تجليات العالم الرقمي في رواية لا أتنفس
Manifestations of the digital world in the novel I do not breath
نبيل المكي، باحث دكتوراه بكلية اللغات والآداب والفنون، جامعة ابن طفيل/المغرب.
Nabil El mekki, Faculty of Languages, Letters and Arts, Ibn Tofail University, kenitra, Morocco.
مقال منشور في مجلة جيل الدراسات الأدبية والفكرية العدد 81 الصفحة 49.
ملخص:
تهدف هذه الدراسة إلى إبراز تجليات العالم الرقمي في الرواية، وهو ما تحدد من خلال الفضاء الافتراضي الذي تدور فيه أحداث الرواية، والارتكاز على الأسلوب التشعبي المتفرع في البناء السردي.
الكلمات المفتاحية: العالم الرقمي – الفضاء الافتراضي – النص المتشعب.
Abstract:
This study aims to highlight the manifestations of the digital world in the novel, which is determined through the virtual space in which the events of the novel take place, and to rely on a hyperbolic style in the narrative construction.
Keywords: the digital world – virtual space – hypertext.
إضاءة:
لا بد أن ينطلق الكاتب في كتاباته من فلسفة تؤطر ما يكتب، ويؤمن بإمكاناتها في إيصال طروحاته، وتلجأ الروائية المغربية زهور كرام إلى فلسفة التكنولوجية الرقمية -التي تهتم بالتكنولوجيا في علاقتها بالإنسان، والمجتمع، والثقافة، والأدب، والبيئة، -كإطار مرجعي في كتابة رواية ”لا أتنفس”. وتُعَبِّر الرقمنة من منظور فلسفي عن أنطولوجيا قوامها الوجود المركب والمتغير، فضلا عن تغيير شكل حضور الإنسان في العالم، من خلال تغيير بناه الثقافية التقليدية وتغير المعنى الإنساني كليا، لاسيما وأنها تساهم في تشكيل صورته وثقافته ورؤيته لذاته وللعالم، مما يؤدي إلى الحديث عن نزعة إنسانية رقمية، تلعب فيها الحواسيب وشاشاتها وتطبيقاتها الإلكترونية دورا أساسيا في خوض تجربة الحياة. وفي هذا السياق تؤكد عالمة الاتصالات المكسيكية ألخاندرا لاجونز (Alejandra lagunes) أن فلسفة الرقمية تنهض بالقدرة على استخدام التقنيات الرقمية لإنتاج المعلومات وتوزيعها وتبادلها، في ارتباط وثيق بالتغيرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ذات العلاقة بالاستخدام الجماعي لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات وسط تحول رقمي، يغير العناصر المادية بأخرى افتراضية.
وبجانبها الإنساني في اختيار الثيمات وأسلوبٍ زئبقيٍّ يجعل الحكاية تنفلت منك، إذ أنت لم تقرأ وتركيزك عال، وطرحٍ إبداعيٍّ مغايرٍ تنسج الروائية زهور كرام عوالم روايتها ”لا أتنفس”، إذ لا بد لقارئ الرواية أن يحس بنسيم الرقمية من خلال العنوان المتشعب بمدلولاته الممتدة إلى قلب الرواية، والحس السيبراني الوارد في فضاء الحكاية، وانتقال الشخوص من حتمية الواقعي إلى متغير الافتراضي عبر استعمال وسائل التواصل الاجتماعي. إذن ما دلالات لا أتنفس في العمل الروائي؟ وكيف صاغت الروائية عوالم أحداثها؟
1. رواية ”لا أتنفس” وعتبة العنوان: تفرُّع المعنى
على أن القارئ يجد نص ”لا أتنفس” خصبا منفتحا على فلسفة جديدة، تنهض على الثقافة الرقمية والعالم الافتراضي، قرر أن يفكك العنوان باعتباره عنوانا متشعبا ومتفرعا بالقياس إلى النص المتشعب \المتفرع Hypertext، بحسبه شبكة كثيفة من علاقات التداخل متعددة الأبعاد، واعتمادا على هذه الخاصية سيتم النظر إلى العنوان، على الرغم من أن النص المتشعب لا يكون متاحا إلا بوجود الحاسوب وحلقات الربط links التي تسمح بالانتقالِ من موضوع إلى موضوع آخر متصل به، والتخلصِ من قيود الخطية فيصبح بالإمكان التفرع من أي موضع داخله إلى أي موضع لاحق أو سابق. والحق عبر هذه الفلسفة الرقمية والوعي العميق بها، تخط الكاتبة زهور كرام روايتها ” لا أتنفس” عبر الوسيط الورقي.
وبما أن العنوان عتبة من العتبات الأساسية لفهم النصوص واستشراف دلالاتها كما نظّر إلى ذلك النقاد، فإن عنوان الرواية -لا أتنفس-يفرض نفسه على القارئ، ويجبره على التوقف عنده وقفة تفكُّرٍ، فهذا العنوان البسيط في تركيبه عميق في دلالاته ومتشعب، فهذه الجملة الفعلية النافية للحدث\للفعل، هي جملة تنقض فعل التنفس الذي من المفروض أن يحصل بشكل اعتيادي ضمانا لاستمرار حياة المتنفِّسِ، إلا أن العبارة المنفية إقصاء، وإخراج، وتنحية لوجود الشيء الجاري في الزمن. ومن هنا نتساءل: ما طبيعة هذا اللاتنفس؟ وهل يكمن اللاتنفس في قطع إيصال الهواء إلى الرئة فقط؟ وما علاقة ذلك بالموت؟ أليس الموت في أحد معانيه لا تَنفسَ؟ وإلى أي مدى تشعَّبت (بالمفهوم الرقمي) دلالات العنوان في عوالم الرواية؟
لا شك أن العناوين تتجاوز معانيها السطحية -كما هو الحال مع عنوان ”لا أتنفس” الدال على انقطاع الهواء عن الرئة، وانحباس النفس وخروجها، هذا المعنى الذي يأخذ معنى الموت وزوال الحياة-إلى معاني ودلالات أخرى، إلا أن المعنى الأصلي لم يفارقه أيضا من خلال أحداث الوفاة داخل الرواية، لا سيما مع جائحة كورونا التي أدت إلى انقضاء أجل العديد من الشخصيات، كما هو الحال مع شخصية آدم المغربي القاطن بفرنسا والذي مات بها، وتعذر وصول نعشه مع الموتى، فدام انتظار أمه بالتبَنِّي للنعش أسابيع كثيرة ولم تتوصل به، كما سبق وانقطع نفس آخر بشكل حتمي رُصد من خلال حادثة السير التي لفظ على إثرها أخ آدم أنفاسه. ونضيف إلى ذلك حديث السارد عن أولئك الذين قضوا نحبهم جراء انفجار المدينة الإرهابي، وتركهم أشلاء عالقة تحت البنايات، وما جره ذلك من أوجاع عميقة، وهو ما تبلور خاصة مع أم منكوبة تبكي بمرارة وحرقةٍ ابنَها، ”وهي التي دفنته بيديها عندما انتشلوه من تحت الدمار، يتركونها ترقص بجنون قاتل”[1]. فأي نَفَسٍ يبقى؟ وأي حياة تَسُرُّ بعد هذا الوجع؟ ألا تُقبَر الأرواح وهي تخطو فوق الأرض؟
وتنزاح الدلالات في ”لا أتنفس” عن وقف الأنفُس لتأخذ معنى لا أَترفَّهُ ولا سعة لي ولا فسحة ولا فرجة، ففي ظل غياب الترفيه والفرجِ تنقطع أنفاس الناس وتضيق أحوالهم، على الرغم من كونهم أحياء يتجولون بين الأزقة والشوارع، ويقضون مآربهم، لكنهم مختنقون، تخنقهم الحياة بقساوتها ومتاهاتها وأوضاعها الضيقة، فلا يقوون على مقاومة ما فاجأتهم به ولا يعرفون كيفية الخلاص، حيث عانت شخصية الصياد في الرواية من أزمة نفسية عميقة أفقدتها لذة الحياة، فلم تعد تشعر بنعومة الحياة وجمالها، لا سيما بعد انفجار المدينة وما خلفَّه ذلك من دمار وخراب ومشاهد دموية مروعة حولت الإنسان إلى أشلاء، فلم تفارق تلك المشاهد مخيلته، خاصة وأنه العدسة الراصدة لما حدث. والحق، إن ذلك كفيل بخلخلة بنيته النفسية وتدميرها، وتشتيت ذهنه وفقده لنكهة الحياة، وفي هذا الصدد يقول السارد: ” داخل الشقة ليس هناك حياة. حتى عندما يعود بوردة يجدها يتيمة بحديقة محروقة عن آخرها، تذبل الوردة وهي في يده. مرارا بحث عن أسباب الحياة، كيف يعيش وهو لا يُرى؟”[2] وقد عاشت شخصية (س ع) أيضا أحداثا ووقائع غيرت حياتها وأفقدتها بنفسجية الحياة، وجعلتها رهينة الماضي منطوية على صندوقها البني الذي يحمي ويحمل حكاية حبها مع شخصية جسر الدكتور الباحث في شؤون الهجرة الذي تخلى عنها في فترة سابقة، وأوقعتها رغبتها في تجاوز ضيق نفسها ومرارة الفقد في تجربة زواج تعيسة مع زوج مدمن خمرٍ. إن حياة س ع في هذه المرحلة حياة لا نَفَس لها، مخنوقة ومرهقة جدا، وذلك ما وضحه المشهد التالي: ” كنت أغط في نوم عميق … لم أكن أدرى، لم أكن أحس حتى أدري، شيء غير معلوم… أسبح في فضاء مبهم، محتواه ماءٌ، غير أني لا أغرق، هواء غير أني لا أتنفس”،[3] ويتجلى هذا الاختناق أكثر من خلال بوحها:” أبكي، أبكي، إلى حد الصراخ، لا أحد يسمع وجع بكائي”.[4] ووسط هذا الحقل الدنيوي المظلم التي تعيشه شخصية س ع ويجعلها تتلاشى، تحاول تحقيق نوع من التوازن النفسي عن طريق الاسترخاء الذي يفتعل نوعا من الأمن الداخلي لنفسها البشرية، كي تتجاوزَ كدرة الزمن المثقل بما هو نفسي، وضيق المكان الذي فاقم من عزلتها وانطوائها على نفسها في ظل اغتراب العلاقة الزوجية، وتخرجَ من متاهتها التي تمور بأوجاع الحياة.
وتتفرع دلالة العنوان عند اصطدام شخصية آدم بماض عسير عصي عن التجاوز، لا يمكنه إلا العيش به، لتأخذ معنى تعكير طعم الحياة وصفوها، حيث حاول فك طلاسم ولادته والبحث عن أصوله، بعد اكتشاف أن الأم التي يعيش معها ليست أمه الحقيقية، ليست أم حبله السري الذي ما انفك يبحث عنه وأعاق السير الطبيعي لحياته المتفرعة والمعقدة، فراح يعاتب نفسه باعتباره –هو- حقيقة تجلت في الوجود، لا ذنب له في وجودها لكنه يتحمل تبعاتها، خصوصا وأنه أسود البشرة أزرق العينين، وما يجلبه له هذا الاختلاف في سحنة الوجه من توجسات عند الرائي واستفهامات؛ وهو ما يخنقه باعتباره دليلا عن أصوله العالقة التي وشمت ذاكرته، وقد ضيق هذا اللاتطابق في سحنته نفسَه فعمل على تركيب عدسات لاصقة باللون الأسود لتحقيق السلام مع بشرته وتفادي ذلك اللا تناغم الذي يتنفس به ويعكر صفو حياته، إلا أنه لم يفلح، إذ يقول في ملفوظ له: ”أنا الآن أختنق، لا أتنفس، وهناك بعد قليل أو ساعة قد أتلاشى في صمت داخلي”.[5]
وهكذا إذن، وجدت الكاتبة زهور كرام طريقة تتأسس على المغايرة والاختلاف لتحرير عنوان روايتها من قيود المعنى وتفجير دلالاته وانفتاحها على احتمالات متعددة، فضلا عن تفرع هذه المعاني داخل فضاء النص انسجاما مع الحالات التي تعيشها الشخوص، في عالم سردي حافل بالانتقالات والمفاجآت يفتح في كل قفزة سردية آفاقا وإيحاءات غنية ومتفاوتة. وعبر هذا المنطق، يكون العنوان متناغما مع التشعب أو الهابرتيكست في مفهومه الدال على اللاتمركز وتعدد الاختيارات والمداخل والانفتاح الحر والانشطار، وبالنتيجة إعطاء النص فرصة التألق على مستويات شبيهة بمستويات النص الرقمي.
2. البديل الافتراضي: التواصل ورؤية العالم
لا شك أن الانفجار التكنولوجي (الرقمي) غير وجه العالم، وقد باغتنا هذا التغيير وأخذنا على حين غِرة، فحطم تصورنا حول الطريقة التي يسير بها العالم من حولنا.[6] وعلى أن التكنولوجيا دبت إلى جميع أوصال الحياة اليومية، وأثرت في جوانبها المختلفة بما فيها الإبداع الأدبي، فقد استطاع الأدب التعايش مع الإيقاع التكنولوجي الجديد الذي يسم الحياة العصرية، وتَماهى معه شكلا ومضمونا.[7]
وعلى هذا الأساس، ارتكزت رواية لا أتنفس على الفضاء السيبراني في تشكيل عوالم الحكاية، حيث انتقلت الشخوص من حتمية الواقعي إلى متغير الافتراضي الذي أضحى عالما ”بلا حدود، تترابط فيه جميع شعوب العالم كما لو كانوا سكان بلدة صغيرة واحدة”[8]، عبر تأسيس صفحة (مجتمع) ”لا أتنفس” في فضاء التواصل الاجتماعي، يتواصلون من خلالها باعتبارها متنفسا وحيدا ينسيهم هموم اليومي، ومجالا للنقاش وطرح الأفكار والحديث بثقة عالية، وعالما يجدون أنفسهم فيه يساهم في إخراجهم من اعتياديتهم، فضلا عن مشاركة تجاربهم الفردية مع الآخر في ظل المعاناة والأزمات الاجتماعية، ما دام هذا الآخر افتراضيا ومجهول الهوية في كثير من الأحيان، وفي هذا الصدد يقول السارد عن شخصية الصياد:” مرارا بحث عن أسباب الحياة، كيف يعيش وهو لا يُرى؟ فكان الحل في الالتحاق بالصفحة. سمع عنها[…] دخل، تصفح، شعر بأن هناك ما يجمعه بالمقيمين هناك”[9]. ويتضح جليا أن الرقمية أثرت في علاقة الإنسان بواقعه وتجربته في الحياة، واحتلت جميع مظاهرها، وهو ما انسجم مع طرق الحياة الجديدة التي فرضت على الفرد ”اكتساب تقنيات وكفاءات جديدة، والتلاعب بالشبكات الزمنية والوسائل العديدة”،[10] ليضمن مواكبته للعصر. ولا شك أن العالم الافتراضي قد أخرج هذه الشخصيات من عالمها الكئيب وضَيقِ آمالها، فوجدته فضاء مريحا تنسى فيه همومها، وتخلق جسرا ونمطا جديدا وبديلا للحياة، وجعلها تتصرف على الشبكة كما تفعل في العلن، وتعلم أن ما تقوله أو تنشره على المواقع الاجتماعية يعتبر بمثابة إعلان عن موقف واقعي تبحث من خلاله عن متنفس، وهو ما تمظهر في قول شخصية س ع: ”كنت قبل الصفحة أختنق، أختنق سرا وحدي”.[11] ولعل هذا ما جعل جيمس فولو-وهو أستاذ العلوم السياسية في جامعة سان دييغو-يؤكد ” أن العالم الرقمي والعالم الحقيقي، يؤثر أحدهما على الآخر”.[12]
لقد لعب الفضاء الافتراضي دورا كبيرا في تقدم المحكي والتعريف بالشخوص، كما استطاع أن يضاهي الواقع في بعض جوانبه، من حيث حسمه وتشنجه وتأثيره في تغيير سياق الأحداث والتحكم فيها، فضلا عن التأثير في نفسية المتفاعل، فشخصية آدم نُعتت بالتجسس من طرف بعض أعضاء صفحة لا أتنفس، وهو في نظرهم ”عين حاضرة كلما ترك أحدهم تعليقا، يكون هو أول الناظرين والشاهدين والملاحظين. وقد عبر أغلب المنتمين للصفحة، عن تخوفهم من حقيقة هذا الجاسوس، وتساءل البعض عن الجهة التي يعمل من أجلها”.[13] حيث تم الإقرار بحكمٍ غير صائبٍ، لا يحتكم إلى العقل ولا يقدم حججا دامغة، فهو مجرد تخيلات أو وسوسة ارتسمت على حدود عقل بعضهم، فألقَوا بها في فضاء تواصلهم الافتراضي، فانتشرت الشائعة واتقد أوارها، فتفادى آدم الرد أو التعليق على ما يقال خوفا من تفاقم الوضع، إذ يقول عن ذلك: ”جمد أصبعي. لم أحركه، لم أحاول تحريكه. هل أنا خائف؟ رعب يأكلني؟ هل اللغة تخيف؟ مجرد كلمة أصبعي، وأنا أخاف الآن إن حركته، رأوني، فهجموا علي. بقيت جامدا، يتحكم في حركتي أصبعي الجامد عند آخر ضغطة على التعليق، هل يرون حركاتي؟ هل يرون وجودي في الصفحة، ما تزال التفاعلات تُمطِر الشكوك حولي. أنزلت عيني على الصفحة، سرقت آخر تفاعل ما عاد الأخير وأنا أرفع رأسي خشية ضبطي: إنه صامت، ما تجرأ على الدفاع عن نفسه. ملاحظتك صائبة”.[14] ولعل المتأمل لحالة آدم يرى أن تعرضه للوصف بالتجسس وانتشار الشائعة والردود الكتابية داخل الصفحة بين روادها، يضاهي ما كان يُنقَل من أخبار وشائعات في الطرقات والمقاهي، وتبين أن هذا الوضع انتقل ليطال غرف الدردشة الافتراضية، إذ تحتد داخلها هي الأخرى التعليقات لتصل إلى نقطة غودوين (نقطة اللاعودة في النقاش)، فلا يجد بعض المتفاعلين بدا من الرجوع عن مسار ما يُتحدث عنه، باحثين عن المساكنة مع المضايقين الذي يشنون حربا كلامية افتراضية.
إن هذه الشبكات الاجتماعية الافتراضية سمحت بكشف الوعي الذي يحمله مرتادوها، وما يستهلكون من معلومات، ومدى قدرتهم على التحليل وإعمال الفكر، وأصبحت تحاكي المنظومة الفكرية في الواقع كما سبق الذكر، ومن خصائص الفضاء الافتراضي التي استحضرتها الرواية ولع المرتادين به، إلى درجة عدم القدرة عن التخلي عنه وتركه للحظات، فهو أصبح ديدن العديد من شخصيات الرواية الذين لا تكتمل حياتهم إلا به، ولا يمر يومهم دون النظر في صفحاتهم الافتراضية إما للتعليق أو المشاركة أو الدردشة العامة أو الخاصة، حيث يتقابل الأصدقاء من خلال غرف الدردشة في أي وقت يشاؤون؛ وهو ما يبرهن وعي الكاتبة زهور كرام بوجود أفكار مستحدثة تساير التقدم العلمي وتعايشه، فعملت على إدراج الفضاء الافتراضي وتغليبه عن الواقعي في هذا العمل الروائي، ذلك أن الزمان أو المكان لم يعد بإمكانهما فصل الإنسانية عن بعضها، لكون العالم أصبح عبارة عن شاشة زرقاء.
وفي سياق اختلاف الواقع عن المواقع الافتراضية، فكثيرا ما بات يهرب الإنسان من الواقع بمشكلاته المختلفة إلى عوالم الافتراض التي لا تحدها قيود فيحقق في فضائه الافتراضي ما يعجز عن تحقيقه في الواقع ويستمتع بكل شيء، فانبرز مستوى جديدا من الحياة.[15] تقول س ع في هذا السياق عن الإمكانات الهائلة التي فتحها المجال الافتراضي أمامها، لما أنشأت عالمها وشعابها ودروبها داخل حاسوبها: ”شغلت الكومبيوتر، تركت الحياة تعود إليه تدريجيا وأنا أهيئ قهوة صباحي. عيني على صعود رغوة القهوة، وعيني على ضوء الشاشة […] وأنا أدخل إقامة صرت منها وصارت مني[…] وأنا أدخل الإقامة المفتوحة على الدوام، فقد فتحت بابها، ورميت مفتاحها في مكان لا أعرف عنوانه، أنا التي ضيعت الكلمة السرية للمفتاح، لم تضع مني الكلمة، أنا التي فتحت الكومبيوتر ورميت المفتاح في سلة المهملات، ثم فتحت علبة المهملات، وحذفت محتواها، وأقفلتها، ثم أعدت فتحها، إنها لم تعد محمية، ضاعت الكلمة، وضاع مفتاح الدخول إلى الإقامة. تحول الكومبيوتر إلى حي حيث توجد الإقامة”[16]. لقد أدخلَنَا الفضاءُ الافتراضيُّ الرقميُّ غمار نمط حياتيٍّ جديد يتضمن وضعا فكريا بدَّل عملية الوعي وبنية الإدراك، ووسائط الفكر ووسائل المعرفة، واستطاع توليدَ عالمٍ آخر يتحكم بالواقع ومعطياته عبر أنساق المعلوميات وأنظمة الأرقام. وهنا مكمن الاختلاف بين الواقع والمواقع.
وتدْخُل شخصيات الرواية في حوارات تفاعلية ثنائية عبر شاشاتها الزرقاء، لكن ما يلفت الانتباه أن هذه الشخصيات تبقى في الأخير افتراضيةَ الحضورِ وهميةً بالنسبة إلى بعضها بعضا، لا يمكن الوصول إليها دوما، لاسيما إذا أغلق أحدها الجهاز أو حُذف حسابُ أحد الأطراف نهائيا، أو إذا حظرك الآخر من حسابه، فيستحيل متابعته وتعقبه. وعلى هذا الأساس يكون هذا العالم ثنائيا طباقيا، منفيا ومثبتا، مجهولا ومعلوما، ونمثل لهذه الفكرة بوصف السارد لجسر وهو يتصفح فضاء س ع، إذ يقول: ”يخرج عن الخاص ويترجل نحو صفحتها يبحث عنها يريد أن يسأل عن صاحب جملتها الأخيرة، رمت جملتها وانفلتت من الضوء وظل يبحث عنها”[17]، ويبلور هذا الفضاء البوهيمية التي تورط فيه المدردش(المتفاعل)، لأن الكائن -في هذا المجتمع-الافتراضي لا يتعارف بشكله ووجوده الحقيقي؛ وهذا ما جسدته عبارة السارد القائلة عن شخصية جسر: ”مع من يتواصل الآن. مع س ع التي في الواقع ولا يعرفها، ولا يملك إشارات المرور إليها، أو س ع المتجلية أمامه في ”لا أتنفس”، المرأة الأنيقة في كتابتها”،[18] لكنما يتم عبر هويتهم الافتراضية التي يستطيعون تشكليها حسب رغباتهم.
إن متابعي وزوار ومتصفحي صفحة لا أتنفس لا يعرفون أعضاء الصفحة -س ع وآدم وجسر، وباقي أعضائها-ولا يعرفون هويتهم وصورهم الحقيقية باستثناء الصياد وأم وليد، والتي تغير واجهة صفحتها مرة في كل أسبوع، والتي استطاعت بفضل حكايتها التي تنشرها على قناتها بيوتيوب، أن تكتسب شهرة كبيرة، لقد ”تجلت أم وليد أميرة تمشي في قصر أجدادها، تتبعها جميلات بلون العرائس، ويحمل أطفال صغار شموعا أضاءت أم وليد. إنها الآن هنا تحت ضوء الإثارة. انسحب الكل من غرفهم وشققهم وبيوتهم واتجهوا صوب منطقتها.[…] هي أشهر من أكبر عالم أو مفكر، بل تجاوزت شهرتها المغني الذي سطا اليوم هنا عن المشهد، بفرض قانون جيشه الإلكتروني. أم وليد اسم يدخل الصفحة بحكاية وخارج الصفحة وقف المتابعون ينتظرون طلتها”،[19] وتمكنت من خلال ذلك تشكيل جيش إلكتروني من المتابعين والموالين الذين يتفاعلون مع فيديوهاتها في قناتها على يوتيوب، ويتابعون تدويناتها في صفحة لا أتنفس، وشكلوا بذلك طوقا يحمي أفكارها من الهجومات المضادة المخالفة لموضوعاتها، ما دمنا في واقع متحول سريع، كل امرئ فيه يدلي بدلوه من الكلام، في إطار الرأي الذي يفسد الود، وينسى القضية، وهذا ما يؤكده السارد\آدم بقوله: ”انتمت إلى الصفحة وفرخت متابعين كثرا. أصبح عندها جيش من الموالين، يراقبون الحرف والكلمة، ويحرسون كلماتها من كل مس أو أذى، حماة الليل والنهار، إن أنت فكرت مجرد أن فكرت في أن تكون ضد كلامها أو تقف في وجه حكايتها، يلقى بك في قمامة الشتم والسب، وتتحول إلى حكاية منبوذة. […] لم أكن أعرفها. وعندما تعرفت عليها، ابتعدت عن مناوشتها، خِفتُ المتابعين والموالين والمدافعين، لم يكن خوفا بمعنى الخوف المربك التفكير، كان تأجيلا اختياريا”.[20] وعلى أن آدم منعوت بالتجسس، فإنه لم يكن في حاجة إلى وبال جديد يجني عليه، يكون سببا في حظره من الصفحة، ويعطل وصوله إلى المنشورات التي يتقاسمها أعضاؤها.
والحال هذه، إن الإنسان الافتراضي يختلف عن الإنسان في الواقع من حيث الحضور وطريقة تمثل الحياة وخوضها، فشخوص الرواية مثلا اعتادت على الدخول إلى مجتمعها الافتراضي (صفحة لا أتنفس) وخلق جو حياتي متفرد من خلال الدردشة الجمعية، حيث يشعرها هذا الفضاء بالانتماء ويقضي على هشاشة وجودها الاجتماعي، ويساعدها على البوح وكتابة ما يخامرها من أحاسيس دون خجل أو ملامة مادامت لا تمس جهة معينة، ومكنها من التعبير بأريحية ما دامت خلف الشاشة وفي منأى عن أرق الجمهور، تقول شخصية س ع: ”عدت إلى صفحتي أسرد فيها ما أرقني ليلة البارحة هو إحساس بأني لست وحدي، أني صرت منهم، أنتمي إليهم، وأتنفس مثلهم، أختنق من صرخة تبعثرت في الحلق، يتسرب الماء خفية بين الشقوق. أنا عطشانة. أنا لا أتنفس[…] من يومها، وأنا لا أبرح الإقامة في شقتي العلوية. صارت ملاذي في البداية”[21]، وتدل الشقة هنا على غرفتها الافتراضية التي شكلت برجا عاجيا تطل منه على الواقع وترصد تقلباته.
لقد غدا العالم الافتراضي القائم على التقنية شكلاً من أشكال الحقيقة، وضربا من أضرب الوجود الإنساني، تغير معه شكل ممارسة الحياة، والوعي بالزمان والمكان والعالم، تماشيا مع سعي الفلسفة إلى تحديث الأوعاء في كل لحظة تاريخية كبرى تتضمن تحولا كبيرا وعميقا يطرأ على الحضارة الإنسانية، حيث أصبح بإمكانك معرفة الآخر والحديث معه كأنه معك في غرفة تقليدية، وأنت لا تحتاج لأكثر من جهاز حاسوب أو هاتف ذكي واتصال بشبكة الإنترنيت، فالوسيط الرقمي الافتراضي لعب دورا مهما في بناء روابط اجتماعية مغايرة، لم تعد الصداقة فيها تشترط التعايش والتجاور بين الأفراد المقربين فقط، بل أصبحت بين من تفصل بينهم المسافات الهائلة وتختلف أفكارهم وثقافتهم أيضا، وعلى هذا الأساس طرح متفاعلو الصفحة الافتراضية لا أتنفس مختلف القضايا التي يعايشونها وتقاسموا أخبارا ورصدوا تحولات صدَمَتْهم، كاستشهاد الطفل وسيم بسبب الانفجار وتفجع أمه فيه وتألمها الشديد، ومقتل \انتحار الشاب الذي تحول جنسيا لكونه تخلى عن فطرته، واستنكار المدينة الصغيرة لهذا التبديل في الخلق، فضلا عن انعقاد علاقات صداقة وطيدة بينهم عبروا من خلالها عن مواقفهم وطرحوا همومهم، إذ انعقدت صداقة متينة بين أم وليد والصياد عبرها (أي عبر الصفحة الافتراضية) ”يتواصلان بالخاص ويتقاسمان حكاياتهما، ويتعاركان حماية لبعضهما”.[22] وعلى أن مفهوم الافتراضي ارتبط ”بظهور الثقافة التكنولوجية، وتطور مواقع التواصل الاجتماعي، باعتبارها فضاءات غير واقعية، تسمح للمستعمل بأن يكون ذاتا افتراضية، ويمارس أفعالا افتراضية، ويحلم بآفاق احتمالية. أنتجت تجربة الحياة في الفضاء الافتراضي سلوكات وممارسات وخطابات، حررت المقيمين بهذا الفضاء من منطق التفكير في الفضاء الواقعي.”[23] ولقوة هذه المواقع يرى هال أبلسون (Hal Abelson) ورفاقه أن مواقع التواصل الاجتماعي على غرار ماي سبيس إلى حدود 2008، وفيسبوك حاليا وغيرها، أدت إلى ظهور آلاف الصداقات الجديدة والزيجات وغيرها من العلاقات.[24]
وقد سمحت صفحة ” لا أتنفس” ومواقع التواصل الاجتماعي لأم وليد بإمكانية التحرك بسرعة ومرونة وحرية، إذ كانت تعبر عن صوتها وتعلنه، وتتقاسم تجاربها وأحلامها وآلامها. كما وضعت الصفحة خيارات متعددة أمام العامل في النص\الشخصية، وجعلته ”ينتقل من مجرد مستقبل للمعلومة، والتواصل معها إلى متفاعل معها، ومنتج لها، وصانع منها معرفة جديدة …[الأمر الذي جعل هذا الفضاء]… يشكل حالة جذب مثيرة، وبدأ يتحول بسرعة فائقة، وتبعا لزمن الإقامة فيه إلى مجتمع، ونظام، ومنطق، ومعاملات إنسانية، وسلطة مرجعية، وموقع سياسي وإيديولوجي، وعتبة للتحدي الاجتماعي والاقتصادي، وغير ذلك من أنشطة هذا الفضاء”.[25] وعلى هذا الأساس عادت صفحة لا أتنفس حبلى بالهموم والمعاناة التي يعيشها سكانها، وتأثر بذلك كل متابعي الصفحة، ووصلهم صدى الآهات التي يعانيها سكان الصفحة، في تعبير مجازي من السارد\الصياد، يقول: ”فإذا بنا نسمع صوتا صارخا بالصفحة، يضرب يمينا ويسارا، يفتح الغرف والشقق والعمارات، فقد أصبح لبعض الممتلكين عبارات يستأجرون شققها، وعندما يتأخر المكتري ينشرون غسيله المتأخر، ويدخلون إلى الخاص ويرمون بأشيائه حتى الحميمي منها”.[26] إن هذه الصفحة الافتراضية عبارة عن مجمع سكني، تذاع أخباره سريعا، ويُسمعُ صراخُ ساكنيه عاليا، ويتداولون الأخبار والمستجدات، فلا تخفى الأسرار بينهم، كأنهم في قرية يعلم سكانها بما يروج كل حين، يقول الصياد عن الضجة التي حلت بالصفحة والصخب الذي حصل: ”تجدد الصوت الصارخ القادم من الصفحة، غادرنا أنا وأم وليد الخاص، والتحق كل منا بصفحته. كانت الأجواء مكهربة، كلمات متناثرة من السب والشتم والغموض، رجل مجنون أو مشرد يقفز ويلطخ الغرف والشقق مرة بالأسود وأخرى بالأحمر، ولا أحد يعرف مواد الألوان أو حشوة الألوان”.[27] فهذا المجنون يلطخ غرف الدردشة التي هي عبارة عن فضاءات اجتماعية افتراضية يمكن الوصول إليها عبر موقع معين، من أجل فتح جسر للحوار والتقابل والتواصل مع عدد من المشاركين الافتراضيين الذين تجمعهم الاهتمامات والميولات نفسها، ويغير ألوانها على اعتبار أنه يملك إمكانية تغيير الواجهات وألوان غرف الدردشة، وينشر ما يريد عبر الخاص أو الصفحة الرئيسية للشقة الافتراضية أو غرفة الدردشة الرقمية بطبعها.
لقد أصبح من اليسير جدا نشر الشائعات وإيصالها إلى جميع الفئات في ظل هذا التعاطي الكبير والتفاعل مع وسائل التواصل الاجتماعي، ويكفيك أن تنسج حكاية من خيالك وتكتبها للمتصفحين، أو تُمَشْهِدها لمشاهدي الفيديوهات وتنشرها على المواقع، حتى تصل إلى أقصى العالم تصديقا، دون ترك مساحة للتشكيك فيها أو نقدها، أو تَبيُّنِ مصدرها، والتأكد من إمكانية تَزَيُّفِها وتعديل عناصرها والتلاعب فيها عبر مجموعة من البرامج التقنية أكثرها شهرة حاليا deepfakes، ولعل الذي حملنا على ذكر تزوير الوقائع والأحداث، وتغيير هيئة الإنسان بشكل جزئي أو كلي، هو التلاعب الذي تعرضت له شخصية أم وليد، حيث توصل ابنها وليد عبر تطبيق الواتساب بفيديو عبارة عن صوت لأمه في حوار حميمي مع شخص تبين أنه صديقه، وهو ما حمل وليد على توجيه اتهامات خطيرة لوالدته والتقليل من شأنها جراء ما شاهده دون أن يتبين حقيقة ذلك، إذ صدَّق خدعة صديقه الذي ”أخذه الحسد إلى تركيب صوت أمه المشاع في قناتها مع صوته. فكان الفيديو الشهير الذي أطاح بقناة أم وليد”.[28] حيث سرَّع الواقع الافتراضي من وتيرة انتشار الأخبار في العالم، وانعكس أثره سلبا على حياة الإنسان ومقامه الاجتماعي وتَغَيُّرِ موقف الناس تجاهه. وبات الفضاء الرقمي يملك سلطة كبيرة ربما تحطم حياة الإنسان وتفتت علاقاته وهو ما تجلى من خلال حكاية أم وليد. والحق، إن العلاقات الاجتماعية في هذه البيئة الافتراضية ”أصبحت مفتوحة على كل الانتماءات والهويات. إلى جانب عنصر آخر وهو مفهوم الانفتاح اللامتناهي على التجارب الإنسانية، والتي تجعل العلاقات الاجتماعية دائمة التحول والتشكل ضمن منطق الفاعل الشبكي.”[29] وهو ما جسدته حالة شخصية س ع في ارتباطها بالوسط الافتراضي وعلاقتها به، فاقترحت على جسر ”عندما تجاوز الاثنان التواصل الافتراضي، وتواعدهما مساء كل يوم في الخاص أن تقرأ له حكاية من دفتر حكايات صندوقها البني. س ع تعتبر الخاص ملكا لها، تتحرك فيه كيفما شاءت”.[30] وباعتبار الشخصيات عاشت وضعا نفسيا متوترا، فإنها فضلت العيش في فضاء مَوقِعِيٍّ عبر شبكة النت من خلال صيغة الشات،[31] ودخلت في علاقات وحوارات حركت فضاء الرواية.
وبالنظر إلى منطق الزمن الافتراضي الكئيب والفضاء الذي يعبر عن حالة من الاغتراب، تتجلى محنة الذوات المتفاعلة (الشخصيات) في النص مع فكرة الملل والرتابة التي عاشتها وطرحتها في عالمها، ودخولها دوامة التفكير في وضعيتها الوجودية بدءا بآدم ومرارته مع تاريخه المجهول واغترابه في بلد المهجر، ومعاناة س ع مع زوجها وغربتها في بيتها، واستحضار قصتها الغرامية الحزينة مع جسر، وضياع الصياد وتيهه بعد الانفجار الذي تعرضت له المدينة، واسوداد بيته وظلامه، وانعكاس الفراغ على طبيعة الشخصيات وخوائهم الداخلي، فانحصرت فلسفتهم في يومهم وما يقضونه من ساعات طوال في مواقع الشات، في ظل أدنى محاولة للخروج من ذلك، أو إيجاد حل لتجاوز الرتابة والجمود، وهو وضع عزز هيمنة الزمن النفسي باعتباره حالة تعود فيها الذات إلى عوالمها الداخلية المتحسرة والمتأزمة، لا سيما إذا انقطع الاتصال بالآخر \الافتراضي، فانقطاع التواصل في بعض اللحظات، وانطفاء زر الإنارة الذي يُظهِر بقاء المتصل على الشاشة، يزيد من قلق المتصل ويساهم في انهياره، كما يكون بمثابة قطع لأنفاس المتصل المراقب شاشة حاسوبه، يقول آدم مجسدا مشهدَ تواصلِه في وقت متأخر من الليل مع س ع: ”تركتُ بقية الكلام نقط حذف لعلي أدفعها إلى تأجيل النوم […] بقيت جملتي بنقطها تنتظر […] لم أرفع عيني عن شاشة الكومبيوتر، أتخيل أنها ستدخل الصفحة وتصافح جملتي وتطل علي. دمعت عيني من شدة التركيز على الشاشة، عادة أضع قطرتين من محلل مائي على عيني، كلما يبس ماؤها، لم يكن أنبوب المحلل قريبا مني، فخشيت إن نهضت من أمام الشاشة، تدخل س ع وتعود بعد أن تكتشف غيابي […] خفت أن تنفلت ويطفأ ضوء حضورها، علَّقتُ”.[32]
ولا شك أن تردُّدَ الشخصيات على فضائهم الافتراضي اليومي وصفحتهم الخاصة، وولوجهم عالم صفحة لا أتنفس بشكل منتظم ويومي، وهو ما عرته الرواية في سياقات متعددة من خلال: جسر و س ع، آدم و س ع، أدم وأم وليد، أم وليد والصياد، وغيرهم من رواد الصفحة الذين سكتت عنهم الرواية، جَسَّدَ هوس الشخصيات بعالمها الافتراضي وبين مدى تأثيره في نفسيتها، ليتم التسليم منا أن هذا العالم أصبح ملاذهم وديدنهم الذي لا فكاك منه، وحتَّمَ وَضعُ الطوارئِ الصحية الذي شهده العالم جراء تداعيات وباء كورونا التي ألزمت الإنسان بالمكوث بالبيوت وُلُوجَ المرءِ إلى هذا الفضاء بكثافة للتخلص من الضيق والاختناق الكوني، وقد عبر السارد عن هذا الإقبال بقوله: ”والناس مقبلون عليها كما يقبلون على المتاجر الكبرى قبل بداية الطوارئ”،[33] في إشارة إلى رواد صفحة لا أتنفس خاصة، ورواد الفضاء الافتراضي بشكل عام.
وهكذا إذن، استطعنا عبر هذا المحور أن نبرز مختلف تجليات الفضاء الافتراضي الذي عمل على تأثيث الجو العام للرواية، ونقل الكثير من التفاصيل ورصد حقائق الشخصيات وأسرارها وتواصلها عبره. فأمام الضيق والضغوطات النفسية التي تحياها الشخصيات في واقعها لم تجد بدًّا من الانضمام إلى صفحة ” لا أتنفس”، رغبة منها للانزياح عن فراغها والتعبير عن مكنوناتها ومشاركة قصصها، إما من خلال تدوينات على واجهة الصفحة، أو عبر محادثات ثنائية من خلال الخاص بعد التعارف وتوطيد الوشائج بينهما، وما جره ذلك إلى تخصيص حيز زمني للدردشة كل يوم، وتزايد حدة الزمن النفسي -الذي تحتفي به الرواية، والذي أسهم في معرفة العالم الداخلي- عند الشخصية الروائية التي تتوق إلى التعرف على الآخر وتمديد أوقات التواصل معه، مع الخوف والترقب من ضياع هذا الآخر الذي يعطي إحساسا بالوجود الهوياتي ومعنى خاصا لحياتها، إذ تُنقلُ الشخصية من وضعها الواقعي وتُوضعُ في فضاء جديد يؤدي فيه السلك الإلكتروني قناة بلوغ الرسالة، أَلَا وهو فضاء المواقع.
3. الأسلوب التشعبي للرواية
في خضم هيمنة الافتراضي على النص مَرَّرَت الروائية زهور كرام الحكاية إلى القارئ واستطاع أن يلم شتاتها، راصدا مختلف التحولات، عبر أسلوبها الزئبقي المنفلت الذي يكثر فيه الساردون وتتنوع الضمائر، مما يساهم في انفلات الحكاية خاصة مع تحولات الحكي السريعة، مولدة أثرا عاطفيا فنيا مخيبا أمل المتابع والقارئ في كل حين، وكاسرا نمط قراءته أمام تداخل الساردين الذين يحكون عن أنفسهم أو يحكون عن شخصيات أخرى.
وعبر الانتقالات بين الضمائر واختلاف الساردين تأخذنا الكاتبة إلى عوالم ”الرواية الرقمية” المعروفة بتشعب روابطها، وكثرة احتمالاتها وفراغاتها، وكسرها لخطية السرد، وتغيير أفق القارئ الذي ما يكاد يملأ فراغه السابق أو لم يكمله بعد، إلا وتنفتح أمامه فراغات أخرى تُعَدِّدُ الاحتمالات، تحتاج زمنا قرائيا لفهمها وملئها، وهو الأمر الذي جعل هذه الرواية جوهرية، باعتبارها بحثت عن الاختلاف في طرحها، ”لأن الرواية حين تستقر على شكل معين تنتهي من كونها إبداعا لتصبح أي شيء آخر، رتابة…وموتا”.[34]
إننا نتحدث عن المترابط والتشعبي في الرواية باعتباره شكلا استقت تصور شكلها وطريقة بنائها منه، وتحدثنا آنفا عن الافتراضي باعتباره فضاء سردت أغلب أحداث الرواية داخله، وبالنتيجة إعطاء النص فرصة التألق على مستويات شبيهة بمستويات النص الرقمي. ومن هذا المنطلق يرى حسام الخطيب أن ”سرعة القفز من مجال دلالي إلى آخر، ولطافة الإشارة وغموضها، والتلاعب الماهر بالضمائر والأصوات والأزمنة والمشاعر… تجعل الكتابة شبه مستعصية […] ولكن مما يشجع المرء ويدفعه إلى المغامرة أن النص في تجربته الإبداعية هو بالضبط نص متفرع”.[35] وَإِذَا كَانَ النصُّ المتفرع الذي يعتمد على الحاسوب والشبكة والقائم على الدمج والتفاعل بين النصوص المكتوبة والصور والأصوات والأشكال الجرافيكية، يساعد على القراءة قراءة غير خطية، تتجاوز الثوابت المتعارف عليها في القراءة التقليدية[36]، فإِنَّ زهور كرام عبر وسيطها الورقي استطاعت خصوصا في فصلها الأول الموسوم ب ”احتمال” أن تُفَاعل بين مقاطعَ سرديةٍ مختلفةٍ تدمجها في سياق واحد، وتضعها في تسلسل عمودي يمكنك من قرَاءتها قراءة سطرية، تتداخل فيها مرويات السارد وتتعدد، ليغلف غياب الإحالات ما يحكى. وقد شكل التعدد نواة تفرعت عنها أحداث النص في علاقتها مع الشخصيات وباقي عناصر السرد، ووجدها القارئ ممتدة ومتفرعة في اللاحق من فصول الرواية بشكل لولَبِيٍّ، حيث تكتمل المعاني التي ظلت ناقصةً عصيةً عن الفهم مُعسِّرةً إمكانيةَ التنبؤ بعوالم الرواية وفك رموزها وطلاسمها، مما جعل القارئ يتساءل: عما تتحدث الرواية؟ ومَنْ المقصود مِن الشخوص؟ ومن يسرد؟ وهو ما يُنبِيك أن الروائية اختارت في تقديم نصها السردي ”لا أتنفس” ما وَسمْتُهُ ”بالأسلوب التشعبي والمتفرع”.
ولربما يؤاخذنا بعضٌ على هذه الرؤية المنوطة بمنح اسم تشعبي ومترابط لنص ورقي، وعلى هذا الأساس نرد بقولنا إننا أخذنا باسم المتفرع والتشعبي من ناحيته اللغوية من جهة أولى، وبالارتكاز على رؤية تيودور هولم نيلسون (Theodor Holm Nelson) الذي عرف النص المتفرع بأنه النص الذي يعتمد أسلوب الكتابة غير التعاقبية من جهة ثانية. والقصد من وراء ذلك أي نص مكتوب، ورقيا كان أو إلكترونيا. بشكل غير تعاقبي، بحيث يتفرع ويتشعب.[37] وقد ذكرت فاطمة البريكي مثالا استحضره فيليب ساير (Philip seyer)، حيث اعتبر أن الصفحة الأولى لجريدة ما أقرب إلى تمثيل مفهوم النص المتفرع، وعلَّلَ ذلك بكون هذه الصفحة الواجهة تمنح قارئها حرية القراءة، دون أن تفرض عليه خطا ثابتا يتقدم فيه من الأمام إلى الخلف لكي يحصل على ما يريد، كما أن معظم العناوين على الصفحة الأولى لأي جريدة يمكن أن تمثل رابطا تشعبيا كتلك الروابط المستخدمة في (النصوص المتفرعة) الإلكترونية، وكذلك الحال في العناوين الرئيسية على الصفحة الأولى للجريدة، التي تحيل إلى تفاصيلها في صفحات داخلية،[38] وقد تناسب هذا الطرح مع ما قدمته رواية ”لا أتنفس”. ولا مناص من أن الناظر إلى المقاطع التي سنوردها، سيلاحظ الطريقة التكوينية التفرعية للرواية:
”رفرف معها قلبها ربما لأول مرة، تعود غارسة رأسها في ظهره، تحمل إليها الرياح أصوات العاشقين وهو ينتظرون الغروب قبالة البحر، وتختلط الأصوات بأغنية قادمة من اليونان..
هل كان عليها أن تتركه يخرج بكعبه العالي الملون حتى يقص شعره أو بعضا من طول شعرهِ، رأفةً بهَا؟
عادت أم وليد من زيارة لابنها المهندس بشركة دولية.”[39]
”وعند الجهة المقابلة لمحطة الحافلات، يرقد منذ أكثر من نصف يوم. إنه غير ميت، إنه يتنفس، صدره يهتز وإن كان جسده مسجى على شكل ميت.
في رقة عين، تنفجر مدينة بكاملها، تقذف السفينة قمامتها، وتختفي.”[40]
”اليوم الجمعة، ما تزال تعتقد بيقين العودة. إنها خارج الاحتمال، حرجت مبكرا، لم يكن معها رفيق أو رفيقة، عادة، تأخذ سيارة أجرة كبيرة، تدفع تذاكر المقاعد كلها ذهابا وإيابا، تصل إلى المطار، يظل السائق ينتظر عودتها.”[41]
”هل نَسِيتْ الطريق إلى سيارة الأجرة؟
لكنها، منذ أسابيع وهو يأتي بها إلى القطار، ويظل ينتظر حتى تعود.
وتصل إلى السيارة دون أن تضيع.”[42]
ولعل متأمل هذه المقاطع بالفصل الأول الموسوم ب”احتمال”، وغيرها من المقاطع التي يمور بها، سيخمن أن ضمائر الغائب أو الغائبة تعود على أم وليد وعلى وليد ابنها وصديقته، وسيصعب على القارئ تحديد الشخصيات التي تعود الضمائرُ عليها والسردُ عند القراءة الأولى والثانية، خاصة إذا لم يتجاوز هذا الفصل وتوقف عند تخومه. إن هذا الفصل عبارة عن روابط متفرعة تبعث على الاحتمال وتؤدي إلى مسارات عديدة للحكي، توجد معانيها متفرقة في صفحات الرواية، ولا شك أنها تظهر غير منسجمة للوهلة الأولى، ولا تؤدي إلى الهدف المنشود بشكل مباشر،[43] لكنما خيوطها في الأصل ترتق في ذهن القارئ مع تقدم السرد والانتقال إلى الفصول اللاحقة، وتنفك مغاليقها مع تتبع مسار الأحداث والتركيز على تغير الضمائر ومنظور الساردين.
والحال، إن ارتكاز الرواية على ضمير الغائب لتقديم الأحداث والشخصيات خاصة في الفصل الأول والثاني جعل رؤية القارئ مبهمة. وعلى أَنَّ الضمائر لا تفصح عن شخصياتها ظَلَّ كل ما يتعلق بالسرد في هذا الإطار منغلقا؛ مما صيَّر القارئ يتعثر بالفراغات التي توقف زمنه القرائي في محاولة ذهنية كبيرة لفهم الحكاية، واستحضار الشخصية المعنية بالحكي، وللتوضيح نذكر على سبيل التمثيل لا الحصر المقطعين التاليين:
المقطع 1: ”قيل إن النعش يصل في فجر الجمعة، محمولا على الخطوط الجوية الوطنية، كانت وصيته أن يعود في طائرة خطوط وطنه”.[44]
المقطع 2: ”ذات صباح اقترب من فصل الصيف، أقسم مع نفسه، وهو يخترق باب المؤسسة، ألا يعود إلى المؤسسة، انفلت القَسمُ منه دون سابق تفكير”.[45]
لا جدال أن المقطعين لا يكشفان حقيقة المتحدَّث عنه، وهو ما يربك حسابات القارئ. يعود السرد في المقطع الأول على آدم، بينما يناط في المقطع الثاني بجسر دكتور الهجرة والنزوح، وعبر هذه المادة النصية وحركتها الداخلية تنبني الحكاية وتتشكلُ، وفي ضوء هذه المعطيات يدرك القارئ أن هذا الأسلوب سر من أسرار اللعب الفني، وعليه ممارسة لذة القراءة من موقع المعرفة بفنية الكتابة، وأسرار لعِبها.[46]
ونضيف إلى المقطعين السابقين ما يلي للتأكيد على الغموض الذي يعترض القارئ:
”كان يستيقظ مبكرا، قبل أن تستيقظ باريس، ويظل يمشي ويمشي، يبدأ خفيف الخطوات، ثم تتسارع الخطوات مع استيقاظ باريس […] واستمر المشي حتى شارع شونزيليه”.[47]
”الرئيس يتابع عملية توقيع الحاضرين محضرين الاجتماع، وكأنه لم يسمع تعليقا وقعه دكتور جديد قادم من خارج البلد”.[48]
ولا مناص من أن هذا التشابه في المكان المتجلي في: ”استمر المشي حتى شارع شونزيليه”، و”دكتور جديد قادم من خارج البلد”، يحيل القارئ ويؤكد على أن السرد منوط بشخصية واحدة، عاشت هذه التحولات المكانية من باريس إلى أرض الوطن إلا أن التقدم في الحكي، وتتبع مساراته يخيب توقعات القارئ، ويضعه في موضع الصدمة الفنية ليكتشف أن الأمر يتعلق بشخصيتين هما على التوالي: آدم وجسر. كما تضمن الفصل الثاني الموسوم ب ”سارد تحت الضوء”، تفرعات عديدة عبر محكيات طويلة لا تقل عن صفحتين، مرقمة من1إلى5، والجدير بالذكر أن هذه المحكيات انسلتْ مما رُوِيَ بالفصل الأول وانبثقتْ، حيث بدأ التوسع فيها وتخصَّصَ كل محكي بتقديم شخصية من الشخصيات دون الإشارة إلى الوشائج التي تربطها ببعضها.
وبعد تقديم الفصل الثاني لمجموعة من التفاصيل حول الشخصيات بضمائر وزوايا نظر متعددة، وما عاشته من تجارب أو تعيشه، يتم الإفصاح عن الشخصيات ويُذكَر اسمها حتى تتحدد رؤاها للعالم، فافتتح ”بآدم” الذي تم تقديمه في قالب تكويني، يعتمد على تقنيات تجريبية صرف. وقُدِّمَت سيولة المعلومات بطريقة دقيقة تدريجية لم تُسعف القارئ في ملء فراغاته الكبيرة عن الشخصية إلا بعد لأيٍ وتقدُّمٍ في القراءة. وبدأ السارد بالحديث عن طفل كان نائما بجوار المحطة/ سأله مرة الطبيب النفساني/ حكى عن طفولته بعد هربه من البيت/ معاناته في الشارع والتشرد مع سعيد/ البحث عن الأم/ يعترف للدكتور بذلك عبر تواصلهما الإلكتروني عبر (الإيميبل)/ هو طفل حي الظلمة/ أخ بشرى.[49] ويتابع الساردون حَكيَهم فَيُكشَفُ أن آدم وجد نفسه بعد سنين من العيش متشردا في إحدى البواخر عاملا بها مقابل أكله، إلى أن هاجر إلى الضفة الغربية واستقر بفرنسا. ولا شك أن سيرة آدم لا تتجلى للقارئ وتكتمل معالمها إلا مع المقطع التالي الموجود بالصفحة الثامنة والثمانين. يقول السارد: ”مَنْ يريد أن يعرف تاريخ آدم من حي الظلمة إلى حي سان جرمان بباريس وكيف انتقل من استفهام هاج ذات ليلة بعد أن رمت أخته بشرى كلمة حولته إلى عابر في المحطات والعتبات والشاحنات والبواخر إلى صاحب متجر تجاري بضاحية بباريس تقطن فيها جنسيات عديدة ينتظرْ”،[50] وفي هذا المقام تم الربط بين جميع الخيوطِ الفاتلةِ حياةَ آدم، وسُطِّرت المحطاتُ الحاسمة التي شكلت علةً في تغيير مسار حياته.
وهكذا، إن ما تم اعتماده من طريق اختياري للسرد جعل القارئ في متاهة، نظرا لتشابك ضمائر السرد وسرعة انتقالها، وتعدد ساردي النص، ويستمر تنوع الساردين وغياب التصريح في إرباك القارئ، يقول آدم: ”ثم هل هي امرأة بالفعل، أم رجل يختفي وراء ضمير أنثى. هي تضع اسما بحرفين مستقلين عن بعضهما ”س ع”.
– كيف إذن، تأكدتَ من أنها امرأة، وليس مثلا ”سليمان علي” أو ” سالم عمر”…
– إحساس، نعم إنه إحساس بأني أكلم امرأة”.[51]
وبعيدا عن مناجاة السارد لنفسه في خطاب/حوار داخلي، يتفطن القارئ عند متابعة المشهد أن السارد آدم يحاور الدكتور، وهو ما يتجلى من خلال قوله: ”أنت تتهكم علي دكتور. أنا مكتف بهزيمتي”.[52]
والحال، إن هذا الاختيار السردي في الرواية، يجعل النص صعب التناول على القارئ المستعجِل، ويستدعي قراءةً يتفاعل معها وحضورًا فعالا، كما أن التعقيد في النص المتفرع والمَتَاهِي (نسبة إلى المتاهة) يُعَدُّ ”جزءا متمما للعملية الأدبية، ويحتاج هذا النص إلى مجهود غير بسيط من القارئ ليسمح له بالنفاذ إليه، ودخول فضاءاته”.[53] حيث إن هذه المتاهة السردية صيَّرَت القارئ ضائعا، مستكشفا مسارات سرية، متبعا قواعد اللعبة. وقد أحدثت هذه التحولات القرائية خللا، وخيبت تطلعات الناقد، وأخذت في التأثير على منظوره وحكمه في علاقته بالنص السردي.[54]
خاتمة
لا شك أن إشكالية الفضاء الافتراضي المطروحة في البنية الروائية، -بحكم أن ما بات يعرف اليوم بالافتراضي هو حدث من أحداث السيرورة البشرية، متح من التطور التكنولوجي، -خلخلت نمط الحياة الاعتيادي القائم على القرب المادي من الشخص، وخلق هذا النمط الجديد (الافتراضي) نوعا من القلق الوجودي زعزع من خلاله شكل حضور الإنسان في العالم. وهذا ما انسجمَ مع طرح الرواية من خلال صفحة لا أتنفس التي شكلت مجتمع شخوص الرواية وفضائهم اليومي، وعبرَ في الحقيقة عن انتقال جزء كبير من الأنشطة الإنسانية إلى العوالم الرقمية، وباتت التقنية خلف هذا التغير الجذري لعلاقتنا مع العالم، فاستبدلت الواقع بالمواقع، التي تمّ التعامل معها بعدِّها واقعاً. [55]
وأما على صعيد الأسلوب فقد اجترحت الروائية زهور كرام أسلوبا مغايرا لروايتها، متمثلا في الأسلوب التشعبي المتفرع القائم على الاحتمال، الذي يكسر خطية السرد ويربك القارئ ويضعه في متاهة، فضلا عن تعدد الساردين والتنويع في ضمائر السرد وتبدل المنظورات بشكل سريع وفوري. ونظرا لهذا الإرباك غير المعتاد في طريقة السرد، صعب عند الوهلة الأولى مسك خيوط الحكاية، وتحديد معالم الشخصيات والتفريق بينها، لا سيما مع كثرة الفراغات التي لا تملأ إلا عبر القراءة الـــمُتَكَسِّرة التي تعتمد التقدم في الصفحات والرجوع إلى ما قبلها للتثبت من عودة الحكي على شخصية بعينها، وتشكيل صورة عنها مترعة بالصفاء الهوياتي. كما أن الأسلوب التشعبي تمظهر بشكل جلي من خلال مداخل كبرى تفرعت عنها المحكيات وتشعبت، ليجد القارئ خيوطها المُنْشَبِكَة موزعة بين فصول الرواية، تاركة له فراغات جمة حاول في كَبَدٍ ملأها، وبدأت الشخصيات في التكوُّنِ من خلال الوقائع والأحداث التي يرويها الساردون أولا، وعبر تعرية عالمها الداخلي من خلال تعريفها بنفسها ثانيا، ليتم العمل تدريجيا على كشف هوية الشخصيات وتحديدها بشكل صريح. وصفوة القول، لقد استمتع القارئ بهذه التجربة الأسلوبية المـُنْفَتِلَة والمربكة، التي سعت إلى تحطيم القوالب والأنماط الثابتة والصيغ الجاهزة، والتخلص من القاموس والشكل الفني التقليدي الذي دأبت عليه التجارب الإبداعية ردحا من الزمن، واعتبرها لعبة فنية عصية حاول بآلياته النقدية أن يسبر أغوارها ويرصد مغايرتها.
بيبليوغرافيا
المصدر
كرام (زهور)، لا أتنفس، دار فضاءات للنشر والتوزيع، عمان، ط1\2021.
المراجع باللغة العربية
البريكي (فاطمة)، مدخل إلى الأدب التفاعلي، المركز الثقافي العربي، المغرب، ط1\2006.
الخطيب (حسام)، الأدب والتكنولوجيا وجسر النص المفرع، المؤلف، رام الله، ط3\2018.
العيد (يمنى)، تقنيات السرد الروائي في ضوء المنهج البنيوي، دار الفارابي، لبنان، ط3\2010.
كرام (زهور)، الأدب الرقمي، أسئلة ثقافية وتأملات مفاهيمية، رؤية للنشر والتوزيع، ط1\2009.
كرام (زهور)، الإنسانيات والرقميات وعصر ما بعد كورونا، دار فضاءات للنشر والتوزيع، ط1\2021.
المراجع الأجنبية المترجمة
أبلسون (هال)، لويس (هاري)، ليدين (كين)، الطوفان الرقمي: كيف يؤثر على حياتنا وحريتنا وسعادتنا، ترجمة: أشرف عامر، مؤسسة هنداوي، القاهرة، 2014.
أنتوم (أليس)، الصحافة الرقمية، ترجمة: سامي عامر وجورج سعيد، ثقافة للنشر والتوزيع، الإمارات، أبو ظبي، ط1\2017.
المراجع الأجنبية
Aarseth (Espen J), Cybertext: Perspectives On Ergodic Literature, Johns Hopkins University Press, 1997.
المراجع الإلكترونية والمواقع:
سناجلة (محمد)، رواية الواقعية الرقمية، كتب عربية للنشر والتوزيع الإلكتروني، [د.ط]، [د.ت].
اليحياوي (يحيى)، بنية الثورة الرقمية: فلسفة التكنولوجيا، ستيفان فيال، أطروحة في الفلسفة، موقع مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، الرابط المختصر: https://shortest.link/ffJV، يوم الزيارة، 26\01\2023.
[1] – زهور كرام، لا أتنفس، دار فضاءات للنشر والتوزيع، عمان، ط1\2021، ص: 114.
[2] – المصدر نفسه، ص: 117.
[3] – زهور كرام، لا أتنفس، مصدر سابق، ص: 141.
[4] – المصدر نفسه، ص: 141.
[5] – المصدر نفسه، ص: 23.
[6] – هال أبلسون، هاري لويس، كين ليدين، الطوفان الرقمي: كيف يؤثر على حياتنا وحريتنا وسعادتنا، ترجمة: أشرف عامر، مؤسسة هنداوي، القاهرة، 2014، ص: 21.
[7] – فاطمة البريكي، مدخل إلى الأدب التفاعلي، المركز الثقافي العربي، المغرب، ط1\2006، ص: 70.
[8] – هال أبلسون، وآخرون، الطوفان الرقمي، مرجع سابق، ص: 35.
[9] – زهور كرام، لا أتنفس، مصدر سابق، ص: 117.
[10] – أليس أنتوم، الصحافة الرقمية، ترجمة: سامي عامر وجورج سعيد، ثقافة للنشر والتوزيع، الإمارات، أبو ظبي، ط1\2017، ص: 11.
[11] – زهور كرام، لا أتنفس، مصدر سابق، ص: 78.
[12] – أليس أنتوم، الصحافة الرقمية، مرجع سابق، ص: 154.
[13] – زهور كرام، لا أتنفس، مصدر سابق، ص: 41.
[14] – زهور كرام، لا أتنفس، مصدر سابق، ص: 41.
[15] – محمد سناجلة، رواية الواقعية الرقمية، كتب عربية للنشر والتوزيع الإلكتروني، [د.ط]، [د.ت]، ص: 13-14
[16] – زهور كرام، لا أتنفس، مصدر سابق، ص ص: 142-143.
[17] – المصدر نفسه، ص: 81.
[18] – المصدر نفسه، ص: 78.
[19] – المصدر نفسه، ص ص: 42-43.
[20] – زهور كرام، لا أتنفس، مصدر سابق، ص ص: 108-109.
[21] – المصدر نفسه، ص ص: 144-145.
[22] – المصدر نفسه، ص: 120.
[23] – زهور كرام، الإنسانيات والرقميات وعصر ما بعد كورونا، دار فضاءات للنشر والتوزيع، ط1\2021. ص ص: 37-38.
[24] – هال أبلسون، وآخرون، الطوفان الرقمي، مرجع سابق، ص: 39.
[25] – زهور كرام، الإنسانيات والرقميات، مرجع سابق، ص: 39.
[26] – زهور كرام، لا أتنفس، مصدر سابق، ص ص: 122-123.
[27] – المصدر نفسه، ص: 125.
[28] – زهور كرام، لا أتنفس، مصدر سابق، ص: 131.
[29] – زهور كرام، الإنسانيات والرقميات، مرجع سابق، ص: 43.
[30] – زهور كرام، لا أتنفس، مصدر سابق، ص: 76.
[31] – زهور كرام، الأدب الرقمي، أسئلة ثقافية وتأملات مفاهيمية، رؤية للنشر والتوزيع، ط1\2009، ص:86.
[32] – زهور كرام، لا أتنفس، مصدر سابق، ص ص: 89-90.
[33] – المصدر نفسه، ص: 43.
[34] – محمد سناجلة، رواية الواقعية الرقمية، مرجع سابق، ص: 34.
[35] – حسام الخطيب، الأدب والتكنولوجيا وجسر النص المفرع، المؤلف، رام الله، ط3\2018، ص: 181.
[36] – فاطمة البريكي، مدخل إلى الأدب التفاعلي، مرجع سابق، ص: 15.
[37] – فاطمة البريكي، مدخل إلى الأدب التفاعلي، مرجع سابق، ص ص: 26-27.
[38] – المرجع نفسه، ص: 27.
[39] – زهور كرام، لا أتنفس، مصدر سابق، ص: 11.
[40] – المصدر نفسه، ص: 12.
[41] – المصدر، نفسه، ص: 13.
[42] – المصدر نفسه، ص: 14.
[43] – Espen J. Aarseth, Cybertext: Perspectives On Ergodic Literature, Johns Hopkins University Press, 1997, p: 5.
[44] – زهور كرام، لا أتنفس، مصدر سابق، ص: 24.
[45]– المصدر نفسه، ص: 27.
[46] – يمنى العيد، تقنيات السرد الروائي في ضوء المنهج البنيوي، دار الفارابي، لبنان، ط3\2010، ص: 20.
[47] – زهور كرام، لا أتنفس، مصدر سابق، ص: 24.
[48] – المصدر نفسه، ص: 28.
[49] – زهور كرام، لا أتنفس، مصدر سابق، يجد القارئ التفاصيل في ص ص: 17-18 و37-39.
[50] – المصدر نفسه، ص:88.
[51] – المصدر نفسه، ص: 91.
[52] – زهور كرام، لا أتنفس، مصدر سابق، ص: 92.
[53]– Espen J. Aarseth, Cybertext, p:1.
[54] -Ibid, p:3.
[55] – يحيى اليحياوي، بنية الثورة الرقمية: فلسفة التكنولوجيا، ستيفان فيال، أطروحة في الفلسفة، موقع مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، الرابط المختصر: https://shortest.link/ffJV ، يوم الزيارة، 26\01\2023.