
المعتزلة بين الدين والسياسة
د. عبداللطيف محمد سعيد الطاهر نائب عميد كلية شرق النيل –جمهورية مصر العربية-
مقال نشر في مجلة جيل الدراسات السياسية والعلاقات الدولية العدد 21 الصفحة 27.
Abstract
This paper is based on the hypothesis that Mautazila demonation ( a sect belived in using the mind to know the God –ALLAH- ) which has arosed as a religious community not as a political one. This movement has been influenced by the great translation movement that has taken place in the third century from Higra.
This paper aims at sheding the light on the emergence of Al Eatizali ideology and its relation with the authority and its methodology in promoting the mind over the Islamic text.
The researcher has used the historical method accompanied with the descriptive analytical method.
This paper has been divided into three chapters:
-Chapter one : Defining Al Mautazilah literally and lingusticaly .
-Chapter tow :The relation of Al Mautazilah with promoting the over>
-Chapter three :The philosophy influence on Al Mautazilah.
Finally, the finding and the recommendations which are stated as the following:
المستخلص
الفرضية التي تقوم عليها الورقة هي ان المعتزلة نشأة كطائفة دينية وليست سياسية متأثرة بحركة الترجمه الواسعة التي حدثت في المائة الثالثة للهجرة.
تهدف الورقة إلي بيان نشأة الفكر الاعتزالي وعلاقته بالسلطة ومنهجه في تقديم العقل على النص.
اتبع الباحث في ورقته المنهج التاريخي والوصفي التحليلي.
تم تقسيم هذ الورقة إلى ثلاثة محاور جاءت كما يلي:
المحور الأول: تعريف المعتزلة لغةً واصطلاحاً.
المحور الثاني: المعتزلة وتقديم العقل على النقل.
المحور الثالث: المعتزلة وتاثرهم بالفلسفة
اخيراً النتائج والتوصيات التي جاءت كما يلي:
مقدمة:
يتحدث البعض على ان فكر المعتزلة قد اخذ في الظهور في العصر الحديث ويرجعون ذلك الى بروز مفكرين صاروا يلجأون الى العقل ويشككون في بعض الاحاديث او يأولون النصوص تأويلات لم نسمع بها في العهود السابقة ويخرجون باراء قال بها المعتزلة في السابق.
لذا رأينا ان نوضح نشأة الفكر الاعتزالي وتاريخه ثم اهم اراء المعتزلة التي عرفت بالاصول الخمسة.
كما سنبين هل المعتزلة فرقة دينية ام سياسية؟
المحور الاول
تعريف المعتزلة لغةً واصطلاحاً
لمعرفة معنى هذه الكلمة؛ لابد أن نعرف ما هو الاعتزال في اللغة.
الاعتزال لغة: مأخوذ من اعتزل الشيء وتعزله بمعنى تنحى عنه، ومنه تعازل القوم بمعنى تنحى بعضهم عن بعض، وكنت بمعزل عن كذا وكذا أي: كنت في موضع عزلة منه، واعتزلت القوم أي فارقتهم، وتنحيت عنهم، ومنه قوله تعالى: وَإِنْ لَّمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ ([1]) أراد إن لم تؤمنوا بي، فلا تكونوا علي ولا معي. ومنه قول الأحوص:
يا بيت عاتكة الذي أتعزل *** حذر العدى وبه الفؤاد موكل
وعلى ذلك: فالاعتزال معناه:
الانفصال والتنحي، والمعتزلة هم المنفصلون. هذا في اللغة.
أما المعتزلة في الاصطلاح:
فهو اسم يطلق على فرقة ظهرت في الإسلام في أوائل القرن الثاني، وسلكت منهجا عقليا متطرفا في بحث العقائد الإسلامية، وهم أصحاب واصل بن عطاء الغزال الذي اعتزل عن مجلس الحسن البصري.
نشأة المعتزلة:
المعتزلة فرقة إسلامية نشأت في أواخر العصر الأموي وازدهرت في العصر العباسي، وقد اعتمدت على العقل المجرد في فهم العقيدة الإسلامية لتأثرها ببعض الفلسفات المستوردة مما أدى إلى انحرافها عن عقيدة أهل السنة والجماعة. وقد أطلق عليها أسماء مختلفة منها: المعتزلة والقدرية والعدلية وأهل العدل والتوحيد والمقتصدة والوعيدية. ([2])
اما لشهرستاني فيرى ان المعتزلة طائفة نشأت في أوائل القرن الثاني الهجري، واختلفت الاراء حول تسميتها بالمعتزلة.
فرأي يرجع نشأتهم الى رواية تقول: دخل رجل على الحسن البصري (المتوفّى عام ١١٠) فقال : يا إمام الدين لقد ظهرت في زماننا جماعة يكفّرون أصحاب الكبائر، والكبيرة عندهم كفر يخرج به عن الملة وجماعة يرجئون أصحاب الكبائر والكبيرة عندهم لا تضر مع الإيمان، ولا يضر مع الإيمان معصية، كمالا ينفع مع الكفر طاعة، فكيف تحكم لنا في ذلك اعتقاداً؟
فتفكّر الحسن في ذلك وقبل أن يجيب، قال واصل بن عطاء وكان من تلاميذ الحسن: أنا لا أقول إنّ صاحب الكبيرة مؤمن مطلقاً، ولا كافر مطلقاً، بل هو في منزلة بين المنزلتين لا مؤمن ولا كافر.
ثمّ قام واعتزل إلى أسطوانة من اسطوانات المسجد، يقرر ما أجاب به على جماعة من أصحاب الحسن، فقال الحسن: اعتزل عنّا واصل، فسمّي هو وأصحابه معتزلة.([3])
رأي ثان في وجه تسميتهم بها، يظهر ممّا ذكره أبو الحسين محمد ابن أحمد بن عبد الرحمن الملطي الشافعي حيث يقول: وهم سمّوا أنفسهم معتزلة وذلك عندما بايع الحسن بن علي عليه السلام معاوية وسلم إليه الأمر، اعتزلوا الحسن ومعاوية وجميع الناس، وقد كانوا من أصحاب علي، ولزموا منازلهم ومساجدهم وقالوا: نشتغل بالعلم والعبادة فسمّوا بذلك معتزلة. ([4]) ونرى ان هذا الرأي يحصر تعريف المعتزلة في الامور الدينية دون السياسية بالرغم من المعتزلة مارست السياسة واقتربت من الحكام ويرى البعض ان من الاصول الاعتقادية للمعتزلة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر وهذا ما حدا بهم للوقوف مع الخليفة يزيد الناقص بن الوليد بن عبد الملك وخروجهم على الخليفة الوليد الفاسق بن يزيد ابن عبد الملك.
واذا رجعنا الى رسائل الجاحظ وهو معتزلي نجده رسائله تدور حول ست مسائل أساسية. المسألة الاولى هي مفهوم السياسة واصولها وطريقة اقامة الرئيس.
لقد فهم الجاحظ السياسة بمعنى التدبير، تدبير شؤون الناس ومعاشهم.
وكثيرا ما يستعمل لفظة السياسة مقترنة بلفظة التدبير، وترجع السياسة الى اصلين هما الترغيب والترهيب، وفي ذلك تتفق السياسة الدنيوية مع السياسة الدينية: فكما رغب الله عباده بالجنة وخوفهم من النار، هكذا ينبغي ان يفعل الحاكم مع الرعية لكسب طاعتهم، عليه ان يرغبهم بما يحبونه، ويوفره لهم، كما عليه ان يحذرهم مما يكرهونه وينفذ ما حذر منه، وهذان الاصلان يقابلان أحد مبادىء المعتزلة الخمسة وهو الوعد والوعيد. ([5](
ونرى ان المعتزلة لم تمارس السياسية إلا كوسيلة لفرض ارائها والتقرب من السلطة وانها نشأة كطائفة دينية ويتضح هذا من الاراء التي تحدثت عن ظهور المعتزلة سواء الرأي الذي ارجع نشأتهم الى قصة اعتزال واصل الى الحسن البصري او الرأي الذي يقول انهم اعتزلوا الحسن ومعاوية وجميع الناس عندما بايع الحسن بن علي عليه السلام معاوية وسلم إليه الأمر، وقد كانوا من أصحاب علي، ولزموا منازلهم ومساجدهم وقالوا: نشتغل بالعلم والعبادة.
المحور الثاني: المعتزلة وتقديم العقل على النقل
لقد اعتمد المعتزلة على ترجيح العقل على النص او بالعبارة اخرى العقل على النقل. وقبل ان نتعرض لهذا المبدأ تناول مفهوم العقل، فاذا نظرنا الى مفهوم العقل في الاسلام نلاحظ ان القرآن الكريم ورد من مادة (ع ق ل) الفعل دون الاسم، وجاءت صيغ الفعل (عَقَلَ) في الماضي والمضارع: (عقلوه، نعقل، تعقلون، يعقلون، يعقلها) تسعا وأربعين مرة. وبالنظر في موارد اللفظ وصيغه نلاحظ، أن أكثر الموارد جاء فيها اللفظ بصيغة الحض والتحريض: (أفلا تعقلون)، وبصيغة النفي (لا يعقلون)، وبعضها جاء بصيغة الترجي (لعلكم تعقلون)، كما جاء الفعل بصيغة الإثبات (لقوم يعقلون) ست مرات.
وهنا يمكن القول الى إن القرآن الكريم بهذا الاستعمال يلفت النظر إلى مفهوم العقل بوصفه فعلا إنسانيا يطلب إعماله في عدد من القضايا العقدية والعلمية.
كما ان عدم استعمال الصيغ الاسمية ينفي عن العقل صفة الثبات وصفة المطلق التي ألصقها به الفلاسفة حين اعتقدوا بأن العقل جوهر، فالعقل في المنظور القرآني فعل إنساني نسبي ومتغير، يجب الاعتراف بان الاسلام اعترف بالعقل وخاطب العقل في مواضع كثيرة واباح له ان يجتهد ويفسر وياول ويفكر في كل الشؤون والامور الحياتية ولكن في الوقت ذاته لم يبح له التدخل في الثوابت، ومن ثم جاء نفي صفة العقل عن أصناف من الناس: كفارا ومشركين ومنافقين وأهل كتاب: “وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ” ([6])، ” وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ” ([7]). والعقل بهذا المعنى لا يدل على المعرفة النظرية، أو العلم المجرد عن العمل، وإنما يدل على العلم الذي يعمل به، ولذلك جاء ذكر العقل في معرض الحض على مطابقة القول للعمل: ” أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ” ([8])، ولذلك أيضا قال الكفار حين أدخلوا النار: “وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ” ([9]).
وهذا يؤكد أن العقل ليس جوهرا قائما بنفسه بل هو صفة عرضية وأمر يقوم بالعاقل، وبهذا المعنى جعل العقل شرطا في التكليف.،وقد حدد العلماء مجال استعمال العقل بعدد من الضوابط منها:
- أن لا يتعارض مع النصوص الصحيحة.
- ـ أن لا يكون استعمال العقل في القضايا الغيبية التي يعتبر الوحي هو المصدر الصحيح والوحيد لمعرفتها.
- ـ أن يقدم النقل على العقل في الأمور التي لم تتضح حكمتها ” وهو ما يعرف بالأمور التوقيفية”.
لقد قدم المعتزلة العقل على النص بل على الاجماع، يقول القاضي عبد الجبار: “والأدلة، “ثلاثة”: دلالة العقل، لأنه يميز بين الحسن والقبيح، ولأن به يعرف أن الكتاب حجة، وكذلك السنة والإجماع. وربما تعجب من هذا الترتيب بعضهم، فيظن أن الأدلة هي: الكتاب والسنة والإجماع فقط، أو يظن أن العقل إذا كان يدل على أمور فهو مؤخر، وليس الأمر كذلك.” ([10])
ومما جعلهم ينحون هذا الاتجاه العقلاني هو ضعفهم في مجال الرواية وجهلهم لعلم الحديث النبوي واقتصارهم على آيات القرآن وبعض الأحاديث التي رأوا أنها تؤيد أقوالهم. فهذا الضعف في علم الحديث قد ألجأهم إلى المعقولات ليعوضوا بها ما عندهم من نقص ويسدوا به ثغرات مذهبهم، وهذا مصداق ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال (إن أصحاب الرأي أعداء السنة أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها وتفلتت منهم فلم يعوها واستحيوا حين سئلوا أن يقولوا لا علم لنا فعارضوا السنة برأيهم إياك وإياهم)
ولقد رد الاما احمد بن حنبل على مبدأ اهل المعتزلة، يقول إمام أهل وليس في السنة قياس، ولا تضرب لها الأمثال، ولا تدرك بالعقول، والأهواء؛ إنما هي الإتباع، وترك الهوى” ويقول الإمام أبو عبد الله محمد بن أبي زمنين “أعلم رحمك الله أن السنة دليل القرآن، أنها لا تدرك بالقياس، ولا تؤخذ بالعقول. ([11])
يقول الدكتور عبد الرزاق السنهوري -رحمه الله: إنَّ أهل السنَّة والمعتزلة يرون أنَّ الخلافة واجب شرعي، ولكنَّهم يختلفون في أساس هذا الوجوب؛ فأهل السُّنَّة يرون أنَّ سند وجوب الخلافة هو الإجماع، أمَّا الرأي الآخرِ وغالب أنصاره من المعتزلة، فيرى أنَّ سند الوجوب هو العقل، وهناك طائفة من المعتزلة ترى أنَّ سند وجوب الخلافة شرعيّ وعقليّ في واقت واحد، ويرى الشيعة كذلك وجوب إقامة الحكومة الإسلامية.
استقر مذهب الاعتزال على خمسة أصول وهي:
أولا: التوحيد، وهو عندهم نفي صفات الباري جل وعلا، وإثبات أسماء لا معاني لها كقولهم عالم بلا علم قادر بلا قدرة.
ثانيا: العدل، وحقيقته عندهم نفي قدر الله عزوجل ومشيئته النافذة على خلقه، وأن العباد خالقون لأفعالهم، فسموا لذلك مجوس هذه الأمة، وسموا قدرية لنفيهم القدر، وهم يلقبون أنفسهم أهل العدل والتوحيد.
ثالثا: إنفاذ الوعيد، وهو أن مرتكب الكبيرة عندهم إذا لم يتب فهو من الخالدين في النار.
رابعا: المنزلة بين المنزلتين، وهو قولهم إن الفاسق في الدنيا لا يسمى مؤمنا ولا كافرا.
خامسا: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنه جواز الخروج على الأئمة عندهم وقتالهم بالسيف.
وعلى هذه الأصول الخمسة يقوم مذهب الاعتزال، وهم ينقسمون إلى إحدى وعشرين فرقة.([12])
ونرى ان هذا الانقسام قد حدث نتيجة لان العقل يمكن اعماله في كل الامور وليس له حد يقيده.وقد أطلق عليها أسماء مختلفة منها: المعتزلة والقدرية والعدلية وأهل العدل والتوحيد والمقتصدة والوعيدية.
واذا وقفنا عند مبدأ الوعد والوعيد(كما هو مرتبط بالعدل فهو يتصل بالمنزلة بين المنزلتين فحين حكم المعتزلة على مرتكب الكبيرة بانه ليس بالمؤمن المطلق ولا بالكافر المطلق بل هو في المنزلة بين المنزلتين، فانهم قالوا ايضاً بان مرتكب الكبيرة مخلد في النار تحقيقاً للوعيد الالهي(بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) ([13]))([14])
وهذا يجعلنا نقول ان حتى مبدأ العدل لم يكن يرمي الى معنى العدل في الحكم الذي يفضي الى السياسة بل هو خلاف ديني حول معنى العدل مما يرجح قولنا بان المعتزلة كانت فرقة دينية وليس سياسية.
اما قول هنري كوريان بان هناك ثلاث قضايا جدلية هي التوحيد مقابل طبيعة الله وحرية الانسان، والوعد والوعيد، وهناك طبيعة الانسان ومصيره والمنزلة بين المنزلتين، والامر بالمعروف والنهي عن المنكر يتعلقان بالواقع السياسي والاخلاقي.([15]) فقد جانب الصواب وهو يتحدث عن الفلسفة الاسلامية التي نرى ان الاسلام جاء بنصوص صريحة تتوافق مع طبيعة البشر وليس اراء فلسفية لا تقبل التطبيق على ارض الواقع ولا تتناسب مع طبيعة البشر، لذا قد ابتعد غن الحقيقة حين وصف ان المنزلة بين المنزلتين تتعلق بالواقع السياسي والاخلاقي، ومبدأ المنزلة بين المنزلتين الذي مثل بداية الفكر الاعتزالي كان حول مرتكب الكبيرة وهو خلافي فقهي ديني لا علاقة له بالسياسة او الاخلاق.
المحور الثالث :المعتزلة وتاثرهم بالفلسفة
مضى الرعيل الأول في ضوء ذلك النور لم تطفئه عواصف الأهواء ولم تلتبس به ظلم الآراء وأوصوا من بعدهم أن لا يفارقوا النور الذي اقتبسوه منهم وأن لا يخرجوا عن طريقهم فلما كان في أواخر عصرهم حدثت الشيعة والخوارج والقدرية والمرجئة فبعدوا عن النور الذي كان عليه أوائل الأمة ([16])
عند أول المائة الثالثة جاء الى الخلافة عبد الله المأمون وكان يحب أنواع العلوم وكان مجلسه عامرا بأنواع المتكلمين في العلوم فغلب عليه حب المعقولات فأمر بتعريب كتب يونان وأقدم لها المترجمين من البلاد فعربت له واشتغل بها الناس فغلب على مجلس الخليفة جماعة ممن الجهمية وكان أبوه الرشيد قد أقصاهم فبعدوا عن التأثير في سياسته ولكن وجودهم في قصر ومجالس الخليفة عبد الله المأمون اعطاهم الفرصة وقد صاروا بالقرب من صناع القرار فاثروا عليه فقبل دعوتهم واستحسنها ودعا الناس إليها وعاقبهم عليها فظهرت الفرق الاسلامية المتأثرة بفلسفة اليونان والفلسفات الاخرى التي لم ينعم الله على اهلها بوحي الهي فعمدوا الى العقل فزاد سلطانه وكان من اقوى هذه الفرق في عهد المامون المعتزلة الذين تميزوا بمغالاتهم في تحكيم العقل وتقديمه على النص.
وبعده آلت الخلافة الى المعتصم وهو الذي ضرب الإمام أحمد بن حنبل في خلاف حول هل القرآن مخلوق ام لا؟ وهنا انتشرت دعوة المعتزلة لانهم صاروا بالقرب من الخليفة وأثروا عليه ولم ينكر الولاة تلك الدعوة لان الولاة في كل الازمان والعصور يدورون مع السلطة حيث دارت.
لقد اعتمد المعتزلة على قوة العقل اي على الجهاز التنفيذي الحاكم لذا نجدهم قد اعتمدوا على القوة والقمع لذا عندما اصبح مذهبهم المذهب الرسمي للدولة في عهد المامون والمعتصم والواثق امتلأت السجون بمساجين الرأي الذين عملت المعتزلة على محاربتهم والوقوف في وجه دعوتهم التي تنادي بتبعية العقل للنقل وهم اهل السنة والجماعة (وأخذوا الناس بالرغبة والرهبة فمن بين أعمى مستجيب ومن بين مكره مقيد نفسه منهم بإعطاء ما سألوه وقلبه مطمئن بالإيمان وثبت الله أقواما جعل قلوبهم في نصر دينه أقوى من الصخر وأشد من الحديد وأقامهم لنصر دينه وجعلهم أئمة يقتدي بهم المؤمنون لما صبروا وكانوا بآياته يوقنون فإنه بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} ([17])([18]).
ان النزعة العقلانية عند المعتزلة تجعلنا نقول ان المعتزلة كانوا نخبة مثقفة تحررية رفضت ما هو سائد من افكار اهل السنة والجماعة ولكنها عجزت ان تكون حزباً سياسيا يمتلك قاعدة جماهيرية تضمن له الاستمرارية فيما بعد، لذا نجدها مارست السلطة من خلال وجودها بالقرب من رأس الدولة وتحت حمايته، وهذا المنحى نلاحظه اليوم حيث نجد النخب المثقفة او ذات الاتجاهات الفكرية المستحدثة تحاول ان تفرض رأيها عبر الوصول الى كراسي السلطة.
فاذا نظرنا الى الامر بالمعروف والنهي عن المنكر نجده نحا نحو السياسة وهو يمثل الجانب السياسي في فكر المعتزلة ويمكن القول انه كان الاساس السياسي في نظريتهم السياسية في الحكم والحاكم فنجد ان المعتزلة لم يكتفوا كاهل السنة والشيعة بتقويم الحاكم باللسان والقلب بل أقرّوا بتقويم الحاكم بالسيف، استندوا للاية التي تقول (فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء الى امر الله)
ونرى ان المعتزلة التي بدأت جماعة فكرية تحولت بقربها من السلطة والاعتماد عليها ومحاولة فرض اراءها بقوة السلطان قد اضر بافكارها ودعوتها وهذا الاعتماد على القوة اضر بالمعتزلة مثلما اضر بالفرق الاخرى وبالخلافة الاسلامية، فقد كانت البداية خلافات مذهبية تستند على النصوص القرانية والاختلاف في تأويلها وحول شرح الاحاديث النبوية ولكن عندما اعتمدت الفرق الاسلامية على القوة واللجوء الى السلاح وسلطة الدولة اضر ذلك بالفرق الاسلامية واغلاق باب الاجتهاد وانعكس ذلك على الخلافة الاسلامية التي بدأت كنظام يعتمد على الشورى واحترام الرأي الاخر الى نظام يعتمد على القوة فادى ذلك الى التآمر على الخلافة الاسلامية وعلى الحكام واستشرى الخلاف داخل الدولة الاسلامية وصار يميل الى القتل وتصفية الاخرى فتآكلت الدولة الاسلامية من الداخل بحجرها على الرأي الاخر وتضييق مواعين الشورى والاجتهاد والميل الى السيف والقوة فكان هذا اول وبآل اضعف الدولة الاسلامية.
واذا عدنا الى المرتكزات الفكرية للفكر الاعنزالي لوجدنا في مبادىء المعتزلة الخمسة مبدأ الوعد والوعيد وهو ما يتفق مع رأي الجاحظ فقد فهم الجاحظ السياسة بمعنى التدبير، تدبير شؤون الناس ومعاشهم. وكثيرا ما يستعمل لفظة السياسة مقترنة بلفظة التدبير، وترجع السياسة الى اصلين هما الترغيب والترهيب، وفي ذلك تتفق السياسة الدنيوية مع السياسة الدينية: فكما رغب الله عباده بالجنة وخوفهم من النار، هكذا ينبغي ان يفعل الحاكم مع الرعية لكسب طاعتهم، عليه ان يرغبهم بما يحبونه، ويوفره لهم، كما عليه ان يحذرهم مما يكرهونه وينفذ ما حذر منه. ([19]) ونرى ان الجاحظ قد برر تخويف الحاكم لرعيته وهو ما جعله امر دنيا وسياسة بتخويف الله لعباده بالنار التي ترتبط بالعبادة وهي مقابلة غير موفقة، فالسياسة لا تقوم على الترهيب والترغيب وانما تقوم على الشورى، وهذا يؤكد ان الجاحظ كان من المعتزلة ومن المتأثرين بالفلسفة.
أصل (العدل) وهو الأصل الثاني من أصولهم وينسبون أنفسهم إليه بقولهم: (أهل العدل) وقد نمقوا بيانهم للمراد بالعدل بألفاظ ظاهرها التنزيه والتعظيم لله عزوجل،وباطنها تعجيز الله والحد من قدرته وسيادته والرد لشرعه ودينه فقال عبد الجبار المعتزلي في تعريفه للعدل: هو توقير حق الغير واستيفاء الحق منه، ثم قال في تطبيق هذا التعريف على عدل الله “وأما علوم العدل فهو أن يعلم أن أفعال الله تعالى كلها حسنة وأنه لا يفعل القبيح ولا يخل بما هو واجب عليه وأنه لا يكذب في خبره ولا يجور في حكمه”. ([20]) فاذا كان هذا مفهوم العدل عندهم وهو يبعد عن مفهوم العدل في السياسة فكيف يحاول الجاحظ ان يثبت لنا مبدأ الوعد والوعيد مبدأ سياسي؟
يمكن القول ان المعتزلة ظهرت على خلاف الخوارج والشيعة، فالخوارج ظهروا كفرقة سياسية يوم موقعة صفين حين طلب معاوية بن ابي سفيان وقف الحرب واللجوء الى التحكيم، اما الشيعة فقد اشتهرت كلمة الشيعة- للدلالة على الفرقة: أو الفرق- الذين يتولون ويشايعون الإمام على بن أبى طالب كرم الله وجهه، وآل بيته، حتى صار مصطلح الشيعة اسما خاصا بهم، هم الفرقة التي انحازت لعلي يوم التحكيم.
اما المعتزلة فقد ظهرت كفرقة دينية وذلك يتضح اذا رجعنا الى الروايات التي تحدثت عن نشأة المعتزلة وكيف انها نشأت داخل المسجد عندما اعتزل واصل حلقة الحسن البصري، فقد ذكر مؤرخو الفرق أن المعتزلة كان ظهورها أول ما ظهرت من مجلس الحسن البصري، حيث كان زعيمها واصل بن عطاء الغزال تلميذاً له، ثم اعتزل مجلسه أخيراً بسبب رأيه في مرتكب الكبيرة، الذي من أجله سُمِّي هو وأصحابه معتزلة ([21]) ,ومما يؤكد ما ذهبنا اليه ان المعتزلة ظهرت اول الامر كفرقة دينية ما ذكره صاحب الحجة في بيان المحبة حين قال(ظَهرت الْمُعْتَزلَة فقدحت فِي كتاب الله، وَقَالَت: بِخلق الْقُرْآن، وقدحت فِي أَحَادِيث رَسُول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم -، وَقَالَت: لَا تصح، وَسموا أَصْحَاب الحَدِيث حشوية، وَقَالُوا: الْخَبَر يدْخلهُ الصدْق وَالْكذب وكل مَا تردد بَين الصدْق وَالْكذب فَهُوَ شكّ، وتأولت أَسمَاء الله تَعَالَى وَصِفَاته([22])
ومع ذلك كلّه نرى عبد الرحمن بدوي يعتبر تلك الفكرة منهم فكرة سياسية اتّخذوها ذريعة على ألاّ ينصروا أحد الفريقين المتنازعين (أهل السنّة والخوارج) حيث قال: وإنّما اختار المعتزلة الأوّلون هذا الاسم، أو على الأقل تقبّلوه ، بمعنى المحايدين أو الذين لا ينصرون أحد الفريقين المتنازعين (أهل السنة والخوارج) على الآخر في المسألة السياسيّة الدينية الخطيرة : مسألة الفاسق ما هو حكمه؟ هل هو كافر مخلّد في النار كما يقول الخوارج، أو هو مؤمن يعاقب على الكبيرة بقدرها كما يقول أهل السنّة، أو هو في منزلة بين المنزلتين وهو ما يقول به المعتزلة. ([23])
ونرى ان رأي عبدالرحمن بدوي لا يتفق مع مجرى الاحداث فلم يكن الخلاف بين الخوارج واهل السنة بل كانت هناك طائفة الشيعة، وكان يمكن ان يقول ان الخلاف كان بين المعتزلة والشيعة والخوارج واهل السنة، فالمعتزلة لم يتقيدوا بالنصوص بل غلبوا عليها العقل وفي ذلك خالفوا اهل السنة فاهل السنة لم يعارضوا النصوص بالعقل بل قالوا: الأصل في الدين الإتباع، والعقول تبع، ولو كان أساس الدين على المعقول، لاستغنى الخلق عن الوحي وعن الأنبياء صلوات الله عليهم، ولبطل معنى الأمر والنهي، ولقال من شاء ما شاء”وعدوا من أهم علامات أهل السنة أنهم عند التنازع يدعون إلى التحاكم إليها دون آراء الرجال وعقولها؛ بينما أهل البدع يدعون إلى التحاكم إلى آراء الرجال ومعقولاتها. ([24])
الخاتمة
بعد ان تناولت الورقة في ثلاثة محاور اولها تعريف الاعتزال في اللغة والاصطلاح ثم نشأة المعتزلة التي بدأت طائفة دينية ثم بعد ذلك استعانت بالسلطان لفرض ارائها التي نادت بوضع العقل قبل النصوص، ثم عرفت العقل وكيف ان العلماء حددوا مجال استعمال العقل بعدد من الضوابط، ذكرت الأصول الخمسة التي استند عليها مذهب المعتزلة.
وذكرت الانقسامات التي اصابت المعتزلة وان هذا الانقسام قد حدث نتيجة لان العقل يمكن اعماله في كل الامور وليس له حد يقيده. وقد أطلق عليها أسماء مختلفة منها: المعتزلة والقدرية والعدلية وأهل العدل والتوحيد والمقتصدة والوعيدية.
وفي المحور الاخير تناولت الورقة المعتزلة وتاثرهم بالفلسفة.
واخيراً توصلت الورقة الى النتائج والتوصيات الآتية:
اولاً- النتائج
توصلت الورقة الى النتائج الآتية
1- ظهرت المعتزلة في بادئ الامر كفرقة دينية.
2- العصر الذي ظهرت فيه المعتزلة كان عصر الحضارة الاسلامية.
3- تـأثرت المعتزلة بما ترجم من كتب حملت اراء الفلاسفة.
4- لم يستمر الفكر الاعتزالي لانه استند على العقل مما ادى الى انقسامات داخل الفرقة.
ثانياً – التوصيات
توصي الورقة بالآتي:
1- الابتعاد عن تفسير السنة بالفلسفة لان تفسير النصوص الاسلامية بالفلسفة يقتلها ويخرجها عن مقاصدها.
2- يمكن مناقشة غير المسلمين في البداية بالادلة العقلية ولكن المسلمين يجب اقناعهم بالنصوص.
المراجع
- الندوة العالمية للشباب الإسلامي إشراف وتخطيط ومراجعة: د. مانع بن حماد الجهني، الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة، دار الندوة العالمية للطباعة والنشر والتوزيع، ط4، 1420 هـ
- أبو الحسين يحيى بن أبي الخير بن سالم العمراني اليمني الشافعي، الانتصار في الرد على المعتزلة القدرية الأشرار، المحقق: سعود بن عبد العزيز الخلف، أضواء السلف، الرياض، المملكة العربية السعودية، 1419هـ/1999م
- الجاحظ، الرسائل السياسية، دار ومكتبة الهلال، بيروت،ب.ت
- أحمد بن عطية بن علي الغامدي، الإيمان بين السلف والمتكلمين، مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة، المملكة العربية السعودية،1432هـ/2002م
- ابن قيم الجوزية، الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة، دار العاصمة، الرياض، المملكة العربية السعودية، ط1، 1408هـ
- الشهرستاني، الفرق بين الفرق الملل والنحل
- د. عبد الرحمن بدوي، مذاهب الإسلاميين
- عمرو بن بحر(الجاحظ)، الرسائل السياسية، دار ومكتبة الهلال، بيروت، ب.ت
- عبد الجبار بن أحمد، فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة، تونس، 1972
- د. عبدالستار عزالدين الراوي، فلسفة العقل رؤية نقدية للنظرية الاعنزالية، دار الشؤون الثقافية للطباعة، وزارة الثقافة والاعلام، العراق، ط2، 1986م
- همري كوريان، تاريخ الفلسفة الاسلامية، بيروت، ب.ت
- محمد با كريم محمد با عبد الله، وسطية أهل السنة بين الفرق (رسالة دكتوراة)، دار الراية للنشر والتوزيع،1415هـ-1994م
[1] – سورة الدخان، آية21
[2] – الندوة العالمية للشباب الإسلامي إشراف وتخطيط ومراجعة: د. مانع بن حماد الجهني، الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة، دار الندوة العالمية للطباعة والنشر والتوزيع، ط4، 1420 هـ، ج 1، ص64
[3] – الشهرستاني، الفرق بين الفرق الملل والنحل، ج ١، ص ٤٨
[4] – د. عبد الرحمن بدوي، مذاهب الإسلاميين، ج١، ص ٣٧
[5] – عمرو بن بحر(الجاحظ)، الرسائل السياسية، دار ومكتبة الهلال، بيروت، ب.ت.، ص5
[6] – سورة البقرة، آية:171
[7] – سورة المائدة، آية: 58
[8] – سورة البقرة، آية:44
[9] – سورة الملك، آية: 10
[10] – عبد الجبار بن أحمد، فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة، تونس، 1972، ص128
[11] – محمد با كريم محمد با عبد الله، وسطية أهل السنة بين الفرق (رسالة دكتوراة)، دار الراية للنشر والتوزيع،1415هـ-1994م، ص70
[12] – أبو الحسين يحيى بن أبي الخير بن سالم العمراني اليمني الشافعي، الانتصار في الرد على المعتزلة القدرية الأشرار، المحقق: سعود بن عبد العزيز الخلف، أضواء السلف، الرياض، المملكة العربية السعودية، 1419هـ/1999م، ج1، ص69
[13] – سورة البقرة، آية 81
[14] – د. عبدالستار عزالدين الراوي، فلسفة العقل رؤية نقدية للنظرية الاعنزالية، دار الشؤون الثقافية للطباعة، وزارة الثقافة والاعلام، العراق، ط2، 1986م، ص 95
[15] – همري كوريان، تاريخ الفلسفة الاسلامية، بيروت، ب.ت، ص170
[16] – ابن قيم الجوزية، الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة، دار العاصمة، الرياض، المملكة العربية السعودية، ط1، 1408هـ، ج 3، ص 1070- 1071
[17] – السجدة، آية 24]
[18] – المرجع سابق، ص 1073
[19] – الجاحظ، الرسائل السياسية، دار ومكتبة الهلال، بيروت،ب.ت، ص 5
[20] – أبو الحسين يحيى بن أبي الخير بن سالم العمراني اليمني الشافعي، الانتصار في الرد على المعتزلة القدرية الأشرار، أضواء السلف، الرياض، المملكة العربية السعودية،1419هـ/1999م، ج1، ص66
[21] – أحمد بن عطية بن علي الغامدي، الإيمان بين السلف والمتكلمين، مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة، المملكة العربية السعودية،1432هـ/2002م، ص119
[22] – إسماعيل بن محمد بن الفضل، الحجة في بيان المحجة وشرح عقيدة أهل السنة، تحقيق محمد بن ربيع بن هادي عمير المدخلي، دار الراية – السعودية،1419هـ – 1999م ، ط2،ج2، ص552
[23] – د. عبد الرحمن بدوي، مذاهب الإسلاميين، ج١، ص ٣٧
[24] – محمد با كريم محمد با عبد الله، وسطية أهل السنة بين الفرق (رسالة دكتوراة)، دار الراية للنشر والتوزيع،1415هـ-1994م، ص70