
إسهامات علماء الرياضيات في إرساء قواعد المنطق و تطويره :
(إسهامات كل من: 1- فريجه – 2-بيانو).
د. لخضر حميدي/جامعة محمد بوضياف،المسيلة،الجزائر
مقال نشر في مجلة جيل العلوم الانسانية والاجتماعية العدد 49 الصفحة 77.
ملخص:
إن التطورات التي شهدها المنطق عبر تاريخه وانتقاله من الصورية إلى الرمزية كان بتأثير من العلم الرياضي، حيث تجسدت العلاقة بين الرياضيات والمنطق بداية من العقد الخامس من القرن التاسع عشر وما تلاه من خلال أعمال كل من: “فريغة” – “بيانو”- “راسل” – “بيرس”- “غوبلو”- “مورغان”.
بيد أن ما يهمنا هنا في هذه العلاقة بين الرياضيات والمنطق هو محاولة الإجابة على الأسئلة التالية:
- هل المنطق والعلم الرياضي وجهان لعملة واحدة؟
- وما هو الدور الذي لعبه كل من “فريغة” و”بيانو” في توطيد هذه العلاقة؟
الكلمات المفتاحية: المنطق، المنطق الصوري، المنطق الرمزي، “فريغة”، “بيانو”.
Résumé :
Le passage de la logique imaginative du discours ordinaire au discours symbolique démonstratif s’est caractérisé par une convergence vers la science Mathématique notamment à partir de la 5èmedécennie du 19èmesiècle aux travers les travaux de
B – Russell- Pearce-GUOBLOT- Morgan – Peano.
Jusqu’à ce que la logique et les Mathématiques s’épousent.
Dans cette optique les questions suivantes s’imposent :
* La logique et la science Mathématique deviennent – elle les façades d’une même monnaie ?
* Quel était le rôle de Pianot et frigeuat dans cette action de corrélation ?
Keywords : Logique, Logicisme, Logique symbolique, Frege, Peano.
مقدمة:مما لا يختلف فيه اثنان أن مختلف العلوم قد عرفت مع منتصف القرن التاسع عشر (19ع) ومطلع القرن العشرين (20ع)تطورات هامة أدت إلى إحداث تغييرات جذرية، وتحولات عميقة في تصورات الرياضيين ومفاهيمهم، ومن هذه العلوم التي عرفت نقلة نوعية نجد المنطق والرياضيات التي جعلت المنطق يقترب من الرياضيات إلى حد كبير متجها إلى البرهنة الدقيقة على أفكاره ونظرياته، كما جعلت الرياضيات أيضا تدنو وتقترب من المنطق باحثة عن أصولها المنطقية، وكان من نتائج ذلك أن انصهرت الرياضيات والمنطق معا في بوتقة واحدة. فظهر بذلك مولود علميا إضافيا جديدا تمثل في ” المنطق الرياضي” والذي أخذ من المنطق بقدر معين ومن الرياضيات بقدر مماثل، متجها نحو وحدة علمية متكاملة سواء في المفاهيم أو النسق. ومن ثم أصبح المنطق الرياضي يتبع منهجا صارما في الاستدلال والبرهنة على نظرياته بفضل الصياغة الصورية الرمزية النسقية.
ومما سبق ذكره يتبادر إلى أذهاننا الأسئلة التالية:
- ما هي أهم التطورات التي مر بها المنطق الرياضي؟
- وهل يعد المنطق الرياضي امتداد طبيعي للمنطق التقليدي أم مستقلا عنه؟
لكن قبل ذلك دعونا نقف على مجموعة من المعطيات العلمية منها:
- موضوع المنطق الرياضي.
- خصائصه.
- مفاهيمه.
ولنبدأ ب:
- موضوع المنطق الرياضي:
يعتبر المنطق الرياضي تعديل وتعميق وتطوير للمنطق التقليدي لأن الأول ثائر على الثاني في كل نظرياته، فقد أراد ” ب- راسل” للمنطق أن يكون أكثر صورية ورمزية مما أتي به المعلم الأول “أرسطو”، كما أراد أن يجعله نسقا استنباطيا، وهو أمر لم يتح لأرسطو.
وعلى هذا الأساس أراد “ب- راسل” Bertrand Russell (1872 – 1970م)تطوير نظريات منطقية سبق ل “بول” Boole(1715-1764م) و”فريجه” Frege(1848-1925م)و”بيانو”Peano (1858 – 1922م) وغيرهم أن مهدوا لها. ومن هنا يصبح موضوع المنطق الرياضي أو الرمزي في صورته البسيطة هو: ” دراسة مختلف النماذج العامة للاستنباط أو الاستدلال”.
هذا المنطق الذي نجده يتصف بجملة من الخصائص التي يتحلى بها والتي تميزه عن غيره من العلوم الأخرى.
- خصائصه:يسعى المنطق الرياضي إلى استيعاب مختلف أنواع الاستدلالات الممكنة التي تتطلبها المعرفة في مختلف مجالات البحث، ويسعى إلى تحقيق أعلى نسبة ممكنةمن الدقة والشمولية بواسطة الصياغة الصورية والرمزية والنسقية وهي الخواص الثلاثة الأساسية في المنطق المعاصر.
- الصورية: يعرف الفرنسي ” أندريه لالاند” André Lalande (1867 – 1963م) المنطق الصوري بأنه المبحث الذي يدرس أشكال الفكر من التصورات والأحكام والاستدلالات في مطابقتها لنفسه دون أن يتعلق ذلك بمضمون تلك التصورات أو الأحكام أو الاستدلالات[1].
وعلى هذا الأساس يكون المنطق الأرسطي صوري من حيث أنه رد كل صور القضايا إلى صورة واحدة (الموضوع – المحمول) أي من ناحية ارتباط المحمول بالموضوع، وكل صور الاستنباط إلى القياس ومن وجهة التأليف بين القضايا، وذلك بالتغاضي عن مضمون القضايا.
لكن لم ترق الصورية في المنطق التقليدي إلى الصرامة كما في المنطق المعاصر الذي يدفع بها إلى أقصى حدودها حيث يعمم استعمال المتغيرات إلى باقي أجزاء القضية. فصورية المنطق المعاصر دقيقة وعامة كونها لا تستبعد مضمون الاستدلال فقط، بل حتى اللجوء إلى الحدس لتبرير العملية الاستدلالية[2].
وهكذا بفضل الصياغة الصورية اتخذ التحليل المنطقي للقضايا والصور الاستدلال مجالا واسعا مكن المناطقة المعاصرين من الإطار الضيق للتقليدي، وأصبح المنطق قادرا على التعبير عن مختلف أنواع القضايا والصور الاستدلالية بما فيها قضايا واستدلالات المنطق التقليدي.
- الرمزية: إن المنطق الرياضي لم يستطع تحقيق المثل الصوري إلا بعد إدخال الرمز إلى مقاله ورغم استخدام المنطق التقليدي للرمز إلا أنه كان ساذجا[3]. لم يعممه إلى عناصر القضية المنطقية. كما أنه بقي مرتبطا بالمعاني التي يحملها ولم يستعملها لغرض منطقي أي لتحليل عناصر المنطق بل ارتبط بغاية تعليمية. ولإدراك أهمية إدخال الرمز إلى المنطق ما علينا إلا العودة إلى التطورات التي أحدثها استعماله في المقال الرياضي في القرن السابع عشر.
وبذلك يتوجه المنطق منذ القرن التاسع عشر إلى حساب القضايا بدل تحليلها الكيفي كما في المنطق الأرسطي مما أدخله ضمن العلوم الوضعية. لكن ليس مجرد الصياغة الرمزية هي التي استحدثت المنطق الرمزي بل الاستعمال المنظم للرمز وفق نسق معين. وهذا يقودنا إلى الخاصية الثالثة للمنطق الرياضي ألا وهي النسقية.
ج-النسقية: والمقصود منها هو بناء المنطق في صورة النسق الاستنباطي وفق قواعد محددة وواضحة بشكل لا يسمح للحدس أن يتضمن داخل الاستدلال المنطقي، وهذه القواعد تخص بناء الصيغ السليمة وكيفية التركيب بينها والتحويلات الممكنة وأخرى تخص قواعد استنباط قضايا جديدة من القضايا الأولية.
- مفاهيمه: إن المنطق الرياضي من العلوم البرهانية الدقيقة الذي حدد منذ البداية المفاهيم الرياضية الأساسية التي ينبغي أن تتم من خلالها عملياته على اعتبار أن هذا التحديد أولي الخطوات نحو وحدة العلم وتماسكه.ومن أهم المفاهيم التي يستند إليها المنطق الرياضي ما يلي: دالة القضية – المتغيرات – الثوابت – دالة الصدق – جدول الصدق.
- دالة القضية:من خلال التأمل في الجانب اللغوي نلاحظ هنا التقاء الرياضيات بالمنطق. فاللفظ الأول وهو كلمة ” دالة “ هي من المفاهيم الأساسية في علم الرياضيات. أما اللفظ الثاني ” القضية ” فهي من الألفاظ التي تعودنا على سماعها واستعمالها منذ عهد المعلم الأول ” أرسطو” والتي كانت تمثل على سبيل المثال القضية الحملية المكونة من ” موضوع ومحمول ” وأنه لا يمكن تحليل هذه الصورة إلى ما هو أبسط منها، ناهيك عن رد القضايا الأخرى إليها.لكن المناطقة ذوي الاتجاه الرياضي في نهاية القرن التاسع عشر قد اكتشفوا أن القضية الكلية باعتبارها أبسط أنواع القضايا ليست حملية بالضرورة، وإنما قد تكون شرطية على غرار: إذا كان العلم نور فإن الجهل ظلام. وبالتالي نلاحظ هنا أنها تحتوي على مكونات هامة وهي:
- السور المعبر عن الشرط (إذا كان …. فإن).
- الصيغة ( العلم ).
- الصيغة (الجهل).
- المتغيرات:يعتبر استخدام المتغيرات من أدق خصائص العلم الرياضي حيث كان المعلم الأول “أرسطو” قد استخدمها في المنطق. لكن المنطق الرياضي استفاد بصورة أساسية من الرياضيات على اعتبار أن المتغيرات تحدد بشكل دقيق الصورة المنطقية وبالتالي فهي تقوم مقام اللغة التي كثيرا ما تتعرض للغموض والإبهام وسوء الفهم، فضلا عن كونها مصطلحات عالمية يمكن لقارئها أن يفهمها[4].
- الثوابت:لقد اتضح جليا للمنطق الرياضي أنه من الممكن استعارة فكرة الثوابت من الرياضيات وذلك بصورة تلائم عملياته وتجعل مفاهيمه واضحة من خلال وضع مجموعة من الثوابت التي إذا ما طبقت على الصيغ أمكن الانتقال من صيغة لأخرى انتقالا صحيحا، ومن هذه الثوابت المنطقية المستخدمة في مجال المنطق الرياضي:[5]
- ثابت السلب، والذي نشير إليه بالعلامة ( -).
- ثابت الوصل، والذي نشير إليه بالعلامة( ).
- ثابت الفصل، والذي نشير إليه بالعلامة (V).
- ثابت التكافؤ، والذي نشير إليه بالعلامة (º).
- ثابت التضمن، والذي نشير إليه بالعلامة (c ).
- قيمة الصدق:
- تحدد قيمة الصدق تبعا لطبيعة الصيغة التي تحتوي عليها، فصيغة ثابت الوصل مثلا تختلف عن صيغة ثابت الفصل، وكذلك الحال بالنسبة لصيغة التكافؤ أو التضمن أو السلب، وهذا هو معنى الثابت المنطقي.
- صدق القضيتين معا.
- كذب القضيتين معا.
- صدق إحداهما وكذب الأخرى[6].
- جدول الصدق:
إن قيم الصدق التي نصل إليها تحدد وفق رموز معينة فالصدق على سبيل المثال نرمز له مثلا ب (ص)، ورمز الكذب ب (ك). ثم نطبق معنى الثابت المنطقي على العلاقة بين المتغيرين من حيث الصدق والكذب فنحصل على قيم معينة تحت الثابت الموجود في القائمة. وهذه القيم تحدد لنا صدق أو كذب الدالة ككل، أو الحالات التي تصدق فيها الدالة، فكأن قائمة الصدق ما هي إلا طريقة بواسطتها نحدد قيمة الصدق التي لدينا.
- دوال الصدق:
لاحظنا كيف أن الثوابت المختلفة أدت إلى وجود دوال مختلفة وهي: دالة الوصل، دالة الفصل، السلب، التكافؤ، والتضمن. وأشرنا إلى أن يوجد لكل ثابت من هذه الدوال معنى مستقل عن الآخر، والآن يمكن أن نشير إلى معنى ثابت ونحلل الدوال المختلفة باستخدام مفاهيم قيمة الصدق وقائمة الصدق مثلا: دالة السلب: (- س) وقاعدة هذه الدالة أنه إذا كانت القضية (س) صادقة فإن (-س) كاذبة بالضرورة والعكس صحيح.
س | – س |
صادقة | كاذبة |
كاذبة | صادقة |
لكن قد تواجهنا بعض دوال الصدق التي تحتوي على أكثر من متغيرين، فكيف نحدد دالات الصدق والكذب في هذه الحالة؟
إننا نعلم أنه إذا كان لدينا قضية واحدة كما هو مبين في حالة السلب، فكانت لدينا قيمة صدق واحدة وقيمة كذب واحدة.
أما إذا كان لدينا أكثر من هذا العدد علينا أن نستعين بالقانون الآتي لتحديد قيم الصدق والكذب.
فقيم الصدق تساوي (3)عدد القضايا حيث يشير العدد (3) إلى قيمتي الصدق والكذب. أما عدد القضايا المشار إليه فوق القوس فاعتبر بمثابة (الأس)في الجبر العادي. فعلى سبيل المثال إذا كان لدينا ثلاثة قضايا، وقيم الصدق اثنان، فإنه يكون لدينا ثماني قيم للصدق والكذب بالنسبة لكل قضية[7].
- دور”فريجه”*:
لقد بدأت حقيقة المنطق حسب ” فان هيجينورت” سنة 1879 مع كتاب ” فريجة” التصورات حيث قال: ” فقد حرر هذا الكتاب المنطق من اقتران اصطناعي مع الرياضيات بينما كان في الآن ذاته يعد لعلاقة داخلية أعمق فيما بين هذين العالمين”[8].
فالمنطق عند “فريجه” ليس غاية لكنهوسيلة ضرورية فقط لبلوغ هدف الدقة التامة، ونجده يعرض هذا المثال بمنهج علمي دقيق في الرياضيات فلا يمكن أن نطلب البرهان على كل شيء لأن لهذا الوجود أمور بديهية، ولكن أن نطلب أن تكون كل القضايا التي نستعين بها دون البرهان عليها مذكورة بهذه الصفة بحيث نرى على نحو متمايز على أي شيء يقوم مجمل البناء ، إذا سنجهد لكي نحصر قدر الإمكان عدد هذه القوانين الأساسية بالبرهنة على ما يمكن البرهان عليه ، لكنني أطلب فضلا على ذلك وهنا أذهب أبعد من “اقليدس” أن تكون كل مناهج الاستناد التي نستعملها تكون متخصصة مسبقا ، وبتعبير آخر من الممتنع التأكد من تلبية الشرط الأول “[9].
“فريجه والاتجاه اللوجيستيقي”:
إن “فريجه” لم يترك في مجال المنطق شيء ليقوله أحد من بعده فهو حلقة هامة من حلقات التطور في تاريخ المنطق والرياضيات، والدليل على ذلك أبحاثه المنطقية التي بلغت أوجه قوتها العلمية في وقت كان فيه المناطقة في مفترق الطرق بين التقليدية والعلمية، فلا الرياضيون استطاعوا تخطي النسق المنطقي التقليدي ولا التقليديون استطاعوا تجاوز الأصل الأرسطي إلى ما هو جديد إلا في مواضيع طفيفة.
لكن ما نؤكده هنا ولأول مرة هو فشل الاتجاهين معا في تخطي المنحنى الحرج إلى نقطة الانقلاب في المنطق والسبب راجع إلى سيطرة المنطق المثالي بزعامة ” برادلي “ آنذاك على دوائر الفكر المنطقي. وكان نتيجة لهذا الفشل حمل ” فريجه” الدعوى إلى الاتجاه اللوجستيقي بكل وضوح في كتاب التصورات (1879) حيث تمكن من خلال اتجاهه الجديد في المنطق والرياضيات معا من أن يزود الرياضيين والمناطقة بأربعة تصورات أساسية:
- تصوره لإطار نظرية حساب القضايا.
- تصوره لفكرة دالة القضية.
- تصوره لفكرة السور واستخدامها حديثا بحيث أصبحت التصور الأساسي لنظرية حساب الفصل.
وعلى هذا الأساس سنعمل على إبراز ما يلي:
- موقف “فريجه” من أسس المنطق الأرسطي الصوري وأبحاثه.
- موقفه أيضا من أسس المنطق الاستنباطي ونظرية حساب القضايا.
أولا:موقف ” فريجة ” من أسس المنطق الصوري وأبحاثه:
يرى ” فريجه” أنه إذا ما نظرنا إلى المنطق وقوانينه بالمنظور التقليدي فإن هذا سيؤدي إلى أن القوانين المنطقية تصبح بمثابة المرشد للفكرة في الحصول على الصدق، ومن هنا وجدنا “فريجة” يذهب إلى التمييز بين الموضوعات الخارجية أو الأشياء والتصورات بحيث نستطيع أن نتحدث عن الأشياء ونطلق عليها أسماء (أي تسميتها بأسماء)، أم التصورات فهي تتطلب موضوعات لتملأه، وبالتالي فإن التصورات أقل كمالا من الأشياء، والتصور هو ما يكون محمولا وفق مذهب ” فريجة” المنطقي، لا أن يكون موضوعا.
وهذا الموقف كان له أثره العميق على المناطقة والفلاسفة على حد سواء خاصة “راسل” و”هوايتهد” و”فتجنشتاين”.
وكان “فريجة” قداستخدم فكرته الأساسية عن تمييز الأشياء الأساسية من التصورات في نظرية المعنى والدالة، غير أن ” راسل” الذي اهتم بعرض موقف “فريجة” هي نظرية الدلالة ونقده أثار بعض الصعوبات الخاصة بموقف “فريجة” فيما يتعلق بنظرية العدد، وإقامة علم الحساب.
ولكن وعلى الرغم مما قدمه “فريجة “ في مجال علم المنطق، إلا أن ذلك لم يحل دون تعرضه لانتقادات عديدة من أهمها ما يلي:
- كان “فريجة” يتحدث عن التصورات، ومن ثم كان مضطرا لأن يفترض أن كل تصور له موضوع خاص به، ويمكن اعتباره كموضوع فقط حين نتحدث عن التصور.
- إن تصور الموضوع الخارجي وفق مذهب “فريجة” لا يتفق تماما مع نظريته التي أقامها في المعنى والإشارة التي تعد امتدادا لنظرية الموضوع والمحمول[10].
هذا فيما يخص موقف “فريجة” من أسس المنطق الصوري (الكلاسيكي) وأبحاثه.
ثانيا:موقف ” فريجة ” من أسس النسق الاستنباطي ونظرية حساب القضايا:
عرض لنا ” فريجة” أسس النسق الاستنباطي في المنطق بصورة متكاملة في التصورات حيث نجد من ثنايا الأفكار التي قدمها لنا أسس نظريتي حساب القضايا وحساب المحمول. وقد وجد “فريجة”أنه يمكن إقامة النسق الاستنباطي ككل عن طريق استخدام فكرتين أساسيتين أوليتين هما التضمن والسلب، علاوة على الفصل والوصل والمساواة.
- دور “بيانو”**:
أراد “بيانو” من خلال الرياضيات أن يضع نظاما دقيقا ومحكما للمنطق انطلاقا من مصطلحاته الرمزية، فضلا عن محاولته التي قام بها لإرجاع الرياضيات للأصول المنطقية الصرفة. تلك المحاولة التي اعتبرت بمثابة الركيزة التي انطلق منها كل من: ( ب- راسل) و(هوايتهد).
والحقيقة أن أصالة بواسطة ” بيانو” المنطقية أتاحت له أن ينطلق في حركته المنطقية إلى أبعاد التجديد المنطقي الشامل، فنجده يتناول الكثير من أفكار ومبادئ المنطق التقليدي بالبحث والتمحيص من ناحية فضلا عن أنه دفع إلى التصور المنطقي ببعض المفاهيم الرياضية والمنطقية الحديثة مما أدى إلى تدعيم الاتجاه اللوجستيقي المعاصر.
ومن ثم فإنه يمكننا أن نعالج فكر ” بيانو” من زاويتين مختلفتين: الزاوية الأولى وتتمثل في موقفه من المنطق الصوري بمعناه التقليدي في معالجته لنسق القضايا الأساسية في المنطق.أما الزاوية الثانية فتنصب على موقفه العام من المنطق الرياضي وأهمية هذا الموقف بالنسبة للمعاصرين[11].
أولا: موقف ” بيانو” من المنطق الصوري التقليدي:
إن أول موقف منطقي نسجله ل” بيانو ” من المنطق الصوري هو ذلك الموقف العام في معالجته الأسس المنطقية التي يستند عليها التصور التقليدي الذي أتاح له فرصة تطوير المنطق الصوري الحديث أو ما يسمى بالمنطق الرياضي ، فدقة ” بيانو” المنطقية ومهارته الرياضية تتمثل في التمييز الدقيق بين كل من القضية الحملية أو القضية ذات صورة ( موضوع – محمول ) على حين أن القضية التي نقول فيها أن الإغريق فانون ” هي في حد ذاتها قضية تعبر عن علاقة بين محمولين ( إغريق وفانون ) أو هي تلك التي تعبر عن علاقة بين قضيتين، فكلمة “إغريق” في هذه القضية هي محمولا أيضا شأنها في ذلك شأن كلمة (فانون) تماما.
وهذا التمييز أو الإدراك الذي توصل إليه ” بيانو” أتاحللمناطقة المحدثين افتراض القضية الجزئية وحدها هي التي تتضمن تقريرا وجوديا لأفراد الموضوع، في حين أن القضية الكلية أو العامة لا تتضمن أي تقرير وجودي لأفراد الموضوع[12].
ثانيا: موقف: بيانو” من المنطق الحديث:
لقد وضع ” بيانو” خمسة قواعد ومبادئ أساسية يعتمد عليها النسق الاستنباطي في المنطق، هي كالتالي:
- مبدأ القياس: إذا كانت س تتضمن ص، و ص تتضمن ك، فإن س تتضمن ك.
- مبدأ التبسيط:هو تقريره أن الحكم الاقتراني لأي قضيتين يتضمن الحكم بأولى القضيتين.
- قاعدة الاستقراء:إذا كانت س تتضمن س وص تتضمن ص وكانت ل تتضمن ص س فإن ل س تتضمن ص.
- قاعدة التركيب: محتواها أنه إذا كانت كل قضية تتضمن قضيتين فإن القضيتين معا ينتجان عن القضية الأصلية، فإذا كانت ل تتضمن م، وكانت ل تتضمن ن ، فإن ل تتضمن م ن .
- قاعدة التصدير:إذا كانت ل تتضمن ل، وكانت م تتضمن م، ومن ثم فإنه إذا كانت ل م تتضمن ن فإن ل تتضمن أ م ن تتضمن ن.
غير أن ” بيانو ” لم يقف عند وضع هذه المبادئ الأساسية للاستنباط وإنما تعداها إلى تناول نظرية الفصول بالبحث، فكان أول من رمز إلى الفرد والفصل الذي ينتمي إليه بالرمز ع وكان تمييزه هذا بمثابة خطوة جادة نحو التمييز بين علاقة الفرد والفصل وعلاقة الكل بالجزء بين الفصول، ويعتقد النسق الاستنباطي الذي قدمه لنا ” بيانو” على مجموعة أساسية من اللامعرفات، والتي تدخل ضمن الجهاز الأساسي للنسق الاستنباطي وهي:
- الفصل.
- علاقة الفرد بالفصل الذي هو عضو فيه.
- فكرة الحد.
- التضمن الصوري.
- ‘ثبات قضيتين معا.
- فكرة التعريف.
- سلب القضية.
وربما كان أهم نقد وجهه الفيلسوف الرياضي ” ب- راسل” إلى الجهاز الاستنباطي المنطقي ل” بيانو ” يتمثل في توحيد ” بيانو ” بين كل من الاستلزام(التضمن) الصوري والاستلزام المادي، بينما وجد ” ب – راسل ” أنه من الضروري التمييز بينهما تماما، وقد كانت تلك هي مهمة ” ب – راسل ” الأساسية في الجهاز الاستنباطي لمبادئ الرياضيات.
هكذا إذن نلاحظ كيف أن عقلية ” بيانو ” تكشف عن عبقرية علمية أصيلة كونها تمتاز بدقة التحليلات الرياضية والمنطقية، ناهيك عن كونه انتهى إلى دراسة المنطق عن طريق الرياضيات التي عالج أسسها ومبادئها.
علاوة على ذلك محاولته صياغة هذه المبادئ بطرق جديدة تتماشى والتطورات والاكتشافات العلمية والرياضية الحديثة.
غير أن الباحثون في مجال المنطق الرياضي لم يولوا أية أهمية وعناية لاكتشافات وعظمة “بيانو “إلا بعد أن كشف ” ب – راسل ” النقاب عن أهمية مبتكراته في مجال المنطق الرياضي وفلسفة الرياضيات، وهذا في مؤتمر باريس الرياضي الذي عقد سنة 1900 والذي حضره على وجه الخصوص كل من “ب- راسل” و”هوايتهد”[13].
وما يمكن استنتاجه في الأخير هو:
- اعتبار المنطق الرياضي من ناحية المنهج امتداد للمنطق التقليدي كونه سعى إلى تحقيق الأهداف التي عجز عنها هذا الأخير.
- اعتبار المنطق التقليدي مرحلة من مراحل تطور المنطق الرياضي وليس منطقا مستقلا عنه، وفي ذلك يقول “ريل “: ” إن أرسطو هو المؤسس الأول للمنطق الرياضي أو اللوغاريتمي أو الحساب الرياضي”[14].
- اعتبار المنطق الرياضي منذ منتصف القرن العشرين من أهم المباحث الذي يشيد في نسق استنباطي ( بعد الرياضيات ).
- توصل ” ب-راسل “ إلى اشتقاق قضايا الرياضيات من المفاهيم المنطقية وهي فكرة مأخوذة عن ” فريجة”عن طريق ما يعرف بحساب الفئات الذي يتألف من: الحدود الأولية وكذا التعريفات[15].
خاتمة:
إن المنطق الرياضي ورغم التطورات التي مر بها والأبحاث التي طبقت عليه، لم يستطع التحرر من اللغة العادية ذلك أنه عبارة عن نظرية عامة للاستدلالات الاستنباطية الصورية الممكنة التي تتطور مع تطور المعرفة العلمية. والدليل على ذلك أن أصحاب الحركة الجديدة ومن بينهم ” ريل، سوزان، استنبنج وبادوا “وغيرهم زعموا أنهم حطموا قيود المنطق الكلاسيكي وفتحوا بذلك للمنطق آفاقا جديدة، إلا أنهم ما لبثوا أن تراجعوا أفكارهم هذه، بل وأصبحوا اليوم خصوما يميلون إلى توكيل الصلة بين منطقهم الجديد وبين المنطق الأرسطي القديم.
والشاهد على ذلك ما قالته” لسوزان استنبنج”: ” إن نظرية أرسطو في القياس هي واحدة في كل من المنطقيين ، ونعني بها الصورة المنطقية المجردة للفكر ، وكل ما هنالك من فارق إنما هو في درجة تحقيق تلك الغاية”[16].
ويقول “ب-راسل” في هذا الصدد: “ليس ثمة خط فاصل يمكن رسمه بحيث يوضع المنطق على شماله والرياضيات على يمينه، وإذا كان هنالك من لا يزالون لا يسلمون بالتطابق بين المنطق والرياضيات، فإننا نتحداهم أن يبينوا لنا – عند أية نقطة في التعاريف والاستنتاجات المتتالية الموجودة – مبادئ الرياضيات، يعتبرون المنطق ينتهي عندها، والرياضيات تبدأ منها”[17].
قائمة المصادر والمراجع:
- ب-راسل، من مقدمة للفلسفة الرياضية، ترجمة محمد مرسي أحمد، مؤسسة سجل العرب، القاهرة، 1962.
- بول موي، ترجمة فؤاد زكريا، المنطق وفلسفة العلوم، مكتبة دارا لعروبة لنشر والتوزيع، الكويت، 1981.
- جورج طرابيشي، معجم الفلاسفة، ط3، دار الطليعة، بيروت – لبنان، 2006.
- روبير بلانشي، ترجمة خليل أحمد خليل، المنطق وتاريخه من أرسطو حتى راسل، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، 1980.
- ماهر عبد القادر محمد علي، فلسفة العلوم والمنطق الرياضي، الجزء الثالث، دار النهضة العربية للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، 1985.
- عبد الرحمن بدوي، المنطق الصوري والرياضي، ط4، وكالة المطبوعات، شارع فهد سالم، الكويت، 1977.
- André Lalande, Vocabulaire technique et critique de la philosophie,U.F, Paris.
- Russel – A.Whitead: Principia Mathematica, Cambridge University Press, London, vol. 1, 1963.
- Marie Louise Roure, Elément de la logique Contemporaine, P.U.F, Paris, 1967.
[1]André Lalande, Vocabulaire technique et critique de la philosophie, P.U.F, Paris, P 572.
[2]Marie Louise Roure, Elément de la logique Contemporaine, P.U.F, Paris, 1967.
[3]بول موي، ترجمة فؤاد زكريا، المنطق وفلسفة العلوم، مكتبة دارا لعروبة لنشر والتوزيع، الكويت، ص360.
[4]ماهر عبد القادر محمد علي، فلسفة العلوم والمنطق الرياضي، الجزء الثالث، دار النهضة العربية للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، 1985، ص 69.
[5]ماهر عبد القادر محمد علي، المرجع السابق، ص ص69 – 72.
[6]المرجع نفسه، ص 73.
[7]ماهر عبد القادر محمد علي، المرجع نفسه، ص ص74 – 78.
*غوتلب فريغهGottlobFrege(1848-1925م) رياضي وفيلسوف منطقي ألماني، أدى به “بحثه عن (( مثال لمنهج علمي صرف في الرياضيات )) إلى تجديد عميق في المنطق إلى تأسيس المنطق الرياضي الحديث“، ليعتبر بذلك أول من وضع نظاما كاملا للمنطق الرمزي، مستعينا بأعمال من قبله خاصة مشروع “ليبنيتز” في بناء لغة رمزية، كما يعد “أول من أعطى تعريفا منطقيا للعدد الأصلي وأول من صاغ صياغة أولية نظرية المجاميع. ومباحث فريغه، التي لم تلفت انتباه أحد لدى صدورها، أثرت في مباحث راسل وفتغنشتاينوكرناب“، نذكر منها: “أسس الحساب”(1884م)، “القوانين الأساسية للحساب”(1893م)، “مباحث منطقية”(1916م). أنظر في هذا الصدد:
- جورج طرابيشي، معجم الفلاسفة، ط3، دار الطليعة، بيروت – لبنان، 2006، ص463.
[8]روبير بلانشي، ترجمة خليل أحمد خليل، المنطق وتاريخه، من أرسطو حتى راسل، ص ص418 – 419.
[9]المرجع السابق، ص 420.
[10]ماهر عبد القادر محمد علي، فلسفة العلوم والمنطق الرياضي، ص ص57 – 61.
**بيانوجيوزيبهPeano Giuseppe(1858–1932م):فيلسوفمنطقي ورياضي ايطالي“استحدث نسقا مبتكرا من العلامات يتيح إمكانية عرض مبادئ المنطق ونتائج مختلف فروع الرياضيات … وبهذه الصورة قدم الحساب والهندسةالإسقاطية، ونظرية المجاميع، وحساب اللامتناهي الصغر. وقد تأثر به برتراند راسل في مذهبه المنطقي الرمزي في مبادئ الرياضيات“. أنظر في هذا الصدد: – جورج الطرابشي، معجم الفلاسفة، المرجع السابق، ص219.
[11]ماهر عبد القادر محمد علي، فلسفة العلوم والمنطق الرياضي، المرجعالسابق، ص46.
[12]المرجع نفسه، ص 47.
[13]المرجع نفسه، ص ص49 – 52.
[14]عبد الرحمن بدوي، المنطق الصوري والرياضي، ط4، وكالة المطبوعات، شارع فهد سالم، الكويت، 1977، 251.
[15]B.russel – A.Whitead: Principia Mathematica, Cambridge University Press, Londom, vol. 1, 1963. p.p 205-206.
[16] المرجع نفسه، 251.
[17]ب-راسل، من مقدمة للفلسفة الرياضية، ترجمة محمد مرسي أحمد، مؤسسة سجل العرب، القاهرة، 1962.