُ الجديدةُ التي عرفها العربُ في فنونهم وآدابهم، وتأسيسًا على ما تقدَّمَ تتَّضِحُ لنا جدليَّة العلاقة بين الذائِقَةِ الجَماليَّةِ والتَّحوُّلِ، فإرضاؤُها يفرِضُ تخطي المألوف، ويبدو أنَّ التَّخريجَ نفسَهُ ينطبقُ على الشِّعريَّةِ، إذْ سبيلَ إليها باستنساخ التَّجارُب، ومُطابقةِ النُّصوص السَّابقةِ.
وفي السِّياقِ ذاتِهِ أيضًا، لا بُدَّ من الإشارة إلى دَوْرِ الحُقُول المُجَاورةِ للشِّعْر وللأدَبِ في التَّأْسِيسِ لِلْوَعي بالإمكَانَاتِ المخْبُوؤَة في مُكوِّناتِ الخطاب الشِّعريِّ، وإليها يُعْزَى الفَضْلُ في إِغنَاءِ الإمكانيات القِرَائيَّةِ، ونَخُصُّ بالذِّكرِ الفَضَاء الشِّعريّ، فالخطَّاطون «هم الذي الّذين انتبهوا أكثرَ من غيرهم لخاصية المكان في النص الشعري، فوافقوا بين سيمترية المكان وسيمترية الزمان، وزاوجوا بين الوسيلة والغاية. جعلوا النصّ وسيلةً عندما استعانوا به في تشكيل إبداعاتهم، وغايةَ عندما حوّلُوه إلى مجال لأبحاثهم التشكيلية»[11]. ولا ريْبَ أنَّ هذا المنحى يَصُبُّ في تَوسِيعِ حُدودِ الشِّعريَّة في النَّصِّ، وانفِتَاحُ الشِّعر على مُحِيطِهِ يُوسِّعُ حُدُودَ النَّصِّ وشعريَّتِهِ معًا.
وفي خُصُوصِ الشَّواهِدِ الدَّالةِ على مسَالِكِ التَّشعُّبِ توصَّلنا إلى بَعْضِ الأنواعِ التي حاولت أن تسْلُكَ هذا السَّبيل، ولا يتَّسِعُ البَحْثُ لعَرْضِ جميعِ الشَّواهد، ولقد أفاضت المراجِعُ التي اعتمد عليها فيها، وسنكتفي في المقابل بِسَوقِ نماذجَ ومن أمثلَتِها:
المُخلَّعات:
المخلعات عبارةٌ عن «قصائد يمكن أن تقرأ طردا وعكسا بأوجه مختلفة، وفي التسمية ما يشيرُ إلى ما في القصيدة من تفكك، أو ما يمكن أن يصيبها من انحلال، ولعلَّ أوَّل مخلعة ظهرت في الأندلس على يد الوزير
لسان الدين محمد بن عبد الله السليماني »[12]. كمخلَّعة صفي الدِّين الحلي:
لَيْتَ شِعْرِي لَكَ عِلْمٌ من سقَامِي يا شِفائي
لَكَ عِلْمٌ من سقَامِي ونُحُولي وضنَائِي
من سقَامِي ونُحُولي دَاوِينِي إذْ أنتَ الدَّاءُ
يا شِفائي وضنَائِي أنتَ دائِي ودوائِي
إنَّ قراءةَ الأبياتِ على نحوٍ عَمُوديٍّ أو أُفقيٍّ سيانٌ، ففي الحالتين يستقيمُ المعنى.
الشِّعرُ المعكوس:
لا يختلفُ كثيرًا عن سابقه؛ أي المخلَّعات، ويقْتَصِرُ الفرق بينهما في زاويةِ القِراءَة، حيثُ يمكنُ أن يُقْرأَ هذا النَّمطُ من اليمين إلى اليسار، ومن اليسار إلى اليمين، ومع ذلِكَ لا تتغيَّر ألفاظُهُ، نحو قولِ “القاضي الأرجاني”:
مَـودَّتُـهُ تـدُومُ لِكُـلِّ هَـوْلٍ وَهَـلْ كُـلٌّ مَـودَّتُـهُ تـدُومُ
أو أن يُقرأ بالطريقة ذاتها، أي في الاتجاهين معًا، لكن يتحول المدح إلى هجاءٍٍ، أو العكس.نحو قول الشَّاعر:
بَـاهِي المَرَاحِـمِ لابـسٌ كرمًـا قَديـرٌ مسـنِدُ
بعد القلب يتحوَّل إلى:
دنسٌ مريـدٌ قامـرٌ كَسَبَ المحارِمِ لا يُهـابُ
يبدو أنَّ الأنماط الشِّعريَّةَ السَّابقةِ لم تَسْتَغِل كُلَّ الإمْكَانَات التي يُتيحُهَا الفَضَاءُ النَّصيُّ للُّغة؛ وكلُّ ما قدَّمته لا يَعْدُو أَكثَرَ من طريقتين مَعْكُوستين في قراءة البيت، وقد يترتَّبُ عنهُما المعنى نفسَهُ، أو معنى يُناقضُهُ في أكثر الحالات، وفضلاً عن ذلك كرَّس التَّناظُر الإيقاعيُّ تناظُرًا بصريًّا، كما توضِّحُهُ المُخطَّطات التَّاليَّة:
لم يُسْهِم الدَّالُ البَصَريُّ في إضفاءِ التَّشعُّب على النَّصِّ، وخضع لِهَيْمَنَةِ الوزنِ المتماثلِ، وكرَّس شعريَّةً رياضيَّةً، والجماليَّات الكلاسيكيَّة، ونخصُّ بالذِّكر المثاليَّة اليونانيَّة، والمدرسة الفيثاغورثيَّة، التي تَرْتَكزُ على مبادئ الهندسة، كالتَّناظر، والتَّوازي، والتَّشاكُلِ، والتَّرتيب، والانسجامِ. لكن القيَّم الجماليَّة، والشِّعريَّة لم تعُدْ تتكئ على معايير ثابتة «وتتفق دراساتٌ عديدة اليوم على أن القيمة الجمالية متصلة دوما بوحدة جدلية متناقضة من الترتيب والفوضى، ومن الاطراد القانوني والمصادقة، من التناظر وعدم التناظر، ومن الحركة والسكون، إن الترتيب أو النظام يبدو على الدوام آليا باردا مملا لم تمسه يد لا يد الإنسان ولا يد الطبيعة بل صنعته الآلة. ففي كل نشاط إنساني خلاق كما في كل حركة ونشاط تكون درجة الترتيب نسبية»[13]. فالتَّماثُلُ لا يمكنُ أن يُلغيَ السبُل الأخرى للشِّعريَّة.
لقد حَالَ الاستئثارُ بالوزنِ دونِ الوصُولِ إلى مُمكناتٍ أُخْرَى للنَّصِّ المُتشعِّب، ومن ثمَّة للنَّصِّ التَّفاعُليِّ الذي يُشْرِكُ القارئ في بناء الدَّلالة، ولعلَّ من أبرزها: لُعبة البياض والسَّواد التي أشار إليها “محمَّد بنيس” فالكتابةُ عندَهُ ترمي إلى «إعادة تركيب المكان، وإخضاعه لبنية مغايرة، وهذا لا يتم بالخط وحده، إذ يصحب الخط الفراغ، وهو ما لم ينتبه له بعض من يخطون نصوصهم بدل اعتماد حروف المطبعة، إنها لعبة الأبيض والأسود، بل لعبة الألوان، وكما أن لكل لعبة قواعدها، فإن الصدفة تنتفي، ومن ثمة تؤكد الكتابة على صناعيتها وماديتها، وعدم الاحتفال بالفراغ سقوط في الكتابة المملوءة التي لا تترك مجالا لممارسة حدود الرغبة، إذ أن كل كتابة مملوءة هي كتابة مسطرة لحد واحد يدعي تملك الحقيقة»[14].
وارتباطًا بمسألة أهميَّة البياض، أشار”محمَّد مفتاح” إلى أنَّ الشِّعريَّةَ المُعاصرة تَعُدُّ البياض أصلَ الكتابةِ، وافترض أصحابُها «أنَّ الشعر الذي ينشأ من البياض الذي يكون في الصفحة أكثر من السواد الذي يكون فيها، وقد صار الافتراض اعتقادا بأن البياض باعتباره عدمًا، أسبق من الوجود»[15].
ويعتبرُ النَّبرُ البَصَرِيُّ من الإمكانات التي يُتيحُها الاشتغالُ البَصَريُّ في الشِّعر أيضًا، إذْ من شأنِهِ الإفضَاءُ إلى التَّشعُّبِ. والنَّبْرُ في الدَّرْسِ الصَّوتِيِّ هو «نطق مقطع من مقاطع الكلمة بصورة أوضح وأجلى نسبيا من بقية المقاطع التي تجاوره»[16]. وما ينطبقُ على المقطع في الكلمةِ؛ ينْسَحِبُ على الكلمةِ في البيت أو السَّطر الشِّعريِّ. فهو نبرٌ على دلالتها، وعلاقتها بالتَّركيب الوارِدَةِ فيه. ونَودُّ التَّأكيدَ على أنَّ طرائق وضع الخطِّ والطِّباعة لا يُمكِنُ عدُّهما مجرّد وسيلتين وتقنيتين للتوصيل والإفصاحِ عن المَكنُونَات المجرَّدَةِ القَائِمَة في النَّفسِ، بقدر ما هُمَا فاعِلِيتَين أسَاسِيَتَن في التَّدليل. وهُناكَ أكثرُ من طريقةٍ للنَّبر البصريِّ، كأن تظهرَ الكلِمَةُ بخطٍّ بارزٍ، ويُمكنُنا توضيحُ ذلك ببيتٍ لأبي العتاهية:
أَلا لَيْتَ الشَبابَ يَعُودُ يوماً فَأُخبِرُهُ بما فَعَل المَشِيبُ
فَنُوستَالُوجِيَا العودة في هذا السِّياق تَبقَى الدَّال الأبرز، وتختزلُ معها الألم الآني والأمل في غَدٍ مستحيلٍ لايُدْرَك، والرَّغبة في السَّرد للذَّاتِ بما فعلت الذَّاتُ، وتُوارِي العَودَةُ الاغترابَ النَّفسيّ، والقلقَ من مصير الموتِ. فَنَبْرُ العودةِ فيه تَكْثيفٌ يستوعبُ بقيَّة الدَّوال الأُخرى: ليت(الرجاءُ المستحيلُ)/ أُخْبِرُهُ(التَّنفيسُ بالسَّردِ)/ المشيب(رحلَةُ جلجامش)/ الشباب(إصْبَاحُ القُوَّةِ).
وتَتَضاعَفُ إمكانياتُ النَّبرِ البصريِّ كُلَّمَا خرجنا عن نظام الشَّطرين، ومتى اقتربنا من قَصِيدَةِ النَّثرِ؛ نظرًا لطابِعِها المُتشعِّب، فبالامكانِ فَصْلُ حُـ رُ وفِ الكلمةِ أُفُقيَّا على نحو ما تقدَّم، أو عموديًّا. أو تُعزلَ الكلمةُ عن غيرها فَتَسْتَقِلُّ قائمةً بذاتها «فمن الحرف الأبيض العادي إلى الحرف الأسود البارز، الذي يحف الصفحة من كل جوانبها، إلى كثافة الصفحة، إلى تشظية الجمل وتفتيت الكلمة …كل هذه الطبقات أصبحت العين أمامها ملزمة بإدراكها كإيقاعات ناتئة بعضها يمحو بعضًا، وبعضُها يسعى لإثبات وجوده عبر تأكيد اختلافه عن الآخر»[17].
وبهذا كُلِّهِ تتحقَّقُ شعريَّةُ التَّجاوُزِ، والصَّمْتِ، والعَبْرِ. فَالتَّجَاوُزُ يتعلَّقُ بالنُّصوصِ السَّابقةِ، فَيُعَدِّلُ في آفاقِ تَوقُّعِ القُرَّاءِ، وأمَّا الصَّمْتُ، وخاصَّة في النُّصُوصِ الصُّوفيَّةِ هو«الأكثرُ قدرة على تبليغ الكلام حيث العلاقة بين الصمت والكلام، هي علاقة فَنَاءِ كلٍّ من الطرفين في الآخر هذا الفناء، ضمان لحياة جديدة أو لكلامَ جديد بَاطِنه صمت مؤهل وحدهُ لِكَشْف المحجوب وقَول ما لاَ ينقال»[18]. وأمَّا في العَبْرِ، يتجاوزُ النَّصُّ حُدُودَ جِنْسِهِ، ويَنْفَتِحُ على الفُنُونِ المُجاورةِ لمجَالِ الأَدَبِ.
بَقِيَ لنا في مُختَتَمِ المبحثِ الإشَارةُ إلى طريقة أُخْرَى سَلَكَهَا القُدامى في الكتَابَةِ الشَّعريَّة، وتمتُّ بِصلَةٍ وثيقةٍ للتَّشعُّب، وتَأْخُذُ فيها النُّصُوصُ أَشْكَالاً هَنْدَسيَّةً، كالدَّوائرِ والمُربعات، والمُثلَّثات. وعُرِفَت أنمَاطٌ أُخرى لدى النُّقاد بالتَّخْتِيمِ، والتَّشْجِير؛ لأنَّها أخَذَتْ شَكَلَ الخواتِمِ، والأَشْجَارِ، اختصَّ بها المُتَصوِّفَةِ منهم. «وهذه الرسوم ولأشكال هي تعبيرات عن لحظة تَبَدّي لَطَائف وأسرار يبدو أن الصّوفي لم يجد أفضل منها للقبض على ما كان يَعْتَمِلُ في دواخله، لأنّ اللّغة، في مثل هذا الوضع، تكون عاجزةً عن تمثيل هذا الاشتغال»[19].
اتَّضحَ لنا ممَّا تَقَدَّمَ مَدَى اعتياص الحديث عن شِعريَّةٍ للنَّصِّ المُتشعِّبِ، مادام النَّصُّ ذاتُهُ كَينَونَةً سرابيَّةً، ولم يكن محلَّ اهتمام كافٍ؛ لأنَّ تحقُّقه يُراهِنُ كثيرًا على الفَضَاء البَصَريِّ، وجُلُّ الحدود المُقدَّمةِ في الشِّعرِ حصرته في الكلام، فالشِّعرُ كلامٌ موزونٌ. ويَتجلَّى هذا الكلام بطريقتين: بالصَّوتِ، أو بالخطِّ المُجسِّد للصَّوتِ، كما أن «مجموع المباحث المهتمة بالخطاب الأدبي عموماً، والشعري تحديداً بقيت أسيرة تصورات تعلي وتقدم (اللوغوس) على مجموع الأنماط التعبيرية الأخرى. فلقد أبرزته اللسانيات في صيغتها البنيوية تمركزاً حول الصوت لا يبارح التعريف القديم بالعلامة اللسانية عند سوسير»[20]. وأضحت الكتابةُ امتلاءً ماديًّا ودلاليًّا، وانتفى بهذا الملء مبدأ التَّفاعُلِ بين النَّصِّ والقارئ، وحَالَ دون الوصولِ إلى شعريَّة النَّصِّ، القائمة على الفجوات النَّصِّيَّةِ. ويبقى هذا الحُكْمُ نسبيًّا، وخاصَّةً لما يَتَمَحَضُ الشَّأنُ للكتاباتِ الصُّوفيَّةِ التُّراثيَّة، حيثُ عَمِلَتْ جَاهدةً على تَجَاوُزِ الأِِرْثِ السَّابق في كَيفيَّةِ تَعَاطِيهِ مع اللُّغةِ.
3/ التَّشَعُّبُ في الشِّعرِ العَربيِّ المُعاصر:
يمكننا التَّمييزُ بين نمطين من التَّشعُّبِ، أو بين نصَّين أحدُهما متشعِّبٌ، والآخرُ متشعِّبٌ تفاعليٌّ، ولعلَّ مردَّ ذلك إلى الوسيط الحامل للنَّصَّينِ، كَون الأوَّل منهُما محصورٌ فيما تُتِيحُهُ الورقةُ من إمكاناتٍ لذلك، بَيْدَ أنَّ الثَّاني أَضَفْنَا له وَصْفَ التَّفاعليّ، أو حتَّى المُتَرابِط؛ نظرًا لاعتماده على الرَّوابط في الوسيط الشَّبكِيِّ، وهو الأكْثَرُ إثارةً للجَدَلِ؛ لأنَّ مُعْظَمَ الإشكالات التي تَرُومُ الوَرَقةُ الإجَابةَ عنها لا تَكادُ تخرج عَنْهُ.
أ/ النَّصُّ المُتشعِّبُ الورقيُّ:
لم يكن هذا النَّمط من النُّصوصِ بدعًا من بِدَعِ المُعاصرين، ولكنَّهُ وُجِد أيضا لدى القُدامى، غير أنَّه لم يكن بمستوى الوعي، ولا حتَّى التَّنويع الذي عُرِفَ به المعاصرون، ويمثِّلُ الشّكلان التَّاليان نماذج منهُ.
الشَّكل الأوَّل :
الشَّكل الثَّاني:
وهناك أشكالٌ ونماذجُ أُخرَى غيرها، لا يتَّسعُ المجالُ لعرضا جميعًا. والمُلاحَظُ أنَّ قراءَةِ الأبيات في الأشْكَالِ السَّابقة لا تَتِمُ دونَ العَودَةِ إلى وَسَطِ الدَّائرة، ولا يُنْظرُ إلى الوَسَطِ كَنُقْطةٍ تَنْتَهِي إليها العينُ في عَمَليةِ استكمالِهَا بَقِيةَ البيتِ، بِقَدْرِ ما يُنظرُ إلى ذلك الوَسَطِ، أو الأعلَى، أو أيَّ فضاءٍ آخر بوصفه فَضَاءً، ومُستوى مُتميِّزًا للتَّفاعُلِ بين النَّصِّ والقِراءَاتِ التَّأويليَّة المُقدَّمة في مَتْنِهِ، وتَجْدُرُ الإشارة أيضًا إلى الأشْكَالِ وطرائقِ توزيعِهَا تُخْفِي وراءَهَا رُموزًا، وخَاصَّة في نظام الحُرُوفِ، لا يُدْرِكُهَا إلاَّ أَهْلُ السِّر، وهو ما سَارَ عليه المُتَصَوِفَةُ، وخَصَّ”ابنُ خلدون” الفصل التاسع والعشرين من مقدِّمته لهذا الغرض بالذَّات، وَرَبَطَهُ بالتَّصَوُّف، وذَكَرَ أنَّ هذا العلم «حدثَ هذا العِلمُ في الملَّةِ بعد صدرٍ منها، وعندَ ظُهُورِ الغُلاةِ من المتصوِّفَةِ، وجنوحِهِم إِلى كشفِ حِجابِ الحِسِّ وظُهورِ الخوارِقِ على أَيديهم والتَّصَرُّفات فِي عالمَِ العناصِرِِ، وتدوين الكُتبِ والاصطلاحاتِ، ومزاعمهِم في تنزُّلِ الوجودِ عن الواحِدِ وترتيبهِ»[21]. وهكذا أُودِعَ في كُلِّ حرفٍ أو شَكْلٍ أسرارًا مَكْنُونَة لا يُدْرِكُهَا إلاَّ أهلُ الحَقيقَةِ على حدِّ وصفِ الصُّوفيَّةِ.
وتَلتَقِي الكِتَابةُ الشِّعريَّةُ المعاصرةُ مع الكتابات الصُّوفيَّة القديمة في قُدْرَتِهِمَا على خَلْقِ تَفَاعُلٍ بين النَّصِّ والقَارئِ اعتمادًا على البياضات، «وكلما اشتدت نشوة الصوفي، تقلص وضوح العبارة وانسحب ليترك أمام القارئ بياضات تفزعه لأنها ممتلئة بأشباح وصور يصعب إدراكها انطلاقا من مواضعات الحس السليم وبداهاته»[22]. وهنا يَتَجَلَّى البَيَاضُ في بُعدِهِ الأوسع، والذي يَتَجَاوزُ البُعد الماديِّ.
وليس النَّبرُ البَصَرِيُّ السَّبيلَ الوحيدَ للقصيدةِ المُعَاصِرَةِ من أَجْلِ التَّأسِيسِ لجمالياتٍ جديدةٍ، بل هناك طرائق وأساليب أخرى لبلوغ هذا المقصد، كالرَّسْمِ الحرفيِّ، ففي قصيدة “دليل الطيور” ل”فوزي السَّعد”
ففكرة إرشاد الطيور ودَلِّهَا على الطَّريق قُدِّمت بطريقتين في آن واحد، دالٌّ لغويٌّ في قوله: أدلُّ الطيور. أي أنَّ الشَّاعر يُصَرِحُ عَلَنًا بنُِهُوضِهِ بهذه المَهَمَةِ، ودَالٌّ بَصَريٌّ ويتمثَّلُ في الشَّكل الهَنْدَسيِّ الذي جَاءَت وفقه هذه الأبيات، حَيْثُ أنَّ الضَّمير المُستتر “أنا” الذي يُحِيلُ إلى الشَّاعِرِ أيْضًا جاء على رأسِ شَكْلٍِ مُثلَّثٍ، وهو الشَّكلُ الذيّ تُحلِّقُ به الطُّيورُ حينما تَكُونُ في سِرْبٍ، ولدى قطعها لمَسَافَاتٍ طَويلةٍ، وكأنَّ بوقوع الضَّمير في ذلك المَوْضِعِ من فَضَاءِ الصَّفحةِ يُؤكِّدُ طَليعَتَهُ في قيادة السِّرْبِ.
وفي المثال السَّابِقِ تتَّضِحُ العَلاَقةُ بين الدَّالين: اللُّغويّ والبَصريّ، وقامت على أساس التَّشاكُلِ «أي إنَّ الفضاءين يبرزان نفس الدلالة، بحيث تكون دلالة الواحد منهما مراكمة لدلالة الأخرى»[23]. أي يتعاضدانِ من أجل تقديم الدَّلالة الواحدة، وهي أكثرُ العلاقاتِ النَّاظِمَةِ للعلاقة بين العلامات اللُّغويَّةِ والأيقونيَّة، التي استنتجها “محمَّد الماكري” إلى جانب علاقتي التَّفسير والتَّناقض.
إنَّ اللاَّفِتَ للنَّظَر في هذه الحِقبَةِ بالذَّاتِ هو الوعيُّ النَّظريُّ والإبداعيُّ بشعريَّةِ التَّشعُّبُ لدى النُّقادِ والكُتَّابُ على حدٍّ سواء، ومحاولتهتم لتوسيع دائرة الذائقة الشِّعريَّةِ لحواس جديدة، وهو ما يُفهَمُ من “الجُنُون المُعقلَنِ” لعبد الله راجع، ويشيرُ في هذا الخُصوص «نريد هنا أن نمتلك عذا الكائن الصامت- الناطق الذي يدعى المكان. نريد أن نسخره ليدخل بدوره مملكة الدلالة وليصبح من ثمة بعدا من أبعاد النص المقروء المرئي ليس الأمر صعبا على عين تعودت ألا ترى في الصفحة مجرد بياض ينتظر الحبر. ولكن كم نحن في أمس الحاجة إلى عين غير مدجنة لتكتشف داخل الصفحة حقلا قابلا للتوزيع والتشكيل بحيث يمكن للأرضية – البياض أن تصبح في بعض الأحيان بديلا عن الشكل – الحبر، بل وقد تمتد دلالتها لتتحول نطقا، في حين يتقلص دور الحبر يصبح مجرد صمت أو نزوعا إلى الصمت. إن في الأمر محاولة لعقد زواج شرعي بين الشعر والفنون التشكيلية، مما سيرفع المحنة عن حاسة السمع التي لا تستطيع بمفردها أن تستوعب كل معطيات النص الشعري وأبعاده»[24].
إنَّ دعوة “راجع” إلى فتح الكتابة الشِّعريَّةِ على الفُنون البَصَريَّة لم تكُن دَعْوَةً يتيمةً؛ بل شَدَّ أَزْرَهَا شُعراءٌ آخرون، على غرار: “محمَّد بنيس” حيثُ نَظَّرَ للمسألة عبر (بيان الكتابة) في المجلة نفسها، وأعاد نَشْرَهُ في (حداثةُ السُؤال1985)، ونشر فيها أيضًا: (هكذا كلَّمني الشَّرقُ مَوسِمُ الحَضرَةِ) بخطِّ: “عبد الوهاب البوري” في خطٍّ مغربيٍّ أصيل، في نزعةٍ تفكيكيَّةٍ صريحةٍ لم يُخْفِ فيها إعجابَهُ “بالمفكر، وعالم الاجتماع، والأديب “عبد الكبير الخطيبي” في مُؤَلَفَيْهِ: (الاسم العربيُّ الجريحُ) و(ديوانُ الخطِّ العربيِّ)، وجاءت قصائدُه على نحوٍ بصريٍّ، وفي أشكال* مختلفة تعذَّر علينا نقلُها. كما أنَّ الخطيبيّ قارب بعض المُونُوغرامات، والطُغرات في مُؤَلَفِه الأوَّل من منظورٍ تأويليٍّ.
ويبدو أنَّ النَّزعة التَّفكيكيَّة لم تكُن وقفًا على الأعلام السَّابق ذِكْرُهُم، بل هي ميزةٌ طَبَعَتْ العديدَ من الكتابات الشِّعريَّة العربيِّة المُعاصرة مع الثَّمانينيَّات، والتِّسعينيَّات، وهو ما خلُصَ إليه”مُحمَّد الشحات” في دراسته للكتابات الشِّعريَّةِ الأخيرة لمحمود درويش”، و”سيف الرحبي”، واسكندر حبش”، حيثُ يستعينُ بعضها بمفهوم الأثر التَّفكيكيّ. فضلاً عن اشتمالها على «رؤى شعريَّة متباين، متناغمة متنافرة في آن، ودفقات، أو نفثات، تمزج الشعري بالنثري، والدرامي بالملحمي، والصوفي بالعدمي، وتؤكد على فكرة الكتابة في إطلاقيتها بعيدا عن قيود النوع أو الجنس الأدبي»[25]. ولم تكن الشِّعريَّة في منأى عن هذا التَّعويم، وافْتَكَّتْ الشِّعريَّاتُ الجديدة لنفسها مكانًا إلى جانب الشِّعريَّةِ الآرسطيَّةِ واللِّسانيَّةِ، فأضحى للقُبْحِ مكانًا كما للجمالِ مكانًا، وقِسْ على ذلك بقيَّة المركزيَّات التي تمََّتْ الدعوةُ إلى تَفْكِيكِهَا.
ومن غيرِ اليَسِيرِ الإحَاطةُ بتَشَعُّباتِ هذه المسألةِ في وَرَقةٍ مُوجَزَةٍ، لكن لابدَّ من الإِشَارَةِ إلى السِّياق الذي جَاءَت فيه مُحَاولاتُ التَّأسِيس لِشِعْريَّاتٍ مختلفةٍ تَسْتَجيبُ إلى رُوحِ العَصرِ، ولنا في التَّحَوُّل من إيقاعِ الأراجِيزِ إلى المُوشَّحَاتِ مثالٌ بسِيطٌ على ذلك، دونَ أن نَنْسَى أيضًا أنَّ الشِّعر تَمْثِيلٌ للوُجُودِ، وتأسِيسًا على ذلك نُظِرَ إلى الذَّات الشَّاعِرَةِ كَبِنيةٍ « مُعقَّدَة متشعِّبَةً في تجربة لم يعد النص فيها، أو الشعر بالأحرى تعبيراً عن إحساسٍ مَعزُولٍ، بل إدراكاً مُرَكَّباً لمشكلات الوجود ومُعضلاتِه، وتمثُّلاً مأساوياً لوجودٍ أصبحت فيه الذات عاريةً في مواجهة مُضاعِفَاتِها، بل كذلك مُتشَظِّيَةٍ مُتَكثِّرِةٍ ممتلئة بنقائضها»[26]. يبدو أنَّ الطَرْحَ البُوسريفيَّ يميلُ إلى نَفْيِ المِعيَاريَّة عن الشِّعريَّةِ، فهي ليست قواعد ثابتةً سابقةً على فِعْلِ الكتابةِ، فلا يُبْنَى الحاضرُ بِشَرْطِ الماضي، بل ديناميَّة تتأثَّرُ بسياقات مختلفةٍ.
إنَّ حدَّة التَّجريب التي طبعت الكِتابَاتِ السَّابِقَةِ لم تَشْفَعْ لها بُلُوغَ الحُدُود القُصْوَى في تَشَعُّبِ الكتابةِ الشِّعريَّةِ، على الرَّغم من انفتاح الشِّعرِ على الفُنُون البصريَّةِ، ولعلَّ مردَّ ذلك إلى محدوديَّة الإمكانات التي يُتيحُها الوسيطُ الورقيُّ خلافًا للوسيطِ الرَّقميِّ.
بـ/ النَّصُّ المُتشعِّبُ التَّفَاعُليُّ:
يُمْكنُنَا الاسْتِغْنَاءُ عن مصطلحِ التَّشعُّب في عنوان هذا المبحث، كون مُصطلح النَّص التَّفاعليّ يكفي للإحالة عليه؛ لأنَّ وَصْفَ التَّفاعُليَّة لا يُطلقُ إلاَّ في ظلِّ جُملةٍ من الخصائص، ويعدُّ التَّشعُّبُ واحدًا منها، وإبقاؤُنا عليه أَمْلَتهُ اعتباراتٌ مَنْهَجِيَّةٌ بَحْتَةٌ، ولا نُرِيدُ إِقْحَامَ البَحثِ في مُمَحَكاتٍ اصْطِلاحيَّةٍ ليست من صمِيمِ أَهْدَافِهِ.
تعدُّ هذه الصَّيرورة التي شهدها الأدبُ من أهم التَّحوُّلات عبر تاريخه الطويل، ولابدَّ من الإقرار أيضًا بأنَّ عصر الرقميَّة، والثَّورة في مجال الاتِّصال، التِّكنولوجيات كُلُّها عَوامِلٌ غيَّرت مَنْظُومَةَ القيَّمِ في حياة الإنسانِ، وخَاصَّةً المتعلق منها بِوِحْدَةِ المكان، وأَفْرَزَتْ نِتَاجَاتٍ جَدِيدَةٍ لعلَّ من أبرزها: ظُهُور ما يُعْرَفُ بالمُجتَمعَات الافتراضيَّة، التي خَلَقَتْهَا وَسائِطُ التَّواصُلِ الاجتماعيِّ، وتراجُعُ العوالم الواقعيَّة*، وخاصَّةً على عهد الألفيَّةِ الثَّالثةِ. ولم يَكُن الأَدَبُ في مَنْأًى عمَّا كان يَعْتَمِلُ في مُحِيطِهِ. ولِذَا انخَرَطُ طائِفَةٌ من الكُتَّاب في تَجْريبِ الوَسَائِطِ التكنولوجيَّةِ الجَدِيدَةِ، وأَصْبَحْنَا إزاءَ أَدَبٍ تفاعليٍّ، أو نَصٍّ تَفَاعُلِيٍّ. «وقد بزع هذا الجنس الأدبي في الغرب منذ الثمانينيات بدءًا بالرواية 1986 وبعدها الشعر 1990، لكن العالم العربي لم يلج هذا الجنس إلا في القرن الحالي، وقد بقي مجال الشعر العربي خاليا من تجريب هذا الجنس الجديد إلى أن طرح الشاعر المجدّد د مشتاق عباس معن 2007 مجموعته الشعرية التفاعلية الرقمية العربية الأول بعنوان تباريح رقمية لسيرة بعضها أزرق»[27].
ويبدو أنَّ هذا النَّمطَ من النُّصوصِ يَطْرَحُ إشكاليَّاتٍ مُضَاعَفَةٍ. فالمُتَمَعِنُ في الاقتباسِ السَّابق، يُدْركُ لا محالة الاضطراب الذي وقَعَ الباحثون في خُصُوصِهِ، حيثُ وُصِفَ بالجنس الأدبيّ. فهل هو جنسٌ أدبيٌّ؟ وماذا عن مصطلحات: الشِّعر التَّفاعليّ، والرِّواية التفاعليَّة…؟ أليست أجناسًا موازيةً؛ لا جِنْسًا واحدًا كما أُشِيرَ إلى ذلك سَابقًا؟ ثمَّ إنَّ بَحْثَ شِعْريَّة النَّصِّ المُتشعِّب التَّفَاعُليِّ أَشَدُّ اعْتِيَاصًا، من الأدب الكَلاسيكيّ، أو الأَجْنَاسِ الكَلاسِيكِيَّةِ، خَاصَّةً، إذَا أَخَذْنَا في الحُسبانِ عَمَلِيةَ إنشاء النَّصِّ التَّفاعليِّ، إذْ لا تتمُّ بواسطةِ الكاتِبِ وحدَهُ؛ بل بِطَرَفٍ، أو يتعيَّنُ عليه إلى جانب الكِتَابَةِ إتقانَ البرمجيَّات، ولُغَةَ html ومن هُنَا نَتَساءَلُ: فهل تُوجَدُ شِعريَّةٌ للرقميَّةِ، وللتِّكنُولُوجيَّات؟ ثمَّ ما عَلاقَةُ شعريَّة النُّصوصِ التَّفاعُليَّة بالشِّعريَّات السَّائِدَة قبلها؟ هل تحتكمُ إليها؟ أم أنَّها تَتَجَاوَزُها ؟
لا يُمكنُ الإحاطةُ بالإشكَاليَّات السَّابقة ما لم نُحَدِّدْ طبيعَةَ النَّصِّ التَّفاعُليِّ، أو عَلَى الأَقَلِّ، نُحَدِّدُ مُكَوِّناتِهِ؛ لأنَّ شِعْريَّتَهُ يَسْتَحِيلُ رَصْدُهَا بِمَعزِلٍ عن مُكوِّناتهِ. فالأدبُ التَّفاعليُّ هو«الذي يوظّف معطيات التكنولوجيا الحديثة في تقديم جنس أدبي جديد، يجمع بين الأدبية والإلكترونية، لا يمكن أن يتأتى لمتلقيه إلا عبر الوسيط الالكتروني، أي من خلال الشاشة الزرقاء. ولا يكون هذا الأدب تفاعليّا إلا إذا أعطي المتلقي مساحة تعادل، أو تزيد عن مساحة المبدع الأصلي للنص»[28]. طرحت”البريكي” في هذا التَّحْديد مسألةَ التَّفاعليَّة، وهناك عُنصُران آخران متَّصلان بخاصيَّة التَّشعُّب، ويتعلَّقُ الأمرُ بالمتلقي، والوسيط.
وتَنطَوي العَنَاصِرُ الثَّلاثَةُ المَذكُورَةُ على أهميَّةٍ بالغةٍ في الإمسَاكِ بِتعقيدَاتِ الإشكاليَّةِ. فَوَضْعُ التَّفاعليَّةِ بَيِّنٌ في النَّصِّ التَّفاعليِّ، إذا ما قِيْسَ بالمُتلقي والوسيط، فالتَّفاعليَّةُ هي شَرْطُ النَّصِّ ،ومنها يَشْتَقُّ تَسْمِيَتَهُ، وبها تَتَحقَّقُ كَينُونتَهُ القائمة على الاحتمال واللاَّ ثبات، وهذا حسب ما توصَّلتْ إليه البُحوثُ المُتخصِّصَة في هذا المَجَالِ، لكن مع ذلك يَصْعُبُ تحقِيقُ التَّفَاعليَّةِ من دون العنصُرينِ المُتبقيَّين؛ أي المُتلقِيُّ، والوَسِيطُ. وبناءً على ما تقدَّم، هل يُمكِنُ عدُّهُما مُكوِّنين؟
يقوم النَّصُّ التفاعليُّ على مبدأ التَّشعُّب، ويظهرُ في المكوِّنات التي تمُيِّزُه عن النَّصِّ الورقي المُعْتَوِز إلى الوسِيطِ، والمتمثل في الفَضَاء الشَّبكيِّ، فلا يُتَصَوَّرُ وُجُودَ نصٍّ مُترابطٍ (تفاعلي/ متشعب) عند “سعيد يقطين” دون الشَّبكة، فَضْلاً عن المتلقي وهو قارئ/كاتب، أو المُستعمل، فشكلُ النَّصِّ يتيحُ للمستعمل (القارئ) التَّعديل والإضافة في النَّصِّ فلا يعترف الأدب التَّفاعلي بالمبدع الوحيد النص، فبالتَّشكيل «والكتابة الالكترونية والإبحار والتأويل يتحقّقُ التَّفاعلُ»[29]. فالتَّفاعُلُ يتمُّ بطريقين: بالنَّصِّ، عن طريق الرَّوابط الالكترونيَّة، وبتفاعلِ القارئ مع النَّصِّ. كما يُتيحُ الوسيطُ أيضًا إقحام عناصر لا خطِّية في النَّصِّ، كالصَّوت والحركة، والعناصر التي لا يُمكنُ أن تُحْمَلَ على الورقِ.
وترى”زهور كرام” في النَّصِّ التَّفَاعُليِّ بنيةً ديناميَّةً؛ بحُكْمِ التَّفَاعُلِ المُشارِ إليه سابقًا، بل ذهبت إلى أبعد من ذلك حينما اعتبرت التِّقنيَّة مكوِّنًا نصِّيًّا، خلافًا لما يُظْهِرُهُ الشَّكلُ أعلاه، «فالبرمجة تدخل باعتبارها لغة محورية، ومنجزة لنصية النص التخييلي الرقمي»[30]. ولكن، هل بوِسعِ تلك اللُغِة أن تكون موضُوعًا جماليًّا أو موضُوعًا للشِّعريَّةِ؟ يمكنُ الإجابةُ عن هذا التَّساؤُل بِسُؤالٍ آخر. فهل الورقةُ تُشَكِّلُ موضُوعًا للشِّعريَّةِ أم امتِلاءُ الصَّفحَةِ وبَيَاضُها؟ إنَّ ما ينطَبِقُ على الورقة كَمَادَّةٍ يَسْرِي أيضًا على التِّقنيَّة، ومن هنا ينبغي التَّمييزُ بين العناصر البانيةِ للنَّصِّ التّفاعليِّ والمُكوِّنَة لهُ، والعناصر النَّاظِمَة للبناءِ، فالنَّاظِمةُ في حقيقتها حواملٌ للبانية، التي تُشكِّلُ نسيجًا للنَّصِّ، ولِئَلا يَلْتبِسَ علينا وَضْعُ تلك العناصر، لا بُدَّ من تَصْنِيفِها على نحوٍ تَقْبَلُ معَهُ الاندِرَاجَ ضِمْنَ فنٍّ من الفُنُونِ، تراكيب لغويَّة: الأدب. أصوات: موسيقى، حركة، إضاءة: المسرح. لون، أشكال، مجسمات: الرَّسم. وإنْ لم تَقبَلْ أيًّا من تلك التَّصنيفات يَصْعُبُ عدُّها موضُوعًا للشِّعريَّة.
4/جَدَلُ الشّعِريَّةِ في النَّصِّ التَّفاعليّ:
بعدما عَرَضْنَا لسيرُورَاتِ التَّشعُّب، بقي لنا فيما يلي بيان الجدل حول شِعريَّة النَّصِّ التَّفاعليّ، بِوَصْفِهِ آخرَ صيرُورَةٍ بلغها التَّشعُّب، وقد تركَّزَ الجدلُ حول مشروعيَّة الشِّعريَّة التَّفاعليَّة، بالإضافة إلى مُمْكِنَاتها، وتجدرُ الإشارةُ أيضًا إلى أنَّ مَوَاقِفَ الباحثينَ لم تَكُن مُوحّدةً بخصوصِ هذه المسألة. حيثُ تراوحَت بين التَّحفُظِ، والحَمَاسِ الشَّديد لهذا الطرح.
فـ”آمنة بلعى” بدت أكثر تحفُّظًا إزاء الشِّعريَّة الرقميَّة، ولم يكن ذلك التَّحفُّظُ نابعًا من فراغٍ؛ بل أَمْلَتْهُ اعتباراتٌ عديدةٌ منها: صعوبةُ استقرار النُّصوص التَّفاعليَّة على حال يمكنُ معهُ التقعيدُ لها «فنحن أمام نصوص متاهية متحركة غير ثابتة. فكيف يمكن معاينة القوانين التي تنتظمها، وهنا نلاحظ عجز التنظير والشعرية عن أداء وظيفتها. نظرا إلى زوال ما يضمن البحث عن القوانين في الظواهر وهو الاستقراء والتصنيف. لنتحدث عن ما بعد الشعرية انسجاما مع ما بعد الحداثة»[31]. فإذا نَظَرنَا إلى الشِّعريَّةِ بِوَصْفِهَا قانُونًا، أو من مَنْظُورٍ مِعياريٍّ، فإنَّه يَصْعُبُ رَصْدُهَا في النُّصُوصِ الزِئْبَقيَّةِ؛ لأنَّها لا تَرْسُو على حَالٍ؛ ولأنَّها تُمْعِنُ في التَّجريبِ، الأمر الذي يُصَعِّبُ مهمة إيجاد معيار تَسْتنِدُ إلى الشّعريَّة، ثمَّ إنَّ الشِّعريَّةَ من نِتَاجِ اللِّسَانِيات، وبِالتَّالي هي تَجَلٍّ من تَجَلِّياتِ الحَدَاثَةِ، والنَّصُّ التَّفاعُليُّ يستقي رُوحَهُ من طِينَةٍ مُغَايرَةٍ للسَّابقةِ، حَيثُ يَنْسَجِمُ مع ما بعد الحدَاثَةِ، ولهذا السَّبب لا يَسْتقِيمُ الحَديثُ عن شعريَّةٍ، كتلك التي تَسْتَمِدُ معَالِمَهَا من اللِّسانِيَّاتِ، مَادامَتْ اللِّسانيَّاتُ في نُسْخَتِهَا البنيويَّةِ مُتَعَارِضَةً مع التَّوجُه المابعدي.
ومن ثمَّة، إذَا رُمْنَا أنّ نُؤسِّسَ لِشٍعْريَّةٍ مُغَايِرَةٍ، أو لِجَمَالِيَّةٍ مُخْتلِفةٍ، فَإنَّ الرِّهَانَ يكُونُ مشرُوطًا بمُجَاوَزَةِ النَّظرة المِعياريَّة التي تَقُومَانِ عَلَيهِما، إنْ لن نَقُلْ إنَّهُ يَقتَضِي الأَمْرُ أكثَرَ من ذلك، أي بمُجَاوَزَتِهِمَا معًا؛ أي بالبحثِ عن بدائل عن الجماليَّات والشِّعريَّات.
وأشَارَتْ البَاحِثَةُ أَيضًا إلى وَهْمِ القيَّم البَلاغيَّة الجَدِيدَةِ التي ينشُدُها المتَحَمِّسُون للأَدبِ التَّفاعليِّ، وترى الباحثةُ أنَّ المساعي المنشُودة، تَنْدَرِجُ ضِمْنَ العَقْلِ الأَدَاتيِّ، الذي «يسعى إلى فرض برنامج مسبق عملية الإبداع، يمكن تطبيقه على كل المبدعين، فتحديد عدد الصفحات للرواية الواحدة وعدد الكلمات للجملة استجابة لسرعة التقنية يجعل الأدب خاضعا للتكنولوجيا، تابعا لها»[32]. وكأنَّنا هُنا إزاءَ براديغم مفروضٌ سلفًا، وهذا ما يَتَنَافى مع طَبيعَةِ فِعلَي الكتابة والإبْدَاعِ.
ومن زاويةٍ أُخرى دافَعَت البَاحِثَةُ عن الكَلِمَةِ، والأدب الوَرَقي، فالكَلِمةُ يُمكُنُها تَأْدِيةُ ما تُؤدِّيهِ بَقِيَّةُ المُكوِّناتُ البَصَريَّةُ، ثُمَّ إنَّ تلك المُكوِّنات لا تَعْدُو في نَظَرِ الباحثةِ أكثرَ من مجرد نُصُوصٍ مُوازيةٍ، تُؤَدِي ما يُؤدِّيهِ النَّصُّ. ويبدُو هذا التَّحَفُظُ أَمرًا طبيعيًّا مادامت المحاولات التَّجديديَّة تصطَّدِمُ دائمًا بالاعتراض في بَواكيرها؛ نظرًا لِتَعَارُضِهَا مع الذَّوْقِ السَّائِدِ، وهذا فضلاً عن الاعتراضات الموضوعيَّة التي بسطها الباحثة.
غير أنَّ الطَرحَ السَّابقَ لا ينفي وُجُودَ آراءٍ أُخرى، قد تتعارضُ معه، حيثُ شدَّدَ أصحُابها على ضرُورةِ انفتاحِ الأَدَبِ على الوسَائطِ الالكترونيَّةِ، وعلى الفُنونِ البصريَّة، وبالتَّالي يمكنُ للكِتَابَةِ أن تلتقي مع المُوسيقى، والألوان، واللَّوحات الزيتيَّة، والمنحوتات، وذلك ما لمسناه في اطَّلاعنا على نُصُوصٍ من موقع اتحاد كتاب الأنترنت العرب.
ويبدو أنَّ رحلةَ البَحْثِ عن شٍعْريَّةٍ تَفَاعُليَّةٍ بدأت بالدِّفاع عن وجود النُّصوص التَّفاعليَّة نفسها، ونُشيرُ هُنا إلى “فاطمة البريكيّ”، التي ترى أنَّ الكتابة التَّفاعليَّة لابدَّ أن تأتي في إطار «الرغبة في التجديد، وابتداع طرق مبتكرة فريدة في نظم الشعر، ومحاولة جذب الإنسان العربي المُعرِض عن الأدب عمومًا والشعر خصوصا إليه، ومواكبة العصر الإلكتروني»[33]. يُفْهَمُ من كلام “البريكي” أنَّ الرِّهان على الكتابة الرَّقميَّة لم يكن وليد رغبة في تمزيقِ ثوبِ الأدب الورقيِّ؛ بقدر ما هي مُحاولةٌ للخُرُوجِ من الأُفُقِ الضِّيق الذي انحسَرَ فيه، ورأب الصَّدع الذي أصاب العلاقةَ بين النَّصِّ ومُتلقِّيه. ومن ثمَّة يبدو الرِّهانُ مُزدوجًا: البحثُ عن جمهورٍ، والتَّأسيسُ لِشعْرِيَّةٍ تَنْسَجِمُ مع طبيعة الوسيط الجديد.
ويعتقدُ “محمَّد سناجلة” أنَّ «العصر الجديد يحتاج إلى وسيلة جديدة لاحتواء المعنى وهذه الوسيلة يجب أن تأتي من داخل وسائل هذا العصر، فلا يمكن أن تعبّر عن معنى عصر ما من غير استخدام نفس وسائله، وهنا فإنّ الكتاب الالكتروني هو الأقدر للتعبير عن العصر الرقمي الذي نعيش فيه»[34].
ويبدو أنَّ المسألة تجاوزت عند بعض المُسْتَعْمِلِينَ مجردَ اختيارِ وسيطٍ على حِسَابِ وسائِطَ سابقةٍ إلى حَدِّ أَنْسَنَةِ الوسيطِ نفسه، وهو ما يَظهَرُ من تَجْربةِ القاصِّ”جمال الخياط”«كيف لا تقوم ألفة حتى ولو كان الطرف الآخر مجرد آلة خرساء؟ المسألة إذن ليست تلاعباً بالألفاظ أو تضخيماً أجوف بقدر ما هي إحساس خالص تجاه ما أشعر به، وعرفان بالجميل لذلك الجماد الذي كان له الفضل الأكبر في حفظ كتاباتي… لدي طقوسي الخاصة في التعامل مع الكمبيوتر، فهو الصديق الفعلي بعد ابتعاد أغلب الأصدقاء»[35].
وليست الأنْسَنةُ في الرأيّ السَّابق سوى وجه من أوجه الانتصارِ للكتابةِ التَّفاعليَّةِ، والوسيطِ الجديدِ، فقد تضمَّنَ كتابُ: الإنترنت بوصفِهَا نصًّا جُملةً من المقالاتِ، منها ما تحدَّث عن فوبيا المثقفين من التكنولوجيا، وتحدَّث آخر عن الكُتُب الورقيَّة كمخطوطاتٍ للمتاحف، وهذه الأوصاف ليست برِيئةً أبدًا، بل فيها تحيُّزٌ واضحٌ للنُّصوص التَّفاعليَّةِ. غير أنَّ ما يهُمُّنا يتَلخَّصُ مَكَامِنِ شِعريَّتِهَا.
أمَّا فيما يخص الرَّصدُ النَّقديُّ لشعريَّة التَّشَعُّبِ في النَّصِّ التَّفَاعُليِّ تبدو بعيدةَ المنال، على الأقل فيما اطَّلَعنا عليه من بُحُوثٍ؛ لأنَّ النَّقد التَّفَاعُليِّ لم يَسْتَطَعْ الفِكَاكَ من أسْرِ نظيرِهِ المُوجَّه للنُّصُوص المطبوعة، أو المعتمدة على الوسيط الورقيِّ، ويكَادُ يَسْتَعيرُ جُلَّ أدواتِهِ منه، وهي إشكاليَّةٌ قائمةٌ بذاتها، تحتَاجُ أيضًا إلى نقاشٍ عميقٍ وجادٍ معًا.
ذكرنا في مُفْتَتَحِ الورقةِ إلى ارتباطِ الشِّعريَّةِ بِبُنَى النَّصِّ. ولبيانِ ذلك لابدَّ من الوقوف على التَّجارب النَّقديَّةِ التي قاربت النُّصوص التَّفاعُليَّة، ولا يسعنا المجال لعَرْضِهَا جميعًا ويُمْكِنُ الإِحَالَةُ هنا إلى: الحداثة التِّكنُوثقافيَّة لـ”علاء جبر”، فقد حاول بحث العلاقات التَّركيبيَّة والاستبداليَّة في صياغة النَّصَّ التَّشعبيِّ[36]. وقد أَبْدَى الباحِثُ جُهْدًا محمودًا في عرضِ منطق تركيب النَّصِّ التَّفاعليِّ، ونجده يستعير المفاهيم اللِّسانيَّة في وَصْفِ هذا الإطار، وهو ما يحمِلُنَا على إدْراجِهِ ضِمنَ المُقَارَبةِ البنيويَّة الواصِفَةِ، وكان بإمكانهِ تجاوز البُنى النَّصِّيَّة إلى الدَّلالات المُتواريَّة وراءها، أو على الأقل منطق تشكُّل الدَّلالة، وهذه الإجراءاتُ وغيرُها هي التي تفتح الأفُقَ واسعًا لارتياد شعريَّة تلك النُّصوص.
ويُشارُ أيضًا إلى مُكوِّناتٍ أخرى أشار إليها”إبراهيم أحمد ملحم” في كتابه: الرقميَّةُ وتحوُّلاتُ الكتابةِ، النَّظرية والتَّطبيق، وركَّز في قراءته لبعض النُّصوص على: الصَّوت، اللَّون، الموسيقى، والرَّوابط. وبالتَّالي يمكنُ ربطُ الشِّعريَّة بتلك المكوِّنات، والإشكال المطروح هنا هل نسبر شعريَّةَ الصّوت بمسبار اللُّغَةِ؟ ويقودنا هذا الإشكال إلى نقد النَّصِّ المُتشعِّب، حيثُ لم تدَّخر محاولاتٌ أخرى أيَّ جُهدٍ في سبيلِ التَّأسيس لنقدٍ تفاعليٍّ ينسجمُ مع طبيعة المتغيّر الجديد الذي دخلته الكتابةُ الأدبيَّةُ، لكن الطريقَ إليه يبقى شاقًّا ومحفوفًا بالمزالق؛ لأنَّّهُ لم يتحرر بعد من أَسْرِ النَّقدِ المُتوجه للنُّصوص الورقيَّةِ.
5/ مُخْتَتَمٌ:
اتَّضحَ لنا ممَّا تقدَّم جُمْلَةً من النتائج وفي مُقدِّمَتِهَا: ارتباطُ شعريَّةُ النُّصُوصِ بالوسَائطِ الحاملَةِ لها، فكُلِّ إبدالٍ حاصِلٍ على مُستوى الوسيطِ إلاَّ وتَرْتسِمُ مَعَهُ معالم شعريَّةٍ جدِيدَةٍ. كما تبيَّن من البحثِ أيضًا رِهَانُ الشِّعْرِ العربيِّ على سمَةِ التَّشعُبِ الذي أضحى آليةً من آليات التَّغريبِ، فالكِتَابةُ الشِّعريَّةُ تسعى دائمًا إلى الاختلافِ لا المطابقة مع ذاتِهَا، وتكرَّست بذلك ديناميَةُ الشِّعريَّة، ولعلَّ ما يُثْبِتُ ذلك هو تلك السيرُورَات المُشارِ إليها في الشِّعْرِ العَرَبيِّ في تمََفْصُلَيهِ القديم والمُعاصِر. وهذا في الشِّعر المعكوس، والمُخلَّعات، وحتَّى المونوغرامات المُعاصِرَةِ، التي أبانَ فيها الشُّعراء المُعاصِرون وعيًا مُتَمِيِّزًا بالنَّبر البَصَريِّ مُقَارَنَةً بِنُظرائِهُم القُدامى.كما تجدُرُ الإشارَةُ إلى ما بين الواقعِ والفنِّ من صِلاَتٍ، فشعريَّةُ النَّصِّ ليست غَرِيبَةً عن القيّم الجماليَّة السَّائدة في العصر. وأبانَ البحْثُ على أنَّ النَّصَّ التَّفاعُليّ أكثر استثمارًا لإمكانات التَّشعُّب من الورقيِّ، نظرًا لما تُتِيحُهُ التِّقنيَّةُ، ويُشَارُ أيضًا إلى تَضَارُبِ المواقف بشأن شعريَّة النَّص التَّفاعليّ، إذْ يَصْعُبُ رصْدُها في اللُّغَةِ المُحَوسبةِ، وفي التِّقنيَّةِ الخَالِصَةِ، بل تُدْرَكُ في نتاجِهُما معًا، وعلى وَجْهِ التَّحديدِ في مُكوِّناتِ النَّصِّ الأكثر اتّصالاً بعوالم الفَّنِّ من كتابةٍ، ورسمٍ، وموسيقى، وحركةٍ، كما أنَّ وجهُ الاعتياصِ الآخر لشِعْرِيَّةِ النَّصِّ التَّفاعُليِّ يَتَأتَّى من عدم اكتمالِ تجربتِهِ، وهو ما يُصَعِّبُ كلَّ استقراءٍ لشعريَّتهِ الخاصَّة، والتي تبقَى متوقِّفةً على مدى تَفَاعُلِ القُراءِ مَعَهُ.
مَراجعُ البحثِ:
آمنة بلعى:خطاب الأنساق، الشِّعر العربي في مطلع الألفية الثَّالثة، الانتشار العربي، بيروت، لبنان،ط1، 2014.
إميل بديع يعقوب: موسوعة علوم اللُّغة العربيَّةِ، ج6، دار الكتب العلميَّة، بيروت، لبنان، ط1، 2006.
حسن عبد الغني الأسدي: المدوَّنة الشِّعريَّة الرقميَّة، المجال/ التفاعل/ التعالق، مطبعة الزوراء، بغداد، العراق،ط1، 2009.
خالد الرويعي: الإنترنت بوصفها نصّا، المؤسَّسةُ العربيَّةُ للدِّراسات والنَّشر، بيروت، لبنان،ط1، 2006.
زهور كرام: الأدب الرَّقمي، أسئلة ثقافيَّة وتأملات مفاهيمية، رؤية للنشر والتَّوزيع، مصر، ط1، 2009.
صالح بن إبراهيم الحسن: الكتابة العربيَّة من النقوش إلى الكتاب المخطوط، دار الفيصل الثقافيَّة، الرِّياض، السعوديَّة، 2003.
صلاح بوسريف: حداثة الكتابة في الشعر العربي المعاصر، أَفريقيا الشرق، الدَّار البيضاء، المغرب،2012.
صلاح بوسريف: رهانات الحداثة، أُفُقٌ لأَِشكَالٍ مُحْتَمَلَةٍ، دارُ الثَّقافة للنَّشر والتَّوزيع، الدَّار البيضاء، المغرب،ط1، 1996.
صلاح بوسريف: فخاخُ المعنى، قراءاتٌ في الشِّعر المغربي المعاصر، دار الثَّقافة، الدَّار البيضاء، المغرب، ط1، 2000.
صلاح بوسريف: مضايق الكتابة، مُقدِّمات لما بعد القصيدة، دارُ الثَّقافة للنَّشر والتَّوزيع، الدَّار البيضاء، المغرب،ط1 ،2002.
الطاهر أحمد مكي: دراسة في مصادر الأدب، دار الفكر، القاهرة، ط8، 1999.
عبد الحق المنصف: أبعادُ التَّجربة الصُّوفيَّة، الحب، الإنصات، الحكاية، أفريقيا الشرق، الدَّار البيضاء، المغرب، 2007.
عبد الرحمن بن خلدون: المقدِّمة، دار صادر، بيروت، لبنان، ط1، 2000.
فاطمة البريكي: مدخل إلى الأدب التفاعلي، المركز الثَّقافيُّ العربيُّ، الدَّار البيضاء، المغرب، بيروت، لبنان ، ط1، 2006.
فكتور إيرليخ: الشكلانيَّة الروسيَّة، تر: محمَّد الولي، المركزُ الثقافيُّ العربيُّ، الدَّار البيضاء، المغرب، بيروت، لبنان،ط1، 2000.
كمال بشر: علم الأصوات، دار غريب للطباعة والنشر، القاهرة، 2000.
محمَّد الماكري: الشكل والخطاب، مدخل لتحليل ظاهراتي، المركز الثَّقافيُّ العربيُّ، الدَّار البيضاء، المغرب، بيروت، لبنان،1991.
محمَّد بن أبي يَعْقُوب إسحاق النَّديم: الفهرست، تع: فؤاد أيمن سيِّد، مؤسَّسة الفرقان للتُّراث الإسلاميّ، ج3، لندن، 2009.
محمَّد بنيس: بيانُ الكتابةِ، مجلّة الثَّقافة الجديدة،ع19، المحمَّديَّة، المغرب،1981.
محمَّد سناجلة: روايةُ الواقعيَّة الرقميَّةِ، منشورات اتحاد كتاب الإنترنت المغاربة www.youblisher.com
محمَّد مفتاح: مفاهيمٌ موسَّعةٌ لنظريَّة شعريَّةٍ، اللُّغة، الموسيقى، الحركة، نظريات وأنساق، ج2، المركز الثَّقافيُّ العربيُّ، الدَّار البيضاء، المغرب، بيروت، لبنان، ط1، 2010.
محمَّد نجيب التّلاوي: القصيدةُ التَّشكيليَّة في الأدب العربيّ، الهيئة المصرية للكتاب، القاهرة، 2006.
علاء جبر: الحداثة التكنوثقافية، مطبعة الزوراء، العراق، ط1، 2009.
نايف بلّوز: علمُ الجمال، منشورات جامعة دمشق، المطبعة التعاونيَّة، دمشق، سوريا،ط2، 1982/1983.
Jacques Anis : vilisiliblite du texte poétique (article), le signifiant graphique, Larousse, paris, 1983
2 Oswald Ducrot et Tzvetan Todorov: Dictionnaire encyclopédique des sciences du langage, Edition du seuil, paris, 1972,.
[1] فكتور إيرليخ: الشكلانيَّة الروسيَّة، تر: محمَّد الولي، المركزُ الثقافيُّ العربيُّ، الدَّار البيضاء، المغرب، بيروت، لبنان،ط1، 2000، ص 130.
* كاليغرافيا: فن كتابة الأحرف بشكل جمالي باستخدام القلم أو الريشة.
[2] Jacques Anis : vilisiliblite du texte poétique (article), le signifiant graphique, Larousse, paris, 1983, p.89.
[3] صلاح بوسريف: حداثة الكتابة في الشعر العربي المعاصر، أَفريقيا الشرق، الدَّار البيضاء، المغرب،2012،ص.198.
[4] Oswald Ducrot et Tzvetan Todorov: Dictionnaire encyclopédique des sciences du langage, Edition du seuil, paris, 1972, p107.
[5] Ibid. p106.
[6] محمَّد بن أبي يَعْقُوب إسحاق النَّديم: الفهرست، تع: فؤاد أيمن سيِّد، مؤسَّسة الفرقان للتُّراث الإسلاميّ، ج3، لندن، 2009، ص، 287.
[7] الطاهر أحمد مكي: دراسة في مصادر الأدب، دار الفكر، القاهرة، ط8، 1999، ص55.
[8] محمَّد بنيس: بيانُ الكتابةِ، مجلّة الثَّقافة الجديدة،ع19، المحمَّديَّة، المغرب،1981،ص46.
[9] محمَّد نجيب التلاوي: القصيدةُ التَّشكيليَّة في الأدب العربيّ، الهيئة المصرية للكتاب، القاهرة، 2006،ص،29.
[10] ينظر: صالح بن إبراهيم الحسن: الكتابة العربيَّة من النقوش إلى الكتاب المخطوط، دار الفيصل الثقافيَّة، الرِّياض، السعوديَّة، 2003، ص189.
[11] محمَّد بنيس: ظاهرة الشِّعر المُعاصر في المغرب، مقاربةٌ بنيويَّةٌ تكوينيَّةٌ، دار توبقال، الدَّار لبيضاء، المغرب، ط3، 2014، ص102.
[12] إميل بديع يعقوب: موسوعة علوم اللُّغة العربيَّةِ، ج6، دار الكتب العلميَّة، بيروت، لبنان، ط1، 2006،ص،117.
[13] نايف بلّوز: علمُ الجمال، منشورات جامعة دمشق، المطبعة التعاونيَّة، دمشق، سوريا،ط2، 1982/1983،ص59.
[14] محمَّد بنيس: بيانُ الكتابةِ، ص46.
[15] محمَّد مفتاح: مفاهيمٌ موسَّعةٌ لنظريَّة شعريَّةٍ، اللُّغة، الموسيقى، الحركة، نظريات وأنساق، ج2، المركز الثَّقافيُّ العربيُّ، الدَّار البيضاء، المغرب، بيروت، لبنان، ط1، 2010، ص261.
[16] كمال بشر: علم الأصوات، دار غريب للطباعة والنشر، القاهرة، 2000، ص512.
[17] صلاح بوسريف: حداثة الكتابة في الشِّعر العربي المعاصر، ص101.
[18] صلاح بوسريف: رهاناتُ الحداثة، أُفُقٌ لأَِشكَالٍ مُحْتَمَلَةٍ، دارُ الثَّقافة للنَّشر والتَّوزيع، الدَّار البيضاء، المغرب، ط 1 ،1996، ص50-51.
[19] صلاح بوسريف: فخاخُ المعنى، قراءاتٌ في الشِّعر المغربي المعاصر، دار الثَّقافة، الدَّار البيضاء، المغرب،ط1،2000،ص 86.
[20] محمَّد الماكري: الشكل والخطاب، مدخل لتحليل ظاهراتي، المركز الثَّقافيُّ العربيُّ، الدَّار البيضاء، المغرب، بيروت، لبنان،1991، ص05.
[21] عبد الرحمن بن خلدون: المقدِّمة، دار صادر، بيروت، لبنان، ط1، 2000، ص388.
[22] عبد الحق المنصف: أبعادُ التَّجربة الصُّوفيَّة، الحب، الإنصات، الحكاية، أفريقيا الشرق، الدَّار البيضاء، المغرب، 2007، ص231.
[23] محمَّد الماكري: الشَّكلُ والخطاب، مدخل لتحليل ظاهراتي، ص 303.
[24] عبد اللَّه راجع: الجنون المُعَقلَن، مجلّة الثَّقافة الجديدة،ع19،ص58.
* يُنظر: محمَّد بنيس: هكذا كلَّمني الشَّرقُ مَوسِمُ الحَضرَةِ ، مجلّة الثَّقافة الجديدة،ع19، المحمَّديَّة، المغرب،1981،ص96.
[25] محمَّد الشحات: قصيدةُ النَّثر ، من الفوضى الخلاَّقة إلى الشِّعريات البديلة، مجلة فصول،ع 91/92، الهيئة المصريَّة للكتاب، القاهرة،2014 /2015،ص 91.
[26] صلاح بوسريف: مضايق الكتابة، مُقدِّمات لما بعد القصيدة، دارُ الثَّقافة للنَّشر والتَّوزيع، الدَّار البيضاء، المغرب،ط1،2002، ص72.
* يمكنُ التَّمثيل لذلك بالصُّحُف اليوميَّة الورقيَّة، حيثُ أغنت النُّسخ الالكترونيَّة الكثير من القرَّاء عن اقتناء النُّسخ الورقيَّة، بل أكثر من ذلك، فلم يعد الخطاب الإعلامي وقفًا على مؤسسات الإعلام؛ بل تشارك فيه أطرافٌ من خارج تلك المؤسَّسات.
[27] حسن عبد الغني الأسدي: المدوَّنة الشِّعريَّة الرقميَّة، المجال/ التفاعل/ التعالق، مطبعة الزوراء، بغداد، العراق،ط1، 2009، ص09-10.
[28] فاطمة البريكي: مدخل إلى الأدب التفاعلي، المركز الثَّقافيُّ العربيُّ، الدَّار البيضاء، المغرب، بيروت، لبنان،2006، ط1، ص49.
[29]رحمن غركان: القصيدة التَّفاعلية في الشِّعرية العربيَّة، تنظير وإجراء، دار الينابيع للنشر والتوزيع،ط1، 2010،ص28.
[30] زهور كرام: الأدب الرَّقمي، أسئلة ثقافيَّة وتأملات مفاهيمية، رؤية للنشر والتَّوزيع، مصر،ط1،2009،ص50.
[31]آمنة بلعى:خطاب الأنساق، الشِّعر العربي في مطلع الألفية الثَّالثة، الانتشار العربي، بيروت، لبنان،ط1، 2014، ص115-116.
[32] المرجع نفسه، ص113.
[33] فاطمة البريكي: مدخل إلى الأدب التَّفاعليِّ، ص79.
[34] محمَّد سناجلة: روايةُ الواقعيَّة الرقميَّةِ، منشورات اتحاد كتاب الإنترنت المغاربةwww.youblisher.com
[35] خالد الرويعي: الإنترنت بوصفها نصّا، المؤسَّسةُ العربيَّةُ للدِّراسات والنَّشر، بيروت، لبنان،ط1، 2006، صص 136-137.
[36] ينظر: علاء جبر: الحداثة التكنوثقافية، مطبعة الزوراء، العراق، ط1، 2009. ص77.