
منهج الشك عند الجاحظ : أصوله النظرية وتجلياته التطبيقية
د. عبد الرحمان إكيدر – المغرب، (باحث متخصص في النقد الأدبي والبلاغة – مراكش)
مقال نشر في مجلة جيل الدراسات الأدبية والفكرية العدد 40 الصفحة 31.
- الملخص :
أحد ينكر مدى إسهام الجاحظ (255 هـ) في إغناء التراث الأدبي العربي بعدد من المصنفات. وقد اتسمت مجمل أعماله هذه بنزعة عقلية لا سيما وأن عصره تميز بحضور مكثف لقضايا الجدل، دون أن ننسى أثر مذهب الاعتزال الذي يؤمن بالعقل بدل النقل في فكر الجاحظ، فليس من الغريب أن نجد هذا الملمح العقلي وهذا النزوع الواقعي العقلاني في جل كتاباته، خصوصا اعتماده على “الشك” وسيلة منهجية في تحليله لمتخلف القضايا والأخبار والروايات المنقولة، وذلك بحثا عن اليقين والحقيقة ووفق قالب إبداعي يتسم بصبغة أدبية وجمالية. لقد عرض الجاحظ لمكانة الشك وأهميته من الناحية النظرية، وهي آراء تتقاطع مع آراء بعض الفلاسفة اللاحقين الذين نظروا “للشك”، كالإمام الغزالي وديكارت. فنزوع الجاحظ إلى هذا المبدإ يرتكز على أساس عدم التسليم المطلق، وجعل “الشك” طريقا لليقين، بحيث لا يسلم أي أمر أو خبر إلا بعد أن يمحصه ويختبر مدى صحته.
- الكلمات المفاتيح : المنهج – الشك – الاستدلال المنطقي – العقل – الحواس.
- تقديم :
يُعرّف الشك بكونه نقيض اليقين وهو ضابط يحكم معطيات العقل، ويمنع من الاستسلام لمعطيات الحواس، ووسيلة لمعرفة الحقائق. وقد تنبه كثير من الباحثين المسلمين القدامى إلى أهمية الشك خصوصا : ابن سينا (427 هـ) في (الشفاء والتعليقات والمباحث الشرقية والإشارات والتنبيهات)، وابن الهيثم (430 هـ) في (المناظر)، والإمام الغزالي (505 هـ) في (المنقذ من الضلال). ولعل أقدم الآراء التي تأصل لمنهج الشك في التراث الأدبي العربي تعود لأبي عثمان الجاحظ (255 هـ) صاحب المصنفات العديدة في مختلف ضروب المعرفة. ذلك أن أول ما تكشف عنه آثار الجاحظ شيوع الروح المنهجية في ثناياها، ففكره قائم على دقة الملاحظة وعمق في النظر والتحليل والمقارنة والنقد، واللجوء إلى كشف المتناقضات والمغالطات في الأفكار المطروحة عليه.
وقد توسل الجاحظ بالشك كآلية علمية تقوم على أسس موضوعية دقيقة، فالشك عنده يمثل منهجا من مناهج البحث الذي يتأسس على أصول منطقية معينة ترتكز على أساس من عدم التسليم المطلق، ورفض الأجوبة والأحكام المسبقة التي لا تستند على معايير محددة، تقطع الصلة مع مظاهر الفكر التسليمي التي تسربت إلى الثقافة العربية القديمة. لقد عد الجاحظ مؤسسا لمنهج عقلي يؤمن بالاستدلال والحجاج، وتكشف عن ذلك مجمل آرائه النظرية والتي سعى إلى اختبارها وتطبيقها على عدد من الأخبار والروايات خصوصا في كتابه (الحيوان). وهذا ما يدفع إلى بيان منهج الشك عنده، وتتبع الآليات والأسس التي ينهض عليها منهجه نظريا وتطبيقيا.
العوامل المساهمة في بلورة منهج الشك عند الجاحظ :
- أثر البيئة الثقافية :
شهد القرن الثالث الهجري حركية ثقافية وفكرية شملت العديد من المجالات، وهي مرحلة اتسمت بالانفتاح على ثقافات الأمم الأخرى كالثقافتين الفارسية والإغريقية. كما شهدت هذه المرحلة غليانا فكريا ومذهبيا، “ولاشك أن سر عظمة الجاحظ يرجع إلى ما أخذه عن أعلام مرحلته، وإلى انفتاحه على المجالس العامة والخاصة في عصره، ومعايشته للحظة التجاذب بين الفكر الإسلامي وبقية الأفكار الأخرى، وقدرته على رصد مظاهر تحركات الطوائف، وتفاعلات المجتمع مع تلك الفترة، مع تمثله لثقافة العصر في أبعادها الإنسانية، وخوضه في معضلات عصره. وما يضطرب فيه من نزاعات وتيارات، بجرأة فكرية لا تتأتى إلا لأمثاله من نوابغ العصور. أما عصره فقد كان يضطرب بالمذاهب والنحل، وتصطرع فيه الأفكار والمناهج بأصولها المتعددة، وأشكالها المختلفة. وهي لحظة تفاعلت فيها حضارة الإسلام مع الحضارات السابقة، وحصل تجاذب الثقافة الإسلامية العربية مع بقية ثقافات الأمم الأخرى من خلال حركة الترجمة”[1].
وقد أسهمت هذه التحولات في بلورة فكر الجاحظ خصوصا وأنه نشأ في مدينة البصرة التي امتازت بنزعتها العقلية في مختلف الميادين، ويظهر ذلك جليا في أعماله التي انفتحت على عدد من المعارف وعلى اهتمامات عصره، ف”الجاحظ دخل إلى المعترك الثقافي، حاملا في تكوينه ثقافة القرون الثلاثة الأولى، ومتسلحا برؤية منهجية ثاقبة وبقدرة على الجدل، وبكل ذلك دافع باستماتة عن مواقفه، وبهما صبغ ثقافة مرحلته، وجعلها مواكبة للتطورات، ومستوعبة للتحولات”[2].
- المذهب الاعتزالي :
شهدت البصرة في القرن الثالث الهجري شيوع الفكر الاعتزالي الذي يتسلح بسلاح الفلسفة، والمنطق، وعلم الكلام، وأساليب الجدال والمناظرة، قد أسهم المعتزلة بكثير من الرؤى والأفكار والحلول حول قضية كانت تؤسس لفعل ثقافي جديد لتحل إشكالية العقل والمنطق في مواجهة النقل والتسليم المطلق. فقد “أخذ المعتزلة يعتبرون العقل معين المعرفة، وأنه يستطيع أن يعلم كل شيء، حتى ما وراء الطبيعة، ولذلك أطلقوا له عنان البحث في جميع المسائل (…) إننا نرى، من خلال ذلك، كيف رفعوا العقل إلى مرتبة القياس والدليل في أمر العقيدة، واعتبروه حاسة سادسة في اكتساب المعارف. وبما أن المعرفة الحقيقية هي التي تفيد برد اليقين، وأن الشك مرحلة انتقالية في الوصول إلى اليقين، فيتبين لنا كيف أنهم أدخلوا الشك في منهج تفكيرهم وجعلوه الشرط الأول للمعرفة. ولقد قالوا إذن بسلطان العقل وحرية الإرادة، وحرروا بالتالي العقل من الجمود والوقوف عند ظاهر النصوص. وهم، وإن اختلفوا في آرائهم، فإن ملامح حرية الرأي وتشريح المسائل ونقدها، حسب أصول مستقاة من المنطق، واضحة في نشاطهم الفكري”[3]. لقد أعلى المذهب الاعتزالي من شأن الشك وجعلوه منهجا للوصول إلى اليقين، وقد نُقل عن الجبائي شيخ المعتزلة قوله : “أول الواجبات هو الشك لتوقف القصد إلى النظر إليه (…) أن وجوب النظر والمعرفة مقيد بالشك (…) فهو لا يكون مقدمة للواجب المطلق بل للمقيد به كالنصاب للزكاة والاستطاعة للحج”[4]. وقد كان الجاحظ على مذهب الاعتزال، وله مواقف وآراء في تبرز هذا الانتماء، وأثر هذا المذهب واضح في جل مصنفاته، خصوصا إعلاؤه من شأن العقل ورفضه للفكر التسليمي الانطباعي. وقد أسهم بذلك في تأسيس تيار أدبي وفكري ينبني على معطيات الفلسفة وعلم الكلام والمنطق والثقافة اليونانية.
- التأثير الأرسطي :
لقد عُرف عن المعتزلة شغفها بالفلسفة والمنطق، وقد استفاد الجاحظ من هذا العامل في تكوينه الفكري في البصرة التي كانت قطبا فلسفيا وفكريا، حيث ازدهرت فيها التيارات العقلية ونشطت فيها حركة الترجمة مما مكنه من الاستفادة من التراث اليوناني ولا سيما تراث أرسطو. وقد أشار عباس أرحيلة إلى أن “اعتزالية الجاحظ سهلت البحث عن مسالك الثقافة اليونانية إلى فكر الجاحظ. يقول أحمد أمين : (وأتت له الثقافة اليونانية عن طريق علماء الكلام، ومشافهته لحنين بن إسحاق وسلمويه وأمثالهما)[5]. فالجاحظ عرف التراث اليوناني لأنه جزء من الركام الحضاري العام الذي اصطدمت به الحضارة العربية الإسلامية في نهضتها”[6]. فقد أسس الجاحظ منهجا لأدراك اليقين يقوم على أسس ومعايير محدد في التقاط الأخبار والمواضيع التي يعالجها، فقد أخذ في كتابه الحيوان من مصادر مختلفة منها ما هو عربي شفوي كمساءلة أصحاب الخبرة من الحرازين والحواءين والصيادين، ومنها ما هو شعري كبعض الأبيات التي قيلت عن الحيوان، ومنها أيضا ما هو مكتوب ومأخوذ من التراث اليوناني ككتاب “الحيوان” لأرسطو وما خلّفه من مقولات فلسفية ومنطقية. ذلك أن الجاحظ “لم يكن جاهلا بوجود المنطق، فهو يذكر (كتاب المنطق)، ويطلق على أرسطو (صاحب المنطق)، بل إنه يشير إلى الغرض من علم المنطق. يقول : (وهذه يونان ورسائلها وخطبها وعللها وحكمها، وهذه كتبها في المنطق التي جعلتها الحكماء بما تعرف السقم من الصحة والخطأ من الصواب …)”[7].
- أهمية الشك عند الجاحظ :
يحظى الشك عند الجاحظ بأهمية قصوى خصوصا وأنه خص في كتابه الحيوان بابا بعنوان : (مواضع الشك واليقين) مشيرا فيه إلى أنه “لم يكن يقين قط حتى كان قبله شك، ولم ينتقل أحد عن اعتقاد إلى اعتقاد غيره حتى يكون بينهما حال شك”[8]، ويعد الشك عند صاحب الحيوان من الأسس التي يرتكز عليها في نقده وتمحيصه للأخبار والروايات، بل إنه يدعو صراحة إلى تعلم هذا المنهج في البحث العلمي، يقول : “واعرف مواضع الشَّك وحالاتها الموجبة لها لتعرف بها مواضع اليقين والحالات الموجبة لـه، وتعلَّم الشَّك في المشكوك فيه تعلُّماً، فلو لم يكن في ذلك إلا تعرُّف التَّوقُّف ثُمَّ التَّثبُّت، لقد كان ذلك مما يُحتاج إليه”[9]. ولإبراز هذه المكانة أورد الجاحظ مجموعة من الآراء التي تكشف عن أهمية الشك، من ذلك : “قال ابن الجهم للمكيّ: أنا لا أكاد أشك ! قال المكي : وأنا لا أكاد أوقن ! ففخر عليه المكيّ بالشك في مواضع الشك، كما فخر عليه ابن الجهم باليقين في مواضع اليقين. وقال أبو إسحاق: نازعت من الملحدين الشاك والجاحد فوجدت الشّكّاك أبصر بجوهر الكلام من أصحاب الجحود. وقال أبو إسحاق: الشاك أقرب إليك من الجاحد، ولم يكن يقين قط حتى كان قبله شك، ولم ينتقل أحد عن اعتقاد إلى اعتقاد غيره حتى يكون بينهما حال شك. وقال ابن الجهم: ما أطمعني في أوبة المتحيّر لأن كل من اقتطعته عن اليقين الحيرة فضالته التبيّن، ومن وجد ضالته فرح بها”[10].
إن الشك عند الجاحظ منهج لا غاية، فهو لم يرد الشك لمحض الشك، ولا يقبل أن يكون الشك كيفما اتَّفق ولا في كلِّ أمرٍ على حدٍّ سواءٍ ولا بالطريقة ذاتها؛ فهذا الشك ما كان أبدا لمجرد الشك أو التشكك بل سبيلا لليقين لأن من يألف الشك يتعرض للهون والضلال. إن الشَّك عنده لا يختلف عن الشَّك المنهجيِّ عند كل من بايكون ورينه ديكارت وغيرهما، فكل منهم أراد الشك طلبا للحقيقة؛ الحقيقة الجلية الواضحة، التي لا تقبل تفاوتا في الدرجات. وبهذا فإن الشك جلاء عملي وترجمة فعلية للعقل، وضرورة علمية وشرط كل بحث رصين، ذلك لأن البشر ميالون بطبعهم إلى التحريف والإنسان ليس معصوما من الخطأ مهما كان.
- الأسس النظرية لمنهج الشك عند الجاحظ:
- الشك في ظاهر الحواس :
إن المتتبع لكتابات الجاحظ وخصوصا (الحيوان) يجد أن مصادره نابعة من إيمانه أن معرفة الفرد محدودة ولا سبيل لنماء علمه، إلا بالاطلاع على معارف السابقين. يقول أبو عثمان : (الإنسان لا يعلم حتى يكثر سماعه) لكنه لم يسلم بما يسمع ولم يطمئن إلى العلماء مهما كان مقدار علمهم، لأن التقليد والحفظ قاصران على إدراك الحقيقة، “وفي استخدام الجاحظ للشك المنهجي يتحفظ على معطيات الحواس، لأن الحواس قد تخطئ وقد تخدع صاحبها، ويقرر أن العقل وحده هو الذي يُعول عليه في الأحكام، وأنه هو القادر على تحرير الصادق منها من المخادع”[11]. يقول الجاحظ : “ولعمري إن العيون لتخطئ، وإن الحواس لتكذب وما الحكم القاطع إلا للعقل، إذ كان زماما على الأعضاء وعيارا على الحواس”[12]. ويؤكد الجاحظ هذا المبدأ أكثر من مرة لأنه أصبح عنده من المسلمات : “وللأمور حكمان : حكم ظاهر للحواس، وحكم باطن للعقول، والعقل هو الحجة”[13]. فالجاحظ يدعو إلى عدم التسليم المطلق بالحواس التي تشكل عائقا إدراكيا ويحث في المقابل على إعمال العقل وجعل كل الظواهر والمعاينات محط شك واختبار وتمحيص للظفر باليقين، ويغدو الشك بذلك ترجمة فعلية للعقل. فقد كان صاحب كتاب الحيوان “يعلق على المعاينة أهمية، كنقطة انطلاق، فلا يبدأ يطمئن إلى أمر إلا بعد أن يراه بأم عينيه ويتأكد منه، إذ كل قول : “يكذبه العيان فهو أفحش خطأ، وأسخف مذهبا، وأدل على معاينة شديدة، أو غفلة مفرطة، فكأنه يعلن ههنا ما قصده ديكارت، من بعده، حين قال : (لا تُصدق إلا ما كان واضحا، فالوضوح إنما هو أصل الأمر في اليقين) فالوضوح يبدأ بالمعاينة أو بالمحاسبة (اختبار الحواس بصورة عامة) لكنه لا ينتهي عند هذا الحد”[14]. فأبو عثمان يشير إلى أن الحواس قد تكون خادعة أحيانا، وينصح بإخضاع ما تريه العين إلى رقابة العقل. ذلك أن للأمور حكمين : حكم ظاهر للحواس، وحكم باطن للعقول، والعقل هو الحجة، فلهذا ينصح بالذهاب إلى ما يريه العقل لا ما تُريه العين)[15] ، إن النتيجة التي توصل إليها صاحب الحيوان تبرز مدى إعلائه للعقل مقابل الحواس، وهذا يجعله يشكك في كل أمر حتى يبلغ فيه اليقين، محاولا تجنب الأفكار المسبقة في النظر إلى الأمور قدر المستطاع، ومن هنا كان نقاشه في شؤون كثيرة سمعها ولم يرض عنها عقله، ومن هنا محاجته (أرسطو) في قضايا رأى فيها غير رأيه، بل ومن هنا نقده اللاذع لأدعياء العلم في عصره والسخافات الرائجة والأساطير”[16].
- إخضاع المعطيات للشك والنقد :
يعتبر الجاحظ الشك وسيلة من وسائل اكتساب العلم اليقيني، من خلال إخضاع كل المعطيات المزمع تناولها تحت مجهر الشك والنقد. ف”لا بد الآن أن نتوقف لبحث الوسائل التي يتوصل إلى المعرفة اليقينية. ونقول إن غريزة العقل لا تفي بهذه المعرفة إلا بعد الاعتبار والتنبيه، وحسن النظر، والارتقاء من المعارف الحسية إلى المعارف العقلية، والانتقال من الشك إلى اليقين (…) إن النظر والاعتبار الذي يدعو إليه الجاحظ، لا يكون بفتح العين واستماع الآذان، وإنما (بالتوقف من القلب والتثبت من العقل، وبتحفيظه وتمكينه من اليقين والحجة الظاهرة)[17] ، (…) فالبراهين والأدلة التي بها يصل الإنسان إلى المعرفة اليقينية هي من أعمال العقل، كما أن الفصل بين الصحيح والباطل في معطيات الحواس يرجع إلى العقل”[18].
وقد أشار الجاحظ إلى عدد من الشروط الواجب استحضارها عند كل باحث في دراسته، وهي : وأن يحسن النظر وأن يكون ثاقب الذهن، وأن يتوخى الاعتبار والتنبيه والبحث، وأن يتريث في الأخذ بمعطيات الحواس، وأن يخضع كل المعطيات للشك والنقد. ويجعل فيكتور شلحت اليسوعي من هذا الشرط الأساس الذي تنبني عليه الحقائق “إذ إنه يعوّد على التوقف والتثبت من الأمور ويدفع خطر التسرع في قبول الأخبار والتعرض بالتالي إلى الخطأ. وأبو عثمان يسير على منهج أستاذه أبي إسحاق النظام، الذي كان يعتقد أن اليقين مسبوق لا محالة بالشك، وأنه (لم يكن يقين قط حتى كان قبله شك). ولما كان الشك وسيلة فحسب، فعلى الشاك أن يخرج منه باكتساب اليقين، إذ إن (ظلام الشك لا يجلوه إلا مفتاح اليقين). والطريق إلى ذلك، استخراج الأدلة التي تحوّل المظنون إلى يقين (…) فالشك إذن في نظر الجاحظ يعتبر أسلوبا وطريقة في اكتساب المعرفة اليقينية. إذ يفيد الباحث التريث والتمهل والتوقف، ويدفعه إلى العمل على اكتشاف العلل والأسباب الحقيقية التي تزيل الشكوك وتفيد برد اليقين”[19]. إن منهج الشك عند الجاحظ يتأسس على النزعة العلمية المنطقية التي تعتمد على تفهم الواقع بواسطة التعريف والتعليل والاستدلال والقياس، وذلك بغية التحقق من هذا الواقع والإحاطة به على نحو يقيني.
- الشك وقضية الانصاف :
يؤكد الجاحظ على ضرورة استخدام الشك باعتباره طريقا من طرق البحث، ولتحقيق هذا المبتغى يشير إلى قضية أساسية يعدها سلاح الباحث للوصول إلى المعرفة اليقينية، وهي قضية (الإنصاف) والتي تتخذ بعدين أساسيين :
– الانصاف الذاتي : أي أن الباحث ملزم بأن يكون منصفا لنفسه، وهذا يقتضي منه أن يعطي لذاته حجمها الطبيعي، فلا يضخمها لتأخذ أكبر من حجمها، ولا يتضاءل بها فيضعها دون مكانها.
– الانصاف تجاه ما يتلقاه الباحث من معارف : وهذا يقتضي من الباحث أن يتهم أمرين في نفسه :
أ- أن يتهم أولا ما ألفه، لأن ألفة الشيء تجعله في نفس صاحبه في منزلة الحقيقة التي لا تقبل جدلا أو شكا.
ب- أن يتهم ثانيا ما كان ميالا له بعاطفته أو بطبعه، لأن الهوى يكون مقارنا للميل وللعاطفة، ومنطق الهوى يجانب في كثير من الأحيان منطق العقل. يقول الجاحظ في ذلك : “وأنا أزعم أن الناس يحتاجون بديا إلى طبيعة ثم إلى معرفة ثم إلى إنصاف وأول ما ينبغي أن يبتدئ به صاحب الإنصاف أمره ألا يعطي نفسه فوق حقها، وألا يضعها دون مكانها، وأن يتحفظ من شيئين فإن نجاته لا تتم إلا بالتحفظ منهما : تهمة الإلف، والأخرى تهمة السابق إلى القلب”[20].
- طبقات الشك :
يقول أبو عثمان : “اعلم أنّ الشكّ في طبقاتٍ عند جميعهم ولم يُجْمعوا على أن اليقين طبقاتٌ في القوَّة والضعف”[21]. فالشك لا يأخذ صورة واحدة ووحيدة، وإنما قد يتدرج في طبقات من القوة والضعف وذلك بخلاف اليقين الذي يمثل درجة واحدة من القوة. وقد استفاد الجاحظ من هذه الملاحظة الدقيقة حول الشك من خلال ما أنجزه في دراسته الفريدة عن الحيوان، زيادة على ما تمخض عن مناقشته لآراء الآخرين التي كان يعرضها في تلك الدراسة. فهو يوظف هذا المنهج توظيفا متكاملا يتدرج فيه من درجة الحذر والتهيب في الحكم على صدق بعض الأشياء أو الآراء، إلى أقصى درجات التكذيب، وذلك عبر درجات من الشك. ومن أمثلة ذلك:
– الشك الضعيف :
قوله : “وسمعت حديثا من شيخ من ملاحي الموصل، وأنا هائب له”[22].
– الشك القوي :
رده على ما جاء في كتاب لشخص يدعى (عبيد بن الشونيزي) ومؤكدا أنه لا يكلف نفسه حتى عناء نقده : “ولكن موضوع البياض من هذا الكتاب – أي كتاب الحيوان للجاحظ – خير من جميع ما كان لعبيد”[23].
وكما يستقصي الجاحظ درجات الشك يستقصي أيضا فئات الناس من حيث تعاملهم مع الشك وطريقة أخذ أنفسهم به. إنه يؤكد أن هناك فئتين من الناس متناقضتين في نظرتهما إلى الشك، معتبر أنهما على غير الصواب :
– الفئة الأولى : تأخذ الأمور بالتسليم دون تكليف نفسها عناء التبين، فأصحابها دائما أقرب إلى تصديق ما يسمعون.
– الفئة الثانية : فأصحابها يأخذون أنفسهم بالشك الذي هو مجرد تكذيب، وهذه الفئة في استماعها لبعض الغرائب لا تكلف نفسها التثبت والتمحيص، بل تسارع إلى تكذيب ما تسمع، توهما أن ذلك فضيلة في البحث.
والفئتان تلغيان الحالة الوسطى الواقعة بين التصديق والتكذيب، والتي تمثل في حقيقة الأمر الشك العلمي والمنهجي، يقول الجاحظ موضحا ذلك : “وأكثر الناس لا تجدهم إلا في حالتين : إما في حالة إعراض عن التبين وإهمال للنفس، وإما في حالة تكذيب وإنكار وتسرع إلى أصحاب الاعتبار وتتبع الغرائب والرغبة في الفوائد، ثم يرى أن له بذلك التكذيب فضيلة، وأن ذلك من باب التوقي وجنس من استعظام الكذب”[24].
ويخلص أبو عثمان على أن الشك الذي يمثل المرحلة الوسطى بين التصديق والتكذيب هو سمة لخواص الباحثين، لأنهم على عكس ما عليه العوام الذين هم في الأصل أقل شكوكا، وذلك لأن الأمور في نظرهم لا تعدو في أغلب الأحيان التصديق المجرد أو التكذيب المجرد لأنهم ألغوا المرحلة الوسطى من الشك. ويشير الجاحظ إلى ذلك بقوله : “والعوام أقل شكوكا من الخواص لأنهم لا يتوقفون في التصديق والتكذيب، ولا يرتابون بأنفسهم فليس عليهم إلا الإقدام على التصديق المجرد أو على التكذيب المجرد، وألغوا الحالة الثالثة من حالات الشك التي تشتمل على طبقات الشك وذلك على قدر سوء الظن وحسن الظن بأسباب ذلك، وعلى مقادير الأغلب”[25]. ويقرر أبو عثمان أن في الحياة أمورا تحتمل التصديق والتكذيب، وفي مثل هذه الأمور يتم استخدام الشك بغية الوصول إلى الحقائق اليقينية.
- الجانب التطبيقي :
لم يكتف الجاحظ بالتنظير لمنهج الشك ووضع أسسه ومعالمه فحسب، وإنما عمل على تبنيه وتطبيقه على كل الأخبار والروايات التي ترد إليه سواء المسموعة أم المكتوبة في الثقافة العربية أو في الثقافات الأخرى.
- – الشك في صدق الروايات والأخبار :
يعمد الجاحظ إلى أسلوب الشك في بعض الروايات من خلال تشكيكه بصدق الراوي وذلك لإسقاط روايته، أو من خلال كشف كذب هذا الراوي، وبالتالي الكذب في صحة الرواية وبطلانها، ومن أمثلة ذلك : شكه بأقوال طبيبين “زعما أن جيفة البعير أنتن الجيف وعزا ذلك إلى عصبيتهما على العرب وعلى المسلمين”[26]. فقال “وزعم لي سلمويه وابن ماسويه مطببا الخلفاء أن ليس على الأرض جيفة أنتن نتنا ولا أثقب ثقوبا من جيفة بعير، فظننت أن الذي وهمهما ذلك عصبيتهما عليه وبغضهما لأربابه، ولأن النبي صلى الله وسلم هو المذكور في الكتب براكب البعير”[27].
وقد يلجأ الجاحظ أيضا إلى التشكيك بالراوي بنعته بالجهل وقلة الحيلة ثم يلجأ بعد ذلك إلى مناقشة الخبر بطريقة علمية، وبأسلوب مبني على التدرج ليؤكد شكه في صحة الخبر، فقد أورد صاحب الحيوان خبرا عن شخص يدعى (المكي) فيقول: “وقال لي المكي مرة إنما عمر الذبان أربعون يوما، قلت : هكذا جاء في الأثر؟). وكنا يومئذ يواسط في أيام العسكر، وليس بعد أرض الهند أكثر ذبابا من واسط ولربما رأيت الحائط وكأن عليه مسحا شديد السواد من كثرة ما عليه من الذبان، فقلت للمكي : أحسب الذبان يموت في كل أربعين يوما وإن شئت ففي أكثر، وإن شئت ففي أقل، ونحن كما ترى ندوسها بأرجلنا، ونحن ههنا مقيمون من أكثر من أربعين يوما بل منذ أشهر، وما رأينا ذبابا واحدا ميتا فلو كان الأمر على ذلك لرأينا الموتى كما رأينا الأحياء، قال : الذبابة إذا أرادت أن تموت ذهبت إلى بعض الخربات، قلت : فإنا قد دخلنا كل خربة في الدنيا، وما رأينا فيها قط ذبابا ميتا”[28]. ثم يعلق الجاحظ على القصة بعرض وصف للرجل ليؤكد هذا التكذيب : “وكان المكي طيبا طيب الحجج ظريف الحيل، عجيب العلل، وكان يدعي كل شيء على غاية الإحكام، ولم يُحكم شيئا قط”[29].
- الشك في بعض القصائد الشعرية :
من بين القضايا النقدية التي استأثرت باهتمام النقاد القدامى مسألة انتحال الشعر، وقد أدلى الجاحظ بدلوه في هذا الموضوع متفحصا ومشككا في نسبة بعض القصائد والأبيات لقائليها، وقد أشار إلى ذلك بقوله: “ولقد ولّدوا على لسان خلف الأحمر والأصمعي أرجازا كثيرة، فما ظنك بتوليدهم على ألسنة القدماء”[30]. ولهذا كان يعرض لبعض القصائد بالنقد ويثبت أنها لغير من نسبت له مستندا إلى حجج موضوعية، من ذلك تعليقه على بيت للأفوه الأودي هو :
كَشِهَاب القذفِ يَرْمِيكُم بِهِ فَارِسٌ فِي كَفِّهِ للحَرْب نَار[31]
فيقول : “وأما ما رويتم من شعر الأفوه الأودي فلعمري إنه لجاهلي، وما وجدنا أحدا من الرواة يشك في أن القصيدة مصنوعة، وبعد فمن أين علم الأفوه أن الشهب التي يراها إنما هي قذف ورجم، وهو جاهلي، ولم يدع هذا قط أحد إلا المسلمون، فهذا دليل على أن القصيدة مصنوعة”[32]. لقد ناقش الجاحظ صحة نسبة القصيدة بمنطق الناقد الذي يمحص المعنى ويثبت أن المعنى الذي يشتمل عليه البيت هو معنى إسلامي ولم يسبق لأحد قبل الإسلام أن أتى به، وهذا ما يجعله يعتبر القصيدة منحولة وأنها ليست لمن نسبت إليه، ويعزز أقواله بآراء آخرين من النقاد وصلوا إلى ما وصل إليه.
وفي قصائد أخرى يشك الجاحظ بنسبتها إلى أصحابها، ولكن دون الحسم لهذا الشك لأنه لم يترجح لديه صدق النسبة من كذبها، ولذا نجده يروي القصيدة منسوبة لشخص ويشفع ذلك بقوله (إن كان قالها) ومن ذلك قوله : “وقال أمية (إن كان قالها) :
رُبَّمَا تجْزع الُّنفُوسُ مِن الأمر له فرجة كحل العقال”[33]
وقد يروي نصا منسوبا لقائل ثم يعقب على ذلك بقوله : (أو غيره) مدللا على شكه بتلك النسبة، ومثل ذلك قوله “(وقال زهير أو غيره) :
إن الرزية لا رزية مثلها ما تبتغي غطفان حين أضلت”[34]
- الشك فيما روي من أخبار عن أرسطو:
على الرغم من تأثر الجاحظ بالفلسفة اليونانية عموما والفكر الأرسطي خصوصا، إلا أنه رفض الكثير من آراء أرسطو لأنها تتعارض مع التجارب التي أجراها ومشاهداته لعدد من الكائنات والظواهر الطبيعية. فقد أخضع آراء أرسطو للبحث والتحليل والتجربة والاستفسار، فتوصل إلى آراء مخالفة للتي جاءت في كتاب أرسطو عن الحيوان. يقول في هذا الصدد : “وقال صاحب المنطق : ويكون بالبلدة التي تسمى باليونان (طبقون) حية صغيرة شديدة اللدغ، إلا أن تعالج بحجر يخرج من بعض قبور قدماء الملوك، ولم أفهم هذا ولم كان ذلك ؟”[35]، ومثله قوله : “فأما زعمه أن السمكة لا تبتلع شيئا من الطعم إلا ببعض الماء، فأي عيان على هذا ؟”[36]. وقد يسخر: “وقد أكثر في هذا الباب أرسطاطاليس، ولم أجد في كتابه على ذلك من الشاهد إلا دعواه. ولقد قلت لرجل من البحرين : زعم أرسطاطاليس أن السمكة لا تبتلع الطعم أبدا إلا ومعه شيء من ماء (…) فكان من جوابه أن قال لي : ما يعلم هذا إلا من كان سمكة مرة، أو أخبرته به سمكة، أو حدّثه بذلك الحواريون أصحاب عيسى، فإنهم كانوا صيادين، وكانوا تلامذة المسيح”[37]. ومثل ذلك أيضا الخبر التالي : “وزعم صاحب المنطق أن أصنافا أُخر من السباع المتزاوجات المتلاقحات مع اختلاف الجنس والصورة معروفة النتاج مثل الذئاب تسفد الكلاب، في أرض رومية قال : وتتولد أيضا كلاب سلوقية من ثعالب وكلاب”[38]. ويعلق على ذلك محاولا نفي هذه الدعوى عن أرسطو، لتصوره أن مثلها لا يجوز عليه لأنها غير ثابتة علميا، ثم يؤكد رفضه للدعوى إن صح أن أرسطو كان قالها : “وما نظن بمثله أن يخلد على نفسه في الكتب شهادات لا يحققها الامتحان، ولا يعرف صدقها أشباهه من العلماء، وما عندنا في معرفة ما ادعى إلا هذا القول”[39]. ويشير عباس ارحيلة إلى أن موقف الجاحظ من أخبار أرسطو كان موقف الناقد الذي يخضع تلك الأخبار على اختبار الشك لبيان صدقها أو كذبها “فلم يصب أمامه بشلل الفكر كما أصيب أكثر الأحيان ابن سينا وغيره من فلاسفة الشرق والغرب، وإنما وضعه في المخبر يمتحنه ويجربه. وما أخذه الجاحظ من كتاب (الحيوان) لأرسطو لا يشكل إلا أثرا ضئيلا جدا، وفي كل ما نقل عن أرسطو لم تكن ثقته أشد من ثقته في شاعر أعرابي”[40].
- أسلوب الجاحظ في منهجه الشكي :
- استخدام صيغتي “زعم” و “قال” :
إن آراء الجاحظ النظرية الكثيرة حول الشك كانت مدعمة بنماذج تطبيقية متناثرة، ولم يكن فيها يلجأ إلى أسلوب واحد من الشك، بل كان ينوع هذه الأساليب بتنوع الأخبار التي كان يوردها ويتناولها بالنقد. فقد كان يستفتح الأخبار المغلوطة أو الأسطورية أو تلك التي تحتوي على الخرافات والترهات بقوله زعم فلان، وزعموا، ثُمَّ يُعقِّب بتحليله ونقده بعقل راجح، ونظر صائب، وأسلوب سهل متدرج.
إن صيغة (زعم) هي الصيغة التي تطرد في معظم ما ينتقده الجاحظ، ومثلها – على قلة الاستعمال – صيغة (قال). كان الجاحظ يكتفي أحيانا برواية ما يرويه مشفوعا بإحدى هاتين الصيغتين أو بكلتيهما، وقد يقرنهما أحيانا بألوان من أساليب النقد تدعم وجهة نظره في الشك وكان يستمد هذه الأساليب من طبيعة الخبر أو من طبيعة الرواية التي يساق من خلالها. فمن استخدامه لصيغة (زعم) وحدها قوله : “والعامة تزعم أن الغول تتصور في أحسن صورة، إلا أنه لا بد أن تكون رجلها رجل حمار”[41]. ومن استخدامه لصيغة (قال) وحدها قوله : “ويقال إن الذبان لا يقرب قدرا فيه كمأة كما لا يدخل سام أبرص بيتا فيه زعفران”[42].
أما ما كان يضيفه إلى هاتين الصيغتين من أساليب النقد فمتنوع، ولعل لكل صيغة منها دلالتها المميزة، فمن ذلك رده لبعض الروايات بنسبتها إلى فئة من الناس عرفت بالكذب كالقصاصين أو عرفت بالبساطة والغفلة والجهل كالعامة والعجائز أو أصحاب المصالح كالباعة، الأمر الذي يسهل عليها قبول الكذب، من ذلك قوله : “وتزعم الفرس أن الأجدهاني أعظم من البعير وأن له سبعة رؤوس، وربما لقيت ناسا فتبتلع من كل جهة فم ورأس إنسان، وهو من أحاديث الباعة والعجائز”[43].
- التوقف والتريث في إصدار الحكم :
ومن مظاهر هذا الشك في أسلوبه التوقف والتريث إزاء ما يرد إليه من الأخبار، وما ينتهي إليه تفكيره من الحقائق والمعاني، وتراه مثلا يعيب من يجسر ويستهتر ويتسرع في قبول الأخبار. ومن خلال نقده، نستطيع تلمس كيف أنه يتوقف ويتريث قبل أن يأخذ بخبر أو يصدقه. فيروي لنا زعم بعضهم أن الزرافة خلق مركب من الناقة الوحشية وبين البقرة الوحشية وبين ذكر الضباع. ثم يتوقف عند هذا الزعم ويحاول تعليل هذا الاعتقاد الباطل: “وذلك أنهم لما رأوا أن اسمها بالفارسية (اشتركاوبلنك) وتأويل (اشتر) بعير، وتأويل (كاو) بقرة، وتأويل (بلنك) ضبع … فجسر القوم، فوضعوا لتفسير اسم الزرافة حديثا، وجعلوا الخلقة ضربا من التركيب (…) وهؤلاء وما أشبههم يفسدون العلم ويتهمون الكتب، وتغرهم كثرة أتباعهم ممن تجده مستهترا بسماع الغريب، ومغرما بالطرائف والبدائع. ولو أعطوا مع هذا الاستهتار نصيبا من التثبت، وحظا من التوقي لسلمت الكتب من كثير من الفساد”[44]، وغالبا ما يعزو الجاحظ فساد القياسات إلى قلة الشك، وإلى الجسارة في التمثيل والمقايسة، وإلى الاستناد إلى الظن، وتتجلى أيضا ظاهرة الشك في منهجه، من خلال وقوفه موقف الحذر الشديد مما يُنقل إليه من الأخبار، وما تفيده الحواس ويفيده الاستدلال من المعارف. ويتضح ذلك في استخدامه كلمات الظن والترجيح مثل : (لعل)، كما يتضح ذلك في مناقشته العامة للوزغ عملا بحديث من الأحاديث: “وبعد، فلعلَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال هذا القول إن كان قاله على الحكاية لأقاويل قوم ولعلَّ ذلك كان على معنًى كان يومئذٍ معلوماً فتَرَك النَّاسُ العِلَّة ورووا الخبر سالماً من العِلل مجرَّداً غير مضمّن . ولعلَّ مَن سمع هذا الحديث شهِد آخرَ الكلام ولم يشهد أوَّلَه ولعلَّه عليه الصلاة والسلام قصَد بهذا الكلام إلى ناسٍ من أصحابه قد كان دار بينهم وبينه فيه شيء وكلُّ ذلك ممكنٌ سائغٌ غير مستنكَر ولا مدفوع “[45].
- الشك من خلال أسلوب التهكم :
لقد اشتهر صاحب البيان والتبيين بأدب السخرية والفكاهة ونقْل الأخبار الغريبة والطريفة، ونقد بعضها والتشكيك في صحتها من خلال تعليقات تهكمية تؤكد عدم تصديقه لها، من ذلك تعليقه على الخبر التالي : “…ولكن العجب كل العجب ما ذكروا من إخراج ولد الكركدن رأسه واعتلافه ثم إدخال رأسه بعد الشبع والبطنه، ولا بد – أكرمك الله – لما أكل من نجو فإن كان بقى ذلك الولد يأكل ولا يروث، فهذا عجب، وإن كان يروث في جوفها فهو أعجب”[46].
وفي خبر آخر يجهّل الجاحظ ناقليه، ثم يرد عليهم متهكما فيقول : “قلنا : قد زعم ابن حائط وناس من جهّال الصوفية أن في النحل أنبياء لقوله عز وجل : (وأوحى ربك إلى النحل …) وزعموا أن الحواريين كانوا أنبياء لقوله عز وجل : (وإذ أوحيت إلى الحواريين). قلنا : وما خالف إلى أن يكون في النحل أنبياء، بل يجب أن تكون النحل كلها أنبياء لقوله عز وجل، على المخرج العام : (وأوحى ربك إلى النحل)، ولم يخص الأمهات والملوك واليعاسيب، بل أطلق القول إطلاقا[47]. ثم يعود الجاحظ إلى جدية الباحث فيدحض آراء الجهال فيقول : “فإن كنتم مسلمين فليس هذا قول أحد من المسلمين، وإلا تكونوا مسلمين فلم تحيلون الحجة على نبوة النحل كلاما هو عندكم باطل”[48].
خاتمة :
إن الشك عند الجاحظ يمثل منهجا للمعرفة عنده، وهو يقرر لهذا المنهج ملامح واضحة، تصلح، إذا نظمت وضمت أجزاؤها إلى بعض، أن تكون نواة لنظرية للشك المنهجي تضاهي ما توصل إليه الفلاسفة والمفكرون من بعده. إن الشَّك عند الجاحظ، لا يختلف البتة عن الشَّك المنهجيِّ عند الإمام الغزالي والفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت فكلُّ منهم أراد الشَّكَّ طلباً للحقيقة؛ الحقيقة الجلية الواضحة، التي لا تقبل تفاوتا في الدَّرجات. وقد تتبيَّنُ لنا من ذلك مجموعة من النِّقاط المهمَّة التي تفصح عن أصالة الجاحظ وتجلو ملمحاً من ملامح عبقريَّته، فهو لم يرد الشَّكَّ لمحض الشَّك، ولا يقبل أن يكون الشَّكُّ كيفما اتَّفق ولا في كلِّ أمرٍ على حدٍّ سواءٍ ولا بالطريقة ذاتها، وقـد أجرى الجاحظ تجارب ومعايناتٍ كثيرةً للتَّثبُّت من كل معلومةٍ وردت إليه، أو لنفي خبرٍ تناهى إلى سمعه ولم يستسغه عقله، والأمثلة على ذلك جدُّ كثيرة.
لقد أفاد الجاحظ في رسم معالم هذا المنهج من آراء المعتزلة وفلاسفة الإغريق، ورفع لواء العقل وجعله الحكم الأعلى في كل شيء، ورفض من أسماهم بالنقليين الذين يلغون عقولهم أمام ما ينقلونه ويحفظونه من نصوص القدماء. وقد اتسم منهجه بالتمهل والتريث والحذر، مما يفسح المجال أمام التنقيب والنقد حتى بلوغ اليقين، وذلك وفق أصول علمية ومنهجية.
[1] . عباس أرحيلة، الكتاب وصناعة التأليف عند الجاحظ، المطبعة والوراقة الوطنية، مراكش، ط 1، 2004، ص 18.
[2] . نفسه، ص 21.
[3] . فيكتور شلحت اليسوعي، النزعة الكلامية في أسلوب الجاحظ، دار المعارف، مصر، د. ط، 1964، ص 23.
[4] . التفتازاني، شرح المقاصد في علم الكلام، دار المعارف النعمانية، 1981، باكستان، ج 1، ص 48.
[5] . انظر : أحمد أمين، ضحى الإسلام، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1997، ج 1، ص 387.
[6] . عباس ارحيلة، الأثر الأرسطي في النقد والبلاغة العربيين إلى حدود القرن الثامن الهجري، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، سلسلة رسائل وأطروحات رقم 40، مطلعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، 1999، ص 289.
[7] . عباس ارحيلة، الأثر الأرسطي في النقد والبلاغة العربيين إلى حدود القرن الثامن الهجري، ص 294. انظر: الجاحظ، البيان والتبيين، تحقيق : عبد السلام هارون، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط 7، 1988، ج 3، ص 14.
[8] . الجاحظ، الحيوان، تحقيق : عبد السلام هارون، دار الجيل، بيروت، 1996، ج 6، ص 36.
[9] . الجاحظ، الحيوان، ج 6، ص 35.
[10] . نفسه.
[11] . جميل جبر، الجاحظ في حياته وأدبه وفكره، دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1974، ص 77.
[12] . رسائل الجاحظ، تحقيق عبد السلام هارون، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1964،ج 3، ص 58.
[13] . الجاحظ، الحيوان، ج 1، ص 207.
[14] . جميل جبر، الجاحظ في حياته وأدبه وفكره، ص 77.
[15] . الجاحظ، الحيوان، ج 6، ص 10.
[16] . جميل جبر، الجاحظ في حياته وأدبه وفكره، ص 78.
[17] . الجاحظ، الحيوان، ج 4، ص 211.
[18] . فيكتور شلحت اليسوعي، النزعة الكلامية في أسلوب الجاحظ، ص 101.
[19] . نفسه، ص 104.
[20] . الجاحظ، الحيوان، ج 4، ص 27.
[21] . نفسه، ج 6، ص 35.
[22] . نفسه، ج 2، ص 126.
[23] . الجاحظ، الحيوان، ج 5، ص 248.
[24] . نفسه، ج 3، ص 238.
[25] . الحيوان، ج 6، ص 36.
[26] . الجاحظ، الحيوان، ج 1، ص 246.
[27] . نفسه.
[28] . الجاحظ، الحيوان، ج 3، ص 324.
[29] . نفسه، ج 3، ص 325.
[30] . نفسه، ج 4، ص 181.
[31] . نفسه، ج 6، 275.
[32] . نفسه، ج 6، ص 280.
[33] . الجاحظ، الحيوان، ج 3، ص 49.
[34] . نفسه، ج 3، ص 490.
[35] . نفسه، ج 4، ص227.
[36] . نفسه، ج 5، ص 541.
[37] . الجاحظ، الحيوان، ج 6، ص 17.
. نفسه، ج 1، صص 183 – 184.[38]
[39] . نفسه، ج 1، ص184
[40] . عباس ارحيلة، الأثر الأرسطي في النقد والبلاغة العربيين إلى حدود القرن الثامن الهجري، ص 298.
[41] . الحيوان، ج 4، ص 214.
[43] . نفسه، ج 4، ص 155.
[44] . الجاحظ، الحيوان، ج 1، ص 142- 144.
[45] . نفسه، ج 1، ص 304 – 305.
[46] . نفسه، ج 7، ص 125.
[47] . الجاحظ، الحيوان، ج 5، صص 524 – 525.
[48] . نفسه، ص 525.