
نشأة القصة القصيرة في سوريا وتحولاتها
The emergence of the short story in Syria and its transformations
د. غسان عبد المجيد، الجامعة الإسلامية العالمية – إسلام أباد ـ باكستان.
مقال نشر في مجلة جيل الدراسات الادبية والفكرية العدد 49الصفحة 39.
ملخص:من المعلوم أن القصّ عبر تاريخه الطويل أخذ أشكالاً وتزيّا بميزات عدة بدءاً من سرد الملاحم الطوال مروراً بقصص العهد القديم وانتهاء بالشكل القصصي الذي وصلنا إليه في عصرنا الراهن، حيث وصلت القصة إلى درجة عالية من النضج الفني على أيدي كل من إدجار ألن بو وموباسان وزولا وتورجنيف وتشيخوف وهاردي وستيفنسن وغيرهم في العالم الغربي، أما في العالم العربي فبلغت القصة القصيرة درجة عالية من النضج على أيدي يوسف إدريس في مصر، وزكريا تامر في سوريا، ومحمد المر في دولة الإمارات.
ويهدف هذا البحث إلى الكشف عن التواترات الزمنية لنشأة فن القصة القصيرة في سورية، وتلك التحولات التي طرأت على هذا الفن.
Abstract
It is known that the story through its long history took forms and features of several features ranging from the narration of long epics through the stories of the Old Testament and ending with the narrative that we have reached in our time, where the story reached a high degree of artistic maturity at the hands of Edgar Allan Bo and Mobassan and Zola and Turgenev Chickhoff, Hardy, Stevenson and others in the Western world. In the Arab world, the short story reached a high degree of maturity at the hands of Youssef Idris in Egypt, Zakaria Tamer in Syria and Mohammed Al Murr in the UAE.
The purpose of this research is to reveal the time scales of the emergence of short story art in Syria, and the changes that have taken place in this art.
الموضوع
“الشعر ديوان العرب” مقولة ما فتئت تفرض هيمنتها على الإبداع العربيّ وذائقة متلقيه بسبب تلك الحفاوة، التي حظي بها فن الشعر عند العرب عبر قرون طويلة، بيد أن تلك المقولة سرعان ما بدأت تفقد مكانتها تلك منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر بفعل التلاقح الثقافي الأمر الذي هيّأ لظهور عدة أجناس أدبية:كالرواية والقصة والمسرحية كان من شأنها اجتذاب قطاعات واسعة من المبدعين والقرّاء معاً، وإذا كان من أهم التطورات التي شهدها النصف الثاني من القرن التاسع عشر نمو اتصالٍ بين العالمين العربي والغربي، فإنّ ذلك لم يقف عند ما هو تجاري فحسب، بل تجاوزه إلى ما هو فكري وثقافي، وُجد نموذجه الأفصح في الإرساليات، التي لم تكن وقفاً على التبشير العقائدي، بل كان لها وجه آخر ” تجلى في انتشار الجو الفكري الذي جعل الشآميين، والنصارى منهم على وجه التحديد أشد تقبلاً للمنبهات الغربية، وأكثر تمتعاً في مجالي المعرفة، والتعبير عن الذات “[1].
وكانت الترجمة القناة الأولى في نقل منجَز الآخر غير العربيّ، ولاسيما الأوروبي، إلى المتلقّي العربيّ في غير مجال، فمنذ بدء عصر النهضة أخذ المترجمون على عاتقهم نقل النتاجات الأدبية المعروفة عالمياً لمختلف الكتاب الفرنسيين، والروس، والإنجليز، إلى اللغة العربية، وغالباً ما كان ذلك يتمّ عبر لغة وسيطة: الفرنسية أو الإنكليزية، وكان من أبرز الأدباء الروس الذين تمّت ترجمة أعمالهم، كلاً أو أجزاء: بوشكين، وغوغول، وتولستوي، ودويستوفيسكي.
ومع اتساع الاستعمار الإنكليزي في مصر والسودان والأردن وفلسطين، وتمدّد نظيره الفرنسي في سورية ولبنان والمغرب العربي “انتشرت كل من اللغتين الفرنسية والإنجليزية مما سهل على شعوب البلدان العربية قراءة المؤلفات الأجنبية بلغاتها الأصل، بالإضافة إلى انتشار مدارس تعليم اللغات آنذاك. “[2]
غير أنّه على الرغم من ذلك كلّه، اصطدمت أعمال الترجمة ببعض الصعوبات منها أن اللغة العربية كانت قد “عانت من عدم الاستعمال الأدبي خلال فترة طويلة استمرت طوال فترة الانحطاط، وكانت اللغات الأوروبية قد قطعت شوطاً كبيراً في التطور اللغوي، ودخل إليها سيلٌ كبيرٌ من المصطلحات العلمية والأسماء والتعابير والأفكار، ولهذا كان يعاني المترجمون من صعوبة التسوية بين اللغتين، وكانوا مضطرين في بعض الأحيان إلى إدخال الكلمة الروسية إلى العربية كما تلفظ في الأصل”[3].
وحين بدأ التطلع إلى الأدب الغربي كان فن القصة اللون الأدبي الأبرز حضوراً، ولاسيما كتابات أعلام القصة الفرنسية والروسية والإنكليزية. وقد نهض المترجمون السوريون بدورٍ مهمٍ في هذا المجال، وكان “أول من وجدت له قصة مترجمة من السوريين جرجي جبرائيل بليط الحلبي، ولعله أول من عمل على الترجمة الأمينة فقد نشر عام 1871م قصة بعنوان رجل ذو أمرأتين”[4].
ويجمع معظم مؤرخي الأدب ودارسي القصة على أن مجموعة علي خلقي:”ربيع وخريف”الصادرة عام 1931م هي “أول مجموعة قصص ذات مستوى فني جعلت منه رائد القصة القصيرة في سورية، واستطاع مبكراً أن يعالج قضايا إنسانية متعددة في مناخها الاجتماعي، وأبعادها الفكرية ضمن صوغ قصصي متخيل، ومبتكر حرص على الواقعية والتحليل النفسي، واللغة القصصية”[5].
ومهما يكن من أمر صواب ذلك التحديد في نشأة الفنّ القصصي في سورية، فإنّ تلك المجموعة لم تسلم من غلبة الحكائي على الفنّي فيها، ومن أنّ معظم نصوصها لم يتجاوز كونه وسائل سردية للتعبير عن قضايا اجتماعية ضاغطة، ومن انشغال مقاصد القص فيها بمهام تنويرية / وعظية على نحو يكاد يكون مباشراً.
وتواتر بعد ذلك صدور المجموعات القصصية، فأصدر محمد النجار مجموعته اليتيمة: “في قصور دمشق”عام 1937م، التي لم تتجاوز كثيراً ما بدا في مجموعة خلقي من سمات وعظية / تنويرية على حساب ما هو فنّي. ولعلّه من الصواب القول إنّ معظم النتاج القصصي الصادر حتى بداية عقد الخمسينيات كان “أقرب إلى المحاولة البدائية منه إلى الإنتاج الآسر الكامل فالغرض الفني لم يكن قد فهم أو ذاب على الأقلام بعد وقوام القصة سلسلة من الحوادث والمقالات لا دراسة الشخصية في تطورها وردود فعلها في الحياة والقصة أقرب إلى الحكاية منها إلى أي شيء آخر”[6]. بالإضافة إلى هيمنة تقاليد السرد العربيّ القديم، وعلى نحو يكاد ينفي وجود هويةٍ خاصةٍ بذلك النتاج، ولاسيما بسبب ذاك التنازع الحاصل بين “روح الحكاية التراثية، والوصف الواقعي، وبين التأثر بالاتجاهات الأجنبية المجددة”[7]. ولعلّ من أبرز ما ينتهي المتتبّع لنشأة القصة السورية وتحولاتها إليه هو أنّ كتّاب تلك المرحلة من عمر القصة السورية “انصرفوا عن كتابة القصة القصيرة بعد أن أصدروا مجموعة، أو أكثر، واستغرقتهم مجالات أخرى بعيدة كل البعد عن القصة بخاصة والأدب بعامة”[8].
وكان لعقد الخمسينيات بما كان يضطرم فيه من حراك على غير مستوى: سياسي واجتماعي وتعليمي وثقافي وأدبي دور في تطوّر الفنّ القصصي “فقد انفتحت أبواب الأدب العربي في سورية لمختلف أنواع المؤثرات، ونتيجةً لحركة التمدن، ونمو التعليم، وازدهار الصحافة، والتطور السياسي وبروز الطبقة الوسطى وعوامل اجتماعية أخرى”[9]. وشهدت تلك المرحلة ظهور عدة تيارات أدبية إلى جانب التيار الاتباعي، كالاتباعية الجديدة، والواقعية بامتداداتها، والوجودية بعلامتيها السارترية والقومية، ولجأ بعض الكتّاب إلى التاريخ العربي الإسلامي يستوحي منه موضوعاته من المعارك والفتوحات ظناً منه أن النضال القومي إنّما يجب أن يتم تحت عباءة الوعي الديني أو القوميّ، وكانت الواقعية الاشتراكية التيار الأبرز حضوراً في تلك المرحلة بوصفها “جوهر الحياة كما يمارسها بشر أحياء يناضلون في سبيل التغيير نحو الأفضل والأجمل”[10].
وبالإضافة إلى ذلك نشأت تجمعات أدبية يملأ أعضاؤها الأمل في توظيف الأدب في خدمة الإنسان والمجتمع، وكان من أولى تلك التجمعات “رابطة الكتاب السوريين”، “التي أعلنت عن نفسها في تشرين الثاني عام1951، وعدلت اسمها بعد ذلك تعبيراً عن امتداد تأثيرها إلى الأقطار العربية المجاورة، فأصبحت عام1954م “رابطة الكتاب العرب”، التي أوضح كتّابها في بيانهم الأول أنهم تقدميون، واشتراكيون، وملتزمون بقضايا الشعب الكبرى، ومساندون لنضال الكادحين”[11].
كما شهدت الصحافة آنذاك تطوراً ملحوظاً، التي مثلت كعادتها حاضنةً مهمةً للأصوات القصصية الجديدة، وكان لانتشار المجلات الأدبية كالطليعة والآداب والنقاد دور مهم في تطوّر الفنّ القصصي في سورية آنذاك، بالإضافة إلى النوادي الأدبية التي تابعت نشاطاتها صحف ومجلات عدة، ويمكن الإشارة في هذا المجال إلى مجلّة “النقّاد” التي كانت تنشر الأخبار والتقارير عن تلك النشاطات، ولاسيما ما يعني النوادي الثقافية في دمشق، والمدن السورية الرئيسية، والتي كانت تركز بوجه خاص على الإسهام الجديد للعنصر النسائي في تلك النوادي[12].
وشهدت آواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات ظهور أصوات قصصية جديدة مثّلَ عدد منها فيما بعد علامات فارقة في الإبداع القصصي السوري والعربي على حد سواء، أمثال عبد السلام العجيلي، وحسيب كيالي، وسعيد حورانية، وصميم الشريف، وفارس زرزور، وآخرين. وممّا يمكن الانتهاء إليه من تتبّع لتجربة القصّ السورية في ذينك العقدين أنّ كتّاب تلك المرحلة، ولاسيما كتّاب الخمسينيات”أقبلوا على إثقال كاهل القصة القصيرة بالمضمون الاجتماعي، والسياسي وبالتوجه الفكري، وحاولوا أن يثبتوا أنَها يمكن أن تكون في هذا المجال بالذات أكثر فعاليةً، وتأثيراً من القصيدة الشعرية ذات التاريخ العريق جداً والمتأصل في الأدب العربي”[13].
وإذا كانت مرحلة الخمسينيات تميزت بالصراعات المزدوجة بين الإقطاعية والبرجوازية الكبيرة من جهة، وبين البرجوازية الصغيرة والعمال والفلاحين من جهة ثانية، “فإنَ السمة العامة لمرحلة الستينيات. . هي سيطرة البرجوازية الصغيرة منفردة، ومن ثم بدء دورتها التاريخية المعروفة، أي عودتها إلى أحضان البرجوازية الكولونيالية، وانفصالها عن قاعدتها البرجوازية الصغيرة كطبقة-إلى القاع وتخليها عن دورها القيادي لفئة مهيمنة منها ما تلبث أن تنفصل عنها”[14].
وألقت أحداث الانفصال بظلالها المختلفة على الإيديولوجيا في سورية آنذاك، فلم تعد الواقعية تلقى الاهتمام ذاته الذي شهدته في الخمسينيات، إذ تم إغلاق رابطة الكتاب العرب، وبدأ الهجوم على الاتجاه الواقعي في فن القصة خاصةً والأدب عامةً بوصفه “المعادل الأدبي للهجوم الآخر في الحقل السياسي والعقائدي”[15]. وفي مقابل انحسار المد الواقعي توسعت الوجودية، كما شهدت مرحلة الستينيات تطوراً ملحوظاً على مستوى الترجمة، ولا سيما ما نهضت به وزارة الثقافة والإرشاد القومي التي “قامت. . للمرة الأولى في تاريخ سورية الحديث بوضع بعض الخطوط العامة لتنظيم الترجمة، كما طورت بالتدريج شبه خطة لتشجيع الكتاب على اختيار كتب أكثر جدية، وبذل مزيد من العناية بمستوى الترجمة”[16].
وتوسعت رقعة التأثيرات الأجنبية، فبرزت آثار “الأدب الأنجلو أميريكي بقوة لم تعهد من قبل في سورية ليأخذ مكانه إلى جانب الأدب الروسي والأدب الفرنسي”[17]. وفي تلك المرحلة ذاع صيت أصوات قصصية جديدة أمثال: زكريا تامر وغادة السمان وأديب نحوي ووليد إخلاصي وجورج سالم ومطاع صفدي وعادل أبو شنب وحيدر حيدر وكوليت خوري ووداد سكاكيني وآخرين.
وكانت النزعات الفردية “استغرقت حيزاً واسعاً من نتاج القصة في عقد الستينيات، فضلاً عن المواضيع، والقضايا الأخرى، التي تناولتها القصة في المراحل المتقدمة، وكانت تعبيراً عن طبيعة المؤثرات، والفواعل الجديدة في حياة المجتمع السياسية والفكرية والاجتماعية، التي حددت إلى مدى بعيد طابع القصة وإطارها، وساهمت في تطورها الفني والتقني”[18]. ومايلفت النظر في قص تلك المرحلة محاولة القصاصين النأي عما هو إيديولوجي، وتغليب ماهو فني، وبرؤى متعددة أسهمت في فتح آفاق جديدة كانت لها اليد الطولى في انبثاق تقنيات وأساليب فنية جديدة عبر محاولات تجريب فردية بحتة “كانت ثمرة آلية تفكير جديدة، ومؤثرات ثقافية متنوعة بدت التقنيات المستحدثة نتيجة طبيعية لها، لأن أي تجديد هو بصورة أو أخرى ثمرة علاقات جديدة، ورؤى مختلفة وهذا ما حدث في هذه المرحلة”[19].
وشكلت هزيمة حزيران مفصلاً في تاريخ الأمة العربية مما جعل من السبعينيات مرحلة أحداث بمنتهى الأهمية على الصعيد السياسي، ولاسيما حرب تشرين التحريرية، التي استطاعت أن تعيد للعرب بعض كرامتهم التي أهدرتها الهزيمة. أما على الصعيد الداخلي في سورية فقد عاشت البلاد “الكثير من الاستقرار ومظاهر الديمقراطية وتمثيل الشعب بشرائحه المختلفة، وأُنشِئَت الكثير من المنظمات، وكانت الأمور آنئذ تخضع لشيء من محاولات القوننة والتنظيم”[20].
تلك الأمور جميعاً أسهمت في تشكيلات وسياقات جديدة اصطبغ بها الفن القصصي في سورية، وعلى الرغم من التمايز والتفرد، اللذين اتسمتا بهما القصة القصيرة في السبعينيات عما كانت عليه في العقدين السابقين “إلا أنَنا لا نستطيع أن نعتبرها نتاجاً مستقلاً ومنفصلاً عما كان قبله، بل لا بد أن يكون هذا النتاج على تباين توجهاته امتداداً للاتجاهات الرئيسية التي سادت في العقدين السابقين مع استفادة الكتاب الشباب من المصادر الثقافية، التي تم اطلاعهم عليها، فضلاً عن التجارب الذاتية لكل كاتب التي تزيد، أو تنقص تبعاً لتجربته الحياتية”[21]، فاتخذ الاتجاه القومي منحىً آخراً، ولم تعد الشعارات الناجزة تفي بالغرض المنشود “وإنما ظهر وعي جديد يشير إلى ضرورة التحرر الداخلي، وتحقق الكثير من الحقوق للإنسان في بلده”[22]. وانطلاقاً من ذلك يبدو من غير الصواب تماماً القول إنّ قصة السبعينييات كانت قصةً واقعيةً بمعناها في الخمسينيات، “بل قد تكون تعميقاً لها نضجاً ووعياً وأداءً من بعض الوجوه، إنها واقعية من نوع جديد يمكن أن نسميها الواقعية الجديدة كما سنجد في نتاج الشباب استمراراً للاتجاه الوجودي “[23].
لقد استطاعت قصة السبعينيات التحرر، إلى حد ما، من هيمنة ما هو إيديولوجي، وتمكّنت من تملّك الواقع معرفياً وفنّياً، أي لم تعد رهينة له، وقد امتلأت تجارب القصّ في ذلك العقد محاولات جادة لتقويض القار من الأساليب، ولفتح باب التجريب لدخول تقنيات جديدة. وقد وجد معظم “قاصي (تلك) المرحلة أنفسهم على مفترق طرق، مما جعلهم يسعون سعياً حثيثاً للتجديد والتحديث في خطابهم القصصي، وبرز عديدون حاولوا ترك بصماتهم من خلال الشغل في الشكل الفني للقصة القصيرة مازجين بينها وبين فنون أخرى”[24].
واستمرت الأسماء التي ثبتّت حضوراً لها في الستينيات في متابعة الكتابة والنشر في السبعينيات، أمثال: عبد السلام العجيلي، وزكريا تامر، وغادة السمان، وسعيد حورانية، بالإضافة إلى ظهور أصوات جديدة كانت تظهر في “كل يوم وتصعب إن لم تستحل ملاحقتها “[25]، وتتفاوت تجاربها القصصية بين ماهو “واعد فعلاً وما هو مشوش وضعيف”[26].
وفي الثمانينيات التي لم تكن أحسن حالاً من العقود السابقة فيما يعني الهزائم والانكسارات على المستوى القومي من حرب لبنان الأهلية إلى الاجتياح الإسرائيلي له إلى إجهاض المقاومة الفلسطينية تلامح ضوء الانتفاضة الفلسطينية، التي كانت “خير ضيف حل على هذا العقد من وجهة الأحداث السياسية التي تشكل في مجملها ارتكاسات وانتكاسات، إذ شحذ القاصون أقلامهم ليبدوا إعجابهم بها مقدمين الثناء والتمجيد محاولين أن يرصدوا بطولاتها”[27]. وتابعت القصة في سورية سعيها الدؤوب في رصد تجليات المرحلة على تنوعاتها. وفي متابعة سيرورتها التي اتسمت بالتطور من مرحلة لأخرى كماً وكيفاً، فقد بلغ النتاج القصصي في الثمانينيات مئة وخمساً وثمانين مجموعة[28]” أي بمعدل 17مجموعة في كل عام تقريباً نصفها أصدرها قاصون ينشرون مجاميعهم لأول مرة “[29]. وشهدت المرحلة ظهور أصوات قصصية جديدة مثل: اعتدال رافع، وقمر كيلاني، وزهير جبور، وإبراهيم خريط، وأحمد زياد محبك.
ويعد عقد الثمانينيات استكمالاً لعقد السبعينيات، ولا سيما ما يعني ما هو فنّي. إذ لم تكن “التقنيات، التي بدت جليةً في هذه المرحلة، جديدة، بل إنَها تشكل تنويعاً ونضجاً واستمراريةً لتقنيات سبق وأن استعملت، وإن كانت بعض هذه التقنيات قد شكلت حضوراً أوسع وأكبر جدوى واستعمالاً أفضل بفعل النضج الفني، الذي بات يملكه بعض القاصين في محاولاتهم تقديم نص ذي خصوصية لا يشير إلى أنَ كاتبه مبتدئ”[30].
ويمثل عقد التسعينيات نقطة تحول على غير مستوى. ولعلّ أبرز ما اتسم به ذلك العقد تفكك الاتحاد السوفييتي، ومن ثمّ المنظومة الشرقية في أوروبة، والانتقال إلى عصر جديد سمته الأساسية هي السرعة، وثورة المعلومات، وبروز مفهوم العولمة التي حوّلت، أو كادت تحوّل، القارات السبع إلى قرية كونية. ولم يكن الوطن العربيّ بمنأى عن ذلك، كما لم يكن الإبداع الأدبيّ العربيّ بمنأى عنه أيضاً، ويمكن التمثيل لذلك بما شهده الفنّ القصصي السوريّ آنذاك من تحوّلاتٍ مهمّةٍ، كان من أبرزهاعلى المستوى الأدبي ما أبداه كتّاب القصة القصيرة من كفاءةٍ عاليةٍ في استيعاب ما كان يضطرم آنذاك من أحداث، ومن ثمّ صوغها ضمن قوالب فنية لم تكن الأولوية فيها للمضمون على الرغم من وطأته في الواقع وفي الذات الإبداعية. ولم يكن الاهتمام بالشكل مجرّد زخرف أو زينة، بل كان فعلاً حداثياً حمل شيفرات الواقع المعقدة على نحو شديد الخصوصية الفنية.
وإذا كانت سيرورة القصة في سورية أشبه بالخط البياني الذي سجل حركة تصاعدية من مرحلة إلى أخرى ومن عقد إلى آخر، فإن ذلك الخط كان وصل ذروته في التسعينيات على مستوى الكم والقيمة معاً، في مايخص الكمّ صدر “مايزيد على خمسمئة وتسع وعشرين مجموعة قصصية لنحو مئتين وخمسين قاصاً وقاصة، أي بمعدل ثلاث وخمسين مجموعة كل سنة ومجموعة كل سبعة أيام”[31]. أمّا فيما يخص النوع فقد “عني معظم قص التسعينيات بمعظم قضايا المجتمع السوري، ومشكلاته في المرحلة التي صدر خلالها وفي مراحل سابقة على عقد التسعينيات نفسه. وعلى الرغم من تفاوت أدوات مبدعيه في هذا المجال، فإنَ الأغلب الأعم من المبدعين أبدى كفاءةً واضحةً في تعرية القيم السالبة لتقدم المجتمع وتطوره، وفي الغوص على أشكال تجليها في الواقع من دون صخبأ وافتعالاً ومباشرة”[32]. وإذا كان الهم الوطني والمؤرق القومي قد فرضاهيمنتهما على شواغل القص ومقاصده في العقود السابقة، فإن من أبرز ما ميز تجربة التسعينيات تحررها من ذلك، ومقاربتها له على نحو إشاري/استعاري من دون أن يعني ذلك نقصاً في المرجعيات الواقعية لتلك التجربة، كما لا يعني استجابةً زائدةً على الحاجة لما هو اجتماعي– سياسي وتهميشاً لما هو وطني– قومي، فما هو اجتماعي – سياسي هو في النتيجة ذلك الوطني– القومي وقد أسفر عن وجهه على ذلك النحو[33].
وكان من سمات ذلك العقد، بالإضافة إلى ما سبق متابعة الأصوات القصصية، التي شكلت “علامات فارقة في مسار القص السوري الكتابة والنشر في العقد نفسه أمثال عبد السلام العجيلي، وزكريا تامر، وسعيد حورانية، وبديع حقي، فظهور أصوات جديدة تمكّن عددٌ منهامن حيازة مكانة بارزة في المشهدالقصصي العربي عامة”[34]
ونهضت المسابقات الأدبية بدور مهم في التعريف بأصوات جديدة، واتسع حضور المرأة القاصة التي تابعت ما كان اتسم به القص النسوي في العقود السابقة، أي هجاء “الوعي البطريركي الذي يعوق تحررها ويغلها بأصفاد التبعية للذكر أباً أو زوجاً أو أخاً، ثم تعبير ذلك الوعي عن الواقع بتجلياته كافةً، أي بوصفه صدى لذلك الواقع، وجهراً بما يفتك به على غير مستوى، فمحاولات الانعتاق من تلك الأصفاد وممارسة المرأة لكينونتها على نحو دال على كونها جزءاً من الحياة وليست استكمالاً لها”[35].
وشهدت التسعينيات ظهور شكل أدبي جديد هو”القصة القصيرة جداً”، أو ال “ق. ق. ج”، الذي بات ينافس القصة القصيرة، ويبدي سعياً لتأسيس نظرية خاصة به تجعل منه جنساً أدبياً مستقلاً، وليس فرعاً من أصل. واستقطب هذا الشكل الجديد مجمل الأصوات القصصية الجديدة آنذاك.
إن هذا الزخم الفني الذي ميز قصة التسعينيات عنها فيما مضى من العقود شكل محرضاً للحراك النقدي السوري، إذ سعى هذا الأخير إلى تتبع سيرورة القصة في سورية وتقييم نتاج هذا العقد.
خاتمة
نخلص مما تقدم إلى أن القصة في منتصف القرن الرابع عشر كانت قد أخذت مكانها عند أدباء سورية وقصّاصيها، وقد استجابت طبيعة القصة القصيرة السورية لإحداثات حركة المجتمع العربي السوري، فواكبت مجمل التغييرات الوطنية، والاجتماعية والذاتية وعايشت سيرورة حياته ولا سيّما أن مرحلة نضوجها وازدهارها تواشجت مع أحداث كثيرة ومتنوعة جرت في سورية خلال مائة عام انصرمت، ويمكننا إجمال المراحل التي مرت فيها القصة القصيرة السورية بما يأتي: مرحلة دوافع القص الفني، ومرحلة الواقع القصصي، مرحلة الذروة الفنية للقص، مرحلة التنوع الموضوعي.
المصادر والمراجع:
- اليافي، نعيم. “التطور الفني لشكل القصة القصيرة في الأدب الشامي الحديث”. ط1. اتحاد الكتاب العرب، دمشق 1982.
- علاء الدين، ماجد. “الواقعية في الأدبين السوفيتي والعربي”. ط1. دار الثقافة، دمشق1984.
- مصطفى، شاكر. “محاضرات عن القصة في سورية”. ط1. معهد الدراسات العربية العالمية، القاهرة1958.
- أبو هيف، عبدالله. “القصة القصيرة في سورية من التقليد إلى الحداثة”. ط1. اتحاد الكتاب العرب، دمشق2004.
- عصمت، رياض. “الصوت والصدى”دراسة في القصة السورية الحديثة”. ط1. دار الطليعة، بيروت1979.
- الخطيب، حسام. “سبل المؤثرات الأجنبية وأشكالها في القصة السورية”. ط5. مطابع الإدارة السياسية، دمشق 1991.
- الخطيب، محمد كامل. “السهم والدائرة”. ط1. دار الفارابي، بيروت1979.
- الخطيب، حسام. “القصة القصيرة في سورية-تضاريس وانعطافات-“. ط1. وزارة الثقافة، دمشق1982.
- الأطرش، محمود. “اتجاهات القصة في سورية”. ط1. دار السؤال، دمشق1982.
- الحسين، أحمد جاسم. “القصة القصيرة السورية ونقدها في القرن العشرين”. ط1. اتحاد الكتاب العرب، دمشق2001.
- عصمت، رياض. “قصة السبعينييات”. ط1. دار الشبيبة، دمشق1978.
- الصالح، نضال. “القصة القصيرة في سورية –قص التسعينيات-“. ط1. اتحاد الكتاب العرب، دمشق2005.
[1]اليافي، نعيم. “التطور الفني لشكل القصة القصيرة في الأدب الشامي الحديث”. ط1. اتحاد الكتاب العرب، دمشق 1982. ص13.
[2]علاء الدين، ماجد. “الواقعية في الأدبين السوفيتي والعربي”. ط1. دار الثقافة، دمشق1984. ص58.
[3]مصطفى، شاكر. “محاضرات عن القصة في سورية”. ط1. معهد الدراسات العربية العالمية، القاهرة1958. ص52.
[4]“محاضرات عن القصة في سورية”، ص54.
[5]أبو هيف، عبدالله. “القصة القصيرة في سورية من التقليد إلى الحداثة”. ط1. اتحاد الكتاب العرب، دمشق2004. ص23.
[6]“محاضرات عن القصة في سورية”,ص80.
[7]عصمت، رياض. “الصوت والصدى”دراسة في القصة السورية الحديثة”. ط1. دار الطليعة، بيروت1979. ص28.
[8]“التطور الفني لشكل القصة القصيرة في الأدب الشامي الحديث”,ص128.
[9]الخطيب، حسام. “سبل المؤثرات الأجنبية وأشكالها في القصة السورية”. ط5. مطابع الإدارة السياسية، دمشق 1991. ص40.
[10]الخطيب، محمد كامل. “السهم والدائرة”. ط1. دار الفارابي، بيروت1979. ص31.
[11]الخطيب، حسام. “القصة القصيرة في سورية-تضاريس وانعطافات-“. ط1. وزارة الثقافة، دمشق1982. ص67.
[12]. يُنظر:”القصة القصيرة في سورية”، ص59.
[13]“القصة القصيرة في سورية”، 89.
[14]“السهم والدائرة-مقدمة في القصة السورية القصيرة خلال الخمسينات والستينات-“، ص69.
[15]المرجع نفسه، ص91.
[16]“سبل المؤثرات الأجنبية وأشكالها في القصة السورية”، ص81.
[17]المرجع نفسه، ص82.
[18]الأطرش، محمود. “اتجاهات القصة في سورية”. ط1. دار السؤال، دمشق1982. ص289.
[19]الحسين، أحمد جاسم. “القصة القصيرة السورية ونقدها في القرن العشرين”. ط1. اتحاد الكتاب العرب، دمشق2001. ص181.
[20]“القصة القصيرة السورية ونقدها في القرن العشرين”، ص169.
[21]“اتجاهات القصة في سورية”، ص308.
[22]“القصة القصيرة السورية ونقدها في القرن العشرين”، ص197.
[23]“اتجاهات القصة في سورية”، ص307
[24]“القصة القصيرة السورية ونقدها في القرن العشرين”، ص225.
[25]عصمت، رياض. “قصة السبعينييات”. ط1. دار الشبيبة، دمشق1978. ص59.
[26]المرجع نفسه، ص59.
[27]“القصة القصيرة السورية ونقدها في القرن العشرين”، ص265.
[28]ينظر:المرجع نفسه، ص254.
[29]“القصة القصيرة ونقدها في القرن العشرين”، ص254.
[30]“المرجع نفسه”، ص321.
[31]الصالح، نضال. “القصة القصيرة في سورية –قص التسعينيات-“. ط1. اتحاد الكتاب العرب، دمشق2005. ص11.
[32]“القصة القصيرة في سورية –قص التسعينيات-“، ص91.
[33]ينظر: “القصة القصيرة في سورية-قص التسعينيات”، ص107+108.
[34]المرجع نفسه، ص5
[35]المرجع نفسه”، ص18.