التعليم عن بعد ورهان العدالة الاجتماعية
Online education and the social justice Goal
ط.د. منير الجوري/كلية العلوم الاجتماعي ة والإنسانية، القنيطرة، المغرب
/Mounir Jouri PhD researcherCollege of Social Sciences and Humanities – Kenitra – Morocco
مقال منشور مجلة جيل العلوم الانسانية والاجتماعية العدد 74 الصفحة 39.
ملخص:
إن اعتماد التعليم عن بعد والاستفادة من ميزاته وخصائصه يمكن أن يكون على حساب تحقيق العدالة الاجتماعية والإنصاف في المدرسة، ذلك أن هذا النمط التعليمي ليس مجرد أدوات تقنية وأجهزة رقمية فقط، بل هو ديناميات تربوية ومجتمعية تعتمل دون توقف، ويمكنها أن تعيد توليد التفاوتات وتأبيدها. ولتفادي ذلك يجب أن تنصب جهود الحكومات العربية على تنزيل سياسات اجتماعية واقتصادية وثقافية موازية للسياسات التربوية تعالج من خلالها تلك التفاوتات الأصلية التي تتجاوز قدرات وإمكانات منظومات التعليم، حيث تجد جذورا لها في الأصول الاجتماعي ة والأسرية للمتعلمين.
الكلمات المفتاحية: العدالة الاجتماعية، الإنصاف، التعليم عن بعد، التفاوتات الأصلية، التعليم الرقمي.Abstract :
The adoption of online education and the beneficialness of its advantages and characteristics should not be on account of achieving social justice and equity at school. In fact, this type of education is not just a set of technical tools and digital devices, but it is educational and community dynamics that work without interruption. They can also regenerate inequalities and perpetuate them. In order to avoid that, the Arab governments efforts must focus on effectuating social, economic and cultural policies parallelized with the educational ones. They should treat through them those original inequalities that go beyond the capabilities and potential of the educational systems, where they would find them rooted in social and family assets of the students.
Keywords: Social justice, equity, online education, original inequalities, digital education.
مقدمة:
في الوقت الذي تعيش فيه المنظومات التعليمية للكثير من دول العالم الثالث أزمات على مستوى محاربة الأمية وعدم استيعاب كل الأطفال في سن التمدرس داخل قاعات الدرس، بسبب ضعف التعميم واختلال تكافؤ الفرص، تتلاحق التطورات التقنية والرقمية من حولها لتفتح عليها جبهات كبيرة تتطلب سرعة أكبر في التفاعل ودقة في الإنجاز.
ويرى الكثير من المهتمين بمجال التربية والتعليم أن التطورات الرقمية من شأنها أن تسهل عملية التعميم وتقريب التعليم من فئات واسعة، خاصة أن كلفتها أقل، لا تكاد تقاس بتكلفة إقامة البنايات وتوفير التجهيزات وتوظيف الإداريين وغيرها من متطلبات التعليم الحضوري. ومن جهة أخرى تتميز التقنيات الرقمية بميزة إمكانية الانتشار الأكبر، وهو ما يجعلها تبدو أنها وسيلة ناجعة في خدمة مطلب التعميم وليست عائقا له. إلا أنه بمعيار جودة المنظومة التعليمية الذي يحتوي تكافؤ الفرص ويتجاوزه، نكون أمام مؤشرات جديدة تحتاج إلى معالجة واستحضار في سياق اعتماد الوسائل الرقمية حتى لا تسقط المنظومات التعليمية في مأزق آخر في طريقها لمحاربة الأمية. فمبدأ الإنصاف وتكافؤ الفرص أصبح مطلبا أكثر إلحاحية في سياق التطورات التي تعرفها المجتمعات المعاصرة، حيث صار مدخلا هاما لدمقرطة الخدمات الاجتماعية واستيعاب التعدد المجتمعي في أفق بناء تنمية اقتصادية وسياسية واجتماعية مثينة ومستدامة.
وتقتضي هذه الخلفيات كلها البحث في البعد التركيبي والبنيوي لأي أزمة تربوية، والتعاطي معها باعتبارها جزء لا يتجزأ من الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في شموليتها، وعدم حصرها في التناول الضيق الذي ينكب على معالجتها في إطار مدرسي مغلق وميكانيزمات عاجزة عن استيعاب واحتواء مثل هذه القضايا المتعددة الأبعاد. فكل أزمة تربوية تعالج من داخل الوضعية المجتمعية التي تحدد بيئتها من حيث عوامل إنتاجها ومن حيث حدتها وعمقها ومظاهرها وامتداداتها. وذلك حسب الخصوصيات وشروط اشتغال أجهزتها ومؤسساتها السياسية والاقتصادية والثقافية والتربوية والاجتماعية المتعددة.
- السياق العام وإشكالية الدراسة:
أ– مشكلة الدراسة:
ظل رهان العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص حاضرا في مختلف النصوص التنظيمية والمخططات الإصلاحية التي عرفتها عدة دول من العالم العربي انسجاما مع توصيات المنظمات الدولية وحاجيات التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية. وأمام النسب المرتفعة للأمية والهدر المدرسي فقد كان الاهتمام أساسا بتعميم الولوج إلى المدرسة كمظهر من مظاهر العدالة، عبر توفير مقعد بيداغوجي للجميع بنفس مواصفات الجودة، دون تمييز قائم على أساس الانتماء الجغرافي أو الاجتماعي، أو النوع أو الإعاقة أو اللون أو اللغة أو المعتقد. وللوصول إلى ذلك حاولت السياسات التربوية توفير كافة البنيات والأفضية، وتأمين جميع أنواع الدعم التربوي والنفسي والاجتماعي ضمانا للاستفادة المتكافئة من خدمات التربية والتكوين.
وفي خضم معركة التعميم المتكافئ هذه والتي لم تكتمل بعد، لم يكن لنمط التعليم عن بعد في المراحل قبل الجامعية أي مكانة محورية. فقد ظل شعارا، أو خيارا، مؤجلا بسبب عدم مواكبة المنظومة التعليمية لتطورات العالم التقني بما فيه الكفاية، أو لعدم توفر الإمكانات اللوجيستية التي تسهل إدماج التكنولوجيا في عالم مازال يراوح مكانه أمام مطالب أكثر إلحاحية وأهمية تستهلك كل إمكاناته المادية والبشرية والزمنية.
إلا أن الظهور المفاجئ لوباء كورونا (كوفيد19-) مطلع سنة 2020 سيضع كل دول العالم أمام واقع لا يرتفع، حيث أجبر الناس على لزوم بيوتهم في إطار إجراءات احترازية للتباعد الاجتماعي والحجر الصحي، مما أدى إلى إغلاق المدارس والجامعات وتعليق الدراسة لفترات زمنية متفاوتة. فلجأت عدة حكومات إلى تدارك الأمر وإنقاذ السنة الدراسية عبر اعتماد “التعليم عن بعد” بشكل اضطراري. والحالة أن هناك اختلافا واسعا بين الدول على مستوى تدبير العملية التعليمية من خلال هذا النمط التعليمي؛ ذلك أن التردد الذي طبع السياسات التربوية في المغرب مثلا، في تعاطيه مع هذا النمط وعدم استعداده كفاية لاعتماده، يجعلنا نتساءل عن كيفية تدبيره لهذه الوضعية الطارئة خاصة في علاقة مع رهانات الإصلاح التربوي الجاري الذي يضع مبدأ الإنصاف ضمن أولوياته، من خلال توفير تعليم منصف ومتكافئ في إطار قواعد من العدالة الاجتماعي ة ودون تمييز نوعي أو مجالي أو طبقي.
وتحاول هذه الدراسة الإجابة عن سؤال مركزي وهو: إلى أي مدى يمكن للتعليم عن بعد أن يحافظ على هدف الإنصاف وتكافؤ الفرص في العملية التعليمية التعلمية؟
وللإجابة عن هذا السؤال ستحاول الدراسة الإجابة على الأسئلة الفرعية الآتية:
ما هي رهانات العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص في قطاع التعليم؟
ما هي خصائص الوضعية التعليمية التعلمية خلال اعتماد التعليم عن بعد؟
ما هي المعيقات التي يسببها التعليم عن بعد والتي ينتج عنها عدم تكافؤ في الفرص؟
وما هو تأثير التفاوتات الأصلية على التفاوتات التعليمية خلال عملية تعليمية عن بعد؟
ب – أهداف الدراسة:
تهدف هذه الدراسة إلى تحقيق الأهداف الآتية :
- إثارة الانتباه إلى ضرورة اعتماد مؤشر تكافؤ الفرص خلال تقويم نمط التعليم عن بعد، أو خلال العمل على وضع سياسات تربوية تروم تعميم واستدامة العمل به.
- إعادة التأكيد على تحدي تكافؤ الفرص في المدرسة المغربية كأحد المعضلات المزمنة التي تعيق النجاح في مختلف الإصلاحات المتعاقبة.
- فتح المجال لنقاش علاقة الوضعية الأصلية للأسر المغربية بالتحصيل الدراسي لأبنائها.
- تحديد أهم الإجراءات اللازم اتخاذها في حال قررت وزارة التعليم اعتماد نمط التعليم عن بعد كنمط مستدام زمانا زمكانا.
- فتح المجال للنقاشات التربوية والبيداغوجية المرتبطة بالتعليم عن بعد، بدل الاقتصار على الأبعاد التقنية والرقمية.
ج ـ أهمية الدراسة:
تكمن أهمية هذه الدراسة في كون موضوعها يتناول قضيتين هامتين ملحتين في السياق التربوي المغربي. أولها موضوع الإنصاف في التعليم باعتباره أحد الدعامات الأساسية التي بنيت عليها الرؤية الاستراتيجية لإصلاح التعليم بالمغرب (2015-2030)، حيث تم وضع جملة من المشاريع والتدابير من أجل تقليص الفجوة بين مختلف الطبقات الاجتماعية والجهات الترابية لضمان تعليم منصف بين كل المغاربة. كما أن هذه الرؤية تتبنى مشاريع التطوير التكنولوجي والرقمي في قطاع التعليم، حيث تم التنصيص عن “التعليم عن بعد” كخيار معروض للتطوير والإرساء داخل المنظومة التعليمية المغربية، والتي سرعت جائحة كورونا بإبراز أهميته وملحاحيته، وفضح هفواته وتحدياته التي لا بد من مقاربتها بنفس تربوي وبإرادة سياسية عابرة للقطاعات الحكومية.
لذلك فإن هذه الدراسة تكتسب أهميتها من راهنيتها، ومن مساهمتها في النقاش العمومي الدائر بين مختلف المهتمين والمتابعين للشأن التربوي، وأيضا من كون الزمن التربوي في المغرب هو زمن إصلاحي بامتياز يعرف عدة أوراش للعمل تروم تجاوز الإعاقات التي راكمتها المنظومة، ومن شأن دراسة من هذا النوع أن تفصح عما لم يفصح عنه العمل الإداري اليومي الغارق في تدبير الأزمة بمنطق الحفاظ على استمرارية واستقرار الوضع أكثر من التفكير في استشراف الإشكالات المتوقعة من خارج المنظومة التعلمية.
د – مفهوم التعليم عن بعد:
التعليم عن بعد هو تلك الوضعية التعليمية التعلمية التي تتم من خلال الاعتماد على التقنيات الرقمية والوسائل التكنولوجية، مما يجعل أهم خصائصه هي الفصل المكاني بين المتعلم والمعلم من جهة وبين المتعلم وباقي زملائه من جهة أخرى. فهو “نظام تعليمي يقوم على فكرة إيصال المادة التعليمية إلى الطالب عبر وسائط اتصالات تقنية مختلفة حيث يكون المتعلم بعيدا ومنفصلا عن المشرف”[1]، و”يشمل كافة أساليب الدراسة وكل المراحل التعليمية التي لا تتمتع بالإشراف المباشر والمستمر من قبل معلمين يحضرون مع طلابهم داخل قاعات الدراسة التقليدية. ومع ذلك تخضع عملية التعليم فيه لتخطيط وتنظيم وتوجيه من قبل مؤسسة تعليمية وأعضاء هيئة تدريس”[2].
هنا تصبح البيئة التعليمية بيئة إلكترونية توفر عددا من الامتيازات؛ منها:
- سهولة الوصول إلى المادة المعرفية، حيث أن تنزيلها رقميا يسهل الوصول إليها في أي وقت وفي أي مكان.
- يسر التواصل مع المدرس، وتخفيض الكلفة الزمنية. فالتواصل يكون ميسرا دون الحاجة إلى التنقل بين البيت والمدرسة سواء بالنسبة للمتعلم أو المدرس. إلا أنه ينبغي البحث في أثر هذا التواصل وعمقه ومدى استيفاء مهمته البيداغوجية. وهذا يحتاج بحوثا لقياس النجاعة التربوية وليس فقط الرقمية والتقنية.
- تقليل الأعباء الإدارية والتنظيمية على مستوى المؤسسات التعليمية، فعدم حضور المتعلمين إلى قاعات الدرس وفضاء المؤسسة سيخفف عبء المراقبة والتنظيم وقواعد الحفاظ على النظام الداخلي للمؤسسة. لكن سيظهر عبء آخر مرتبط بالقدرة على ضبط ومتابعة حضور المتعلمين عبر الوسائل التقنية.
- التجاوب مع التطور التواصلي الذي تعيشه المجتمعات المعاصرة، وهو تجاوب لا يمكن تفاديه أو تأجيله حتى لا تصبح المنظومة التعلمية متجاوزة وغير متجاوبة مع الحاجيات النفسية والرقمية للمتعلمين.
- التفاعل مع توصيات المنظمات الدولية المختصة، وهي توصيات تتجه في جزء كبير منها إلى إدماج التطور التكنولوجي في طرائق التعليم.
- التربية ومسألة التفاوتات الاجتماعية:
أ- المدرسة بين الاستحقاق والإنصاف:
تقوم فكرة الإنصاف عند راولز RawlsJ.على مبدأين؛ أولهما الحرية الشخصية التي يجب أن يتساوى فيها الجميع على كل المستويات بما فيها المساواة الاقتصادية والاجتماعية. وثانيهما ضمان الفرص العامة للجميع، دون استبعاد أو إقصاء أي فرد على أي أساس تمييزي، ثم، وهذا الجزء الأهم، ضمان المساواة التوزيعية التي تراعي مبدأ التفاوتDifférence Principale. ويعني بالمساواة التوزيعية أن يجعل أفقر أفراد المجتمع في أحسن حال ممكن، وذلك من خلال إتاحة الفرص للناس بشكل متساو مع الحرص على تسهيل وصولهم إليها بما يملكون من وسائل وإمكانيات ذاتية. فقد تكون الفرص متاحة للجميع وحرية الوصول إليها مضمونة للجميع، لكن ما يستطيع شخص معاق، مثلا، تحقيقه بتلك الفرص هو أقل مما يمكن لشخص سليم الوصول إليه. ومن المهم ملاحظة ما أخرجه راولز من دائرة اهتمامه المباشر في حساباته التقييمية، كالمزاعم القائمة على الحقوق المرتبطة بفكرتي الجدارة والاستحقاق. وهو ما يقدم تبريرا عقلانيا لما قد أدرج وأخرج[3].
وإذا أسقطنا هذه النظرة على المدرسة، فسنجد أنفسنا أمام تحدي تحقيق الإنصاف من خلال معالجة التفاوتات الأصلية التي يصطحبها رواد المدرسة معهم من أوساطهم الاجتماعية والثقافية والاقتصادية من جهة، ومن جهة أخرى نجد تحدي ضمان مستوى من تكافؤ الفرص التعليمية، حتى لا تنتج المدرسة تفاوتات جديدة تعيد تصديرها إلى المجتمع. خاصة أن المدرسة تعتمد في تصنيفها للمتعلمين على مبدأ الجدارة والاستحقاق باعتباره آلية لتوزيع العدالة، في حين تغفل عن ضمان وضع قبلي عادل ومنصف. وهذا ما أكده صوروكان SorokinP.الذي قال إن الوظيفة الأساسية للمؤسسة التعليمية هي تصنيف المتعلمين بما يحدد علاقة خطية دقيقة بين قدراتهم من جهة والقدرات التي تتطلبها مختلف أنواع المهن والمواقع التي تميز البنية السوسيومهنية في المجتمع. “فالمجتمعات الصناعية تنتصر للاستحقاق والجدارة، بمعنى أنها تعطي تقديرا خاصا للكفاءات النادرة والاستثنائية وتضع ثقتها في منظومة التعليم التي تعمل على تحديد هذه الكفاءات”[4]. ولأن تلك الكفاءات تختلف باختلاف الطبقات الاجتماعية، فإن المدرسة تجد نفسها وهي تعلي من قيمة المستحقين إنما تعطي فرصا وامتيازات لطبقات على حساب طبقات أخرى. لذلك فقد اشتغلت السوسيولوجيا على هذا الترابط الذي يؤثر بشكل كبير على الحراك الاجتماعي بدلالة الأصل الاجتماعي . فرغم أن هناك تقدما ملحوظا على مستوى تكافؤ الفرص في الولوج إلى التعليم والحصول على مساواة داخل المؤسسة التعليمية بين مختلف الفئات الاجتماعية إلا أن تأثير ذلك على الترقي الاجتماعي بقي متواضعا حيث مازال صدى الأصل الاجتماعي يتردد داخل مخرجات النظام التعليمي.
بل إن المجتمع يعج بالتأثيرات الاجتماعية المتولدة عن غياب العدالة الاجتماعية بين مختلف دوائر العدل. فقد اعتبر والزرWalzerM.أن أنظمة التفاوتات يتم إنتاجها من جميع مجالات النشاط الاجتماعي؛ المدرسة تنتج تفاوتاتها الخاصة، كما الاقتصاد والثقافة والسياسة … وغيرها. وعدم المساواة التي تنتج عن أي مجال تنشئ ظلما جديدا وعدم مساواة في مجال آخر. فعدم المساواة في الدخل يؤدي إلى عدم المساواة في مجال الدراسة والثقافة والصحة …وغيرها. لذلك فينبغي أن يكون واضحا أن علاج التفاوت وتحقيق الإنصاف في الوسط المدرسي هدف لا يمكن أن تخوض فيه المدرسة بمعزل عن القطاعات المجتمعية الأخرى. ومهما عملت المدرسة على تنويع أساليب المساواة فأثرها لا يمكن أن يظهر أمام بنيات مهنية غير متساوية. فهناك دائما حرف يدوية ووظائف راقية تصاحبها تمثلات مجتمعية تمارس تأثيرها على الفضاء المدرسي وتصنع رغبات التلاميذ وتشكل ميولاتهم ورهاناتهم، فتجد المدرسة نفسها عاجزة عن مجاراتها في إطار من العدالة والإنصاف وتدبير الاختلافات. “فالمدرسة العادلة ليست مدرسة بدون اختلافات وليست كل اختلافات غير عادلة. ولا ينبغي أن نخفي أن المضامين المقدمة للتلاميذ ليست كلها محفزة ومرغوبة من طرف جميع التلاميذ. وبالتالي فإنهم لا يحصلون نفس المنفعة والنتائج خلال رشدهم. ولكن إذا قررنا المواءمة بين جميع الطلبات والرغبات فإن ذلك يهدد مفهوم التعليم المشترك. مهما يكن، لا بد من تكيف المدرسين مع المتعلمين، ولكن ذلك سيظل ناقلا مفضّلا لعدم المساواة”[5].
ب – من التفاوتات الأصلية إلى التفاوتات التعليمية
الحقيقة أن الأداءات المدرسية للتلاميذ مرتبطة أشد الارتباط بالأصول الثقافية لآبائهم حيث تصبح المساواة الحقيقية مجرد خيال. فرغم الدمقرطة في الولوج للتعليم، فإن التفاوتات الاجتماعي ة مستمرة في توزين مسارات التلاميذ. أغنياء أو فقراء، باطرونا أو عمال، لا يتابعون نفس الدراسة وبالتالي فالفائزون في الانتقاء المدرسي ينقسمون دائما بدلالة أصولهم الاجتماعي ة. وهذا ما سماه ميرل P. Merle الفصل العنصري démocratisation ségrégative. ففي الوقت الذي يخضع جميع الأطفال لنفس قواعد المنافسة المدرسية، فإن تلاميذ المدارس العليا والتكوينات العالية والأكثر دخلا ومردودية يكونون أكثر حظا من تلاميذ التكوينات المهنية والمسارات الجامعية ذات الولوج المفتوح والأعداد الكبيرة”[6]. وإذا اتخذنا جميع التدابير لخلق مدرسة تحترم المساواة وتكافؤ الفرص بشكل كلي ومطلق، وإذا افترضنا أن هذا النموذج محاط بجرعة هامة من التمييز الإيجابي وبإجراءات الحد الأدنى للجميع، يجب الاعتراف بأن المدرسة تنتج بشكل حتمي تفاوتات مدرسية، تؤدي بدورها إلى خلق تفاوتات اجتماعية.
فمبدأ الاستحقاق جعل المدرسة أكثر مساواة لأنها سمحت للتلاميذ بالدخول في سباق داخل نظام موحد ومنسجم على الأقل من الناحية النظرية. لكنه اصطدم بتفاوتات اجتماعية من خارج المدرسة تقلص من نسبة تحقق العدالة والإنصاف الاجتماعي ين في الوسط التربوي. فالمنافسة المدرسية مهما بلغت من الموضوعية القائمة على الجدارة والاستحقاق فإنها لا تأخذ بعين الاعتبار أشكال التفاوتات الاجتماعي ة الموجودة داخل المجتمع، والتي يحملها المتعلمون معهم إلى الوسط المدرسي، مما يجعل الوسط الذي تتم فيه المنافسة غير عادل؛ تفاوتات في الذكاءات المتعددة، وأخرى تهم النوع البشري وثالثة تفرضها الطبقات الاجتماعي ة أو الاختلافات المجالية وهكذا. وهي تفاوتات تتجاوز المتعلم، بل يجد نفسه مقيدا بها وليس من العدل في شيء أن يحاكم على أساسها.
وعندما يرتبط النجاح الدراسي بالاستحقاق القائم، فقط، على المجهود الذي يبذله المتعلم في مساره الدراسي دون استحضار التفاوتات الاجتماعي ة أو العائلية أو المجالية أو النوعية أو البيولوجية، فإنما تتم شرعنة ذلك النجاح باسم عدالة مفتقدة، خاصة أن الفاشلين لا ينظر لهم باعتبارهم ضحايا التفاوتات ونقص العدالة، وإنما يعتبرون مسؤولين عن فشلهم مادامت المدرسة قد قدمت لهم كل فرص النجاح وبالتساوي. في حين أن هذه المدرسة فرضت عليهم نظاما يخضعون فيه باستمرار للمقارنة والترتيب والتصنيف على أسس غير منصفة. وهو ما يجعل من المدرسة فاعلا قويا في عملية الانتقاء والاصطفاء الاجتماعي ثم إعادة الانتاج. “فكل منافسة تحدث تفاوتات كبيرة بين التلاميذ، وكلما سعى المدرس لتقليصها فإنها تظل قائمة، حتى عندما يتطور مستوى التلاميذ فإن ترتيبهم في عمومه يبقى كما هو”[7].
وإذا كان الوضع على هذا الشكل في ظل تعليم حضوري يؤمن على الأقل مستوى من مساواة المكان والزمان والجو التربوي والتعاقد البيداغوجي، فكيف سيكون الأمر في ظل تعليم عن بعد تنتفي فيه ضمانات المساواة الأولية في أبعادها الدنيا؟ إذ يتم نقل المدرسة إلى أفضية وأزمنة غير متكافئة يزيد فيها عجز المدرسة عن تحييد كل ما من شأنه أن يرجع إلى المسؤولية الفردية والأصل الاجتماعي من أجل بلوغ استحقاق عادل. فتأثيرها يصبح محدودا جدا ولا يمكنه إحداث تغيير عميق على مستوى الحد من إنتاج التفاوتات المدرسية. مقابل تنامي حظوظ أولئك الذين يجدون ضالتهم وامتيازاتهم في النموذج الاستحقاقي. خاصة عندما يكون هؤلاء المستفيدون هم الطبقة الفاعلة في صياغة ووضع خيارات السياسات العمومية في المجال التربوي. فالفاعلون يقفون دائما ضد أي محاولة لسحب أي امتياز منهم، في حين أن الطبقات الأكثر تضررا وتموقعا من المدرسة ليس لهم المجال ولا الإمكانية ولا الكفاءة من أجل أخذ الكلمة للدفاع عن مستقبل أبنائهم.
- التوجهات الدولية للعدالة الاجتماعي ة في التعليم:
تنكب مختلف المنظومات التعليمية في العالم العربي على جعل المدرسة مؤسسة منصفة وعادلة، وقد اهتمت بهذه الغاية أكثر من اهتمامها بتطوير نمط التعليم عن بعد[8]. حيث لازال توظيف التعليم عن بعد في العمليّة التعليميّة في مراحله الأولى، كما أن مؤسسات التعليم عن بعد محدودة العدد ولا تتناسب مع عدد السكان.
أـ تكافؤ الفرص في التعليم مطلب دولي:
يظهر الاهتمام الزائد بمطلب تكافؤ الفرص من خلال توصيات المنظمات العربية والدولية. فقد ورد في الكثير من المعاهدات والاتفاقيات الدولية خاصة تلك المعنية بحقوق الإنسان، بدءا من الإعلان العالمي لعام 1948. كما فرضت اتفاقية حقوق الطفل عام 1989 على الدول أحكاما تلزمها بالعمل “تدريجيا وعلى أساس تكافؤ الفرص” على تحقيق الإعمال الكامل لحق الطفل في التعليم. كما تناولت عدة مواثيق دولية، مثل العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعي ة والثقافية، مبدأ العدالة عن طريق التأكيد على مسؤولية الحكومات عن توفير كل الشروط الضرورية ليستفيد جميع الأطفال من تعليم يتسم بدرجة مقبولة من الجودة. وحيثما تتناول الشرعية الدولية لحقوق الإنسان موضوع التعليم، فإن اهتمامها الأساسي ينصب على الإنصاف: أي على هدف تحقيق مزيد من المساواة في حصيلة التعلم وفرص الالتحاق بالتعليم. وهذا الهدف هو إقرار بتساوي قدرات جميع الأطفال على تنمية مهاراتهم المعرفية الأساسية إذا ما أتيحت لهم بيئة التعلم الصحيحة.
ورغم أن عدة دول وحكومات عربية أدرجت مطلب الإنصاف في دساتيرها الوطنية ومشاريعها التعليمية، إلا أن ذلك لم يكن كافيا للإحاطة بجميع التدابير اللازمة للوصول إلى نسب كبيرة من الغايات المرصودة لذلك. ولعل أكبر عائق يمكن تسجيله هو الاقتصار في تلك التدابير على ما يقع داخل أسوار المدرسة وعدم الالتفات بشكل جدي إلى معالجة التفاوتات الأصلية التي تنتعش خارج الأسوار في إطار واقع اجتماعي واقتصادي وثقافي يهيمن على مختلف المؤسسات الاجتماعية وعلى رأسها المدرسة.
كما أن هذه التفاوتات الأصلية لا تعالج بالقوانين فقط، إذ أنه إلى جانب التمييز على مستوى المدرسة توجد مظاهر خارجية لتمييز منبث في العمليات الاجتماعي ة والاقتصادية والسياسية التي تحد من فرص الحياة المتاحة لبعض الجماعات والأفراد. مما يعني أن اختلال العدالة الاجتماعي ة في قطاع التعليم لا يصيب المتعلمين جزافا داخل المدرسة وإنما هو واقع ناتج عن سياسات وعمليات تساهم في إدامته فيصطحبه المتعلمون معهم إلى المؤسسة التعلمية التي تجد نفسها عاجزة عن تجاوزه أو تفاديه. “وهو ما جعل هواجس العدل والإنصاف تطغى باستمرار على النقاش الأخلاقي في العالم أجمع بصرف النظر عن الفوارق السياسية والدينية والأدبية. ويجمع ميثاق الأمم المتحدة هذه الهواجس في إطار التزامه بالطابع العالمي لحقوق الإنسان في حين تكرس المؤسسات والمدونات القانونية مسألة الإنصاف في القانون العام. كما أن الحركات السياسية المطالبة بالعدالة الاجتماعي ة تعمل على التعبئة حول قضايا تكافؤ الفرص وعدم التمييز والعدالة في توزيع الموارد. على أمل أن يشكل التضافر بين تأثير الاتفاقيات الدولية الخاصة بحقوق الإنسان وفعل القوانين والتعبئة السياسية حافزا قويا لمكافحة الحرمان في مجال التعليم”[9]. فالتهميش في مجال التعليم يجد أصوله في أوجه اللامساواة الاجتماعي ة. وقلما يكون نتيجة لتمييز يمارس بشكل رسمي.
والجدير بالملاحظة في مقاربات المنظمات الدولية لقضية التعليم هو توجيه الأصبع مباشرة لدور الحكومات ونجاعة السياسات العمومية التربوية والاجتماعية مما يحملها كامل المسؤولية في أي فشل أو تأخر في تحقيق العدالة التربوية والتعليمية. وعلى الرغم من وجود الكثير من النقاشات بشأن محاولات تعريف نوعية التعليم إلا أن تكافؤ الفرص يبقى مؤشرا دالا “حيث ينبغي أن تنجح النوعية في اختبار تحقيق التكافؤ: فالنظام التعليمي الذي يتم بممارسة التمييز على فئة معينة أيا كانت، لا يضطلع برسالته”[10] سواء أكان تعليما حضوريا أو عن بعد.
الأمر يشمل أيضا سؤال الحكامة في تدبير السياسات التربوية حيث ترى اليونسكو في تقريرها لسنة 2009 أن “أوجه التفاوت الراسخة والمستمرة القائمة على أساس الدخل ونوع الجنس والموقع الجغرافي والانتماء الإثني وغير ذلك من مسببات الحرمان تشكل عائقا كبيرا أمام التقدم في التعليم. وأن اللامساواة في مجال التعليم ترتبط بوجود أوجه للتفاوت أوسع نطاقا تتعلق بتوزيع السلطة والثروة والفرص، تكرسها سياسات تجيز عدم التكافؤ في توزيع الفرص أو تسهم في استفحاله، ويتغذى من ثم توارث الفقر من جيل إلى جيل”[11].
وتنتقد اليونسكو بشدة أشكال اللامساواة الملاحظة في العديد من الدول خاصة تلك التي تسببها الظروف التي يولد فيها الطفل أو جنسه أو مستوى ثراء والديه ولغتهم ولون بشرتهم. “فوجود أوجه تفاوت كبيرة في مجال التعليم ليس أمرا منافيا للإنصاف فحسب وإنما يسيء أيضا إلى الفعالية، فهو يعيق النمو الاقتصادي ويحول دون التقدم في مجالات أخرى. كما أن أوجه التفاوت الشديد في مجال التعليم ترتبط بأشكال التفاوت الأوسع الموجودة في المجتمع”[12]. وتدع إلى معالجة الأمر عبر تثبيت حكامة سليمة، حيث تعتبر أن “الحكامة في أوسع معانيها هي العمليات والسياسات والترتيبات المؤسسية التي تربط بين مختلف الأطراف الفاعلة في مجال التعليم. وهي التي تحدد مسؤوليات الهيئات الحكومية على الصعيدين الوطني ودون الوطني في مجالات مثل الشؤون المالية والتنظيم الإداري ووضع وتطبيق القواعد التنظيمية. فقواعد الحكامة تحدد من يقرر ماذا، ابتداء من مستوى وزارة المالية أو وزارة التربية على الصعيد الوطني ونزولا حتى مستوى قاعة الدرس ومستوى المجتمع المحلي”[13].
كما أن المنظمات الدولية تربط بين الإنصاف في التعليم وتأثيره على مجالات أخرى، فجدول أعمال برنامج “التعليم للجميع” يستند إلى التزام بحقوق الإنسان وبالعدالة الاجتماعية. ويحدد للسياسة العامة للدول خارطة طريق تربط التعليم بأهداف إنمائية أوسع نطاقا. على اعتبار أن تحقيق الإنصاف في مجال التعليم هو مدخل استراتيجي للتقدم في مجالات أخرى. فهل تفي الدول العربية بالتزاماتها بخصوص مطلب العدالة الاجتماعي ة في إطار نظام للتعليم عن بعد؟
ب ـ تكافؤ الفرص في التعليم وسؤال الجودة:
فيما تشتغل الدول العربية على البعد الكمي من خلال تعميم التعليم باعتباره مستوى من مستويات تكافؤ الفرص، خاصة في الدول التي لازالت تعاني من نسب عالية من الأمية والهدر المدرسي، تبرز إشكالية أخرى مرتبطة بتحقيق الجودة باعتبار ذلك مستوى ثاني في التكافؤ المطلوب، وهو تكافؤ استراتيجي. ذلك أن تمتيع مختلف الفئات من نفس مستوى الجودة التعليمية والظروف التعليمية من شأنه أن يكسبهم مهارات وقدرات تمكنهم من مواجهة التنافس العادل على مناصب العمل في سوق الشغل. خاصة أن التطور الذي يعرفه هذا السوق يؤول إلى فتح فرص أكبر للترقي الاجتماعي على أساس ما يتوفر عليه الفرد من كفاءة وجدارة واستحقاق في مجال تكوينه وتخصصه. وإن أي تفاوت في الجودة المقدمة في المرحلة التعليمية إنما هو تأسيس لتفاوت على المستوى السوسيومهني في الأفق المنظور، وهو إعادة إنتاج أو إعادة إدماج للمتعلم في الطبقة السوسيومهنية التي تنتمي إليها أسرته، مما ينتفي معه رهان الترقي الاجتماعي والوظيفي. وتحدد اليونسكو إطارا لتعريف الجودة وذلك من خلال أرضية الأهداف المشتركة التي ترمي إلى تعزيز المناقشات المتعلقة بالجودة حيث تدمج “إمكانيات الحصول على ثمار التعلم” ضمن “الإنصاف في فرص التعليم”، لذلك فإن أي فشل يلحق أي متعلم في الاندماج والترقي المهني ينبغي ربطه بانخفاض في جودة خدمات التعليم المقدمة له قبل تحميل المسؤولية للمتعلم.
كما أن الدول في سعيها إلى تحقيق تلك الجودة ينبغي أن تراعي ظروف التفاوتات الطبقية والجنسية والمجالية التي لازالت تحد من الجودة المرجوة وتشكل أقوى الأسباب لأي فشل أو تعثر أو انقطاع أو عدم مساواة دراسية. فالجودة والعدالة عاملان مترابطان برابطة لا انفصام لها.
ويظهر ذلك جليا على مستوى التعليم الثانوي لأنه مناط بمهمة مزدوجة؛ “تأمين المهارات للتوظيف المبكر بالنسبة إلى بعض الأفراد واختيار وإعداد الآخرين للتعليم العالي بحسب اهتمامهم وقدراتهم الأكاديمية”. وهنا يلاحظ أنه على مستوى التعليم الثانوي هناك عمليات توجيه وتصنيف تسبب في حرمان فئة من المتعلمين من فرص ولوج التعليم العالي وتحقيق ترقي اجتماعي أفضل والحصول على وظائف جيدة على أساس الاستحقاق وليس الامتياز، وذلك بسبب مسارات التمدرس والتكوين المهنيين التي يجدون أنفسهم فيها اضطرارا أو اختيارا. لذلك نبهت اليونسكو إلى أنه “يجب توخي الإنصاف والإدماج بدرجة أكبر في التعليم الثانوي مع توفير أوسع الفرص الممكنة للاستجابة إلى قدرات الشباب واهتماماتهم وخلفياتهم على أنواعها”[14].
ومع الانتشار المتزايد للتعليم المهني الذي يستقطب في معظمه التلاميذ المتوسطين والمتعثرين من أبناء الطبقات الهشة والضعيفة، والذي يسهل الانتقال السريع من المدرسة إلى العمل على المدى القصير، إلا أنه لا يسمح بولوج المهن العليا. فقد أظهر تحليل شمل 18 بلدا من منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي أن الذين يلتحقون بالتعليم العام يحظون بفرص عمل أفضل على المدى الطويل. ذلك أن مؤهلات التعليم المهني تبقى متدنية المستوى وبجودة أضعف يجعلها غير قادرة على تأمين العائدات الكافية لسوق الشغل. بل تكون أحيانا مسيئة لأنها تبعث بإشارات سلبية إلى أصحاب العمل. فالمسار التعليمي المهني يستقطب أبناء الأسر الفقيرة والمهمشة، الذين يعرفون تعثرات دراسية كبيرة في التعليم العام، ثم يقدم لهم عرضا تكوينيا بسيطا ليجدوا أنفسهم في مهن بسيطة. كل ذلك لا يمكن إلا أن يعيد إنتاج التفاوتات ويعيق مجهودات الإنصاف وتكافؤ الفرص.
- التعليم عن بعد ورهان العدالة الاجتماعية
رغم أن التعليم عن بعد كان هدفا حاضرا في التوجهات الكبرى للمنظومات التعليمية خلال السنوات الأخيرة، إلا أن تنزيله في الواقع بقي محتشما إلى أبعد الحدود في أغلب دول العالم العربي خاصة في المستويات الدراسية الابتدائية والثانوية. حيث شكلت الدروس المتلفزة أقصى ما أنتجت وزارات التعليم بشكل مؤسسي ومنتظم، قبل أن تتوقف بدورها بسبب ضعف نجاعتها وتأثيرها من جهة، وبسبب الانتشار الواسع للأجهزة الرقمية التي دفعت الأجيال الحالية إلى العزوف عن التلفزة بشكل لافت، مما أدى إلى انخفاض نسب متابعتها. وانصبت أهم جهود وزارات التعليم على رقمنة الإجراءات الإدارية مع بعض المشاريع التربوية التي شملت تكوينات وتجهيزات لفائدة الفاعلين والمؤسسات التعليمية. إلا أن تلقين الدروس وممارسة العملية التعليمية التعلمية عن بعد بشكل ممنهج يكاد يكون منعدما بالكامل.
ومع الظهور المفاجئ لجائحة كرونا مطلع سنة 2020 وجدت الحكومات نفسها مضطرة لإنقاذ الموسم الدراسي عبر اللجوء إلى آليات تعليمية عن بعد، تعتمد إرسال الدروس عبر تطبيقات رقمية أو بثها عبر منصات إلكترونية أو توظيف وسائط التواصل الاجتماعي وغيرها. إلا أن العملية التعليمية لم تكتمل ناجعة، ذلك أن التعليم عن بعد ليس فقط مجرد كاميرات وأنترنيت وتطبيقات وحاملات إلكترونية، بل هو أساسا تواصل وتحفيز ومواكبة للاستعدادات وعقد بيداغوجي بين المعلم والمتعلم. وهي الأسس التي غيبتها سرعة اللجوء إلى التعليم عن بعد قبل إرساء كل شروطه التربوية والبيداغوجية والنفسية والتقنية والبشرية والتكنولوجية. فمنطق الصورة المنقولة هو غير منطق الصورة المباشرة، وتأثير الصوت المرقمن ودفء الحضور الجسدي لا يمكن أن تعوضه أي دعامة سمعية بصرية، خاصة عندما يكون المتحدث من خلالها مدرسا لم يسبق له ان استفاد من أي تكوين أو تأهيل للوقوف أما الكاميرا وإلقاء درس تعليمي، وإيفاء الوضعية ما تستحقه من الشروط التي تحول تواصله البعيد مع المتعلمين إلى تواصل مؤثر وإيجابي. فلا المعلم يمتلك المهارات الكافية لذلك، ولا التجهيزات المتاحة تساعد على تجاوز الثغرات المتوقعة، ولا المتعلم يمتلك تجربة وتأهيلا مسبقا لتقبل هذا النمط التعليمي. لكن هذا الأخير أزاح الستار عن واقع العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص بين المتعلمين، وأظهر جليا حدود رهانات السياسات التربوية في إرساء مدرسة الإنصاف والمساواة. ويمكن أن نلامس ذلك من خلال مستويين اثنين؛ أولهما من خلال ما تعرضه المؤسسة التعليمية في إطار التعليم عن بعد، وثانيهما من خلال ما يفرضه الوضع الاجتماعي والاقتصادي والثقافي من واقع يحد من نجاعة وتأثير الإجراءات التربوية الرامية إلى تحقيق الغايات المنشودة.
أـ محدودية العرض التربوي:
إذا كان خيار التعليم عن بعد تدبير اضطراري استثنائي لحالة طارئة لا تسمح لنا بغيره من أجل ضمان استمرار زمن التعلم افتراضيا، فإن ذلك يعني أننا في وضعية استثنائية لمنظومات تعليمية تعيش أزمة مزمنة واقعيا، وهي غير مهيأة لتقديم تعليم عن بعد ناجع وذي جودة، ولا يمكن أن تتهيأ بين ليلة وضحاها، لأن هناك ضرورة للاشتغال على أكثر من مستوى لضمان تعليم عن بعد ذي مردودية مرضية ومنصفة:
أولا/ إن المناهج والطرائق الديداكتيكية في التعليم عن بعد، هي غير الطرائق في التعليم المباشر. واجتهادات دول العالم العربي على هذا المستوى ما تزال محتشمة. فحتى وإن كانت هناك محاولات ومبادرات لمدرسين مبدعين إلا أن القائمين على الأمر لا يذهبون بها إلى أبعد ما يمكن، ولا توفر لها الوسائل والإمكانيات الضرورية للتطوير. وبالتالي فالأمر يتطلب جهدا مزدوجا؛ في مستواه الأول ينبغي تطوير المناهج البيداغوجية بما يتلاءم مع طبيعة نمط التعليم عن بعد. ثم، في مستوى ثاني، ينبغي استحضار مطلب تكافؤ الفرص في هذه المناهج بما هو تدبير للفروق الفردية والذكاءات المتعددة. “فقد يعاني الطفل أو المراهق من نوبات من الإحباط الشديد إذا لم يتم تلبية احتياجاته الفورية. ويمكن أن ينعكس القلق المتولد عن هذا الموقف بما يحتاج معه التلميذ للمساعدة على التعامل التدريجي مع هذا الإحباط المرتبط بعدم إشباع الرغبات، وخيبة الأمل في مواجهة الفشل، عن طريق التأجيل التدريجي لإشباع الحاجة المعلنة”[15]. فهل أعدت المدرسة في الدول العربية طرائق التعليم عن بعد بما يكفي من الإعداد والتحيين لتحقيق ذلك الإشباع وتلبية تلك الحاجات الفورية؟
ثانيا/ إن التعليم عن بعد يفترض تعاقدات بيداغوجية وتربوية جديدة بين المدرس والمتمدرس، وهي تعاقدات لها خصوصيتها الافتراضية. فالأستاذ خلال حصة للتعليم عن بعد لا يمكنه أن يلامس، ولا يستطيع أن يتدخل في، البعد النفسي للمتعلم وما يحيط به أثناء الزمن الدراسي الافتراضي للحصة، ولا يتحكم في السيرورة التعليمية الحاسمة في التعليم الجماعي، ولا يتمكن من بناء تلك الروابط العاطفية بينه وبين المتعلمين، وغيرها من الشروط التي يوفرها وجود المتعلمين في الفصل الواحد. وهي قضايا كبرى تناولها علماء التربية والتعليم بالتحليل والتطوير، ولا يمكن أن نلقي كل ذلك جانبا ونتحدث عن “تعليم عن بعد” مجرد من الأحاسيس تماما، خاصة في المستويات الابتدائية والثانوية. ومعلوم أن هذه التعاقدات بين المدرس والمتعلم، وإن أخذت طابعا بيداغوجيا أو ديداكتيكيا واضحا، فهي في عمقها تدبير سيكولوجي وسوسيولوجي للحصة الدراسية يتم من خلالها معالجة التفاوتات وبث دفء الاجتماع في الفصل الواحد بقواعد عمل موحدة، وضوابط مشتركة تعطي بعض الإحساس بالتكافؤ في الفرص والوضعيات.
ثالثا/ إن الأستاذ الذي يلقي درسا تعليميا عن بعد يحتاج إلى كفايات خاصة تهم الإلقاء في هذا الأسلوب من التعليم، ومهارة التصميم التعليمي الرقمي. فضلا عن الحاجة إلى تغيير شامل في الخلفية التربوية التي يرى من خلالها المدرسون مهمتهم التعليمية والتربوية. “حيث هناك حاجة لتطوير علم أصول التدريس ليتلاءم مع المفاهيم التعلمية الجديدة، فعملية التعليم عبر الشبكة تتطلب من المدرس إعادة التفكير والنظر في تصور بنية المساقات الدراسية وإعادة التفكير بالعملية التقويمية أيضا”[16]. ويطرح السؤال العريض في هذا السياق على الأعمال المختبرية والتجارب العلمية للتخصصات العلمية والهندسية.
كما أن المؤسسات التعليمية تحتاج إلى تجهيزات كافية لضمان سيرورة بوتيرة منتظمة للدروس. وهذا تختلف فيه مؤسسة عن أخرى خاصة عندما نقارن المؤسسات مجاليا؛ بين مؤسسات البوادي ومؤسسات الحواضر، وطبقيا؛ بين مؤسسات التعليم العمومي ومؤسسات التعليم الخصوصي. وبالتبع تكون النتيجة هي تعذر التكافؤ بين تلاميذ مؤسسة تعليمية وأخرى. ويبرز التحدي أكبر مع سرعة التغيير التكنولوجي في التقنيات والبرامج والأجهزة بما يتطلب جاهزية وتعبئة دائمة وتحيينا مستمرا للترسانة التقنية.
ب ـ تحدي التفاوتات الأصلية:
إن الأهم في هذه التجربة الاضطرارية هو أنها أسهمت في رفع الستار عن تحديات تتجاوز حدود المدرسة وإمكانياتها لتحقيق تعليم عن بعد منصف ودون الاخلال بمطلب العدالة الاجتماعية في المدرسة. وهذا يعيد النقاش إلى التفاوتات الأصلية التي تشكل أكبر عائق لتحقيق تكافؤ الفرص في إطار المنظومة التعليمية، بل تساهم في إعادة إنتاج التفاوت واللامساواة السوسيوتربوية والسوسيومهنية والسوسيوتموقعية وسط النسيج المجتمعي وطبقاته المتصارعة. ويمكن رصد هذا التأثير من خلال ثلاثة مستويات:
أولا/ أول ما يطرح في مسألة التعليم عن بعد هو الوسائل الضرورية التي ينبغي أن يتوفر عليها المتعلم لتلقي المادة التعليمية وتحقيق التواصل المفترض مع المعلم. ومن أهم هذه الوسائل أجهزة التكنولوجيات الذكية وصبيب الأنترنيت. وهنا يطرح مستوى العيش لدى الأسر[17] ومدى قدرتها على توفير هذه الوسائل، خاصة عندما تضم هذه الأسر عددا كبيرا من الأطفال المتمدرسين، حيث تتضاعف تلك الحاجيات بتضاعف عددهم. صحيح أن هناك انتشارا واسعا للأجهزة الإلكترونية في مختلف الدول، لكن أثمنتها تظل خارج القدرة الشرائية للفئات الهشة والضعيفة، وهي الفئات التي تشكل النسبة الأكبر في المجتمعات العربية. الأمر نفسه يتعلق بتوفر صبيب الأنترنيت الكافي لتأمين اتصال ثابت ومستمر وبجودة عالية.
فيبرز تأثير الوضع الاجتماعي والاقتصادي للأسرة في تحقيق إنصاف تعليمي في إطار التعليم عن بعد، ذلك أن غياب هذه الإمكانات يضع عددا هائلا من المتعلمين في عطلة دراسية سابقة لأوانها، ويدفع آخرين إلى مغادرة المؤسسة التعليمية نهائيا بلا رجعة، فترتفع أرقام الهدر المدرسي ونعود إلى نقطة الصفر في مسار تحقيق مطلب توفير تعليم معمم ومنصف. ويتفاقم هذا الوضع الهش للأسر عندما نستحضر المتغير المجالي؛ فالقرى والمداشر والبوادي الجبلية تعيش فقرا ماديا وتكنولوجيا واتصاليا طافحا يضع أطفالها خارج التغطية التعليمية المفترضة فيما سمي بالتعليم عن بعد.
لا يمكن إذن أن نغمض أعيننا عن كل الإعاقات التي تسببها الأوضاع الاجتماعية والتي تحد بشكل كبير من نجاعة التعليم عن بعد. ولا يمكن أن نساوي بين الفئات الهشة والضعيفة والمتوسطة والغنية وكأنها فئات تمتلك الفرص ذاتها للاستفادة الناجعة من هذا النوع من التعليم. إننا بذلك نرسخ التفاوتات ونعمق الشرخ بين الفئات الاجتماعي ة ونحصل على نتائج جد ضعيفة في معركة العدالة التعليمية. فإذا كانت الدروس الحضورية تقدم عرضا متساويا “نسبيا”، من حيث الأمكنة والأفضية التربوية، والتجهيزات والأطر التعليمية لنفس الفئة الواردة على نفس المدرسة، فإن التعليم عن بعد أعاد الأمر إلى واقعه الطبيعي حيث أن تحقق تعليم الأطفال رهين بما يتوفر لديهم من تجهيزات، وهذه الأخيرة رهينة بما يتيحه الوضع الأسري الذي يختلف باختلاف المستويات الاقتصادية والاجتماعية والمجالية. ففيما يشكل ذلك عائقا أمام أسر تعيش أنواعا من الهشاشة فإنه لا يطرح أصلا أمام الأسر الميسورة. ومع غياب تدخل الدولة لإنصاف الفئات الضعيفة يبقى رهان العدالة الاجتماعية معلقا إلى إشعار آخر. حيث ستبقى المنظومات التعليمية العربية مشغولة مزيدا من الوقت بالعدالة الكمية، حيث “تتوافق رؤى المساواة والجدارة هذه مع سياسات الدمقرطة “الكمية” للتعليم، أي الانفتاح التدريجي لنظام التعليم على الشرائح الاجتماعي ة التي كانت مستبعدة سابقًا منه”[18]، في حين أن الإنصاف الحقيقي هو أبعد من مجرد توفير مقاعد إضافية لتلاميذ مفترضين.
ثانيا/ تعتبر الأسرة فاعلا أساسيا في العملية التعليمية عن بعد، ذلك أن هذه العملية تتطلب تتبعا ومواكبة ومصاحبة وتحفيزا مباشرا، وهو الدور الملقى على عاتق أفراد الأسرة الراشدين إزاء أطفالها. مما يزيح الستار عن سؤالين أساسين؛ يرتبط الأول بالاستقرار الأسري والثاني بالمستوى التعليمي والثقافي للأسر.
فالاستقرار الأسري هو مصدر الدفء العاطفي والاحتضان النفسي للطفل، وأي اهتزاز في هذا الاستقرار يعني أن الأجواء داخل الأسرة لن تكون إلا مشحونة بالشكل الذي يتعذر معه توفير أجواء التلقي والاستيعاب. وإذا كانت الفصول الدراسية توفر بشكل نسبي مستوى من المساواة بين التلاميذ، على الأقل بين أولئك الذين يرتادون نفس المدرسة، فإن التعلم في فضاء أسري غير مستقر ومشحون باضطرابات من العنف المادي والرمزي بأشكاله المتعددة، يعرض زمن الدراسة إلى الاهتزاز والتشويش مع ما يصاحبه من انفعالات نفسية مضرة بالتحصيل والتركيز. وعندما نضع مقابل ذلك تلاميذ آخرين يستفيدون من أجواء جيدة من الاستقرار الأسري والعاطفي فسنكون أمام وضعية اللاتكافؤ واللامساواة التعليمية فأحرى الإنصاف. ذلك أن الإنصاف لن يتحقق فقط بتوفير الفرصة بل أساسا بتوفير شروط متساوية للوصول إليها والاستفادة منها، وأيضا بتعويض الفئات المتضررة لتصل إلى مستوى مقبول من تلك الشروط. وهذا تحققه الدروس الحضورية حيث يتساوى، إلى حد ما، مختلف التلاميذ في الأجواء المكانية للتلقي والتعلم.
من جهة ثانية يبرز دور الأسرة ووعيها ومدى تتبعها لأبنائها في عمليتهم التعليمية بما يضمن مواكبتهم للدروس وجديتهم وتفاعلهم وحضورهم الفعلي والذهني والنفسي. وهو ما يتطلب تأهيلا لهذه الأسر ونسبة من الفهم والتعلم وقدرة على أداء وظيفة التعليم. إنه سؤال المستوى التعليمي والثقافي للأسر حيث تظهر الحاجة أكثر لتدخل الأسر في المراحل الأولى من التعليم حيث يفتقر الأطفال الصغار إلى مهارات التعلم الذاتي، ويطرح الأمر نفسه في مستويات أعلى في مواد دراسية ذات طابع تقني أو علمي خصوصا. فكيف نتصور تعليما عن بعد في غياب مستوى تعليمي معين لدى الراشدين في الأسرة؟ الأكيد أن هناك اختلافا بين الأسر على هذا المستوى، وهو بالضرورة سيبرز في شكل تفاوت في الفرص المتاحة بين المتعلمين المنتمين لهذه الأسر أو تلك. وهذا شيء وارد جدا ومتفاقم في دول العالم العربي مع ما تعرفه من ارتفاع في نسب الأمية الأبجدية والأمية العلمية.
وفي مستوى ثالث يطرح سؤال مدى وعي الأسر بهذه الأدوار واستعدادها لأدائها. فقد تكون الأسر مستقرة وتتمتع بمستوى تعليمي وثقافي محترم، لكنها قد تكون مستقيلة من مهامها في مواكبة أبنائها تعليميا اختيارا أو اضطرارا. فالتطور الذي تعرفه المجتمعات الحديثة يفرض خروج الأبوين معا للعمل طيلة اليوم، خاصة في الأوقات التي يباشر فيها المدرسون بث دروسهم عن بعد، وهي الأوقات التي تتطلب حضور أحد الراشدين في الأسرة إلى جانب القاصرين. كما يمكن أن يكون الإشكال فيعدم وعي مؤسسة الأسرة بهذه الأدوار الطارئة عليها والتي لم تألفها بعد أن سلمت منذ سنوات عديدة مشعل التعليم إلى مؤسسة المدرسة. ولتتم اليوم مطالبتها باسترجاع تلك الأدوار، لا بد من مجهودات من التوعية والتعبئة والتحسيس والإلزام، الشيء الذي يحتاج وقتا أطول وتأهيلا أكبر فيما يستمر التفاوت قائما، تفاوت الفرص مادام هناك تفاوت في استقرار وتأهيل واستعداد الأسر.
ثالثا/ يطرح وضع آخر يكرس التفاوت بين المتعلمين في التعليم عن بعد. يتعلق الأمر بطبيعة المسكن الذي يقطنه كل تلميذ. فظروف التعلم في المساكن الفسيحة والغرف الخاصة يختلف عن الوضع في الشقق الضيقة ومنازل الصفيح والأكواخ والعشوائيات. فكيف يمكن أن يجتمع ثلاثة أو أربعة إخوة في بيت ضيق ليتعلموا عن بعد بمستويات دراسية مختلفة؟ كيف نتصور التلقي والوضع النفسي لهم؟ كيف يتحقق اندماجهم التربوي وتجاوبهم مع العقد البيداغوجي خلال إلقاء المعلم للدروس؟ هذا إن توفر كل واحد منهم على جهاز إلكتروني خاص به، وإلا فإن الواقع يؤكد أن هناك تناوبا على تلك الأجهزة مما يجعل بعضهم يفوت دروسا لصالح دورس الآخر، أو يكتفي بتسجيلها ليعيد متابعتها مساء أو يتجاوزها تماما. وتتضاعف هذه الإشكالات لدى البيوت التي تفتقر للربط الكهربائي والربط الدائم بالأنترنيت فتضطر الأسر إلى التعبئة عبر بطاقات الدفع المسبق.
ويتعمق إشكال المسكن شيئا فشيئا مع الأزمة التي تعيشها المناطق النائية من جهة وأيضا أزمات الإسكان في المدن وضواحيها، والتي ولدت ما سماه هويت H.HOYT نظرية القطاع حيث يتم تقسيم المدن إلى ثلاثة قطاعات رئيسية[19]؛ الأول مكون من مساكن موجهة للفئات الحضرية الفقيرة ذات الدخل المحدود، والثاني يضم مساكن الفئات المتوسطة، والثالث مخصص لمساكن الطبقات الميسورة. وهذا التقسيم لا يشمل فقط التوزيع الجغرافي وإنما أيضا شكل الأحياء والمباني، ومساحة المساكن ومرافقها الداخلية، وعدد غرفها وإضاءتها وتهويتها ومدى ربطها بالكهرباء وشبكة الأنترنيت وغيرها من المحددات التي يمكن أن تشكل عوامل مؤثرة على الوضعيات التي تتحول فيها المساكن إلى أفضية للتعليم.
ومعلوم أن هذه المستويات السكنية هي تعبير عن مستويات الدخل والوضع الاقتصادي للأسر، مما يعني أن أبناء الأسر الضعيفة هم المعرضون أكثر من غيرهم لعدم مواءمة مكان تعلمهم عن بعد مع شروط وظروف التلقي والتحصيل، الذي يمكن أن يستفيد منه آخرون وبوضعيات تفضيلية حاسمة ومؤثرة في خلق التمييز والإجهاز على التكافؤ والإنصاف.
خلاصات:
إن النجاح في نمط التعليم عن بعد يتطلب تجاوز النظرة الضيقة لهذا النمط الذي تحصره في بعده التقني داخل المؤسسات التعليمية. ذلك أن العملية التعليمية بكل ثقلها وخصائصها ومتطلباتها تصبح عابرة لأسوار المدرسة وتحط رحالها بكل بيت ووسط كل أسرة. وهو الأمر الذي لم تكن حكومات الدول العربية، في معظمها، مهيأة له بما فيه الكفاية. وهذا واضح من خلال الارتجال الذي طبع أداءها مع بداية انتشار فيروس كوفيد 19. لذلك فقد آن الأوان للقطع مع التردد الذي عاشته المدرسة في تعاطيها مع الجيل الجديد من التكنولوجيات، والتعاطي مع الوضع في إطاره السوسيولوجي الواسع الذي ينقذ بعضا من جهود تكافؤ الفرص في مجال التعليم. في انتظار ذلك يجب أن نتعامل مع التعليم عن بعد باعتباره حالة استثنائية في ظرف طارئ، فلا نحمله أكثر مما يحتمل.
لكن لا بد من أن نتعلم درسا جديدا في إشكالية العدالة الاجتماعي ة كرهان وكتحدي يقف شاخصا أمام المدرسة وأمام تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية بالبلدان العربية. من أهم محاور هذا الدرس أن التفاوتات الاجتماعي ة التعليمية هي أوسع من أن تتحملها منظومات التعليم، بل إنها تجد جذورا لها في الأصول الاجتماعي ة للمتعلمين. والمدرسة مهما قدمت من برامج ومخططات وتدابير فإنها تبقى عاجزة إزاءها في غياب استراتيجيات موازية تعالج المشكل من منبته. وبذلك فالتعليم عن بعد ليس مجرد أدوات تقنية وأجهزة رقمية فقط بل هو ديناميات مجتمعية تعتمل دون توقف ويمكنها أن تعيد توليد التفاوتات وتأبيدها.
وينعكس الأمر على التقويم المدرسي، حيث ينجلي بشكل واضح أثر التفاوت على مستقبل الأفراد. فكيف يمكن لأنظمة تربوية تعتمد مبدأ “الاستحقاق والجدارة” معيارا للانتقاء والاقصاء المدرسي أن تبرر عدالة هذا المبدأ عندما يختل ميزان التكافؤ في التحصيل التعليمي؟ وكيف يتم التمييز بين تكافؤ الفرص في الوضعية التعليمية التعلمية وتكافؤ الفرص في الوضعية التقويمية! وهل يمكن أن نتحدث عن إنصاف في التقويم إذا غاب الإنصاف في التعلم!؟لا يستقيم أن تكون وضعية التعليم استثنائية ووضعية التقويم اعتيادية.
قد نتفق على أهمية التعليم عن بعد في ملاحقة التطورات العصرية، وعلى نجاعته في بعض المستويات والتخصصات الجامعية، وعلى دوره في حل بعض أزمات المنظومات التعليمية، خاصة تلك التي تعمل جاهدة على إدماج مستجدات منهجية كالتعليم مدى الحياة، والتعلم الذاتي، وإتاحة فرص متعددة للراغبين في استكمال التعليم أو الحصول على فرصة تعليمية جديدة أو إضافية. إلا أن هذه الرهانات الطموحة ينبغي أن تستنبت في إطار لا يلتهم فرص التكافؤ الشحيحة التي وفرتها المدرسة الحضورية بعد عقود من الزمن. كما أن هذا النمط التعليمي ينبغي أن يستحضر الاختلاف بين المستويات الدراسية الابتدائية والجامعية والثانوية، وبين التخصصات الدراسية العلمية والهندسية والأدبية والقانونية وغيرها، وبين دفاتر التحملات وقيمة الشواهد وغيرها من ظروف العمل.
إذا اتفقنا على أن التعليم عن بعد هو إجراء استثنائي لظرف استثنائي، وأنه نمط محدود التأثير تربويا، مربك اجتماعيا، متعذر تقنيا، فلا ينبغي أن نعطيه أكثر من حجمه، ولا أن نسلم بجدواه لدرجة أن نبني عليه قرارات مصيرية للتلاميذ. وإلا فسنكون أمام أكبر جريمة في حقهم، وأكبر اغتيال للإنصاف وتكافؤ الفرص اللذان تتخذهما المنظمات الدولية والحكومات المحلية رهانا لها.
قائمة المراجع:
- أمارتيا، سن، فكرة العدالة، ترجمة مازن جندلي، بيروت: الدار العربية للعلوم ناشرون، 2010.
- طارق عبد الرؤوف عامر، التعليم عن بعد والتعليم المفتوح، دار اليازوري العلمية للنشر والتوزيع،2015،yazori.com.
- السيد الحسيني، دراسة في علم الاجتماع الحضري، الإسكندرية: دار المعرفة، 1997.
- الأمم المتحدة، التقرير العربي حول الفقر المتعدد الأبعاد، 2017.
- منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة اليونسكو، تقارير “رصد التعليم للجميع” لسنوات 2005، 2009، 0201،
- المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، الاستراتيجية العربية للتعليم عن بعد، 2017.
- Börje Holmberg, « The evolution of the character and practice of distance education », Volume 11, (Oldenburg : BIS-Verlag der, 2005. Vu le 13/10/2020 sur https://uol.de/fileadmin/user_upload/c3l/master/mde/download/asfvolume11_eBook.pdf.
- Raymond, Boudon, L’inégalité des chances : la mobilité sociale dans les sociétés industrielles, Paris : Hachette/Pluriel, 1997.
- Dubet François, Duru-Bellat Marie, « Qu’est-ce qu’une école juste? », Revue française de pédagogie, volume 146(2004).
- Dubet François, La préférence pour l’inégalité : comprendre la crise des solidarités, Edit. Seuil, 2014.
- Jean-Marc Louis, Fabienne Ramond, L’élève contre l’école : scolariser les a-scolaire, Paris : DUNOD, 2010.
- Duru-Bellat Marie, Agnés Van Zanten, Sociologie de l’école, 4e édition, Paris : Armand Colin, 2012, http://www.armand-colin.com.
- Terry Anderson, Jon Dron, « Three generations of distance education pedagogy », The International Review of Research in Open and Distance Learning, Vol. 12, 2011.
[1]ـ المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، الاستراتيجية العربية للتعليم عن بعد، 2017.
[2]– Börje Holmberg, « The evolution of the character and practice of distance education »,Volume 11, (Oldenburg : BIS-Verlag der, 2005), p44. Vu le 13/10/2020 sur https://uol.de/fileadmin/user_upload/c3l/master/mde/download/asfvolume11_eBook.pdf.
[3]ـ أمارتيا سن، فكرة العدالة، ترجمة مازن جندلي، (بيروت: الدار العربية للعلوم ناشرون، 2010)، ص111.
[4]– Raymond Boudon, L’inégalité des chances : la mobilité sociale dans les sociétés industrielles, (Paris: Hachette/Pluriel, 1997), p16.
[5]– Dubet François, Duru-Bellat Marie,« Qu’est-ce qu’une école juste? », Revue française de pédagogie, volume 146 (2004), p112.
[6]– Dubet François, La préférence pour l’inégalité : comprendre la crise des solidarités, (Paris : Edit. Seuil, 2014), p20.
[7]– Dubet, Duru-Bellat, p105.
[8]ـ انطلق نظام التعليم عن بعد في الوطن العربي من خلال “نظام الانتساب الجامعي”، حيث يدرس الطلبة المقررات الدراسية عن بعد ويلتزمون بحضور الاختبارات النهائية. وقد انصبت معظم تجارب التعليم عن بعد في الدول العربيّة على التعليم الجامعي والعالي، ولم تهتم كثيرا بمراحل التعليم العام أو قبل الجامعي. يمكن الاطلاع في هذا السياق على تجربة جامعة القدس المفتوحة، تجربة الجامعة السعودية الإلكترونية، وتجربة المعهد المتوسطي لأنشطة الإعلام والتكوين عن بعد بتونس، وتجربة الكلية التربوية المفتوحة بالعراق وغيرها. كما عرف العالم العربي نشاطا على مستوى “التلفزة المدرسية” حيث كان يتم إلقاء دروس نظامية لمختلف المواد والمستويات الدراسية على القنوات التلفزية الأرضية والفضائية. ويمكن الاطلاع على تجربة “قناة النيل التعليمية” المصرية وتجربة “القناة الرابعة” المغربية.
[9]ـ منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة اليونسكو، التقرير العالمي لرصد التعليم للجميع 0201، ص203.
[10]ـ منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة اليونسكو، التقرير العالمي لرصد التعليم للجميع 2005.
[11]ـ منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة اليونسكو، التقرير العالمي لرصد التعليم للجميع 2009، ص 6.
[12]ـ التقرير العالمي لرصد التعليم للجميع 2009، مرجع سابق، ص 6.
[13]ـ المرجع نفسه، ص 6.
[14]ـ منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة اليونسكو، التقرير العالمي لرصد التعليم للجميع 2201، ص229.
[15]– Jean-Marc Louis, Fabienne Ramond, L’élève contre l’école : scolariser les a-scolaire, (Paris : DUNOD, 2010), p120.
[16]ـ طارق عبد الرؤوف عامر، التعليم عن بعد والتعليم المفتوح، دار اليازوري العلمية للنشر والتوزيع،2015،www.yazori.com.
[17]ـ حسب التقرير العربي حول الفقر المتعدد الأبعاد الصادر عن الأمم المتحدة / بيروت لسنة 2017 فإن “نسبة عدد الفقراء فقرا مدقعا تبلغ 13.4%، أما نسبة عدد الفقراء بما فيها الفقر المدقع فتبلغ 40.6% في البلدان العربية العشرة التي شملتها الدراسة وهي تونس، الأردن، مصر، الجزائر، المغرب، العراق، موريتانيا، السودان، اليمن وجزر القمر.
[18]– Marie Duru-Bellat, Agnés Van Zanten, Sociologie de l’école, 4e édition, (Paris, Armand Colin, 2012), http://www.armand-colin.com.
[19]ـ السيد الحسيني، دراسة في علم الاجتماع الحضري، (الإسكندرية: دار المعرفة،1997)، ص 140.