
رمـزية “شهرزاد” في خطاب فاطمة المرنيسي “شهرزاد ترحل إلى الغرب” أنموذجـًا
راويـــة بـرجــــم ـ سنة خامسة دكتوراه، التخصص: تيارات نقدية معاصرة
المؤسسة:جامعة مـحمد الشريف مساعدية سوق أهراس
مقال نشر في مجلة جيل الدراسات الادبية والفكرية العدد 46 الصفحة 117.
ملخــص:
حاولت (فاطمة المرنيسي) استثمار التّراث بطريقة جديدة ،حيث جعلت بطلة كتاب “ألف ليلة وليلة” ذات رمزية ودلالة مميزة ،فقد كانت نظرتها للمرأة تعود إلى التاريخ و تغوص في أغوار المجتمع الغربي ،حيث تقوم بتشريح للعالم المغلق الذي تعيش فيه المرأة ، وتفضح المجتمع الذي ينظر إليها كجسد ومتعة ، و يلغي دورها الحضاري
و الثقافي،فجعلت شخصية “شهرزاد” أنموذجاَ فاعلاً لاندماجها في الوسط الثقافي، بوصف “شهرزاد” عنواناً للمرأة المثالية المشعة أنوثة ، تنبثق منها الحكمة و الثقافة و الدهاء ،للتخلّص من الاستبداد الممارس عليها . وهكذا تصبح شخصية “شهرزاد” متجاوزة إلى الأنا النسوية العربية المعاصرة عامة ، والأنا الكاتبة خاصة . و قد اعتمدت الدراسة المنهج الموضوعاتي مع الاستعانة بآليتي التحليل و التأويل.
Résumé
Fatima MERNISSI a tenté, à maintes reprises, exploiter « le Patrimoine National » d’une façon nouvelle lorsqu’elle a fait de l’Héroïne de la légende intitulée « Mille nuits et une nuits » un symbole spécifique. Son opinion à l’égard de la femme provient du profond for de l’histoire et de la Société arabo musulmane. Elle étudie profondément le Monde Arabe où vivait cette femme et dénonce la Société qui la considère comme étant seulement« un corps attirant » et lui nie tout rôle civil, culturel. C’est pour cela que Fatma Mernissi a fait de la personnalité de « Chahra-Zed ».
Un modèle actif dans un milieu culturel en considérant « Chahra-Zed » comme un modèle de la femme exemplaire d’où faillit la sagesse, la culture et l’intelligence, les plus grands moyens pour combattre et battre l’oppression exercée sur elle. De cette façon, Chahra-zed devient un symbole qui dépasse la juste personnalité de la femme arabe dans sa grande simplicité et fragilité pour celui de la personnalité de la femme contemporaine en générale et la personnalité de la femme instruite et écrivaine spécifiquement.
تمهيـــد:
تعد المرأة الرّكيزة الأساسية للمجتمعات الإنسانية، حيث شغلت منذ القديم حيّزاً معتبراً من التّراث الإنساني، نظراً لما حققته في ميادين مختلفة: سياسية، اقتصادية، اجتماعية وفكرية، واستطاعت التفوق والسمو. إلاّ أنّ الاضطهاد الممارس عليها حال دون الاعتراف بصورتها وتثمين إنجازاتها.
لقد حاولت المرأة تجاوز كل الصعوبات التي أعاقت تطورها، وإثبات ذاتها وكينونتها، و جعلهاكعنصر فعّال في المجتمع. وبما أنّ الأدب يعدّ مجالاً خصباً لحمل قضايا المرأة، فقد تعدّدت الكتابات النسوية التي لفتت الانتباه إليها بشدة لما تمتلكه من مقومات حداثية استطاعت أن تثبت جدارة الحضور النسوي في مختلف المجالات السسيوثقافية، أين تناول قضية المرأة العديد من الأدباء والباحثين رجالاً ونساءً – على وجه الخصوص- أمثال (نوال السعداوي)، (ليلى أحمد)،(ألفى يوسف)،(مارغو بدران)،(فاطمة المرنيسي) …وغيرهن.
وقد كرّست (المرنيسي) جهوداً جبّارة في تحليل الخطابات التراثية، مستنطقة مكانة المرأة وقضاياها، هذا المخلوق الذي يمارس حضوره القوي ، والذي لا مناص من تجاهل وجوده وكينونته التي يجسّدها بعمق. فاهتمت (فاطمة المرنيسي) بالمرأة عموماً، والمرأة العربية المغربية المسلمة خصوصاً، كونها جزءاً لا يتجزأ من التاريخ بحيث شكل إبداعها واقعاً تاريخياً وصورة مكشوفة عن المرأة في مجتمع تحكمه عادات وتقاليد صارمة تمارس ضغوطاً وتضييقاً واحتباساً.
تعد تجربة (المرنيسي) من أهم الكتابات النسوية التي تعرض قضايا المرأة العربية المعاصرة في ظل التأثيرات الثقافية والاجتماعية المتغيرة، أمّا في كتابها “شهرزاد ترحل إلى الغرب” فقد كانت نظرتها للمرأة تعود إلى التاريخ وتسافر إلى العالم الآخر، أي المجتمع الغربي المختلف لتصبح قضية “شهرزاد”، قضية متجاوزة إلى هوية الأنا النسوية العربية المعاصرة. فتقوم (فاطمة المرنيسي) بتشريح للعالم المغلق الذي تعيش فيه المرأة، و تفضح المجتمع الذي ينظر إليها كجسد ومتعة ويلغي دورها الحضاري والثقافي. فجعلت شخصية “شهرزاد” أنموذجاً فاعلاً ورمزاً لاندماجها في الوسط الثقافي.
ووقوفا أمام كتاب كهذا يستدعي كثيراً من المضامين الفكرية والثقافية والإيديولوجية يعدّ إشكالية في حدّ ذاتها، كونه يستحضر تجربة تخوضها المؤلفة ذاتها. وتعود إلى المنتج الإبداعي”ألف ليلة وليلة” ومنه إلى التاريخ، ثمّ إطلالة على تواجده في الفكر الغربي وظلال كل ذلك على الحاضر النسوي، مما يقودنا إلى مناقشة هذه الإشكاليات التي من خلالها تتضح الرؤية:
- ما مدى التباس صورة “شهرزاد” بين المتخيل الغربي و التصور العربي؟
- كيف استطاعت “شهرزاد” أن تحمل لواء الدفاع عن المرأة؟
- إلى أي مدى عبرت “شهرزاد” (المرنيسي) عن حال المرأة العربية؟
شهرزاد الغـرب و التباس الهوية النسوية:
عرف الغربيون اللّيالي العربية من خلال الترجمة التي حظي بها الكتاب إلى مختلف اللّغات »وأشهر هذه الترجمات : الفرنسية لأنطوان جالان Antoine Galland عام 1704م، والإنجليزية مجهولة المؤلف عرفت باسمGrub Street في عام1706م« ونظراً لأسبقية الترجمة الفرنسية في نقل نص الليالي إلى الغرب، واقتباسه ترى (فاطمة المرنيسي) أنّ أول رحلة “لشهرزاد” نحو الغرب كانت بواسطة ترجمة (أنطوان جالان)[1].
ويعود سبب إعجاب الغربيون بشخصية “شهرزاد “ولياليها إلى تسلّحها بقوة الكلمات وسحرها، حيث تقول المؤلفة: »نجحت شهرزاد خلال فترة وجيزة جداً في تحقيق ما فشلت فيه الجيوش خلال الحروب الصليبية،لقد غزت العالم المسيحي معتمدة في ذلك على القوة الوحيدة التي تملكها،أي قوة الكلمات « [2]
كانت ترجمة (أنطوان جالان) لكتاب “ألف ليلة وليلة” سبباً في التعرف على شخصية “شهرزاد” وانتشار “نص الليالي” في جميع أنحاء العالم، كما يرى الدكتور(محسن جاسم الموسوي) »أن استقبالا لإنجليز لألف ليلة وليلة وسر إعجابهم بحكايات شهرزاد هو امتزاج الواقع بالخيال والخارق والغريب… [3]«
شهد القرن الثامن عشر في أوروبا ازدهارا وذيوعاً كبيراً في نص الليالي، حيث انصبّ اهتمام العديد من الأدباء على شخصية “شهرزاد” واستلهامها في أعمال كثيرة »فقد صدر عن شهرزاد ما يزيد على 679 كتاباً وهو ما يثبت تسميّة القرن الثامن عشر بقرن شهرزاد حيث دخلت فيه حينئذٍ طور العالمية[4] « وعليه فإنّ استلهام كتاب “ألف ليلة وليلة ” في كتابات الغربيين، وترجمته إلى معظم لغات العالم يعدّ سبباً في ارتقاء البطلة “شهرزاد” إلى مصاف العالمية.
ولكن بالرغم من الشهرة التي لاقتها “شهرزاد” عند ارتحالها إلى الغرب، إلاّ أنّ هذا لم يحل دون تغريبها، »إنّ تلك الفترة الزمنية الطويلة التي عاشتها شهرزاد في ربوع الغرب لم تكن لتضيع هباء، إذ كان على شهرزاد أن تدخل في طور التغريب رويداً رويداً في وقت كانت فيه الرومانسية تعصف بأوروبا بعنف شديد [5] «
كان سرّ إعجاب الغربيين “بشهرزاد” ولياليها هو افتقادهم للعاطفة وسيادة العقلانية والمادية، وفي ظلّ ظهور التيّار الرومانسي كان هناك انسجام مع “الليالي العربية”، حيث يورد (الموسوي) : »يرى توي Twi أن فرنسا عاشت طويلاً على مسرحيات Racine و Conneill وكتابات Bossuet و فلسفة Bayle الشكية، ولم يكن غير Molière معبراً عن فكاهة الحياة….[6] «
إنّ الأجواء التي سادت فرنسا خلال القرن الثامن عسر من انتشار للعقلانية وسيادة المادية، جعلت “نص الليالي” من مشاهده الرومانسية والخيالية، وتدفق العاطفة يشهد نجاحاً وذيوعاً كبيراً.وعليه فإنّ كل هذا الرّواج لكتاب “ألف ليلة وليلة” يعود أساساً للترجمة الفرنسية (لأنطوان جالان)، ووصفه للمشاهد المثيرة والجاذبية والجمال، وأنواع العلاقات الجنسية.
إنّ الغربيين أخذوا من النص الشهرزادي ما يتلاءم وميولهم ورغباتهم، وذلك من خلال إعجابهم بالمشاهد الجنسية، وكذا المظاهر والأزياء الشرقية بصفة عامة، لذلك كان لكتاب ” الليالي”تأثيراً على النفوس في الغرب وتوالت الترجمات واستلهامات صورة البطلة “شهرزاد” في مختلف الأعمال الأدبية والفنية.ترى (المرنيسي) أنّ ارتحال “شهرزاد” إلى الغرب أدّى إلى تجريدها من هويتها وذكائها وحكمتها، التي طالما امتازت بها في الشرق وذلك بدءاً من ترجمة (أنطوان جالان)، فهي بمثابة المسافر الذي انتزع منه جواز سفره[7].
ولا نجد أدق وأحسن من تعبير المؤلفة عن وضعية “شهرزاد”عندما عرفها الغرب بـ: (العابرة المكسورة الجناح)، وقد جعلت هذا الوصف كعنوان فرعي للكتاب “شهرزاد ترحل إلى الغرب”، ممّا يوحي بأنّ “شهرزاد” قد طرأت عليها تشويهات على حدّ تعبير (مصطفى عبد الغني) :»شهرزاد أخرى غربية أو غريبة لا تمت إلينا بالكثير، اللّهم إلاّ اسمها أماّ حكاياتها التي تبدأ من الليلة الثانية بعد الألف، وحركاتها التي تزخر بضروب الإثارة الجنسية، وتحميلها لقضايا لم تكن لتحملها في الشرق[8] «
ونجد المفكرة، قد جعلت الذكاء والحكمة والمعرفة الواسعة بمثابة الجناح الذي كسر، لأنها جرّدت من سيماتها الحقيقة، وأصبحت مكسورة الجناح. إنّ الغربيين كدعاة للعقل، رأوا في نصوص “الليالي” ما يفتقدون إليه، من عاطفة وخيال، فلم يأبهوا إلاّ لجانب الغرام والمغامرة والذي انحصر هو الآخر في الزينة ولغة الجسد.[9]
كان اهتمام المجتمعات الغربية التي نُقل إليها نص “شهرزاد” منصباً حول الجنس والعجائب والمغامرات، أي أنّهم أخذوا عن الشرق قشور الحضارة لا اللّب الذي تمثّله سيمات البطلة “شهرزاد” وقدراتها الخارقة، التي استطاعت من خلالها تحقيق غاية شبه مستحيلة من خلال تسلّحها بالعلم والمعرفة والفطنة والذكاء، وكان سلاح “شهرزاد”وإستراتيجيتها بمثابة علاج نفسي للملك وانتصارها نجاح رائع. لكن هذا لا يعني للإنسان الغربي شيئاً بقدر اهتمامه بالجنس والشهوانية حيث ، »…ارتدت هذه المرأة غير العادية، القوية، العنيفة النهمة جنسياً، ارتدت أثواب الغرب أو أجبرت على ارتدائها…[10] «
وترى (فاطمة المرنيسي) أنّ اهتمام الغربيين كان منصباً حول الشخصيات الذكورية في كتاب “ألف ليلة وليلة”، كالسندباد وعلاء الدين وعلي بابا، وهذا الاهتمام دليل على أنّ المجتمع الغربي ، بالرغم من تطوّره وتحضّره وتنديده بحقوق المرأة، وتحررها، إلاّ أنه يمارس ضغوطاً عليها.
وتعتبر المؤلفة أنه بالرغم من رواج “شهرزاد” بمختلف صوّرها إلا أن الجانب الأساسي المتمثل في ملامح شخصيتها كان مغيباً، حيث كان ترحيب الغربيون بهاته الشخصية مقتصراً على جانب الزينة والأزياء فالرسالة التي حملتها “شهرزاد” الشرقية سياسية بالدرجة الأولى، حيث سعت إلى القضاء على الاستبداد وتخليص الناس من الظّلم باستعمال قدراتها اللّغوية، »حيث ظلّت شهرزاد بشرقيتها ووضوحها وأنوثتها حتى عرفها الغرب فيما بعد[11] «
لكنّ الغربيين لم يعرفوا أبداً “شهرزاد” التي ترمز إلى التحرّر من قيود السلطة الذكورية المهيمنة على المجتمع على حد تعبير (فاطمة المرنيسي) : »كانت مدام بومبادور Madame de Pompadour من ضمن أشد المعجبات بالحكايات، ولكن لسوء الحظ كانت تهتم بحلي الحريم الثمينة،أكثر من اهتمامها بالدفاع عن القضية النسائية سنة 1745م… « [12]
أصبحت “شهزراد” بمجرد انتقالها إلى الغرب مبالغة في شتى أنواع الزينة ومواكبة أحدث ما تنتجه دور الأزياء. لذلك ترى المؤلفة أن حكايات “ألف ليلة وليلة” قد أدهشت الغربيين من خلال تلك العبارات الجنسية الصريحة، كما لفتت انتباه الأوروبيين المنصرفين إلى الجانب الديني (رجال الكنيسة) وكذا أنصار المنهج العقلي الفلسفي[13].
أمّا الوصف الجسدي الذي تستعمله “شهرزاد” في حكاياتها لا يحيل عند الشرقي إلى الجنس والشهوانية لأنه لا ينتبه إليه بقدر انتباهه إلى طريقة الحكي، وسحر الكلمات يقول الموسوي : »كما يعد استقبال الليالي عبارة عن لفت انتباه القارئ العربي إلى مواطن السحر «[14]
وبالتالي، فإنّ رحلة “شهرزاد” إلى الغرب جرّدتها من هويتها وشخصيتها، التي جعلتها تثبت كينونتها من خلال الذكاء واتسامها ببرودة الأعصاب، والتغلب على الخوف أثناء الحكي حتى بلوغ غايتها وبالرّغم ممّا بذلته إلاّ أنها تبقى كامرأة شرقية ارتبطت عند الغرب بالشهوانية والجنس على حد تعبير (الموسوي) : »ونقطة أخرى تستحق التوضيح تتعلق بما شاع عن بذاءة وفجور بعض الحكايات، فبتأثير الأفكار التقليدية المبالغة والسائدة حول تعدد الزوجات في الشرق غلب الانطباع بأن الشرق هو بلاد الجنس والتحلل الأخلاقي… « [15]
بمجرد انتقال “شهرزاد” إلى الغرب أضحت امرأة سليبة عقل، تنقاد إلى تأثير العاطفة، وهذا ما يتلاءم والنزعة الرومانسية التي ذاع سيطها في الوقت الذي عرفت فيه “شهرزاد” في الغرب إذ »عرفت شهرزاد في الغرب في فترة سادت فيها الرومانسية ومن ثمّ حملت كل ملامح التيار الرومانسي، بـما عرف به من إيثار للحرية وتأكيد لشخصية الفرد وترك الحبل للمشاعر الانفعالية، فإنّ القوة التي كانت لا تخدع هي القلب، … إلى درجة أن يقول موسيه عام 1942م ….علينا أن نترك العقل والمنطق … « [16]وعليه فإنّ استقبال الغربيون لنص “الليالي”، كان تلبية لرغباتهم وعواطفهم، فوجدوا في الحكايات ما يناسب ميولهم الرومانسي، وما يشبع شهواتهم الخيالية.
ترى (المرنيسي) أنّ “شهرزاد” استمرت على صورتها المشوّهة حوالي قرن ونصف إلى أن جاء (إدجار ألان بو Edgar Allan Poe) بقصته “ألف ليلة وليلتان”، حيث حازت على لقب “سيدة العجائب”. وتعد هذه القصة المجسدّة لصورة “شهرزاد” الحقيقة – من نظر المؤلفة – حيث الاعتراف بذكائها الخارق إلى حدّ تسميتها بـ “الأميرة السياسية”[17]
هذه الصورة المستوحاة عن “شهرزاد ” تنطبق على السيمات التي طالما عرفها العربي والشرقي عن هذه البطلة، وهذا ما اعتقدته المؤلفة في بداية القصة. لكنّها أساءت الظن بأنه تمّ الاعتراف أخيراً”بشهرزاد” في الغرب، لأن نهاية قصة (إدجار ألان بو) تكون بنهاية “شهرزاد”البشعة.
لقد استطاعت المفكرة من خلال هذه القصة أن تستنطق الواقع الغربي ،الذي يمارس الهيمنة والتبعية على الشرق في مختلف المجالات، وذلك بدءاً من العلوم الغربية التي تلقتها “شهرزاد”(ألان بو)، ونجد (فاطمة المرنيسي) تدين نهاية قصة “ألف ليلة وليلتان”، حيث ترى أنّ (إدجار ألان بو) لو جعل “شهرزاد”تمزج بين ذكائها وخبرتها العلمية لاستطاعت تحقيق الكثير,كعدم غزو الغرب للشرق. لكن (ألان بو) أراد هذه النهاية البشعة “لشهرزاد”، حيث كان استسلامها وخضوعها للموت أمر أدهش المؤلفة، كونه يختلف عن سيمات “شهرزاد” المرأة الشرقية التي حملت رسالة دافعت عنها بكل ما تملك.
وترى المفكرة أنّ (إدجار ألان بو) في بداية قصته قد سما بشخصيته “شهرزاد” إلى أعلى المراتب، فلو استمر بتلك الطريقة لكان من أنصار “الديمقراطية”، لكن باختياره نهاية البطلة في الأخير يعني إلغاءه لحقوق المرأة باعتبار”شهرزاد” عنواناً لكل أنثى تسعى إلى السمو بذاتها واثبات كينونتها ، وقد طرأت تشويهات على هاته الشخصية التراثية عند ارتحالها إلى الغرب، وتناولها العديد من الكتّاب والشعراء (كإدجار ألان بو) الذي جعل “شهرزاد” تتعرض إلى القتل المهين في نهاية القصة. وتفسر (فاطمة المرنيسي) سبب اختياره لهذه الخاتمة؛ بأنّ الذكاء الذي طالما تمتعت به “شهرزاد” الشرقية، لا يمكن أن تكتسبه امرأة غربية، ذلك أنّ الذكاء في المجتمع الغربي مقتصر على الرّجال فقط، وكان الصحفي (جاك Djack) من لفت انتباه المؤلة إلى هذا السبب من خلال العودة إلى الفيلسوف (كانط Emmanuel Kant). تقول (المرنيسي) : »إظهار المرأة لذكائها جريمة لديهم…..إنّ المرأة يجب أن تتنازل عن ذكائها وتحجب عقلها إذا شاءت إغراء الرجل… « [18]
ترى المفكرة أن هناك اختلافا بين الذكاء والجمال في الشرق والغرب، ذلك أن المرأة الغربية تكمن جاذبيتها في جمالها، ومظهرها الخارجي فحسب، عكس المرأة الشرقية التي كلما اكتسبت أكبر قدر من المعارف كانت ذات جاذبية أكبر. ومن خلال تطرّق المؤلفة لآراء (كانط) حول مقاييس الجمال، حيث تعتبر الجهل وسيلة للإغراء، لكننا نجدها رافضة لهذا الأمر، حيث نلمس دعوتها إلى ضرورة تعليم المرأة وتثقيفها.
وتكشف (المرنيسي) أنّ هناك من شوّه صورة “شهرزاد” قبل (ألان بو) فالكاتب الفرنسي (تيوفيل غوتييه Théophile Gautier ) في قصته “ألف ليلة وليلتان” جعل نهاية “شهرزاد”بسبب انقطاع الإلهام عنها. فترى المفكرة أنّ (ألان بو) قتل “شهرزاد” لأنها تعرف أكثر من اللازم، أما (تيوفيل غوتييه)، فكانت حجته أنّها لم تكن تعرف ما يكفي[19].
كل هؤلاء الغربيون، بدءاً من (جالان) قد جعلوا “شهرزاد” مجرّدة من عقلها وذكائها، فكان استقبالهم لها أقل بكثير مما تحمله رسالتها، إذ تقول (المرنيسي) : »ويمكننا القول على سبيل الاستخلاص بأن رسالة “شهرزاد” لم تنفذ إلى الوعي الغربي بعمق إلاّ بالقدر الذي ينفذ به مرهم التجميل إلى الجلد « [20]. كان اهتمام الغربيين بشخصية “شهرزاد” سطحياً انصب على أجواء “الليالي” واعتناء النساء بالجمال ووصفاته.
ترى (فاطمة المرنيسي) من خلال بحثها في أغوار تلك الشخصية التراثية في المجتمع الغربي، أن التباس الهوية لم يقتصر على المجال الأدبي فحسب، فبالرغم من رواج وشهرة البطلة “شهرزاد” في سائر الفنون الغربية، فإنّ هذا لم يحل دون تشويه وتغريب لكيانها النسوي الشرقي.
وخلال القرن العشرين قام الفنانان الروسيان (دياكلييف Dia Cleef) و(نجنسكي Vasla Nijinsky) باختيار بطلة الليالي في عرض باليه، أساسه موسيقى (كورساكوف Nikolaï Rimski-Korsakov)، وتدور الأحداث حول القصة الأساسية الأولى من “ألف ليلة وليلة”، وهي قصة الملك “شهريار” وأخيه” شاه زمان” وخيانة زوجة الملك مع العبد مسعود[21].
ويمكن إيجاد اختلاف بين شخصية “شهرزاد” الأصلية، وبطلة هذا الباليه- من وجهة نظر المفكرة- في طريقة الرقص المغايرة للرقص الشرقي ،كما أن موضوع الجنس واللذة كان أساس العرض الذي انقلبت فيه أدوار الرجال والنساء ،بالإضافة إلى التخنث والعبودية والعنف »لم يكن موضوعاً جنسياً بقدر ما كان يجسّد الجنس في حدّ ذاته « [22]
وكان التركيز على المظهر طاغياً، في حين كانت “شهرزاد” مجرّدة من العقل والذكاء ، على حدّ تعبير (المرنيسي) : »أثارت شخصية شهرزاد التي قدّمها (ديا كلييف) والتي كانت ترتدي أزياء من تصميم “ليون باكست Léon Bakst ” شغفا متجددا عبر القارة الأوروبية بموضة يفترض بأنها تستلهم أزياء الحريم، ولذلك فإنّ السراويل الفضفاضة الشهيرة التي ابتدعها صانع الأزياء الكبير “بوراي” يا له من حظ تعيس صادفته الرّاوية المسكينة ! من المؤكد أنها كانت ترتدي سراويل جميلة ولكنها كانت مجرّدة من العقل… « [23]
ترى (فاطمة المرنيسي) أنّ هاته التشويهات الطارئة على شخصية “شهرزاد”ن وقلب الأدوار، مع عدم إبراز الأنوثة التي ميّزت هاته الشخصية البطلة ، تلغي الرسالة الحقيقية التي حملتها بطلة “الليالي”، وسعيها من أجل تحدي حواجز العبودية والاستبداد الممارس على المرأة.
إنّ وقوف المؤلفة عند اهتمام الغربيين بالشخصيات الذكورية في نص “ألف ليلة وليلة” بالرغم من تجلي المرأة كبطلة حقيقية يوحي بتهميشها، وهذا يدل على مدى اهتمام (فاطمة المرنيسي) بقضايا المرأة المغيبة عن الواقع الحضاري والثقافي حيث يرى الدكتور (حامد أبو زيد) : »أن قضايا المرأة في الواقع والتاريخ تمثل محور الاهتمام الأساسي ونقطة الانطلاق الجوهرية في خطاب فاطمة المرنيسي « [24]
استعملت المؤلفة “شهرزاد” بشخصيتها الرمزية، للنهوض بالمرأة وإثبات كيانها، إذ كان سلاحها في الكفاح هو “اللغة” كوسيلة للنجاة، وهذا السلاح بمثابة السّرد الأنثوي اللافت للانتباه في وقتنا هذا.كذلك تبدو المؤلفة حاملة لواء القضية “النسوية” حيث تعتبر “شهرزاد” عنواناً لكل النساء من خلال قولها : »إلاّ أنّه بقتله “لشهرزاد” كشف عن ديمقراطية تلغي حقوق المرأة « [25]
تنتقد الباحثة إعجاب الغربيين بجانب الجنس في “ألف ليلة وليلة” واعتباره الجانب الأهم، حيث فشلت زوجة “شهريار” الأولى لأنها جعلت الثورة محدودة في جسدها حين انقادت لعبدها. »ويعلمنا نموذج شهرزاد أنه بإمكان المرأة أن تثور بفاعلية شرط أن تفكر، فإننا نأتي إلى العالم مجهّزين لكي ندافع على أنفسنا عقلنا سلاح لا يقهر، واحترام الذات هو سرّ النجاح، وخلاصة القول هو أن السحر كامن فينا « [26]
أي أن المرأة بإمكانها تحقيق ما حققته “شهرزاد” سابقاً شرط أن تتسلّح بعقلها. و من خلال هذا النموذج يظهر صراع بين الأنا العربية التي تمثلها الكاتبة والآخر الغربي.
“شهرزاد” الشرق/ “فاطمة المرنيسي” و خطاب النسوية العربية:
كانت دراسة (المرنيسي)، و مقاربتها للهوية الشهرزادية النسوية شبيهة بدراسة ميدانية، تنطلق من صور حاضرة في تجربتها التي تربطها بالضرورة بهوية “شهرزاد” التاريخية ، فمحاولة استقصائها لتلقي “الليالي” في المجتمع الغربي ابتداء من المجتمع الفرنسي و ما يحمله من حمولة ثقافية أوروبية خاصة، إلى أن تعبر”شهرزاد”إلى الثقافة الأمريكية ، قد زادتها حمولة أخرى كانت نتيجة طبيعة التفكير الغربي، الذي ينفذ حتى إلى مثقفيهم و أصحاب الطبقة الأرستقراطية و غيرها من الهيئات الثقافية التي يفترض أنّها تمثّل الوعي الراقي و أحيانا الملتزم، خاصة بما تمثله الهيئة الدينية كأتباع الكاثوليكية مثلا الذين كانوا حسب وصف المؤلفة “منافقين” يشدّهم و يغريهم مظهر “الكتاب” و الجو العشقي و الأنثوي للحريم، فقوبلت “ألف ليلة و ليلة” بحماسة فائقة في عصر سادته العقلانية الصارمة.
و بالتالي حاولوا الترويح عن النفس بعيداً عن الواقع المثقل برجاحة العقل» و قد أتت هذه القصص إباّن موجة اللاَّدينية الفكرية عندما كان الأوروبيون يتوقون إلى التعرف على ثقافات غير الثقافة المسيحية، و كان الشرق هو المكان الطبيعي لمثل هذه الثقافات، و رغم أنّ الإسلام ظلّ محل شك و كراهية أوروبيين، إلاّ أنّ وجهة الدنيوي الذي أبرزته “ألف ليلة و ليلة” خلق رغبة جامحة في طلب المزيد من هذا النوع القصصي…«[27] دون أن يأبهوا إلى ما تمثله نساء الحريم عامة، و”شهرزاد” بصفة خاصة من الوعي بتوظيف الحوار بين الجنسين
(الرجل و المرأة)، و كذا الحنكة السياسية في تبليغ الرسالة النسوية، من خلال سلطة الحكي الذي تتحكم فيه المرأة من جهة أوسع للتحليل.
أمّا توظيف (السيرة الذاتية) أو إدخال سمة الأنا على الكتاب، فقد جعلته أكثر إغراءاً في القراءة، بحيث يجعل للوقائع التاريخية و طرق عرض الفكر الغربي “لألف ليلة و ليلة” صيغة جديدة، فلا يشعر القارئ بأنه يستقبل فحسب، و إنّما يتأمّل و يلاحظ. إذن فهو [توكيد] على نمط يحيط بالمتلقي، بحيث يجعله يحسّ بالحضور.
و المشاركة في هذه التجربة ،و من المهم هنا » ملاحظة العمل السردي غالباً و الإعلائي أيضا (أي المتجه إلى إدراك غير واع)، و لهذا العمل أثر ذو نظام تداولي، إنّه إغواء القارئ أو اللعب به، و يسمح التمييز إلى فئات بهذه الملاحظة و يجعلنا نفهم الغنى القائم في ممكنات التكنيك العلاماتي و استراتيجيته «[28]
غير أنّ ذلك ليس هو الوجه اللافت في الكتاب، بل [إن] هذه الصيغة التي تدخل (فاطمة) و الجدة (الياسمين)
و (كمال) و غيرهم تحمل توظيفا أكثر عمقا، و أبعد من التقنية الجديدة في الكتابة. (فالمرنيسي) تسعى إلى مزج معين بين الهوية الشرقية العتيقة “لشهرزاد” و الهوية المعاصرة للمرأة الشرقية، مما أدخل حتى الكاتبة في نطاقه لكونها جزء من الشرق في النهاية فهي تقول:»لم أستطع منع نفسي من التماهي مع شهرزاد المهزومة هذه من المؤكد أنّ المرأة الشرقية المعاصرة تشبهها: إنها لا تملك سلاحا ضدّ العنف غير كلماتها و ذكـائها و قـدرتها على نسـج
الحوار« [29]
و بذلك أصبحت هوية “شهرزاد” في تصور المترجمين و الكتاب و الرسامين الغربيين، و غيرهم من صنّاع الخيال، نهاية إلى منتجي الأفلام تتعدى هذا إلى مس هوية المرأة الشرقية المعاصرة، و أصبح إعجابهم بالطابع الإغوائي في “ألف ليلة و ليلة” يهدّد الكيان الشرقي حيث»أنّه جعل العديد من الأوروبيين يخلطون بين الشرق الحقيقي…
و شرق هذه القصص… و بذلك تداخل الخيال و الواقع عند القارئ الغربي حتى توهم أنّهما شيء واحد«[30]
و تعدّى كتاب “الليالي” أساسه القصصي إلى مسألة ثقافية معاصرة ، خطاباً يؤسس بدوره إلى أنواع خطابات أخرى، على حد تعبير (ميشيل فوكو (Michel Foucault:»فإنّ الخطاب في نهاية المطاف هو تمظهر لغوي للعلاقات الخفية و الشائكة للثقافة، ما تمنعه و ما تجيزه، و ما تسعى من خلاله إلى تحقيق سطوها على الأفراد
و الجماعات ضمن المحيط الاجتماعي والسياسي الذي تنتشر فيه«[31]
أما القضية المهمة التي يجاريها كتاب »شهرزاد ترحل إلى الغرب«، فهي موقع المرأة المثقفة المتحررة و الباحثة عن ذاتها و كينونتها في تصور المجتمعات بصفة عامة و المرأة الشرقية على وجه الخصوص، و هل أنّ المعرفة و التحرر يهددان حقاً الكيان النسوي ،أم أنّها تهدد سلطة الرجل بحد ذاته، باكتسابها لمقتنيات السحر المعرفي و الجمال النسوي؟! فالكتاب يحمل صيغة مختلفة لكونه يحمل صفة الآنية في عرضه لصورة الحريم الشرقي في المتخيل الغربي و التي حملتها “الليالي” و ما طرأ عليها من إضافات في المجتمع الآخر، ليتعدى المفهوم إلى قضية المرأة الشرقية في مجتمعها و في المجتمع الآخر ، مما جعل (المرنيسي) باحثة عن ذاتها فتكون “شهرزاد” أخرى كعابرة مكسورة الجناح.
لقد كانت المؤلفة بأسلوب شبه صريح تندد بتلك النظرة الغربية للنساء بصفة العموم و خاصة تلك المتخيّلة عن المرأة الشرقية، فهم و إن أعلنوا التحرر و الديمقراطية و هاجموا الشرق في تصلبه و انغلاقه بحجة الفلسفة الداعية إلى المساواة كانوا يمارسون سياسة تنتصر للذكورية، ابتداء من رأي (كانط) الذي يعدّ عالماً يتقدم الفلاسفة الغربيين »و على هذا فكل من الغرب و الذكورية يتبادلان المصالح و يقهران المرأة و سلسلة الانهيارات المعاصرة في سلم القيم يراد بها الحيلولة دون تقبل المرأة كآخر«[32]
و بالتالي يتضح في رأي المؤلفة الفرق الشاسع بين فكرنا و ثقافتهم،» فالذكاء مقصور على الرجال لديهم، في حين أنّه قاسم مشترك بين الرجل و المرأة لدينا، هنا أدركت لماذا قتل (إدجار ألان بو) شهرزاد ذلك أنّ إظهار المرأة لذكائها جريمة لديهم، إنّ المرأة يجب أن تتنازل عن ذكائها و تحجب عقلها إذا شاءت إغراء الرجل في رأي (كانط)«[33]
و لكن هذه المفارقة لا تبرئ الكيان الشرقي، فقد يتواجد التطّرف في حق المرأة الذكية حتى في المجتمعات الشرقية، كما حدث في (إيران) فهي تقول:»إنّا أحكام كانط الذي يعد أكثر الألمان تفتحاً خلال عصر التنوير توازي في قطيعتها فتاوى المتطرفين الإيرانيين«[34]
في حين أنّ (هارون الرشيد) قد أعجب بثنائية (الذكاء و الجمال) عند المرأة في عصر مضى، بل قد يتفوق المظهر الثقافي و يأخذ الحظ الأوفر ،حيث يمكن تفضيل الجارية المثقفة عن الأكثر جمالًا. بالرغم من تركيبة الحريم و الحدود التي يجب عدم تجاوزها، فإنّ هذا لم يمنع من تعدد المواهب الثقافية داخل أسوار الحريم الشرقي (المكان).
إذن فحرية المرأة ليست مقترنة بالزمن، و قد لا تتعلق قضيتها بالأوقات بقدر ما تتعلق بالأمكنة و التصورات،
و إلاّ لما تحكمت صورة في متحف أو معرض رسم، أنجزه أحد الفنانين كمثل (أنجر Jean-Auguste-Dominique Ingres) في الحكم العام عن المرأة الشرقية، و التي قد تكون تعرضت لأشكال من التغيير،
و بهذا تصبح الصورة» ذات استقلالية بنيوية تتشكل من عناصر منتقاة، و معالجة وفق المطلبين:المهني و الجمالي،
و الأيديولوجي اللذين يعطيان لها بعدا تضمنياً توجه إلى المتلقي الذي يكتفي بتسليمها فقط و يعيد قراءتها في ضوء ما يملك من زاد ثقافي ورمزي، انطلاقا من مرجعية ثقافية حضارية«[35] فتمارس سلطتها على الخيال و الأفكار خاصة إذا استطاعت الاشتغال على مداعبة الحواس كما حدث للحريم الشرقي في صور الرسامين فاستطاعوا بذلك نقل التصور لأجيال طويلة حتى و إن أثبت التاريخ عكسها . فقد كانت نظرة الغربي للمرأة الشرقية نظرة هجينة كما تركه كتاب “الليالي” من جهة. و إبداعات الفن المتخيّل من جهة ثانية حيث »كانت المشاعر الأوروبية حيال المرأة الشرقية متذبذبة لا تستقر على حال، إذ كانت تنوس بين الرغبة و الشفقة و بين الاحتقار
و الغضب و كانت النساء الشرقيات يصورن مرات “ضحايا الجنس” و مرات ساحرات ماكرات«[36]
و كما يحدث للنساء في صور الموضة التي تعطي لهن أنموذجاً أنثوياً [الاقتداء] به على الدوام، فلا يبتعد الرجل الغربي عن ممارسة سلطته الذكورية هو الآخر بمستوى أعمق من الرجل الشرقي و لهذا كانت (فاطمة المرنيسي) محقة إلى أبعد الحدود حين صرحت بضرورة الانتباه لمثل هذه القضية، فهي تقول:»إنّ ما يشغلني حقاً هو ماذا يحدث للحدود (غير الواضحة) و [الامتيازات] (غير المؤكدة) حين تصبح الصورة مكونة استراتيجية للصّراع بين الجنسين«[37]
كان يظهر جليا على مستوى الكتاب مناهضة (المرنيسي) للفكر الغربي الذكوري عن المرأة ، غير أنّها لم توجه نقدا ذاتياً، بل أنّ معارضتها نابعة من أدلة واقعية و تاريخية، كما تستشهد بالفئة المثقفة و إصداراتها التي ترصد الحريم في المتخيل الغربي مقارنة مع الحريم العربي، من أجل تصحيح المفاهيم التي تعرضت للتّحوير، عند الفنانين و المترجمين بحكم الجدة على مجتمعهم و اختلافها حينا آخر، حيث تتعرض الباحثة إلى طبيعة الحمامات النسائية و ألبسة الجواري و شكل المجالس التقليدية وصفة المتعة و الحب في الحضارة العربية القديمة و المقاس و كذا مظاهر أخرى تجلى من خلالها الاختلاف، و بحث أصولها ثم مقارنتها بما يشبهها في المجتمع الغربي و بذلك تقام الحجة من خلال مؤلفاتهم التي تحيل هي الأخرى بصفة ظاهرة أو مستترة على سلطة الرجل منذ التاريخ عندهم،
و بذلك تكون لصفة المقارنة في نهاية الكتاب خاصة طبيعة السخرية في كثير من المواقف.
كان لكتاب »شهرزاد ترحل إلى الغرب« ميزة خاصة لكونه يعيش تجربة حاضرة بطلتها الكاتبة نفسها قد تخضع للمفاجآت و تتفاءل (المرنيسي) في كل محطة تلاقيها في جولتها، و أكبر ما أضفى هذا التمّيز و الاختلاف على الكتاب هو صبغة السفر أو طابع الانتقال الذي تمارسه امرأة شرقية معاصرة نحو مجتمع غربي.
و كانت (المرنيسي) في البداية خائفة من هذه الرحلة ، حيث كانت تخاف من تأثير التفكير الغربي و طبيعة حريمه المشاد بحريته مع علمها بمواطن الحرمان التي كانت تعانيها المرأة في الحريم العربي و الفكر المتصلب الممارس على المرأة في مجتمعها المغربي على سبيل المثال، كما ذكرت ما تعرفه عنه من خلال جدتها (الياسمين) التي لم تغادره في حياتها[38].
و أكثر ما كانت تخشاه (فاطمة) في المجتمع الغربي هو الضياع و نسيان الغاية الأساسية للسفر و هو»المعرفة« فتحاول التشبث بأقوال (الياسمين) قدر المستطاع ، كونها تمثل الأصل و التراث الذي تمتلكه كل فتاة شرقية
و تسعى لفهمه من جهة، و الحفاظ عليه من جهة أخرى فهي تقول:»إذا ما أبصرتموني ذات يوم صدفة في مطار الدار البيضاء أو على متن باخرة تغادر ميناء طنجة، ستعتقدون بأني امرأة جد واثقة من نفسها ، و لكنّي لست كذلك البتة، حتى اليوم و في هذا السن أستشعر الرعب حين تراودني فكرة مغادرة المغرب و اجتياز الحدود، لأنني أخشى تضييع الهدف الأسمى من السفر أي فهم الأجانب الذين سأصادفهم في طريقي«[39]
و أخيراً فإنّ تلك الثقة بنفسها لم تهتز و خوفها لم يكن له فائدة، حيث عادت (المرنيسي) بثقة أكبر ساخرة ممّا تلاقيه المرأة الغربية في مجتمعها مقارنة مع المرأة الشرقية التي طالما كان الحديث عنها إذا ذكر التقييد و مصادرة الحريات، حيث ظهر (للمرنيسي) في تجربتها أنّ الحريم الشرقي أكثر حرية و أنّ المرأة تلاقي تقديراً كبيراً من الرجل الشرقي، بل أنّه محل مساواة و انتهاء لسلطة الرجل أمام هيمنتها إذا ما حازت على المعرفة و الجمال، في حين أنّ (الحريم الغربي) و إن كان واسعاً و مظهراً لانتصار الحريات إلاّ أنّه يمارس أكبر سلطة ذكورية في هذه الحرية ذاتها، لتكون المرأة في النهاية سلعة و أنموذجا سحريا يصنعه الرجل و يحافظ عليه بتلك الصورة مع رضى المرأة الكامل من خلال لعبته المحكمة عليها.
و تعود (المرنيسي) مع قناعات (الياسمين)، معجبة برأي (بورديو Pierre Bourdieu)»إنّ الهيمنة الذكورية التي تجعل من النساء أشياء رمزية حيث الكائن، كائن ينظر إليه، تؤدي إلى وضعهن في حالة دائمة من انعدام الثقة الجسدية، أو بالأحرى في حالة تبعية رمزية، إنّهن يوجدن بنظرة الآخر و لها قبل كل شيء أي كأشياء متقبلة و جذابة…« [40]
فالمظهر الخارجي لدى المرأة الغربية مرتبط بنظرة الرجل، لذلك فالمرأة مرتبطة بمالكها و كأنّها في حريم. لذلك تبدو المؤلفة مطمئنة كونها متحررة من هاته القيود في ظلّ غياب الاهتمام المبالغ فيه بنحافة الجسم و المظهر.
لتبقى القضية في النهاية هي قضية المرأة الحالمة و وجودها سواء الغربية أو العربية و تصحيحاً للمفاهيم
و التصورات في البداية، و قبل كل شيء، فوجود المرأة لا يرتبط بخروجها أو بقائها داخل أسوار حريمها، بل هو حركة و كينونة في تصورها نحو ذاتها من جهة ، و في تصور الجنس الآخر كونه مكملاً لها و مقابلاً لها في الوقت ذاته، و لهذا كانت علاقة (فاطمة) مع (كمال) موجودة على طول التجربة التأليفية كتحريك للحوار الأنثوي الذكوري في المجتمع الشرقي من جهة، و تحريك الخطاب النسوي الباحث عن المعرفة بدوره مع محاورات أخرى تتواجد على مستوى الكتاب مع (جاك) أو ضمنيا مع المؤلفات و الآراء الأخرى .و بهذا ارتقت دراسة (المرنيسي) إلى التجربة النقدية التي تبدأ بتساؤل و تنتهي إلى قناعات كانت نتيجة المعايشة و الاطلاع و التأمّل.
لقد كان توظيف (المرنيسي) للرمز التراثي “شهرزاد” واع إلى أبعد الحدود، فقد حملتها رمزية و دلالة جديدة، حيث انطلقت من عرض سيمات “شهرزاد” عند ارتحالها إلى الغرب، بغرض إبراز التشويهات الطارئة عليها، فبالرغم من رواجها في مختلف الفنون و الآداب الغربية إلا أنّ هذا لم يحل دون تغريب نموذج “شهرزاد” حيث التبست هويتها النسوية و انحصرت في مجال الزينة و لغة الإغراء مع تجاهل تام لسيماتها الفكرية و الثقافية.
تبدو (فاطمة المرنيسي) حاملة لواء القضية النسوية من خلال تمجيدها لصفات “شهرزاد” الشرقية، و يعد هذا بمثابة دعوة إلى الاقتداء بالنموذج الشهرزادي، من خلال تثقيف المرأة المعاصرة و تعليمها من أجل ضمان استمراريتها، فالمؤلفة تسعى إلى مزج ما بين الهوية الشرقية لشهرزاد و هوية المرأة (الشرقية) المعاصرة، الأمر الذي أدخل المؤلفة في نطاقه كونها جزءاً من الشرق، لتكون في النهاية شهرزاداً أخرى.
و لا زالت قضية المرأة مفتوحة على كثير من الدارسين و الآراء بصفة عامة، و لازالت أطروحات (فاطمة المرنيسي) أيضا تستقطب كل ميادين بحثية نأمل أن تطالها بالبحث و التحليل.
- . مصطفى عبد الغني: شهرزاد في الفكر العربي الحديث، دار الشروق للنشر، بيروت، لبنان،ط1،1985، ص 22.
- . فاطمة المرنيسي : شهرزاد ترحل إلى الغرب، ترجمة فاطمة الزهراء أزرويل، المركز الثقافي العربي، بيروت، الفنك، الدار البيضاء، المغرب، 31، 2003، ط2، 2003، ص79.
- . محسن جاسم الموسوي : ألف ليلة وليلة (الموسوعة الصغيرة)، ع92، منشورات الجاحظ، دار الحرية للطباعة، بغداد، 1981، ص 8.
- . مصطفى عبد الغني : شهرزاد في الفكر العربي الحديث، ص 23.
- . المرجع نفسه ، ص 23.
- . محسن جاسم الموسوي : ألف ليلة وليلة في الغرب ( الموسوعة الصغيرة)، ص 8.
- . ينظر فاطمة المرنيسي : شهرزاد ترحل إلى الغرب، ص 80.
- . مصطفى عبد الغني : شهرزاد في الفكر العربي الحديث، ص24.
- . ينظر فاطمة المرنيسي : شهرزاد ترحل إلى الغرب، ص 81 .
- . مصطفى عبد الغني : شهرزاد في الفكر العربي الحديث، ص 25.
- . المرجع نفسه، ص 21.
- . فاطمة المرنيسي : شهرزاد ترحل إلى الغرب، ص 82.
[13] . ينظر المرجع نفسه، ص 83.
[14]. محسن جاسم الموسوي : ألف ليلة وليلة في الغرب (الموسوعة الصغيرة)، ص 8.
[15]. محسن جاسم الموسوي :ألف ليلة وليلة في نظرية الأدب الإنجليزي، مركز الإنماء القومي للنشر، ط2، بيروت، لبنان، 1987، ص 23.
[16]. مصطفى عبد الغني : شهرزاد في الفكر العربي الحديث، ص 24.
[17] . ينظر فاطمة المرنيسي : شهرزاد ترحل إلى الغرب، ص 81.
[18] . المرجع نفسه، ص 108.
[19]. ينظر المرجع نفسه، ص 113.
[20]. المرجع نفسه، ص93.
[21]. ينظر ماهر البطوطي : ألف ليلة وليلة والآداب العالمية، مكتبة الآداب للنشر، القاهرة، ط1، 2005، ص362.
[22] . فاطمة المرنيسي : شهرزاد ترحل إلى الغرب، ص 88.
[23] . المرجع نفسه، ص 88.
[24]. نصر حامد أبو زيد : دوائر الخوف، قراءة في خطاب المرأة، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، بيروت، ط3، 2004، ص 145.
[25]. فاطمة المرنيسي : شهرزاد ترحل إلى الغرب، ص 88.
[26]. المرجع نفسه، ص 77.
[27]. رنا قباني: أساطير أوروبا عن الشرق، ترجمة صباح قباني ،دار طلاس للدراسات و الترجمة و النشر، دمشق، ط2، 1993، ص55.
[28] . منذر عياشي: العلاماتية و علم النص، المركز الثقافي العربي (نصوص مترجمة)، الدار البيضاء، المغرب،ط1، 2004. ص58.
[29] . فاطمة المرنيسي: شهرزاد ترحل إلى الغرب، ص 100.
[30] . رنا قباني: أساطير أوروبا عن الشرق ،ص56.
[31] . نقلا عن سعد البازعي: الاختلاف الثقافي و ثقافة الاختلاف، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، ط1، 2008 ،ص261.
[32]. عبد الله إبراهيم: السرد النسوي، المؤسسة العربية للدراسات و النشر، بيروت، دار الفارس للنشر و التوزيع، عمان، الأردن، ط1، 2011، ص66.
[33]. فاطمة المرنيسي: شهرزاد ترحل إلى الغرب. ص108.
[34] . المرجع نفسه: ص109.
[35]. قدور عبد الله ثاني: سيميائية الصورة (مغامرة في أشهر الإرساليات البصرية في العالم)، الورّاق ،عمان، 2008، ص105.
[36]. رنا قباني: أساطير أوروبا عن الشرق، ص52.
[37]. فاطمة المرنيسي: شهرزاد ترحل إلى الغرب، ص153.
[38]. المرجع نفسه. ص5،6.
[39]. المرجع نفسه. ص5. [40]. نقلاً عن فاطمة المرنيسي: شهرزاد ترحل إلى الغرب، ص235.