الروائي العربي، من كاتب إلى مبرمج “
Arab novelist, from writer to programmer
إعداد الطالبة الباحثة: حنان الراجي را. جامعة ابن زهر أكادير- المغرب
Prepared by:Hanane RAJIRA, IBN ZOHR AGADIR- MOROCCO
مقال منشور في مجلة جيل الدراسات الادبية والفكرية العدد 71 الصفحة 81.
Summary:
Technology has touched everything around us, so the change it transmits reached even the word, which is no longer sufficient in the new literary production that led to the creation of new concepts for the writer, the recipient and the text. So the features of literature enriched by technology changed, and their product was interactive digital literature.
The interactive novel is one of its manifestations. It is a game in which the writer alone does not have its rules, but the receiver participates in it, because he can determine its paths. Therefore, it is open to the participation of the readers it’s production, because today’s reader is constantly trying to live up to the level of participation in making events. And the interactive text, accordingly, does not believe in the single creator, but rather adopts the collective authorship. Each reader completes it in his own way, according to his intellectual vision and mood.
Key words: Technology – digital literature – computer – interactive novel
ملخص:
لقد مست التكنولوجيا كل شيء حولنا، فطال التغيير الذي تبثه حتى الكلمة، التي ما عادت تكفي في الإنتاج الأدبي الجديد الذي أفضى إلى خلق مفاهيم جديدة للكاتب، والمتلقي والنص. فتغيرت ملامح الأدب الذي أخصبته التكنولوجيا، فكان وليدهما الأدب الرقمي التفاعلي.
وتعد الرواية التفاعلية إحدى تجلياته. وهي لعبة، لا يمتلك الكاتب وحده قواعدها، بل يشارك فيها المتلقي، لأنه يستطيع تحديد مساراتها. فهي إذا مفتوحة لمشاركة القراء في كتابتها، لأن قارئ اليوم يحاول باستمرار أن يرقى لمستوى المشاركة في صنع الأحداث. والنص التفاعلي تبعا لذلك، لا يؤمن بالمبدع الواحد، بل يتبنى التأليف الجماعي. فكل قارئ يكمله بطريقته الخاصة حسب رؤيته الفكرية، ومزاجه..
الكلمات المفاتيح: التكنولوجيا- الأدب الرقمي- الحاسوب – الرواية التفاعلية
على سبيل التقديم:
لطالما تعاقبت مجموعة من العلوم على إخصاب رحم الأدب، فكما تتمازج العلوم وتتداخل، ويفيد بعضها من الاخر. فإنها ولاشك تلقي بظلالها على الأدب. ورغم أن هذا الأخير يبدو وكأنه بعيد عن أي تطور تكنولوجي، نظرا لاختلاف طبيعته، عما تقدمه التكنولوجيا، فإن خير دليل على إمكانية التلاقح بينهما، ما يؤكده العصر التكنولوجي، من إفادة الأدب من الثورة المعلوماتية، والتكنولوجيا الحديثة. وقد كان الأدب الرقمي ذاك الابن الشرعي، للعلاقة بين الأدب والتكنولوجيا. ولا يخفى على أحد اليوم، ما يميز هذا النوع من الأدب الذي غير مفهوم العملية الإبداعية ككل، وأثر بشكل كبير على عملية تلقي الأدب، لكونه لا يستهدف متلقيا عاديا، بل يبحث عن ذاك المتلقي الذي يستهويه الأدب، وفنيته، وتجذبه التكنولوجيا وعلميتها. فقد كان الأدب الرقمي على غرار مختلف الكتابات الإنسانية، تعبيرا صريحا عن روح العصر، واستفادةً من التطورات التي يعرفها المجال التكنولوجي. فدخول الادب عوالم الرقمية صار أمرا حتميا لا مفر منه. لأنه الكفيل بضمان الاستمرارية للأدب، والمحافظة على مكانته كونه مرآة للعصر، وعاكسا لكل التطورات والتغيرات التي يشهدها.
ويمكن القول بأن الأدب يتشرب اليوم أفكارا ونظريات ومفاهيم من علوم مختلفة، فينهل من علم الاجتماع ومن الطب والتاريخ والفيزياء والكيمياء والتاريخ وعلم النفس.. حتى أنه صارت تمحى أية حواجز ممكنة بين التفكير العلمي والأدبي. خاصة الرواية التي تتسم بالانفتاح الكبير على مختلف الأجناس الأدبية، والمعارف والفنون والعلوم. وهذا الاختراق البين لتلك الحواجز، إنما هو نابع من رغبة قوية في إغناء جوهرها، وتمييز خطاباتها، وتنويع متلقيها.. فلا يخفى عليك وأنت تقرأ رواية من هذا القبيل، وتجول بين أحداثها المتتابعة، ومضات من تفكير ماركس أو فرويد أو إدوارد سعيد أو اينشتاين.. كما لا يمكن ألا تحس في خطابها حرية، وانفتاحا غير مسبوقين. وبُعدَ أفقٍ منقطع النظير. فلقد صرنا اليوم نسمع عن موضوعات شتى، ما كان لمتلقي الأدب سابق عهد بها، كانت من بين ما خلفته علاقة الأدب بالثورة المعلوماتية الحديثة. ومن أبرزها نذكر، تأثير وسائل الاتصال الحديثة على تيمات رواية الخيال العلمي، وجعل أدوات الاتصال مادة روائية، وتأثيرها على البناء الروائي، وتغير الرواية في عصر الصورة، وتحول اللغة السردية في الرواية الحديثة، وظهور الرواية التفاعلية..
لا مشاحة في القول بأن الانسان المعاصر صار يعرف أكثر من سابقيه، وصارت المعارف والعلوم متاحة بالنسبة له مقارنة مع ما كان عليه الحال قديما. تتراكم المعارف، وتتطور العلوم، وتتضاعف المعلومات من حولنا، لدرجة لم يعد الانسان قادرا على مواكبة هذا التقدم السريع، الذي طال كل شيء. فخلق نوعا من الفوضى، وتساؤلات كثيرة عن وضعه داخل السيرورة الكونية. ويقينا تاما بأن الاستمرارية تتطلب التغيير. وهذا الأخير يتطلب إعادة النظر في ذواتنا، وما يحيط بهذه الذوات. وربما تكون الرواية عاملا مهما في تحقيق هذا الفهم، لأنها تمثل صورة عن حياتنا، والزمن الذي نعيشه. وتعبيرا صارخا عن القلق الذي لا يغادر تفكيرنا. بل هي تجسيد للمجتمع الذي نحلم به، والحياة التي نريدها. وما السرديات التفاعلية بشكل عام، إلا إشارة لاستجابة الأدب لضرورات التغيير، الذي فرضته الحداثة، والثورة المعلوماتية. وذلك اللقاء هو ما خلف لنا شعرا تفاعليا، وقصة تفاعلية، ورواية تفاعلية..
ولاشك أن القارئ العربي يتساءل باستمرار عن سبب كون كتابة النص المترابط في الثقافة العربية جد محدودة. ففي العالم العربي، لا تزال الوسائط المتفاعلة بعيدة عن الاستعمال الصحيح والكافي. فبقدر ما يعد اعتمادها خجولا هنا، فقد قطعت أشواطا مهمة في الغرب. ويقود الجواب عن هذا السؤال للتفكير في تعامل العالم العربي ككل مع التطور السريع لنظريات علوم التكنولوجيا الجديدة، للتواصل والاعلام. الذي يتسم بكثير من المحدودية. وهي عناصر لا محيد عنها للتفكير في ممارسة كتابة النص المترابط. كما يمكن الاشارة كذلك إلى ابتعاد الكتاب عن دخول عالم الوسائط المتفاعلة، وعزوف المثقفين عن اعتماد البرمجيات الحديثة. فالحديث عن رواية تفاعلية في المشهد العربي، باعتبارها نصا رقميا، يخلق قطيعة تاريخية وأدائية مع ما قبلها من نصوص ورقية، لا زال مرمى في بداية الطريق. خاصة مع قلة الانتاجات الروائية من هذا القبيل.
وبهذا المعنى، فإن الروائي المعاصر يجب أن يأخذ كل الاكتشافات العلمية الحديثة، والتطورات الهائلة والمعقدة في حقول العلوم المختلفة، بعين الاعتبار، خاصة حين تعتمد الرواية في تفاصيلها، على واحد من هذه العلوم. ولكي تستمر الرواية جنسا أدبيا مقروءا في ما يأتي من عقود، فلا مفر لها من البحث عن التجديد، خاصة مع وجود منافسين أقوياء، كالسينما والتلفزيون والهاتف والانترنيت.. فلا مهرب للروائي اليوم من ضرورة الاطلاع على روح العصر وقيم وفكر وتطورات الحياة التي يعيشها. حتى تكون كتابته عكسا جليا لما يعرفه المجتمع من تغيرات سريعة ومتباينة..
- في جماليات النص التفاعلي:
ولجت البشرية العصر الرقمي، و عصر الثورة المعلوماتية، فشمل التقدم كل ما يحيط بالإنسان. وصارت التكنولوجيا تتجه إلى فرض هيمنتها التامة على كل مرافق الحياة ومستوياتها. بل إنها المسؤولة عن تغيير كل شيء يحيط بالإنسان. فأقبل »الأدب على التكنولوجيا، ومن جهتها، فرضت التكنولوجيا أدواتها على الأدب وعلى العملية الإبداعية بمجرد تداخله معها، وإفادته منها. وهذا أمر طبيعي، إذ لا يمكن للأدب أن يعيش منفصلا عن العالم الذي يُنتَظر منه أن يعبر عنه، وأن يكون مرآته. ولتحقيق هذا المطلب، أي التعبير عن العصر بصدق وواقعية، لا بد للأدب من استخدام أدوات العصر الذي يتوخى التعبير عنه . « وحين حدث هذا التزاوج بين التكنولوجيا والأدب، تغير كل ما يتعلق بالعملية الإبداعية، واستحالت عناصرها المميزة ترتدي ثوبا جديدا، يجمع الأدبية والالكترونية معا في جنس جديد. حتى مفهوم الكتابة قد تغير، فصار الانتقال من الأدب الكتابي، إلى الأدب الرقمي أمرا حتميا، لمجاراة التطور الذي صاحب عصر المعرفة الرقمية.
تحولات عصرالتكنولوجيا
فتغيرت طرائق التلقي وأنماط التذوق، والأسس الجمالية للأدب. حيث » يجد الأدب نفسه بين اختيارين أحلاهما مر. فإما أن يدخل تحت العباءة كغيره من أنواع النشاط الفكري والعملي للإنسان. وإما أن يقبع في زاوية محصورة جدا ويقنع بالدفء الداخلي والحد الأدنى من الاشعاع « وهذه المرحلة الالكترونية التي يعيشها النص الأدبي، تشكل انتقالا واضحا من عهد إلى عهد، كذاك الانتقال الذي كان من المشافهة، إلى حضارة الكتابة قديما. وقد »شهد القرن العشرون انتقال آداب الإنسانية من حضارة الورق إلى حضارة التكنولوجيا والالكترونيات التي أخذت تتغلغل في مختلف جوانب الحياة دون حد أو قيد، ولابد أن تكون مثل هذه الطفرة ذات أثر بالغ.. « ولا يتعلق الأمر هنا بنوع النص المنتج، أهو إلكتروني أو ورقي. بل يتعدى ذلك إلى طبيعة النص، ونوعية الأفكار التي يطرحها، ومدى عكسها لوقائع ومجريات العصر، والتغيرات التي يشهدها باستمرار.
ويقود الحديث عن إنتاج هذا النص الأدبي المميز، إلى الحديث في ذات الان عن تضارب المصطلحات التي تعبر عنه، ومنها: الأدب الرقمي littérature numérique والأدب التفاعلي littérature interactive، والأدب المبرمج littérature prorgammée، والأدب الالكتروني littérature électronique، والنص المترابط hypertext، وغيرها كثير، يعبر عن توجه كل دارس أو باحث، حسب معرفته، ورؤيته، وخلفيته، أو حسب بلد انتمائه.. حيث نجد مثلا مصطلحي الأدب الرقمي والأدب الإلكتروني، ذائعي الصيت في الساحة الثقافية الفرنكفونية، وفي المقابل، يظهر حضور قوي لمصطلح النص المترابط، أو النص المتشعب في الثقافة الأنجلوسكسونية. على اعتبار كون النص الأدبي يترابط مع مجموعة من النصوص التفاعلية الأخرى، التي تتكون مما هو صوري، وصوتي، والي، وتقني، وإعلامي.. »في حين فضلت أوروبا استخدام مصطلح إعلامي آخر هو (أدب الصورة) ، أو (الأدب الديجبتالي (Littérature digitale /Digital ، الذي يحيل على الصورة الرقمية من جهة، و مجال التصوير الانعكاسي و المسح الاشعاعي من جهة أخرى.« كما أن هناك في أوربا يشيع استعمال مصطلح اخر بشكل كبير، وهو الأدب السبيبرنيتيقي Cyberlittérature، »الذي يحيل على البرمجة الذاتية والالية والاوتوماتيكية، وعلى مؤلفات الأنترنيت ومفهوم الشبكة. بيد أن المصطلح يقصي ما يسمى بالأقراص المدمجة، و يتعالى عن الكثير من المرفقات والانشاءات الالكترونية الاخرى «.
ورغم هذا الاختلاف الكبير بين المصطلحات، والتسميات. والذي يلاحظه المتلقي، بانتقاله من بلد لآخر، أو قراءته لهذا الباحث أو ذاك. إلا أن هذه المصطلحات تتفق على كون المنتج الأدبي الذي يخرج إلى الوجود، ذا أبعاد فنية وجمالية وأدبية مختلفة عن النص المنتج ورقيا. كما لا يمكن فصل هذا النوع من الأدب، عن مجموعة من العناصر والمؤثرات التي تتحكم فيه، وتحدد هويته، وهي الصوت والصورة والفيديو.. فكل هذه التسميات تحيل الأدب الرقمي إلى وسائطه الحاسوبية التي تعمل على رسم معالمه. فإنه أدب يعتمد الإعلاميات وسيلة للتحقق، والتميز. ولكنه لايزال في مرحلة البناء، كون وجوده مقرونا بالمحيط الرقمي، وإنشائه مرتبطا بالعوالم الافتراضية، والتقنية الحديثة.
وحين نتساءل عما يميز هذا النوع من الأدب عن سابقه، نجد أن أهم سمة تميزه هي إخراج المتلقي من المساحة المحددة والمحدودة للورقة في الأدب الكتابي، ووضعه في مساحة غير محدودة في فضاء افتراضي، يستطيع التحكم فيه. فيمكن له تغيير طول أو عرض الفضاء على شاشة حاسوبه، بدل أن يلفي نفسه أمام ورقة لا يستطيع لتغيير أي شيء بها سبيلا. وذلك بغض النظر عن اعتماد الوسائط المتعددة Multimédia، من صوت وصورة ومقاطع فيديو.. فيشغل هذا النص حاسة السمع لدى المتلقي، بالإضافة إلى حاسة البصر.. فصار أمام القارئ اليوم أشكال لا عهد له بها من قبل، أشكال تتماشى وبيئة الحاسوب والانترنيت، اللذين يمثلان عنصرين مهمين لا يمكن تحقق التلقي دونهما. كما » تتماشى مع طبيعة التقنية الجديدة، ولا يمكن قراءتها إلا من خلال الحاسوب، وهي أشكال سردية، لأنها اعتمدت في نسيج تصميمها على عناصر السرد القصصي، وعلى رأسها الكلمة، لكنها لم تكتف بها بل أضافت إليها عناصر ومؤثرات أخرى تناسب وسيطها الجديد..«
وبهذا المعنى، فالرواية الرقمية، تختلف عن كل الأشكال السردية الأخرى، فبالإضافة إلى كونها غير ورقية، ترتبط قراءتها بالحاسوب. فإنها لا تتخذ الكلمة فقط أداة تعبيرية، وإنما تتجاوزها إلى المؤثرات الحاسوبية البصرية والسمعية. فتبنى على المنجز التقليدي للرواية، الذي يقوم على السرد بالكلمات، وبعدها تستفيد مما يتيحه لها الحاسوب من إمكانيات تقنية. ولا غرو في كون الحديث عن الكتاب الاكتروني بصفة عامة، يدعونا إلى »الحديث عن جزأين مختلفين، مكملين لبعضهما، وهما: الة القراءة (Hardware)، ومحتوى الكتاب الرقمي المحمل في الالة (Software)، فالكتاب الالكتروني يعني هذين الجزأين معا.« وذلك ما يدعونا إلى القول بأن الرواية الرقمية، هي رواية تقنية بامتياز، وهي كتابة إبداعية والية وإعلامية..» فهي مغامرة في الزمن الرقـمي الافتراضي وفي المكان الرقمي الافتراضي وفي الواقع الرقمي الافـتراضي..« وهي بالإضافة إلى تخطيها عالم الطباعة الورقية، »فالكتابة الرقمية خاضعة للعمليات الرياضية والمنطقية واللوغاريتمية، وخاضعة أيضا للبرمجة الهندسية الدقيقة التي تجمع بين النصية والصوتية والبصرية والحاسوبية، ضمن بوتقة إعلامية واحدة، وتخضع ذلك كله لما هو ترابطي وإلكتروني وتفاعلي. « وتبعا لذلك، فمصطلح النص التشعبي، أو النص التفاعلي »هو مصطلح يستخدم لوصف الروايات أو القصص القصيرة المكتوبة بنص تشعبي وفي بعض الأحيان تحتوي على صورة أو فيلم مصاحب أو صوت. و يمكن الوصول إلى أعمال الأدب الرقمي هذه على شبكة الويب العالمية، ولكن يتم توزيعها أيضًا عبر أجهزة تخزين قائمة بذاتها مثل الأقراص المدمجة.«
وإنه منذ الوهلة الأولى التي تتم فيها ملاحظة تسمية “الرواية التفاعلية” ، تظهر ميزة مهمة تميز هذا النوع من الابداع، وهي التفاعل. فهناك نوع من الدينامية التي تنتج بين النص الرقمي وقارئه، حيث إن هذا السرد الجديد هو نتاج حركات، يتوقف بعضها على البعض الاخر، تتم بين جهاز الكمبيوتر، أو مجموعة البرامج التي يعتمدها، وبين القارئ. فغياب أي منهما كفيل بعدم تحقق التفاعل. فتتعذر عملية قراءة النص من الأساس. ومن جهة أخرى فإن وجود النص، وانتاجه ، يتوقف على وجود الالة، والبرامج. فمن دونهما لن يكون هنالك نص أصلا.
وعموما، يمكن إجمال مظاهر التفاعلية مع التقنية الرقمية لإنتاج نص روائي في، تفاعل الروائي، أو الكاتب الرقمي مع النص المنتج على صفحة شاشة الكمبيوتر، باعتماد لغة محددة. وهذا التفاعل بين الكاتب والالة، يسهم في انتاج نصوص تعتمد بالإضافة إلى الكلمة، على الأنيميشن، فيكون فيها حضور الصورة والحركة والصوت واللون.. ثم، انتاج النصوص التشعبية، التي تتضمن نقاطا يتفاعل معها القارئ لحظة التلقي، فيجد نفسه أمام مزيد من المعلومات وإثارة لا محدودة تتعلق بأحداث النص. فيكون المتصفح لهذا النوع من النصوص الأدبية قادرا على تغيير مسار الأحداث، والنهايات، باختيار إحدى طرق المتابعة في النص. وبالتالي، ف كل شيء »يتغير في نظام النص الرقمي لأن الوسائط مختلفة ، وبالتالي فإن نظام البناء يؤسس لشكل أدبي مغاير، تبعا لطبيعة اللغة الجديدة والتي تأتي بلغة المعلوميات، وتنجز مساحة مفتوحة للنص، معها يتحرر القارئ من التعاقد المألوف في الكتاب الورقي (بداية ونهاية)، فالقارئ عبر تقنية الرابط يمتلك سلطة تدبير النص، من خلال خياراته في تشغيل الروابط أو تركها، أو التعامل مع بعضها فقط.«
وتكمن جمالية هذه النصوص في اعتمادها كذلك مختلف الخصائص الالكترونية، فترتبط فيها النصوص على تباينها، كتابية كانت أو تشكيلية أو موسيقية. أو كانت خرائطية أو رسوما توضيحية أو جداول أو رسوما متحركة، أو صورا ثابتة، أو متحركة. فتقدم إضاءات أو إضافات لتجلية معاني النص وفهمه فهما أفضل. وهكذا، يظهر »أمام القارئ نصّ يطلب أكثر من مجرد عبور علاماته ورموزه بصريا على نحو ما هو معتاد في مطالعة النصوص التقليدية. النص الرقمي التفاعلي يدعو القارئ إلى تنشيط هذا الرابط أو ذاك، وقد يترتب عن كل اختيار الدخول في مسلك جديد للقراءة، بل قد يطلب النص من القارئ القيام بما هو أكثر: أن يتدخل مباشرة في الحكي بالمساهمة فيه أو بإنجاز عملية أو أكثر بدونها يمكن أن تتوقف القراءة أو تتعذر. « وبهذا المعنى، فقد تجاوزت الرواية التفاعلية مفهوم الابداع الأدبي الذي يتمحور حول المبدع الواحد. فصار المتلقي، بالإضافة إلى الرقمية، أهم العناصر الإبداعية في الأدب الرقمي بشكل عام، فأصبح دوره يمتد إلى الاستخدام و الممارسة، بدل مجرد التلقي. فقارئ اليوم لم يعد يرضى بالاستقبال السلبي لكل ما يقدم إليه، بل يريد أن يرقى لمستوى المشاركة في صنع الأحداث. و النص التفاعلي تبعا لذلك، لا يؤمن بالمبدع الواحد، بل يتبنى التأليف الجماعي. فكل قارئ يكمله بطريقته الخاصة حسب رؤيته الفكرية وتعاطفه مع الشخصيات، ومزاجه..
- بين عناصر السرد القصصي والمؤثرات السمعية- البصرية:
لا يختلف اثنان في كون النص الرقمي نتاجا للعصر التكنولوجي، فهو انعكاس طبيعي للمرحلة التي دخلها الانسان اليوم. ولما كان لكل عصر وسائله الخاصة التي تعبر عنه، وتحتوي تغيراته، وتطوراته، فإن الأدب الرقمي هو الوسيلة الأقدر على التعبير عن وقائع ومتغيرات العصر الرقمي. وتجدر الإشارة إلى أن هذا النص الرقمي، التفاعلي، يخول لقارئه البحث عن معلومات جديدة، أكثر تفصيلا، تتعلق بذات الموضوع، من خلال النقر على روابط تصل الكلمات بمعلومات أخرى لا تظهر إلا بعد النقر على تلك الروابط. وبالتالي فهذه النصوص الإبداعية، لا يمكن قراءتها إلا باتصال الكمبيوتر بشبكة الانترنيت. فيكون هذا النص الذي يجده المتلقي أمامه، نصا مفتوحا، لا شكل يحدده، ولا فضاء يؤطره. فتختلف بدايته ونهايته باختلاف المتلقين. و يمكن تصفحه، وفي ذات الان، الانتقال إلى أماكن أخرى من خلاله، والتجول بين معطيات إلكترونية مختلفة. فالنص » المفرّع (Hypertext) في علم الحاسوب هو تسمية مجازية لطريقة في تقديم المعلومات يوصل فيها النص والصور والأصوات والأفعال معاً في شبكة من الترابطات مركبة وغير تعاقبية، مما يسمح لمستعمل النص أن يتصفح (browse) الموضوعات ذات العلاقة دون التقيد بالترتيب الذي بنيت عليه هذه الموضوعات، وهذه الوصلات تكون غالباً من تأسيس مؤلف وثيقة النص المفرّع، أو من تأسيس المستعمل، حسبما يُمليه مقصد الوثيقة.« وهذا النص النشيط –كما يعتبره البعض- يبتعد عن كل ما له علاقة بخطية السرد النصي، بل إنه يتحرى بالدرجة الأولى إعطاء مساحة شاسعة من الحرية، وإدماج المتلقي ليكون فاعلا مهما، في توالي الأحداث في النص. يختار خطية قراءته كما يريد.
وسواء تحدثنا عن الرواية التفاعلية، أو عن رواية الواقعية الرقمية، فإننا لابد أن نؤكد على كون الكتاب الالكتروني بشكل عام، يكتسب جماليته الخاصة من خلال عناصر تغدو ضروربة، و لابد من حضورها، بالنسبة لهذا النوع من الابداع. فالكلمة ليست هي الأداة الوحيدة لهذه الرواية، بل إن الكلمة تبقى جزءا من كل، »وأداة من عدة أدوات.. على الروائي نفسه أن يتغير، فلم يعد كافيا أن يمسك الروائي بقلمه ليخط الكلمات على الورق، فالكلمة لم تعد أداته الوحيدة، على الروائي أن يكون شموليا بكل معنى الكلمة، عليه أن يكون مبرمجا أولا، وعلى إلمام واسع بالكمبيوتر ولغة البرمجة، عليه أن يتقن لغة HTML على أقل تقدير، كما عليه أن يعرف فن الإخراج السينمائي، وفن كتابة السيناريو..« لكن، رغم مساحة الحرية، اللامحدودة، التي يقدمها هذا النوع من الابداع لكاتبه ومتلقيه على حد السواء، فهناك دائما إشكال يرتبط بضبط لغة البرمجة، ومدى القدرة على استعمالها. فمن ناحية» تمنح الكتابة على جهاز كمبيوتر حريات جديدة، يصبح النص أكثر مرونة. ومن ناحية أخرى ، فإن مفهوم الأدب المبرمج يجعل منشئيه يواجهون قيودًا مرتبطة بقوانين الخوارزميات.« أما إن بحثننا أكثر في مميزات الأعمال الإبداعية من هذا النوع، فإننا نجد أن أعمال محمد سناجلة مثلا، الذي يعد أديبا وروائيا، رائدا في الأعمال الإبداعية المندرجة في إطار الأدب الرقمي الواقعي. فأعماله »تستفيد من الغرافيك، والتصوير السينمائي، والتصويت الموسيقي، والغناء، والتقطيع ، والمونتاج، والميكساج، والفلاش باك، وتقنيات الميتاميديا الجديدة. وهذا ما جعل نصوص محمد سناجلة أمام إشكالية صعوبة التصنيف والتجنيس، بسبب انزياحها عن المعايير الفنية الكلاسيكية.. المعروفة في الكتابة الورقية السائدة.. فهل نعتبر ما كتبه محمد سناجلة موسيقا أو رواية أو قصة أو سينما..؟! « فبالإضافة إلى اعتماد الكلمة، يكتب الروائي بالصورة والصوت والحركة، ويستعين بالصورة الثابتة والمتحركة، والمؤثرات السمعية والبصرية المختلفة، فتكون الرواية فضاء يتم فيه اعتماد مقاطع فيديو، أو مشاهد من أفلام سينمائية.. وهي بذلك تقدم نمطا روائيا جديدا، على مستوى البنية السردية، وعلى مستوى الشكل، والمتن السردي، وكذلك على مستوى المضمون، حيث يقدم الروائي أدبا يعبر عن اهتمامات وتطلعات المجتمع الرقمي، وبطل التغيير، الذي يعيش فيه، وهو الانسان الافتراضي. ونكاد نجزم بأن الروائي اليوم، صار يجب أن يمتلك مهارات الفنان التشكيلي، والمصور والملحن والموسيقار ومهندس الحاسوب، لمواكبة التطور السريع الذي يعرفه كل ما يحيط به، ولإعطاء الكتابة الأدبية صورة أكثر مناسبة لحياة الانسان في عصر التطور التكنولوجي.
ونحن نتحرك داخل فضاء الرواية التفاعلية، لابد أن نجد تكسيرا مدهشا لأفق التوقع عند القارئ الذي يكون أمام شاشة تعتمد وسائط متعددة Multimedia ، تتضام فيها اللوحة والصورة واللون والموسيقى، والروابط والأشرطة العابرة، في سلاسة واسترسال، وتعاقب منقطع النظير. بعدما ألف فضاء ورقة مكتوبة، متراصة السطور. وهذا الخروج عن المألوف يصعب تقبله، لكون النص الورقي شكل لمدة ليست بالقصيرة منطلقا للتذوق والفهم والتأويل والتخييل.. وحضور هذه التوليفة التناصية التي تجمع النص والحركة و الموسيقى والألوان والصور، يضع القارئ أمام بعد جمالي، وتحد فني، تكون فيه عملية التلقي مميزة، ومختلفة. لا تمنح مفاتيحها للقارئ العادي. فهذا »الأدب المقيد، يجعل قبل الكتابة برنامجا رسميا محددا بدقة، يجب على المؤلف الامتثال له، ويتم تقييم قيمة إنتاجه جزئيًا من خلال قياس تمسكه بهذا المظهر الخارجي للنص.«
ولا يسعنا إلا أن نعترف بأنه بالإضافة إلى جمالية النص الأدبي التفاعلي، وفنيته. وبغض النظر عن كونه يخلق علاقات متينة بين الكاتب ونصه، وبين الكاتب والمتلقي، وبين المتلقي والنص. فهو كذلك يسهل عملية التلقي بالنسبة للقارئ. فحين تتعذر عليه مثلا قراءة قصيدة شعرية، يمكنه أن يستمع إليها بنقرة واحدة. تأخذه إلى صوت جميل ماتع، ف »يمكنه الاستماع لأداء مقطوعة قصيرة عن طريق النقر على زر للربط بهذه القصيدة، بالإضافة إلى إمكانية تضمين الصور المتحركة لعرض تطور ما أو لقطات فيديو قصيرة لتوضيح نقطة ما، هذا ويمكن أن تكون الجداول متحركة لإظهار النتائج. فالروابط المتعددة غيرت في شكل النص بما يخدمه، ويسهل على القارئ الدخول في فسيفسائيته.«
أما ما لا يخطر على بال القارئ، قبل تصفحه لرواية رقمية، فهو أن يفتتن افتتانا كليا بلعبة الشكل. ويمكن أن يتجاوز القارئ المعاني الكامنة في النص، إلى ما يحيط به من أبعاد تكنولوجية، توظف الامكانات البصرية والصوتية. فينتقل القارئ بينها مستمتعا بكل ما تقدمه له من اضافة و تجديد.. فتجوال القارئ ذهابا وإيابا بين الروابط، واختياره النقر هنا وهناك، يعطي القراءة بعدا حركيا ديناميا، مسليا. فيعطي الكاتبُ/ المبرمج، مسبقا مجموعة من الإشارات التي يختار منها المتلقي ما يناسبه، ليبني قراءته الخاصة. فكل حركة دينامية هي سبيل إلى فتح المجال أمام تصميم قراءة مختلف، فتتمتع هذه الأخيرة باستقلالية تكتسبها مع كل قارئ، كما يتم خلق انسجام بين كل علامة مما يختاره القارئ، وما تحيل إليه. و»المتعة يجدها المتصفح للنص الرقمي حين ينتقل بين الروابط وحينما يجد مكونات غير لغوية يسيطر فيها الجانب البصري، خاصة الحركة والفيديو والصور. فتشد انتباهه ويسعى إلى الانتقال في النص و بين الروابط لأجل الاستكشاف وتحقيق المتعة.
ولهذا نجد الكاتب الرقمي محمد السناجلة في روايته “ظلال العاشق” يخصص أيقونة للمتلقي حتى يتفاعل مع روايته، ونعت هذا التفاعل باللعب (أكتب روايتك (لعبتك) فالقارئ لاعب، والرواية لعبة.« كما يعطي فرصة الانخراط والمشاركة للمتلقي، حتى بعد فراغه من القراءة. لخلق التواصل والتفاعل، بين الذات المؤلفة والذات القارئة.
لقد دخل السرد، والأدب بشكل عام حقلا فنيا جديدا حين ارتبط بالتكنولوجيا الرقمية. فركز على استثمار الخصائص التقنية للحاسب الالي، فلم يعد يكفي متلقي الرواية التفاعلية إيجاد مقومات النص السردي، التي استمتع بها وقتا ليس بالقصير. فالعناصر السردية التي استقرت منذ زمن في ذهن متلقي النص السردي بشكل عام، رواية كانت أو قصة أو حكاية بوصفها مكونات قصصية، لا تتشكل هوية أي نص سردي دونها. حيث تعتمد النصوص السردية، أو الحكائية على هذه العناصر منفردة أو مجتمعة لتعبر عن ذاتها. ذلك أن ضروب القص بشكل عام، تجعل من تلك العناصر مكونات فنية وجمالية خالصة. والتي هي الحدث والزمان والمكان والشخوص والحوار والوصف والسرد.. ربما لم تعد كافية اليوم لتحقيق المتعة لقارئ عصر التكنولوجيا. فمنظومة الروابط تمنحه أكثر من مجرد نصوص كتابية، تعطيه الاختيار للتحميل، فضلا عن طريقة التصفح، والاضافة وإعادة البرمجة .
إن هذا العالم الروائي الجديد، هو مكان حافل بمساحات شاسعة من الانتظار والتوقع، ترتدي فيه كل المفاهيم المألوفة لباسا مختلفا، فيصير الثابت متحولا. حيث يحيد فيه الزمان عن مفهومه التقليدي، فيتخذ شكلا غير متتالي وخطي، و تصير فيه الشخصية الرقمية أكثر تحررا من الواقع والخيال كما في الرواية الورقية، كما أن المكان، يتحول في العالم الافتراضي إلى مجرد حيز مجهول، غير محدد، متموقعا في عدة احتمالات. فيتخذ بذلك صفة اللامكان. أما اللغة الروائية ، فلم تعد لها تلك المركزية، حيث تغيرت ماهية ودور الكلمة في اللغة الرقمية الجديدة، فصارت جزءا لا يكتمل له معنى من دون حركة وصوت وصورة.. »ويمكن ببساطة القول بأن عالم الغد هو عالم مليء بالصور والصوت عبر الوسائل المختلفة (تلفزيون، راديو، حواسب، جرائد، مجلات، إعلانات)، ويمكن وصف الثقافة القادمة بأنها ثقافة القراءة- الكتابة عن طريق الوسائط.«
- الرواية التفاعلية، وتلقي القارئ العربي
إن هذا الوافد الجديد إلى عائلة الأجناس الأدبية، الناتج عن التلاحم الحاصل بين النص الروائي، والوسائط التكنولوجية الحديثة، فيما يمكن الاصطلاح عليه بالتكنو- رواية، قد أخرج المتلقي من ضيق المساحة المحدودة للورقة في الأدب الكتابي. وأعطاه حرية أكبر في التفاعل مع النص، عن طريق التحرك بالفأرة، والانتقال بين العوالم بالانتقاء بين الروابط والخيارات المتاحة، وبالتالي يجد المتلقي أمامه مسارات متعددة لا يمكن التنبؤ بها. ولقد صار من الصعب وسم متلقي الرواية التفاعلية اليوم “قارئا” فقط، لأن فهم هذه الأخيرة لا يتوقف على القراءة فحسب، بل هي عناصر شتى تتضافر لتحقق الفهم لديه، حيث يسهم ما تتيحه الوسائط الرقمية المتعددة من صورة وصوت وحركة ولون.. بشكل كبير في تحقيقه.
لقد ألف قارئ الرواية شكلا معينا للرواية التقليدية، فتربى لديه ذلك الذوق المرتبط بخبرته القرائية. فصارت جزءا من مفهوم التلقي عنده، و الذي يعترف به الكاتب كذلك. فيكون بينهما شبه اتفاق بأن متصفح الرواية الورقية، سيجد أمامه نصا يملأ الصفحة البيضاء، تتساوى أسطره من حيث بداياتها ونهاياتها. وتختلف فقراته من حيث حجمها. أما النص بحد ذاته فتغلب عليه لغة السرد والوصف، وتسلسل الأحداث، والترابط المنطقي.. ولذلك، فحين يجد المتلقي نفسه أمام أدب رقمي، يعطي العلامة دورا هاما، وتتضام فيه الكلمة والصورة والحركة والصوت. فذلك سيزعزع مفهوم الرواية والتلقي بشكل عام، وبالتالي سيكون صعب التقبل. ف »يرى الرافضون لفكرة (الأدب التفاعلي) أنه جنس هجين، ودخيل على العملية الإبداعية، لا يلجأ إليه إلا من لا يمتلك موهبة حقيقية، فيحاول تعويض ذلك باستثمار الخصائص التي توفرها التكنولوجيا الحديثة.« فكثيرون إذن، أبدوا تحفظا حول هذا الابداع الأدبي الجديد، لكن في ذات الان، استبشر به البعض، واعتبروه مشروعا يناسب تطلعات الروائيين، والمبدعين بشكل عام، الراغبين في التجديد. والمؤمنين بقدرة هذا الأدب على التعبير الصادق عن العصر الحالي. ولا يمكن انكار كون نظرية الجنس الأدبي لا تنتج إلا عبر مخاض عسير، يوازيه انتاج وفير، يمكن القياس عليه.
وإنه بمجرد أن بدأت تبدو في أفق الإبداع العربي بعض التجارب الرقمية، حتى تنامت الأسئلة وتوالدت بشكل كبير. انصب أغلبها في إمكانية تعبير هذا الأدب الرقمي العربي الجديد عن روح العصر الذي نعيشه، وفي مدى استطاعة التجارب الإبداعية العربية الرقمية سد الفجوة الشاسعة التي يعرفها الأدب العربي في الوسط الرقمي. بصرف النظر عن التساؤل عن قدرة المبدع العربي، على استثمار معطيات التكنولوجيا الحديثة، لإنتاج ابداعي في مستوى التطور الذي تشهده الحياة ككل. فالملاحظ أن الابداع العربي، لايزال أسير النص الشفهي والكتابي، بل ولا يزال متخبطا بين قبول ورفض النص الالكتروني كشكل من أشكال الابداع الحديث. » فما يزال دخولنا عصر المعلومات متعثرا بطيئا، ولا يواكبه نقاش معرفي يمكن أن يوجهه ويؤطر مساراته، ويحدد من ثمة رؤيتنا إلى طرائق تفكيرنا وتساؤلنا بصدد مختلف القضايا التي تهمنا، إنه لا يعقل أن ندخل عصرا جديدا بأفكار قديمة وبلغة قديمة..«
ويعود تردي أوضاع الواقع الأدبي الرقمي العربي، إلى أشكال التواصل بالدرجة الأولى. فقد شكلت الثورة في مجال التكنولوجيا دافعا مهما لارتقاء الانسان، وتطور منظومة الاتصال، خاصة عبر الشبكة العنكبوتية، في حين لازلنا نلاحظ اعتماد الطريقة التقليدية في انتاج وارسال النصوص الأدبية. فرغم انتشار استعمال الحواسيب، والانترنيت في العالم العربي، إلا أن المواكبة، والمساهمة في كتابة النص المترابط في ثقافتنا العربية محدودة جدا، بل ما »تزال ضعيفة جدا، وقاصرة وناقصة.« بل إن ما يعيشه العربي اليوم إزاء هذه المرحلة الجديدة، أشبه بالدهشة. فلم يستوعب بعد هذه المرحلة الانتقالية التي لايزال يتصارع فيها الوعي القديم بالحديث، ولازال النص الورقي يحاول الاستمرار، في ظل دخول النص الالكتروني ساحة الأدب. في حين تعرف عملية الإنتاج الأدبي الرقمي انتشارا مقطع النظير في كل من أورويا وأمريكا، بحكم الانخراط الكلي في الثقافة الرقمية، والعوالم التقنية والمعلوماتية. فيعد» الحقل الثقافي الغربي سباقا إلى استعمال الوسيط الرقمي في الكتابة الأدبية والابداعية نظرية وتطبيقا، وخاصة في الولايات المتحدة الامريكية ، وكندا، وفرنسا، وبريطانيا، وألمانيا..« ورغم »كون مرحلة الوسائط المتفاعلة ما تزال في بداياتها فقد قطعت أشواطا عديدة في الغرب. ويمكننا الحديث الآن عن ثورات متلاحقة في هذا المجال. في واقعنا العربي ما تزال الوسائط المتفاعلة غير موظفة بما فيه الكفاية وفي مختلف مرافق الحياة.«
أما التجربة العربية في هذا المجال، فلازالت تعرف تأخرا واضحا في مجاراة انتاج الابداع الأدبي الرقمي في الغرب. وذلك يمكن إرجاعه للحياة العامة والعلمية في المجتمع العربي، الذي لاتزال علاقته بالتكنولوجيا تعرف تحديات ليست بالقليلة. ورغم ذلك، فهناك تجارب إبداعية قليلة، تحاول أن تبدع في هذا المجال. حيث »حققت الممارسة العربية في المجال الإبداعي الرقمي تراكما لا بأس به مقارنة بالسنوات الماضية ومثال ذلك رباعية الرائد في الإبداع الرقمي محمد سناجلة حيث تميز في )ظلال الواحد-2001) و(شات-2002 ) و(صقيع-2002) و(ظلال العاشق -التاريخ السري لكموش-2012) «
وتعترف زهور كرام بأن التجربة العربية في مجال الابداع الرقمي ما تزال في بداية الطريق، حيث لم تحقق تراكما واضحا، وذلك يعكس في نظرها علاقة العرب بالتكنولوجيا، وعلاقته بمسايرة التطور السريع، الذي تلزمه سرعة الانخراط والاندماج. » ما يزال الاقتراب من النص الرقمي في التجربة العربية باهتا، ما عدا تجربة الكاتب الأردني محمد سناجلة وبعض الكتاب العرب فإن التجربة لم تحقق تراكما بعد، لكي تخلق المناخ الذي من خلاله يتطور ما يسمى بالنص الأدبي الرقمي.« وفي نفس الاطار، أي عن محدودية كتابة النص التفاعلي في العالم العربي، يضيف سعيد يقطين ، بأن ذاك يعود لكون »النظرية لم تتطور عندنا بما فيه الكفاية، وأن تعاملنا مع تطور النظريات الأدبية الجديدة، ما يزال ناقصا، وتطور نظريات علوم التكنولوجيا الجديدة للإعلام والتواصل ما يزال عندنا في باب المجهول. وكلها عناصر ضرورية لممارسة كتابة النص المترابط. كما أن عزوف الكتاب والمثقفين عن دخول عالم الوسائط المتفاعلة والاشتغال بالبرمجيات عامل إضافي يساهم في طبع الممارسة بالمحدودية. « كما لا يمكن إغفال عنصر مهم، وهو الاقتناع التام لدى الروائي العربي بكون الكلمة أبلغ مما عداها. كونها أقوى إيصالا للمعني، وأكثر تأثيرا على المتلقي. وهذا ما لا يتفق معه محمد سناجلة، الذي يعي أهمية التقنيات الحاسوبية، ودورها في جالية، وبنية الرواية التفاعلية. »فنص على تقليل الكلمات والأحرف وعدد الصفحات، لأنه مدرك أن الصورة والصوت يغنيان عن كثير من المفردات، التي يراكمها الروائي التقليدي في روايته.« وآنذاك فقط سيكون النص مبهرا، حيث ستكون كل المرئيات من صور ثابتة ومتحركة، بالإضافة إلى الابداع الموسيقي، مصممة خصيصا للنص الروائي. فتصير الكلمات أشبه بالسيناريو الذي تصوغ دلالته المسموعات والمرئيات..
على سبيل الختم:
يمكن القول في الأخير، بأن الرواية الرقمية مختلفة كل الاختلاف عن غيرها من النماذج التخييلية التقليدية، لكونها توظف بالإضافة إلى الخيال المعرفي المطلق، التقنيات الرقمية التي تتغير وتتطور باستمرار، فتستثمر جميع الإمكانيات التي يتيحها الحاسوب، وتعتمد تقنياته المختلفة، لانتاج نص متعدد العلامات، اللغوية وغير اللغوية، كالصورة والصوت واللون.. فالرواية التفاعلية تتماهى مع التقنية الحديثة، إلى أبعد الحدود. فتعتمد بعد أدبيتها على توظيف عناصر الميديا المتنوعة. وقراءة هذا النوع من الابداع تستلزم الاندماج بشكل كلي في استكمال هيكل النص، والانخراط بشكل فاعل في انتاجه، والمساهمة في بناء دلالاته ومعانيه، وتشكيل عوالمه. بحيث تنبني الرواية الرقمية على نظام الروابط، التي يتولد من خلالها النص عند كل نقرة. فيختار بنفسه مسار الأحداث. خلافا للرواية الورقية التي تفرض نظاما وصيغة محددة للقراءة، منذ بداي أحداثها إلى نهايتها.
ولقد ساهم هذا النص الذي يعد وليد عصر المعلومات، والتطور التكنولوجي، في وضع كل من الكاتب والمتلقي أمام تحد حقيقي، يلزمهما بأن ينفتحـا على استخدام الحاسـوب، واستثمار إمكانيات الشبكة العنكبوتية. لأن الأدب مستقبلا لن يفهم بعيدا عن الوسيط التكنولوجي. ولكن هذا النص الـروائي التفاعلي، خلخل كذلك أركان نظرية الأدب، لأن أية مقاربة له تستلزم الجـمع بين ما هو أدبـي وما هو علمي. فكان أن وجد النقاد أنفسهم أمام أسئلة إشكالية كثيرة، زاد من تشابكـها محاولة بحث هذا الأدب الجديد عن مفاهيمه الخاصة، ومصطلحاته النوعية..
وإن المتتبع لسيرورة وتطور الجنس الروائي على مر العصور، يلاحظ أنه يكسر الحدود التي ترسمها نظرية الأدب. فلقد أصبحت لها قدرة غير مسبوقة، على استيعاب مختلف المعارف، والفنون والعلوم.. ولقد صارت الرواية بحق، على قدر كبير من المعرفة. فغدت مثقفة أكثر، وصارت صورة واضحة لتداخل مختلف العلوم. فاستفادت من هذه المشارب المتنوعة لتتشكل في بنية جديدة، وتبني أساليب خاصة، تتعامل مع الحياة بمنظور علمي. فتثور على التقليد وتقديس كل جاهز. لتلائم متطلبات العصر الراهن، وضروراته المتزايدة. وتناسب تطلعات المتلقي الافتراضي. ولذلك، صار لزاما على الروائي اليوم، أن يتحرر من الصورة النمطية التقليدية لعلاقة عناصر العملية الإبداعية ببعضها. وأن يتجاوز الاليات التقليدية في تشكيل وتقديم النص الأدبي. فكا من الضروري أن يتقن فن الإخراج السينمائي والمونتاج، والبرمجة.. وغيرها. لكن ومع هذه الأهمية التي يحظى بها هذا الوليد الجديد، إلا أن الإنتاج العربي لازال باهتا، مقارنة بنظيره في العالم الغربي. وذاك يعكس بجلاء تلك العلاقة التي لازالت متوترة بين مجتمعاتنا العربية، والتكنولوجيا. مع أن الانخراط في هذا الزمن، يقتضي انخراطا في محركه الجوهري، وهو المحرك التكنولوجي.
قائمة المراجع المعتمدة:
المراجع العربية:
– مدخل إلى الأدب التفاعلي. فاطمة البريكي، المركز الثقافي العربي. الدار البيضاء- المغرب. الطبعة الأولى، 2006م
– الادب الرقمي بين النظرية والتطبيق ) نـحـو المقاربة الوسائطية(، جميل حمداوي، الجزء الأول المستوى النظري. ط1 2016م .
– الأدب والتكنولوجيا وجسر النص المتفرع، حسام الخطيب، المؤلف، رام الله، الطبعة الثالثة، 2018م.
– افاق الإبداع ومرجعيته في عصر المعلوماتية، حسام الخطيب، دار الفكر المعاصر، بيروت-لبنان، 2001م .
– رواية الواقعة الرقمية، محمد سناجلة، كتاب الكتروني د. ط د.ت
– الرواية العربية والفضاء الإلكتروني. الرواية العربية في الألفية الثالثة ومشكل القراءة في الوطن العربي. مصطفى عطية جمعة، اعمال المؤتمر الدولي الثاني عشر: مركز جيل البحث العلمي الجزائر. 21-22 أغسطس 2016م.
– النص المترابط ومستقبل الثقافة العربية، سعيد يقطين، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 2008م.
المراجع الاجنبية:
– The Possible Worlds of Hypertext Fiction Alice Bell, England PALGRAVE MACMILLAN, 2010
– La littérature électronique , Une traversée entre les signes, Yan Rucar, les presses de l’Université de Montréal, 2015.
اليحوث الجامعية:
– النظرية النقدية المعاصرة والأدب، كتاب الأدب الرقمي أسئلة ثقافية وتأملات مفاهيمية لزهور كرام أنموذجا. منال بن حميميد، دكتوراه في الأدب العربي، جامعة محمد بوضياف بالمسلية، 2017.2018
– الأدب الرقمي بين المفهوم والتأسيس مقاربة في تقنيات السرد الرقمي، سومية معمري. دكتوراه في الأدب الحديث والمعاصر. جامعة الإخوة منتوري – قسنطينة. 2016-2017
المقالات الالكترونية:
– الرواية العربية الرقمية وقضية المصطلح، محمد أسليـم، موقع محمد أسليم. الإصدار الثالث غشت 2012. مقال رقمي على الرابط:
http://www.aslim.ma/site/articles.php?action=view&id=108
– الرواية التفاعلية ورواية الواقعية الرقمية، فاطمة البريكي، 2005/06/03 مقال رقمي على الرابط:
https://middle-east-online.com
– الأدب الرقمي حقيقة أدبية تميّز العصر التكنولوجي، زهور كرام، مقال رقمي، حاورها: رامز رمضان النويصري، نشر بمجلة دفاتر الاختلاف الإلكترونية. 5 MARS 2010 . على الرابط:
http://cahiersdifference.over-blog.net/article-46125368.html
– من النص إلى النص المترابط، سعيد يقطين، أجرى الحوار د. محمد الداهي. موقع الناقد المغربي محمد الداهي. 31-01-2010 . على الرابط:
https://www.mohamed-dahi.net/site/news.php?action=view&id=11