نقد النقد الأدبي: الأسس النظرية والمقاربة المنهجية
Criticism of literary criticism: Theoretical foundations and methodological approach
محمد بلعيد: أستاذ التعليم الثانوي. طالب باحث بالكلية المتعددة التخصصات-تازة- المغرب
Mohammed Belaid professor of arabic language in secondary education. A student at the faculty Multidisciplinary taza-Morocco-.
مقال نشر في مجلة جيل الدراسات الادبية والفكرية العدد 62 الصفحة 93.
-ملخص:
يقوم هذا البحث على مرتكزين أساسيين: الأول ذو طبيعة نظرية، والثاني ذو طبيعة عملية. وقد خصص القسم الأول للحديث عن نقد النقد الأدبي مصطلحا ومفهوما ووظيفة. بينما اتخذ القسم الثاني طابعا عمليا. والبحث يتوخى من ذلك الإسهام في إبراز الأسس النظرية التي يقوم عليها نقد النقد الأدبي مع التشديد على ضرورة وضعه ضمن منهجية عامة قائمة على أسـس علمــيـة رصينـة تستــمـد فلسفتــها مـن الحقــل الأبستمولوجي.
الكلمات المفتاحية: نقد النقد الأدبي- الأسس النظرية – المنهج- التبعية- الاستقلالية.
Abstract:
This research contains two parts: theoretical part and procedural part. the first part deals with the criticism of literary criticism: term; definition and function.
The second part is procedural. This research aims to participate in highlighting the theoretical foundation of The criticism of literary criticism and emphasizing.
The need to put it within a general methodology. This methodology is based on solid foundations which derive their philosophy from the epistemological field.
Keyword: The criticism of literary criticism- the theoretical foundations-approach-dependence-independence.
-مقدمة:
لاريب أن من أفضل السبل للرقي بالنقد الأدبي، هو وضعه موضع النقد والمساءلة والمراجعة والتقويم، بـهدف الكشف عن سلامة مبادئه النظرية وأدواته التحليلية، وتلك هي إحدى مهام نقد النقد. لكن ما انفك السؤال قائما بشأن الوعي بـمصطلح نقد النقد، والإحاطة به وبتعريفه، وفك الاشتباك الـحاصل بينه وبين الحقول المعرفية الأخرى، خاصة مع النقد الأدبي. إن من الأمور الـمسلم بـها ، أن تعريف المصطلح النقدي وتجذيره بل ومتابعته لـمعرفة الأهداف الـمحفزة لظهوره أمر مهم وأصيل في أي بـحث علمي رصين. غير أن ذلك لم يـحصل كما هو معروف، مع مصطلح نقد النقد إذ لم تخصص مجموعة من الدراسات النقدية تعريفا له: سواء تعلق الأمر بماهيته، أو أسسه النظرية، أو أدواته الإجرائية، أو منهجيته المعتمدة في مقاربة النص النقدي.(( لـم يهيأ له جهازا نظريا- وإجرائيا- يوضح البنية المفهومية ويـحدد معالـمه وحوافزه)).[32] وهذا يعنـي أن نقد النقد بحاجة لمزيد من الجهود من قبل الدارسين لتأصيله وإرسائه على أسس علمية متينة، ذلك أن البحث في نقد النقد كما تؤكد نجوى الرياحي القسنطيني (( متسع لاشك تتداخل فيه مباحث عديدة ومتشعبة متعلقة بالخلفية الفكرية والنظرية لنقد النقد، وكذا بالمنهج ومنظومة المصطلحات وآلـيات الـتفسيـر والتحليل ومقاصدها))[33]. من هذا المنطلق، نطرح التساؤلات الـتالية: هـل وَجَـد نـقد النـقد تعريفه الخاص؟ وهـل يمكن اعـتــباره ممارسـة نقدية أم مجرد قراءة تأويلية لا تـخضع لأيـة ضوابط منهجيـة سوى مهارة المؤول؟ وهل استـقل بذاته واستطاع أن يكون لنفسه منهجا أم أن (مريديه) مازالوا يعــتقدون أنـهم في غــنى عن التــقيد بأي منهج من المناهج؟ ثـم هـل الحديث عن منهج خاص بنقد النقد حاجة ملحة أم مجرد ترف فكري؟ ألا يـحق له أن ينفرد بذاته، أن يكوِّن أدواته الإجرائية الخاصة بـه؟ أما آن الأوان بـعـد هذا التراكم المعرفي الحاصل له أن يــتخذ لـنفسه وضعا يليق بـمستواه، له خلفياته المعرفية وأدواتـه الإبستمولوجية؟
-نقد النقد: الأسس النظرية
أ- في تحديد مفهوم نقد النقد :
نقد النقد أو اللغة الناقدة[34].في أبسط تعريف: هو معرفة الـمعرفة، مــعرفة منهجية النقد: وسائله، آليات اشتغاله، أهدافه ومرامـيه، مبادئه، أدواته الإجرائـية، فرضياته التفسيرية، خلفياته المعرفية التي ينطوي عليها ((معرفة طبيعة الممارسة النقدية آلياتها، مـبادؤها، غاياتها))[35].لكن بطرائق من المفترض أن تـختلف عن فلسفة النقد. إنه ((قراءة مخصوصة فهو ينتقد ما تضمنته القراءة النقدية المنتجة، وفي الوقت نفسه ينتج قـراءة نقدية مغايرة))[36].وهو حسب جابر عصفور(( قول فـي النقد أو بـحث في النقد))[37].كما وضعه حميد لحمداني فـي إطار (( نقد الإبداع لا الإبداع ذاته ))[38]. وهو في تصور عبد المالك مرتاض“كتابة الكتابة”[39]كتابة تأويلية تتوخى الغوص في أعماق النصوص النقدية. بل إن نـجوى الرياحي القسنطيني تدخله ضمن باب” فن التأويل” (( نقد النقد قراءة تفسيرية توضيحية تتطلب نوعا من التأويل لاعتبارات: أولـها أنه غيـر معزول عن نـظريات قراءة الـنص الإبداعي بأصنـافه، وثــانيـها أن تشكله ترافق مع انشغال الحداثـيــيـن بالأثر الذي يـحدثه النص الإبداعي )).[40] يتضح إذن، من خلال هذه التعريفات، أن نقد النقد، نشـاط معرفي يــتــوخى مراجعة الأقوال النقدية بغيـة اكــتشاف مبادئها النظرية وأدواتها الإجرائية والتفسيرية والتأويلية. فضلا عن وجود وعي بـهذا المصطلح وبوظيفته المتمثلة في مراجعة القول النقدي: معرفة الـمعرفة- لغة ناقدة-قراءة مخصوصة– قول في النقد-بـحث في النقد مرتبط بنقد الإبداع. ثـم إن غايته هي الكشف عن فـلسفة النقد: مبادئه، آلــيات اشتغاله، أو أدواته الإجرائية فرضياته الـتفسيرية والـتأويلية، خلفياته المعرفية والفلسفية. تقول نجوى الرياحي: (( إن البحث في مـجال نقد النقد هو بـحث في صميم فلسفة النقد، بحث فـي الأداة التـي بفضلها يـمكـنـنا أن نرصد الإشكـالات الــنقدية، وأن تسمح لنا بـوضع العمل النقدي على السكة الصحيحة ))[41]. وأن موضوعه الأساس هو النقد الأدبي بشقيه النظري والتـطبيقي. وأنه أوسع من النقد الأدبي في حد ذاته. ((لأنه تفكير معرفي، وجه أصلا لتتبع النقد الأدبي ومدار حركته وطرق اشتغاله، وهذا ما يسمح بـتوسيع أفق عمله عبر رصد الحركات النقدية ومرجعــياتها ونـظرتــها للـعــمل الأدبي وما إذا كانــت هذه النظرة صحيحة أم لا. وبموجب هذا سيكون ناقد النقد ملزما بــتفحص الفكر النقدي عـلى مختـلف تياراتـه ومشاربه)).[42] يترتب على كل ذلك، عدم وجود تطابق وتشابه في الموضوع والـهدف بين النقد الأدبي ونقد النقد. من هذا المنطلق، وجب على نقد النـقد أن يـتـخذ لنـفسه موضع قدم يـجعله مـتميزا عن غيره.
ب- نقد النقد: ازدواجية الصورة
لئن كان لنقد النقد صورا متنوعة فإنه ينحصر فـي تناول جانبيـن مهمين من جوانب النقد الأدبـي هـما: التنظير والممارسة. فعملية نقد النقد كما يمكن أن تتعمق في البحث عن الأصول والخلفيات المعرفية للمناهج النقدية، فإنها أيضا تتلمس طريقة أخرى في البحث عن الكيفية التي تطرح بها الرؤية المنهجية للناقد على مستوى التطبيق ،كل ذلك من أجل المساءلة والمناقشة والتقويم وإصدار الحكم وفق منهجية محددة. لذا يمكن تقسيم نقد النقد إلى قسمين رئيسيين:
– نقد النقد التنظيري: وهو دعوة إلى مناقشة المبادئ والخلفيات المعرفية والفلسفية للمناهج النقدية السائدة (( مشككا حينا في فائدتها، مبينا حينا أوجه القصور فيها))[43] مع التوجه في نـهاية المطاف إلى وضع استراتيجية هادفـة إلى تـقديـم البديل للمناهج قيــد الدراسة. ومن الأمثلة التي تقـفز إلى الـذهن كتاب(نقد النقد ،رواية التعلم) “لــــــتزفــيتان تـــودوروف” ((الذي عالـج الأفكار الأدبيـة والـنقديـة فـي القرن العشرين ومـيز فيها بـين الأصلح والأصح، وقام بتحليل بعض التـيـارات الإيديـولوجـيـة للقرن المذكور، انطلاقا من تحديد الأسلم منها، مقدما بعض البدائل الممكنة))[44].
-نقد النقد التطبيقي: هو نقد يقف عند حدود الوصف الدقيق لسيــرورة عمليات التـــحليل عـند نقــاد الأدب، من خلال معرفة مدى وضوح الرؤية المنهجية المعتمدة وطبيعة الممارسة النقدية المتبعة. ولعل أوضح مثال: “جوهانا ناتالي” في مقال لها يناقش الدراسات النقدية التي تناولت(قطط) “بودلير”[45] عارضة مجموعة من المبادئ الواجب توفرها فـي كل دارس للنصوص النقدية. فـــنحن والـحالة هذه، إزاء “قراءتين”: قــــراءة أولـى، مــهتمة بالمبـادئ العـامة للنـقد، يطغى عليها الـحس التنظيري أكثر من الممارسة الشيء الذي يجعلها أقرب إلى الحديث عن فلسفة النقد. وقراءة ثانية، تعنـى بـكيفـية دراسة الأعــمــال النــقدية مــعززة بأسـئلة حـول الـمنهـجية الـملائمـة للتعـامل مــع الـنـص الــنــقــــدي ((بـحيث تتناول النقد الأدبـي كموضوع لـهـا، فـتمـارس عليه المعرفــة العالـمة، معرفـة على معرفــة، لكنـها لا تلتفت إلى ذاتـها لتعرف بنفسها، وإنـما تكتفي بالوجــه التطبيقــي للمعرفة الممارسة))[46].
ويـمكـن توضيح صورتي نقد النقد من خلال الترسيمة التالي
نقد النقد الأدبي
- نقد النقد التنظيري قائم على: – نقد النقد التطبيقي قائم على:
- مراجعة النقد وتصحيح مساره – معرفة الرؤية النقدية المتبناة
- تفكيك المقولات النقدية من طرف الناقد
- الوقوف عند المفاهيم و المصطلحات النقدية – معرفة الأدوات الإجرائية
- التشكيك في جدوى المناهج المستعملة.
- التفكير في البدائل -تحديد طبيعة المتون المدروسة
– تقويم المسار النقدي
ج- نقد النقد: تعددية الوظيفة
إذا كانت وظيفة النقد الأدبي، تكمن في تسليط الضوء على نواحي النص الأدبـي والكشف عنها من زوايا متعددة أهمها: الجمالية والمعرفية. فإن وظيفة نقد النقد تبدو متعددة الجوانب قد تمس ما هو معرفي وجمالي وقيمي وفلسفي وإيديولوجي وبيداغوجي كذلك. وإذا كانت من بين أهداف هذا المبحث الدعوة إلـى استقلالية نقد النقد، فمن المـفروض أن يـتسم بـجملة من الوظائف تميزه عن النقد الأدبي نجملها فيما يلي:
1-مراجعة وتقويم النقد وتصحيح مساره.
2- قراءة النصوص النقدية قراءة مـختلفة وبآليات وطرائق خـاصة.
3- تفكيك مناهج النقد الأدبي للوقوف على خلفياتها المعرفية والفلسفية التي تنطوي عليها.
4-تتبع عمليات التفكير والتحليل والتأويل عند نقاد الأدب مع الوقوف عند مدى وضوح الفرضيات وانسجامها مع الأهداف المسطرة[47].
5- تفكيك مقولات النقد الأدبي لفحص العناصر الإيديولوجية الثاوية في المزاعم النظرية[48].
6- فحص وتمثل وتقييم المناهج النقدية واقتراح البدائل .
7- مساءلة نقد النقد لذاته وإخضاع جهازه المفاهيمي للاختبار.[49]
8-إعادة تشكيل وعي القارئ غير الـمنتج برؤية نقدية مدونة، ليكون على بصيرة تتجاوز مسألة فهم ما قاله الناقد بحق عمل أدبي إلى مسألة كيف قال الناقد ذلك وهذه الوظيفة ذات طبيعة بيداغوجية[50].
9- ينتج معرفة بفلسفة النقد وآلياته ومقاصده[51].
د- نقد النقد: إمكانية توسيع الموضوع
موضوع نقد النقد ذو طبيعة نقدية مزدوجة فهو من ناحية قراءة محكمة للنص النقــدي بشــقيه النظـري والتطبيقي، وفي نفس الوقت إعادة قراءة النص الأدبي مرة أخرى وفق تصور ورؤية خاصة دون حصول التطابق التام طبعا مع القراءة النقدية التي يتبناها الناقد الأول. فنقد النقد بهذا المعنى،((قراءتين لا قراءة واحدة فهو– المقصود ناقد النقد- سيقرأ النص الأدبي والنص النقدي معا بصفته قارئا، ومن ثم بصفته ناقدا. إذن، فنحن إزاء قراءتين لا قراءة واحدة: قراءة للــنص النقدي وقراءة للنص الأدبـي. وهذه الأخــيــرة ستكون مــغايرة بالضرورة لــقراءة الــناقـد الأول…..فــتــتخذ شكل ردود واعــتـــراضات وتصويــبات لآراء الناقد الأول، وبـهذا الوصف، فإن قراءة نقد النقد ستكون ذات جوهر حواري متعدد الأطراف))[52].ولــعل هذا ما يعاتب عليه نقد النقد كونه يتجاوز سقف الدراسة النقدية الواحدة ويجرؤ مرة أخرى على النص الأدبي المعالج أصلا في الدراسة النقدية. وهذا ما دفع بالناقد حـميد لحمداني إلـى القول ((نـقد الـنقد مرتبط بنقد الإبداع لا بالإبداع ذاته))[53].ومن باب النحت الاسـمـي استطاع باقر جاسم محمد أن ينحت مصطلحا آخر سـماه بميسم الـميثا نقد حتى يـجعل موضوع نقد النقد، أكثر رحابة وسعة بـحيث يضم مجموعة من الحقول المعرفية الأخرى كالفلسفة وعلم الاجتماع والتاريخ والموسيقى والفنون الأدبية والتشكيلية علاوة على النقد الأدبي بطبيعة الحال.((نقد النقد بوصفه معرفة تــتخذ من النص النقدي موضوعا لـها. والـميثا نقد بوصفه قراءة نقدية منتجة توسع من دائــرة المواضيع ))[54].ورغم ذلك يمكن القول إن موضوع نــقد النقد يــبقى دائما ملزما بتــتبع مسار النقد الأدبي بشقيه النـظري والــتطبــيقي، شريطـة الــتفريق بــينهما (( لأن من الإشكالات التي يجب على ناقد النقد أن يعيرها الاهتمام قضية فصل النقد الأدبي في مستواه النظري أو التنظيري عـن المستوى التطـبيقي، ذلك رغـم ارتـباطهما بـبعضهما إلا أنهما لــيس شــيــئا واحدا، لأن الأول يــبحث في الأسس الفلسفـية لـلمعرفة النقديـة، وفـي الـتحديد الاصطلاحي لـمفاهـيمهـا وآلــياتـها الإجرائية، بـيـنما الــثاني يــقف في مستـوى الممـارسة، في مستـوى اخــتـباري لتـلك المـفاهــيــم والإجراءات، يقـترب الأول بـفعله ذاك من النظرية الأدبية، بينما تـتجلى في الثاني معـالم النقد الأدبي كتطبـيق فعلي لما أقـرتـه النظريـة))[55].ومن الإشكالات أيضا المطروحة في هــذا الــصدد، هــل يـمكن اعــتــبار “الــنقد الــثقافي” موضوعا لنقد الــنقد؟ ” الــنقد الــثـقافي” أطروحــة – فـنسنت لـــيـتــــش- “نـقد مــا بـعـد البـنـيـويـة”، أعـلنـت عــن “مـوت النــقـد الأدبي” ودعت إلـى تـأسيس وعي يؤكد على أهـمية الأنساق الثقافية وأنـظمة الـخطـاب. والتي يرى الكثـير مــن النقاد أنـها تـطرح بديلا نظريـا وإجرائيا عن النقد الأدبي، إلا أن عبد الله الغذامي يصرح عكس ذلك بالــقول ((النقد الــثقافي فـرع من فـروع النقد النصوصي الـعام)).[56] وما دام النقد الثقافي فرع من فـروع النقد النصوصي ومادته وموضوعه الأدب بكل أنواعه (( فإنه بالنسبة لتعالقه بنقد النقد يسري عليه ما يسري على النقد الأدبي من مواصفات العلم التي تـحتاج إلى معرفة تسنده…وعليه سيكون نقد النقد هـو ذلك النموذج المعرفي الذي يتولى مساءلة النقد الثقافي عن كيف فكر ونظر، وكيف قرر ودبر، وكـيـف استجابت إجراءاتـه لتلك المعطيات الفلسفية/الإبستمولوجية المصرح بـها نظريا. فنقد النقد لن يـمــيز بين النقد الأدبـي والنقد الثقافي على مستوى موضوعه، إذ كل منهما يقـوم على عناصر مشتركة نظريا والغاية النقدية مـتـوفرة فيهما معا.
وهي التي يترصدها نقد النقد بالدراسة والاختبار))[57].ولعل هذا استدعاء لنـقد الـنقد كي يقول كلمته بـخصوص النقد الثقافي. لكن السؤال الذي يقفز إلى الذهن: كيف يمكن أن يتعامل نقد النقد مع نقد أدبي/ثقافي في إطار منهجي؟ هنا تكمن الإشكالية والازدواجية ومشروعية حضور منهج خاص بنقد النقد.
-نقد النقد بين الكينونة الإبستمولوجية الخاصة والتبعية:
قد يكتب العديد من النقاد عن نقد النقد، من دون أن نعثر ولو بشكل موجز عن تعريف مقتضب لهذا المصطلح فعلى سبيل المثال لا الـحصر، نبيل سليمان في مؤلفه: (مساهمة في نقد النقد الأدبـي) لا نكاد نعثر في كتابه هذا على تعريف مخصوص لنقد النقد سواء تعلق الأمر، في مقدمة كتابه أو حتـى في خاتـمتـه. فالناقد يوجـه نقده للنقد الأدبي السوري، دون الحديث ولو بنـظرة طـائر عن المنهجـية المعتمـدة في مقاربته لمجموعة من النصوص النقدية المختارة مكـتفيا بالقول.(( إن حاجة النقد ملحة إلى الشجاعة الكبيـرة الـتي يقـتضيـها النقد الأدبي، ونـقد الـنـقد، وتلك حاجـة الأخـيـر بـدوره أيـضا))[58].
والـواضح أنــــه لا محـالة يـنظر إلى نقد الـنقد كـنقـد تـابـع للـنقد الأدبـي غـيـر مستـقل بـذاتـه لـه أسـسـه وقـواعده ومـنهجــه وآليات اشتغاله، (( فقد عومل نقد النقد، صراحة أو ضمـنا، على أنه تابع للنقد الأدبي أكـثــر من كونــه ذا طبيعة خاصة ومميزة تـماما))[59].حتـى أن مـحـمد الدغمومي فـي كـتابه: (نقد النقد وتـنظـيـر النـقد العـربــي المـعاصر) ليلفت الانتباه إلى ذلك التداخل الحاصل بـين الممارسة النقدية ونقد النقد ((نقد النقد، يشتـرك مع النقد في العناصر التالية:-الوعي الإبـستمولوجي ذو المرجعية المحددة-النسق المفاهيمي- اللغــة الاصطلاحية- القوة الاستدلالية- الصيغة النظرية. الشيء الذي يشير إلـى توسل نقد النقد بأدوات النقد الإبستمولوجية والإجرائية ))[60]. وفي هذا الصدد، نستحضر كذلك الناقد جميل حمداوي من خلال مؤلفه:(من الإبداع إلى نقد النقد) بحيث لم يشر إلى ماهية نقد النقد مكتفيا بقوله: (( هذا وتندرج هذه الدراسة ضمن نقد النقد الذي يعتمد على تـحليل الكتاب (ظاهرة الشعر الـحديث للمجاطي) وبيان منهجه النقدي مع تقويم مساره النظري والتطبيقي))[61].
ثـم إن ناقدا مثل عــبد الله أبـو هيف، هــو الآخـر يـتحدث عـن (( قلة البحوث في مجال نقد النقد في المكتبة العربية))[62]. دون أن نعثر لديه على تعريف واضح لنقد النقد. بل وحتى ( دليل الناقد الأدبي )-لسعيد البازعي وميجان الرويلي- لم يشر ولو بعجالة إلى هذا المصطلح في طبعته المزيدة والمنقحة. هذا ويذهب عبد الله الغذامي بعيدا، فيقدم بديلا عن النقد الأدبـي هو النقد الثقافـي معلنا في مقدمة كتابه (النقد الثـقافي: قـراءة فـي الأنساق الثقافية العربيــة)، (( عن موت النقد الأدبي وذلك من خلال هيمنة الأدبية ))[63].فما يـرد إذن، في مثل هذه الكتابات وغيـرها كثيــر لا يــتسع هذا الـمقال للإحاطـة بها هــي مـجــرد (قــراءات حدسية) على حد تعبير حميد لحمداني أقرب إلـى التعلــيق منها إلى نـقد النـقد، لا تـضع الـقـراء على أي حــال أمـام تــعريف شاف كــاف لـنقد النـقد، مـع غـياب -بـطـبـيعـة الحال- الحديث عن أسسه النـظريـة وعـن منهجــيــتـه العـامـة، الشيء الذي جعل باقر جاسم محمد يسمي مرحلة هذا النوع من الدراسات بمرحلـة (الـلاوعـي) بماهــيـة مصطلـح نقد النـــقد، وذلـك للأسباب أجملها في ما يلي:
-أن مثل هذه الـجهود لـم ترق إلى مستوى الممارسة الواعية لـماهية حقل نقد النقد، ولوظيفته وآلياته. فلم يطرح سؤال الماهية في هذا الحقل.
– كونـها لم تـقدم جهدا نظريا وفلسفيا مكرسا لتأصيل مفهوم نقد النقـد، أو تـحـدد الأطر النظريــة التـي تجعل منه حقلا معرفيا مختلفا عن النقد الأدبي.
– لـم يتم التمييز في هكذا جهود بين ثلاث صور لنقد النقد، الصورة الأولـى: متمثلة بالنظرية العامة لنقد النقد بوصفه فـرعا معرفيا ذا خصوصية متميزة، والصورة الثانية: المتمثلة في الممارسة المألوفة في نـقد النظرية تلك الممارسة التي تحصر اهتمامها على المستوى النظري أساسا. والثالثة: متمثلة بممارسة ما اصطلح عليه بنقد النقد التطبيقي.
–والنتيجة لم تـقدم تلك الجهود، نسقا من المفاهيـــم والمصطلحات الـخـاصة بـنقد النقد. لذلك ظــلت الكتابة في حقل نقد النقد تابعة للنقد الأدبي[64].
وحسبنا أن نقف هنا والآن، وقفة تأمـل عند ناقـد مـثــل حميد لحمداني الذي قدم عرضا قيما وموفقا لـمنهجية عامة لنقد النقد- دون أن ننسى مـجهودات أخرى سنأتي على ذكرها لاحقا – اتضحت معالمها ضمن كتابه (سحر الموضوع )،حين خطا خطوة إلى الأمام مقدما تعريفا لنقد النقد ((نقد النقد أو معرفة المعرفة هو نقد فـي مستوى آخـر مـن الـممارســة النقدية، لذلك عليه أن يحدد طرائقه الخاصة… إن الـموقع الطبيعي لناقد النقد هو أن يتخلى عن تبنـي أحد المناهج نقد الإبداع، وأن يـــتـرك هـذا الاخـتـيار لــنقاد الإبـداع أنــفسهم، لأن الـمـجال الـحـقيـقـــي لـبحــثه ليس هـو الـمـعرفــة بــل مـعرفــة الـمعرفــة، هــو إذن، مجــبـر إذا كــان يـدرك حدود مهمـتـه الخاصة أن يـشــتـغـل في الحـقـل الإبستمولوجي))[65].يـــــبدو أن الناقد يــنظر إلـى نقد النقد كـحقل مستـــقل بذاتــه، له منهجـيـتـه الـخاصة عندما يستــرسل قــائلا (( قـليلا ما يـتساءل المشتـغلون بـنقد النقـد عن المـنهج الذي يـحـــتكمون إلــيه في الدراسة، ولـعلهم ينــطلقون من شعور خفي بالــتعالي يـجعلهم يعـتــقدون تلقائيا بأن دراسـتـهم في غنى عن التقــيد بأي منهـج ما دامت مادة موضوعهم هي النصوص النقدية الصادرة في أساسها عـن مناهج معينة))[66]. ولــعـل هذا الجهد على مستوى التطبيق يرقى إلى مستـوى الوعي بماهية نقد النقد وبوظيفته وآليات اشتغاله، ويضع له منهجا وصفيا “بنائيا”(( إذ يبقى الجانب الوصفي البنائي هو البديل الذي يـمكن من اقتحام عالـم الاتجاهات النقدية))[67].
ونــتيــجة لذلك قدم الناقد مـجموعة من الـمفاهيم والمصطلحات الـخاصة بــنــقد النــقد معــتمــدا على مــا أوردتــه النـاقدة “جـوهانـا ناتـالـي” فـي مـقـال لــهـا يـنــاقـش الـــدراسات النـقديـة الــتـي تـناولت (قطـط ) بودليـر بالـتحلـيل، فـي مدخل سـمـته ( مسائــل فـي الـمنهج ) حــيث حددت فــيه مجموعة من الـمبادئ الأولية التـي ينبغي أن يتوفر عليها كل ناقد للـنصوص النقدية. وهي ضوابـط إجـرائـية من شـأنها أن تضع نقد الـنـقد على سكة مستــقلة تمام الاســـتــقلال عن سكـة النــقد الأدبي. (( من هذه الضوابط الإجرائـية (ضرورة تـحديد الأهداف– تـحديد المتون المدروسة- تـحديد الممارسة النقدية) وقد وجدنا أن الدراسات الـمتعلقة بـوضع ضوابط تفصيلية لتحليل النصـوص النقدية مـن أنــدر الأعمال في الكتابة النقدية))[68].إن نقد النقد بهذا المعنى، هو معرفة علمية يـجب أن تنطوي على منهجية مـحددة، تضمن له نوعا من الاستقلال الذاتـي. وفـي نفس الوقت لابأس من اعتباره الابن الشرعي للنقد الأدبي لأنه ولد من رحمه ويـخالفه عندما يتحدث بكينونته الإبستمولوجية الخاصة. لــذلك نؤكد من جهتنا نحن، أن المـوقع الطبيعـي لنقد النقد مدعو لا محالة إلـى عدم التشاكل مع النقد الأدبي، وإلا فمـا حاجــتنا إلى كتابة نقد النقد. وفي نفس الــوقت من الــواجب أن يتخذ لنفسه تصورا منهجيـا مختلفـا عن النقد من شأنه أن يجعل منه نقدا مستقلا بذاته. لذلك يمكن أن نتصور حدود العلاقة بين النقد ونـقد الـنقد ضمن الـتشبـيه الـذي أورده نـورثروب فراي بـيــن علم الفــيـزياء ومـوضوعه (الطبيعة) ((فالفيزياء كيان منظم من الـمعرفة عن الطبيعة وليس هو الطبيعة)).[69]
– نقد النقد: المقاربة المنهجية
كل ممارسة نقدية لابد لها من منهج تسلكه في معالجة المادة المدروسة. فالمنهج (( عبارة عن خطة مضبوطة الـخطوات ومتناسقة العناصر تشتغل بشكل منسجم ومتدرج ))[70]. أو مجموع الأساليب المتبعة من أجل الوصول إلى نتيجة. أو بالأحرى وسيلة لوصف الطريق التي يـجب اتباعها.((أو مجموع الطرق التـي يتبعها العقل من أجل اكتشاف الحقيقة والبرهنة عليها)).[71] فالمطلوب من العملية النقدية هو عقلنة العملية الإبداعية، انطلاقا من معطيات قائمة على المنهج العلمي لأن (( الدارس عليه أن يترجم تـجربته فـي الأدب إلـى مصطلحات فكرية وأن يتمثلها ويـحولـها إلـى خطة متماسكة يـجب أن تكون عقلانية إذا كان لـها أن تعد نوعا من الـمعرفة)).[72] من خلال التركيز علــــى ما يلي:
-دقة الأحكام المستمدة من قرائن نصية.
–وضوح المنهج.
–دقة المصطلحات والمفاهيم النقدية.
-مطابقة النتائج للأهداف المسطرة.
-الوصول إلى نظرية قابلة للتحقق.[73]
هذه الضوابط العلمية يتبعها الناقد، رغبة في تأسيس معرفة علمية موضوعية بالنص المراد مقاربته. فالحـال كذلك بالنسبة لنقد النقد باعتباره معرفة المعرفة يحتاج بدوره إلى مجموعة من الضوابط الإجرائية الكفيلة بجعله منهجا يعتمد على مبادئ وخطوات وأساليب تسمح بدراسة النصوص النقدية، من أجــل الـوصول إلـى حـقيقة بعينها. إذا كان الأمر كذلك، فـلن يـختلف نقد النقد عن النـقد الأدبـي بـحـكم الـطبـيـــعة المـعرفــية الـتـي يـوصف بــهــا مـوضوعه ((فـإنـه بـحكم ذلــك علـيه الاشـتـغـال وفــق مـنهــج واضـح المـعالـــم والخطوات))[74].
ضمن أسئلة من قبيل: كيف ندرس عملا نقديا؟ وما المنهجية العامة الملائمة للتعامل مع الأعمال النقدية؟ وهنا تحضرنا مجموعة من الدراسات المرتبطة بنقد النقد استطاعت أن تــتخذ لنفسها مـنهجا خـــاصا، عـــلى رأسها الممارسة النــقدية الـــتـي تـبنـاهــا حـميــد لحمدانـي في مقاربته لنصوص نقدية حـيث قــدم أدوات منهجية عامة يقول الناقد: ((نقد النقد، بـحكم تـخصصه فـي تــأمل مــناهج النــقد الأدبي سواء في جانــبها النظري أو التطبيقي، مدعو إلـى استخدام أداة الوصف فهي وسيـلته الأساسـية، أمــا أن يــدرس نـظرية بنظـرية فهذا يعنـي أنه سيواجه إيديولوجية بإيديولوجية أخرى مغايرة عندئذ سيبتعد عن تـحقيق القـدر الضروري من الموضوعية في عمله المتميز))[75].هذه الفكرة إذن، لها وجاهتها التي تدل على أهـمية حضور منهج خــاص بنـقد الـنـقد يـقارب الأعمــال النـقـديـة بـطريـقة حـــياديـة.
أمـــا امتطاء صهوة مـنــهـج نــاقــد الإبداع، فـــهذا معناه لا مـحــالة التماهــي مع سلطة نقد الإبداع، وبالتالي الوقوع في مطب تحصيل حاصل. لكن السؤال الذي يتبادر إلـى الذهن، كيف يقارب ناقد النقد موضوعه النقدي؟ ، بأي أسلوب، بأية رؤية يقاربه؟ يقتـرح حـميد لحمدانـي جملة أدوات منهـجـية اسـتـمدها من دراسـة أجرتـها ”جـوهـانـا نـاتالـي” الكـاتــبة الفرنسية، على دراسات نقدية ”لقطط” بودليــر. هـذه الخطوات الإجرائية حددها حميد لحمدانـي كالآتي:
– تـحـديد الرؤيــة المنــهجــية المعـتمدة من طرف الـناقد (من خلال الـتســاؤل عن مدى انسجامها ومطابقـتهـا للأصـول التي انطلقت منها وهل استطاع الناقد أن يلتزم بـها ؟ أم هـنـاك زيغ وانحراف وقصور في التطبيق؟)
– تحديد المتن المدروس بدقة (قصد معرفة قدرة الناقد على إظهار قيمته الجمالية والدلالية مع الوقوف عند بعض المتون الموازية في حالة من الحالات الـممكنة).
– تحديد الممارسة النقدية اعتمادا على ما يلي:
1-الوصف “وصف المظاهر الدالة (الخصائص الفنية للنص) “.
2-التنظيم “تحديد الزاوية التي ينظر منها الناقد للنص”.
3-التأويل “البحث عن معاني أخرى خارج السياق النصي”.
4-التقويم الجمالي ” تقييم العناصر الجمالية الدالة”.
5-اختبار الصحة “فحص سلامة النتائج ومدى مطابقتها للأهداف المسطرة”.[76]
ثم إن ناقدا آخر مثل محمد خرماش سك هو الآخر منهجا خاصا بنقد النقد سـماه بالمنهج الوصفي التحليلـــي. قارب به ” الواقعية والواقعية الجدلية” أثــناء حديثه عن إشكالية الـمناهج فـي النقـــد الـمغربـي الـمعاصر. يقول فـي معرض حديثه عن الـمنهج الـمتبع في نقد النقد (( لذلك فلن نسلك فـي الغالب إلا مسلكا وصفيا تـحليليا يعتمد طـرح الـمـادة النـقدية وقراءتـها قـراءة تـحاول ربـطها بأصولـها الـمـنـهجـيـة والـمعرفية من جهة، وكشف أبـعادها الإيديولوجية وما استهدفـته فعاليــتها الـنقدية من جهة ثانية، ولن نسرف في التعليقات والتأويلات، وإنما سنترك للقارئ حق تكوين رأي على رأي ))[77].هذه محاولة أخرى من بين المحاولات التـي حاولت وضع منهجية عامة لنقد النقد ضمن مبحث قــائم بذاتــه، له أدواته المنهجية وحقله الإبستمولوجي الـخاص. يقول محمد خرماش عن إشكالية المنهج في نقد النقد (( إذا كان المنهج النقدي سلاحا فعالا في تـحليل الخطاب الأدبي وفي سبر أغواره، فإن الأمر حينما يتعلق بتحليل الخطاب النقدي وبالخوض في إشكالية الـمناهج ذاتها قد يكون مـختلفا جدا، إذ يصعب على الباحث أن يطمئن إلى منهج بعينه ويتكئ عليه لفهم هذه الإشكالية وحلها أو لــــفهم مناهج أخرى وتــقويـمها أو ربما الأجدى أن يدخل إلى كل منهج من بابه الـخاص، وينظر إليه في نــطاق فلسفتــه الشاملة، وفـي إطار منظومته الـمفهومية والإجرائـيــة، فيكون المنهج المتبع في هذه المرحلة منـهجـا وصفــيا تـحلـيلـيا يـهدف إلـى عرض الـمفـاهـيم والقضايا وتــمحيص مدى دقـتها وصحــتها وفعاليتها))[78] هذا هو المنهج الذي سلكه الناقد أثناء تناوله إشكالية المناهج في النقد الأدبي المغربي المعاصر بين الواقعية والواقعية الجدلية.
كما اقترح باقر جاسم محمد، منهجا وصفيا استقرائيا، فقد دعا إلى الالتزام بمجموعة من الشروط الموضوعية، انطلاقا من قراءة محكمة تتوخى الدقة (( لكي نرتقــي بـخطابنا النقدي إلى المستوى العلمي والمنهجي المنشود، لابد من اعتماد جملة معايير أو ضوابط معرفية أساسية ينبغي أن تتوفر في أي قراءة نقدية حتى يمكن أن نصفها بالقراءة المـحكمة.
ويمكن إيـجاز هذه المعايير، الضوابط المنهجية في الآتي:
–وضوح المنهج.
-دقة أحكام الناقد الـمستندة إلى وقائع نصية مأخوذة من النص المنقود وعدم تناقض هذه الأحكام.
–دقة تصنيفاته للظواهر النصية المدروسة.
-دقة استخدام المصطلحات المتخصصة.
–سلامة اللغة.
– تناسق استراتيجيات القراءة التي اعتمدها الناقد))[79].
ولأن هذه الـمعايير تنسب إلى حقل المنهج العلمي، (( فإن من البداهة أن يلتزم الميثا نقد نفسه بـها)).[80] وبذلك اقـترح باقر جاسم محمد، منهجا وصفيا اسـتـــقرائــيا ينبـغـي أن يمـتـطي صهـوتــه نـقد النقـد، يقول: ((وهذا العمل نـتـيجـة مـنـطقيـة للـوصف والتحليل والاستــقراء))[81]. وبما أن موضوع نقد النقد يــتسم بالتنوع والتعدد يقترح عبد الحكيم الشنـــدودي خـــطاطـــة منــهجــيـة شامـلة وعامـــة تــــتـلاءم مـــع جــل الـموضوعات الــتــي تـطـرح فـي نــقد النقد، وذلك بعد أن أكد على أهمية منهج نقد النقد بقوله: ((الـواقع أن نـقد الـنقد كممارسة فكرية لابد له من منهج يـــباشر بـه موضوعه، لكن عليه أن يـتحلــى بجملة من الصفات على رأسها: الحياد والتجرد تحقيقا للموضوعية العلمية، هذا يعني أن وسيلـته الحيادية الوحيدة هي الوصف المبنـي على الاستقراء والتصنيف والمقارنة))[82].هذه الخطاطة المتبناة هي عبارة عن جملة من العناصر ذات الصلة بـموضوعها مثل (( -حدود الموضوع- أهداف الدراسة- منهج الدراسة ومصطلحاته-خطوات الاستدلال والبرهنة– وسائـل الحجــاج والإقنـاع- درجـة الانسجام والاتساق-الـتفسير والتركيب))[83].هذه المنهجية إذن، قائمة لا محالة على منهج وصفي تحليلي استقرائي من خلال جـمع الـمعلومات وتصنيفها والتعبير عنها كما وكيفا، تمكن من الوصول إلى استنتاجات تساهم في فهم الواقع وتطويره على حد تعبير الناقد. لكن هذه الـخطاطة، ليست نـهائية ((إن نقد النقد باتباعه هذه النمذجة/ الهندسة وبناء على معطيات العلم والـمعرفة لا يكون ملزما بالوفاء لـهـا، ففي العلم لا توجد نمذجة نـهائية، ولا يمكنها أن تكون كذلك، بل هي وكما سبقت الإشارة إلى ذلك، مـجرد صيغة من بين صيغ أخرى ممكنة، نستعرض بها وفيها الجهود النقدية، فــيبقى باب البحث مفتوحا أمام نقاد النقد لإعادة النظر أو إغناء ما استقام أمامنا، بغية الإسهام في تطوير حقل التفكير فـي النقد))[84].إن من شأن الأخذ بـهكذا مناهج: وصفي كما صاغه عبد الـحكيم الشندودي فـي مبحثه (نقد النقد: حدود الـمعرفة النقدية) وصفي بنائي كما وضعه حـميد لـحمداني ضمن مؤلفيه (سحر الموضوع عن النقد الموضوعاتـي في الرواية والشعر)،(النقد النفسي المعاصر تطبيقاته في مجال السرد)، وصفي تحليلي كما وظفه محـمد خرماش في إطار ثلاثيته ( إشكالية المناهج فـي النقد الأدبي الـمغربـي الـمعاصر )، وصفي تحليلي استقرائي كما استعمله باقر جاسم محمد فـي بـحثه (نقد النقد أم الـميثا نقد؟). من شأنـها أن تساعد على إرساء مـمارسة معرفية جادة قائمة على مبادئ علمية موضوعية ذات خلفية إبيستمولوجية رصينة. وهذا ما يومئ إلـى أن نقد النقد بدأ يتحسس خطاه فـي اتـجاه الفاعل بدل الـمفعول بـه، ودور الـمنعوت بدل النعت التابع لـمنعوته له مفاهيمه ومصطلحاته، له على الأقل، أدواته وأسسه النظرية والـمنهجية الـخاصة… وأن هذا التراكم الـمعرفي الكمـي المنهجي لا محالة سيؤدي إلـى تراكم نوعي يغنـي التجربة النقدية بتصور نظري وتطبيقـي نحن فـي أمـس الحاجة إليه اليــوم. نستنتج إذن، أن منهج نقد النقد حاجة ملحـة وليس تـرفا فكريا نحن في حاجة ماسة إليه ضمانا لاستـــقلاليـته وفق آليات ومفاهيم وإطار علمي خاص. فقد لاحظنا أن هناك مجهودات تبدل وتروم إلـى إغناء مبحث نقد النـقد وتـعزيـزه بالطابع المعرفـي الصرف وحـماية الممارسة النقدية من الارتـجال والاجتـرار والذاتية. ولعل من شأن ذلك المساعدة على قيام نقد النقد على أســس منهجية كــفيلة بإخراجــه من عنـق الزجاجة أو حافة الفنجان.
-خاتمة:
إن الدعوة إلـــــــى تأسيس منهج، أو نظرية جديدة تؤكد على فكرة استــقلالية نـقد النـقد، لها مبرراتـها خصوصا بعد التراكم النقدي الذي حققه هذا النوع من الحقل المعرفـي طوال العقود الأخـيـرة، تـمثـل في الـحضور الوازن لبحوث أغنت تـجربة نقد النقد، ويـمكـن أن نستحـضر المـجهودات الأخيرة لكل من نجوى القسنطينـي( في الوعي بـمفهوم نقد النقد وعوامل ظهوره). وباقر جاسم محمد (نقد النقد أم الـميثا نقد؟ مـحاولة فـي تأصيل المفهوم). وحميد لحمدانـي(سحر الموضوع: عن النقد الموضوعاتي في الرواية والشعر).مـحمد خرماش (إشكالية المناهج في النقد الأدبي المغربي المعاصر) وعبد الحكيم الشندودي (نــقد النقد: حــدود المعرفـة الـنقدية) وغيرها كثير لا يتسع المجال هنا لبسطه. كــل هـذه المـحاولات ركـزت على ضـرورة الــوعي بمفهوم نقد النقد: مصطلحا ونظرية ومنهجا. وقد ساهم هذا الوعـي في إبـراز خصائص ومـميــزات ومـــوضوعات ومنهجـيات نـقد الـنقد مهيئة بذلك لجهاز نظري يوضح ماهيـته وحـدود علاقــته بالنـقد الأدبي حيــث أقـرت نجــوى الرياحي بأن نــقد النــقد ليس حركة فكرية ملحــقة بالنــقد ومفتقرة إلى الخلفية النظرية والتـراكم المـعرفي. وهو ما يفسر أنه وجد شرعــيته ضمن سياق فكري ونــظري قائم بذاتـه، ويـجد مـبـرره اليوم والـحافز على انـتشاره ضمن سياق جـــدلـي وتـعددي حديث، باعتباره نشاطا فـكريا نوعيا له سماته وخصائصه وإطاره النظري الخاص به. في حين شدد باقر جاسم على محاولة تجاوز مأزق الزواج الاصطلاحي(نقد/النقد) محاولا نحت مصطلح -لمن يبحث عن بديل- سماه( الميثا نقد) باعــتباره مفهوما واسع الدلالة ولا ينـحصر موضوعه في النقد الأدبي، بل يتجاوز ذلـك إلى بـقـية الأجناس الإبداعـية والحـقول المعرفــية الأخرى. ولعل هذه المزية كافـية لتأسيس نظرية مستقلة بنفسها، ولــيس مجرد ممارسة هامشية فـي حقل النقد الأدبـي أو الرد على مزاعمه. وكما عرج حمــيد لحمدانـي على ذكر سبب عدم احتكام بعض المشتــغليـن في حقل نــقــد الـنــقد لمنهج مــعــيـن، كون مـادة مــوضوعاتهم هي المناهج في حد ذاتـها. مـــؤكدا على ضرورة وضـــع منهجية عامة لـنقد النـقد قائمة على أسـس علمــيـة رصينـة تستــمـد فلسفتــها مـن الحقــل الابســتمـولـوجي.
في حــيـن أقــر عبد الحكيم الشندودي على أهـمية البحث فـي نـقد النـقد مـن أجـل تـأسيـس نـقد عربـي مبنـي علـى أصول تسعى لإعــادة الاعــتبــار للذات العربــيــة كــذات مــبدعة تــساهم في إثـراء المشهــد الفكري الإنسانـي. واضعـا الأســـس النظـرية الـتي يجب أن يــقوم على أساسـها مبحث نــقد النقـد.
كل هذه المحاولات وغــيـرها بلا شــك قـد دشنت حالة متقدمة في الدراسة. والتي من شأنها صيــاغة مفهوم متكامل لطبيعة نقد النقد ومفاهيمه وأهدافه ومراميه.
-قائمة المصادر والمراجع:
أ-العربية:
-تزفيتان تودوروف، نقد النقد: رواية التعلم، ترجمة، سامي سويدان، منشورات مركز الإنماء القومي، بيروت-الطبعة الأولى،1986.
-جابر عصفور، قراءة في نقاد نجيب محفوظ، مجلة فصول في النقد،م1،ع3،أبريل، 1981.
-جميل حمداوي، من الإبداع إلى نقد النقد، منشورات الزمن، دار النجاح الجديدة ،الدار البيضاء، 2009.
-حميد لحمداني، سحر الموضوع(عن النقد الموضوعاتي في الرواية والشعر)، منشورات دراسات سال، مطبعة الجديدة، 1990.
-حميد لحمداني النقد النفسي المعاصر تطبيقاته في مجال السرد.منشورات دراسات سال مطبعة النجاح الجديدة. الطبعة الأولى،1991.
-رينيه وليك أوستن وارين، نظرية الأدب، ترجمة، محي الدين صبحي، مراجعة حسام الخطيب، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الأولى، 1987.
-صلاح فضل، مناهج النقد المعاصر، أفريقيا الشرق-المغرب،2002.
-عبد الله أبو هيف، النقد الأدبي العربي في القصة والرواية والسرد، منشورات اتحاد الكتاب العرب،دمشق،2000.
-عبد الله الغذامي، النقد الثقافي: قراءة في الأنساق الثقافية العربية، المركز الثقافي العربي،ط1، 2000.
-عبد الحكيم الشندودي، نقد النقد: حدود المعرفة النقدية، أفريقيا الشرق، المغرب ،2016.
– محمد باقر جاسم، نقد النقد أم الميثا نقد( محاولة في تأصيل المفهوم)،مجلة عالم الفكر،ع3،م37، يناير/مارس، ط3،2005.
– محمد صابر عبيد، اللغة الناقدة ،دار الحوار للنشر-سوريا،ط1، 2011.
– محمد الدغمومي، نقد النقد وتنظير النقد العربي المعاصر، منشورات كلية الآداب الرباط، ط،1، 1999.
-محمد خرماش، إشكالية المناهج في النقد الأدبي المغربي المعاصر: الواقعية والواقعية الجدلية، مطبعة أنفو، برانت ط 1، الجزءالأول، 2006.
-محمد خرماش، إشكالية المناهج في النقد الأدبي المغربي المعاصر: الواقعية والواقعية الجدلية، مطبعة أنفوبرانت ط1، الجزء الثاني،2006.
-محمد خرماش، إشكالية المناهج في النقد الأدبي المغربي المعاصر: البنيوية بين النظرية والتطبيق، مطبعة أنفو برانت ، ط1، الجزء الثالث،2006.
–مرتاض عبد المالك: في نظرية النقد، دار هومه للطباعة والنشر، الجزائر،2002.
-ميجان الرويلي-سعد البازعي، دليل الناقد الأدبي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء ط،3، 2002.
-نجوى الرياحي القسنطيني، في الوعي بمصطلح نقد النقد و عوامل ظهوره، مجلة عالم الفكر، م38،ع1،يوليو-شتنبر،2009.
– نبيل سليمان، مساهمة في نقد النقد الأدبي، دار الطليعة للطباعة و النشر، بيروت-لبنان،الطبعة الأولى،1983.
-نورثروب فراي، تشريح النقد، ترجمة، محمد عصفور، عمان،1991.
ب-الأجنبية :
-Johana Natali; A propos des chats de baudelaire; in la logique du plausible: j.cl. Gardin; Paris.
-Heid Gottner : Methodologie des theories de lalittérature ; picard-paris-1981.
-Tzvetan (todorov) : critique de la critique ; un roman; d’ apprentissage, seuil ;paris ; 1984.
– Micro Robert;ed;paris ;1980.