
فشل ثورات “الربيع العربي” محاولة للفهم
.د. أحمد بودراع، أستاذ القانون العام، جامعة محمد الخامس بالرباط
مقال نشر في مجلة جيل الدراسات السياسية والعلاقات الدولية العدد 11 الصفحة 51.
مقدمة:
شهدت نهاية 2010 وبداية 2011 عدة تطورات في بعض أطراف المنطقة العربية، تمثلت على الخصوص في خروج كثيف للجماهير منددة بالسياسات المتبعة ومطالبة بإصلاحات عميقة شعارها إقرار الديمقراطية وتحقيق العدالة الاجتماعية، لكن في خضم الأحداث، وأمام الزخم الجماهيري القوي وانضمام بعض تنظيمات المجتمع المدني التقليدية إلى المظاهرات، تحولت الشعارات المرفوعة إلى مطالبة مباشرة برحيل النظام القائم.
وقد اعتقد الكثير من المحللين أن رياح الثورة قد هبت أخيرا على منطقة ظلت لعقود تعاني حالة من الاستبداد السياسي وسوء التدبير والفساد على جميع مستويات، مما يؤشر على أن الدول التي عرفت هذه التحولات داخلة على مرحلة جديدة يمكن أن تؤطرها قواعد الديمقراطية في تداول السلطة ومبادئ المراقبة والمحاسبة في إدارة شؤون الدولة، غير أن هكذا تفاؤلا مفرطا اصطدم مع حقائق الواقع الشديدة التعقيد، إذ لم تكن الدوائر الماسكة بزمام الحكم مستعدة للتنازل بسهولة عن مفاصل الدولة للثائرين، كما لم تكن مؤهلة لتدبير التحولات بحنكة، فمنها من اختار الحل الأمني الذي يتقنه بامتياز في التعامل مع الجماهير الزاحفة، ومنها من سلم السلطة للعسكر لقيادة المرحلة، لتتقلص بذلك أجندات الثورة، عوضا عن إقامة دولة حديثة بإعادة بناء المؤسسات بشكل عقلاني ديمقراطي، إلى مواجهة تحدي النظام، وقليلة هي النظم في المنطقة التي احتوت المطالب بفتح ورش إصلاحي عميق يستجيب على الأقل لجزء من انتظارات الشارع الهائج.
أمام هذا الزخم من الأحداث المتسارعة والفجائية، والتي وقف أمامها التنظير في حقل العلوم الاجتماعية عاجزا عن تفسير ما جرا ويجري، تظل تساؤلات عديدة ومتشابكة ملحة، هل فشل “مشروع الثورة”؟ هل فعلا كنا أمام ثورات أم هي ارتجاجات بسيطة ضخم الإعلام من حجمها وصورها البعض على أنها ثورة؟ وهل المجتمعات العربية ومنها المغاربية مجتمعات ساكنة تستعصي على التغيير والتحديث؟ وما هي شروط التغيير؟ إلى غير ذلك من الأسئلة المتناسلة عن أزمة الدولة ومشاريع الإصلاح.
إن هذه الورقة لن تدعي التعرض لجملة الاستفهامات المطروحة، حسبها فقط أن تبحث في بعض أسباب الانتكاسة أو “الردة الثورية”، طارحة الفرضية التالية: إن شروط الثورة لم تجتمع في أحداث ما أطلق عليه “الربيع العربي” أو “الربيع الديمقراطي”، وبالتالي لابد لملامسة بعض جوانب الفرضية المطروحة، من الوقوف علميا مع مفهوم الثورة ومبادئها وشروط نجاحها، ومخاطر النكسة، لنخلص إلى محاولة الإجابة على التساؤل التالي: هل يمثل المشروع الثوري حلا وحيدا أم أن هناك حلولا أخرى لبناء دولة حديثة تقود التحول الديمقراطي والتنمية الاقتصادية والاجتماعية لا سيما في المنطقة المغاربية.
مبحث تمهيدي:
– في مفهوم الثورة:
تعرف الثورة بأنها تغيير مفاجئ وسريع للنظام السياسي، يؤدي إلى الإطاحة بالنظام السياسي القديم والنخبة التي تمثله، وتعويضه بنظام جديد تتبعه نخبة جديدة، يختلف عن القديم من حيث الفلسفة السياسية وطريقة الحكم. وتختلف الثورة عن غيرها من حالات الاضطراب التي قد يعرفها النظام السياسي كالتحركات الفئوية أو الطائفية التي يكون الهدف منها تحقيق مطالب خاصة، ولكن دون أن يؤدي ذلك إلى التفاف الفئات الأخرى حولها، وغالبا ما يتم قمع تلك التحركات أو يتم الاستجابة لبعض مطالبها من غير أن يؤثر ذلك على النظام السياسي ونخبه الحاكمة.
تختلف الثورة كذلك عن الانقلاب الذي يكون مصدره السلطة الحاكمة نفسها عندما يستأثر الرئيس مثلا بالسلطة ويقصي الهيآت الأخرى خارج الأطر الشرعية ويفرض نفسه رئيسا مدى الحياة أو يتحول إلى ملك، كما قد يقود الانقلاب الجيش أو فئة منه تتعدى على السلطة السياسية الحاكمة وتستولي على الحكم، دون نية القطع مع النظام السياسي السابق إن على مستوى النهج الدستوري أو الاجتماعي أو الاقتصادي فالهدف الرئيس لقادة الانقلاب هو الاستئثار بالسلطة، عكس الثورة التي من أهدافها الأساسية، إحداث تغيير جذري في بنية النظام من حيث فلسفته السياسية أو أسلوبه في الاقتصاد وإدارة المجتمع.
ویعرفها كرینبرنتون في كتابه “تشریح الثورة” بقوله “إنها عملية حركية دينامية تتميز بالانتقال من بنیان اجتماعي إلى بنیان اجتماعي آخر”.
أما عزمي بشارة فيرى أن “المقصود بالثورة هو تحرك شعبي واسع خارج البنية الدستورية القائم، أو خارج الشرعية، يتمثل هدفه في تغيير نظام الحكم القائم في الدولة”.
من ذلك يتضح أن من أهم خصائص الثورة:
– أنها تكتسي دائما طابعا مدنيا بمعنى أن مبتدؤها مرتبط بتحرك الشرائح المدنية للشعب، هذا لا يعني أن الجيش لا يشارك في الثورة، ففي العديد من الحالات يجد الجيش نفسه مجبرا، تحت ضغط الواقع الأمني التي فرضته الأحداث، على التدخل لضمان الأمن للمجتمع وتأمين وصول الثورة لأهدافها، من دون أن يكون له يد في حرف الثورة عن مسارها بإعادة النظام القديم أو بعض ممثليه إلى السلطة، إضافة إلى ذلك، أن التاريخ عرف ثورات مسلحة سواء في مواجهة الاستعمار كحالة الثورة الجزائرية، أو في مواجهة الاستبداد استنادا إلى مقولة العنف الثوري حسب النظرية الاشتراكية، كما هو شأن الثورات الاشتراكية في بعض دول أمريكا اللاتينية،
– إن مطالبها وأهدافها وشعاراتها لا تهم فئة بعينها بقدر ما تسعى إلى تجاوز وضع قديم تتضرر منه أغلب الفئات الاجتماعية، لكن قد يكون منطلق الثورة تذمر فئة سرعان ما تكسب تعاطف الشرائح الأخرى التي كانت تنتظر الفرصة للتعبير عن سخطها من السياسات المتبعة، وبذلك تلتقى مصالح غالبية الطبقات الجماهيرية في رغبتها في إزاحة السلطة الحاكمة ووضع نظام جديد للحكم يستجيب لمعايير الديمقراطية والحكم الصالح.
– رغم طابعها الفجائي، فغالبا ما يسبق الثورة محاولات تنظيمية (تشكيل خلايا- لجان شعبية…) هدفها تنظيم الثوار والإشراف على الحالة الثورية إلى غاية وصول الثورة إلى منتهاها بإسقاط السلطة القائمة وإقامة نظام حكم جديد يحقق انتظارات الثوار.
– أنها تندلع خارج الأطر الدستورية، لأنه ما من دستور أو قانون يشرع للثورة، لأن المشروع الثوري في حد ذاته يأتي لتغيير الدستور الذي قد يشرعن الاستبداد، مثلا عندما تنص بعض فصوله على “الرئيس لمدى الحياة”، أو عدم تحديد عدد الولايات الرئاسية، كما تستهدف الثورة الإجهاز على القوانين الظالمة التي أصدرتها مؤسسة تشريعية منبثقة عن انتخابات مزورة، أمعنت بقوانينها تلك في تكريس الطابع التسلطي للنظام الحاكم. لذلك ليس هناك ثورة في التاريخ تطيع الدستور، الثورات تكون دائماً وأبداً غير دستورية ومخالفة للقانون. لذلك يتم الاستعاضة عن الشرعية الدستورية بمفهوم الشرعية الثورية، لأن الثورة تستمد شرعيتها من نفسها وليس من أي دستور أو قانون وضعي، الثورة هي حالة فوق دستورية وفوق قانونية ولا تخضع لأحكام القضاء.
وقد ارتبطت الثورة في بعض دول العالم العربي في مستهل 2011، بما اصطلح عليه الربيع العربي أو الربيع الديمقراطي، تشبيها لما وقع
– مفهوم الربيع العربي أو الديمقراطي
يرمز الربيع إلى الشباب والأمل والاخضرار والخصب، لذلك ارتبط سياسيا بمجمل التحركات الجماهيرية التي تسعى إلى إحداث تحول إيجابي في مجتمع بعينه، يمكنه من الانتقال من التسلط والديكتاتورية إلى الديمقراطية وتداول السلطة، ومن الظلم إلى العدالة الاجتماعية.
وقد استخدم أول مرة تاريخيا على نطاق واسع في الأدبيات الغربية سنة 1968للدلالةعلى حركة الاحتجاج التي انطلقت في تشكوسلوفاكيا فيما اصطلح على تسميته بربيع براك للمطالبة بالإصلاح والتخلص من هيمنة السوفيات على الحياة السياسية بالبلاد، لكن هذا الربيع سرعان ما تحول إلى ربيع دام بعد تدخل الجيش الأحمر وسحق الحركة الاحتجاجية مجهضا الحلم التشيكوسلوفاكي في نبذ سياسة الحزب الوحيد وهيمنة الدولة على المجتمع.
ربما مصير ربيع براك ظل حاضرا في الذهنية الغربية، لذلك تردد الإعلام ومعه جماعة الأكاديميين في وصف حركات الإصلاح التي اجتاحت أروبا الشرقية بالربيع بعد 1989، مستعيضا عنه بالثورة المخملية في تشيكوسلوفاكيا لطابعها السلمي ولمساهمة المثقفين والمدافعين عن حقوق الإنسان في إنجاحها وعلى رأسهم “فاكلاف هافيل” الذي أصبح أول رئيس ديمقراطي للبلاد، وفي أوكرانيا أُطلق على الحراك الشعبي الثورة البرتقالية نسبة إلى لون الأعلام التي حملها المتظاهرون في الشوارع.
لكن الإعلام ومعه الدوائر السياسية بالغرب سارعت إلى إطلاق اسم “الربيع العربي” على الحراك الذي انطلق من تونس وانتشر في عديد من الدول العربية، رافعا شعار المطالبة بالإصلاح سرعان ما تحول إلى المطالبة والإلحاح على رحيل النظام. وقد انتشر المصطلح في الأوساط الإعلامية والبحثية على نطاق واسع في العالم برمته، سيما وأن سنة 2011، كانت غنية بالأحداث وشهدت بدايتها سقوط رأسي النظام بكل من تونس ومصر، فساد التفاؤل بأن ثورات الربيع هي في الطريق الصحيح، وأن عملية التحول الديمقراطي رغم عثرات وتعقيدات مرحلتها الانتقالية، لا محال ستؤتي أكلها، جريا على ما سارت عليه سنن التاريخ، وأثبتته تجارب الدول التي عرفت ثورات.
غير أن الأحداث التي تلت هذا “الربيع” لم تكن أفضل من مقدماته، فإذا كان الربيع نسبيا أزهر في بدايته في مصر وتونس، فإنه بدأ قاحلا شاحبا مكفهرا في ليبيا واليمن وسوريا أتى على مكاسب شعوب هذه الدول منذ الاستقلال، وحتى في الحالة المصرية سرعان ما تحول عاصفا كئيبا محزنا عندما تلون بلون الدم واستحالت الآمال التي علقت عليه في صيف قائظ إلى أفق مظلم منسد، لتعود معه مصر إلى نقطة الصفر معلنة انتصار قوى مقاومة التغيير، وتنطلق أسئلة محاكمة الربيع بين مشكك في حقيقة “الربيع العربي” ومطالب بعدم استعجال القطف.
في ظل هكذا وضع تنتصب الحالة التونسية الأكثر إشراقا قياسا إلى ما آلت إليه أوضاع المناطق المجربة لوصفة “الربيع العربي”، على الأقل تم إصدار دستور، وأجريت انتخابات نزيهة ويتم تدبير الاختلاف بآليات الديمقراطية، بعيدا عن تدخل العسكر والقبيلة والطائفة.
المبحث الأول:”ثورات الربيع العربي”، هل توفرت شروط النجاح؟
لنجاح أي ثورة وبلوغ الأهداف التي رسمت لها، رأى بعض فقهاء علم السياسة أنه يجب اجتماع بعض الشروط، ليتحول الهيجان الشعبي إلى بيئة قابلة لأن تولد انتقالا من وضع قديم قامت الثورة لتغييره إلى وضع جديد يطمح الثوار لبلوغه، وترتبط هذه الشروط بالثوار أنفسهم وبقيادتهم، وبمركز المؤسسة العسكرية في هرم السلطة السياسية.
1- نضجالثقافة السياسية الجماهيرية:
نشبت الثورة الفرنسية في أواخر عصر التنوير(القرن الثامن عشر)،ولهيبها لم يكن إلا انعكاسا لأنوار ذلك العصر التي اكتسحت مختلف أقطار أوروبا فصنعت تيارا عقليا مهيئًة فرنسا لتغير سياسي واجتماعي عميق؛جاء مسبوقا بثورة علمية ثقافية حررت، على يد فلاسفة عصر الأنوار، الفكر من رواسب التفكير القروسطي البالية التي ظلت تحجر على العقول وتربط النشاط الإنساني الأرضي بعوالم خارجة على إمكانية التفسير والتعليل، لذلك عندما انطلقت مناقشات حقوق الإنسان داخل الجمعية الوطنية الفرنسية جاءت متفاعلة مع أفكار فلاسفة التنوير(روسو ومونتسكيو وفولتير)، هذه الأفكار التي عمت أروبا وانتقلت إلى القارة الجديدة وتجاوزت نطاق النخبة لتنتشر بين مختلف شرائح المجتمع الأروبي، الذي أصبح بتبنيه لمبادئ المذهب الفردي يؤمن بقدرات الإنسان في التغيير والتقدم بإطلاق حرية الإبداع وتحرير المعرفة من قيود الكنيسة وتفسيراتها اللاهوتية المتجاوزة.
إن هذا الوضع المرتبط بالوعي الإنساني لم يكن له شبيه في المنطقة العربية التي عرفت ما سمي بموجات الربيع الديمقراطي، بحيث إن طول أمد الاستبداد أدى إلى استبلاد الشعوب وولد حالة من التخلف الفكري لدى الغالبية من أبناء الوطن العربي التي لم تحظ في عمومها بتعليم فعال وافتقدت إلى الوعي، وإلى حس المسؤولية، فبمجرد السقوط غير المنتظر لرأس النظام، سادت الشارع حالة من الفوضى، واكتسح الفضاء العام فئات لا علاقة لها بالمشروع الثوري، تصدرت صفوف المتظاهرين وشرعت في تنفيذ أجندة خارج أي برنامج تغييري، كجماعات البلطجية والألتراس… ، وطفت على السطح الانتماءات الأولية ذات الطابع الطائفي أو المذهبي في بعض بلدان “الربيع العربي” (ليبيا-اليمن- سوريا)، واستغلت أجواء الحرية بشكل فوضوي، هذه الأوضاع بطبيعة الحال لم تساعد على تدعيم فرص التحول الديمقراطي، وعلى استثمار لحظة الثورة لغاية بناء مجتمع حديث.
فعلا خلال أيام “الثورة” ترددت شعارات حداثية من مثل “الدولة المدنية، الديمقراطية، الحرية، العدالة الاجتماعية، الكرامة الإنسانية”، غير أن الجماهير الغفيرة التي رددتها في أغلب الأحوال كانت تجهل سبل تنزيلها، واعتبرت أن معركتها الكبرى هي إسقاط رأس النظام فتم لها ذلك بشكل فجائي وسريع، مما خلق فراغا مهولا لدى الغالبية من الناس التي لم تكن مهيأة لهكذا وضع، فدخلت المجتمعات المعنية في حالة من الارتباك والانتظارية، استغله مناوئو أهداف الثورة لأغراض إجهاضها والعودة من الباب الخلفي في أحسن الأحوال، والسقوط المدوي في حالة الحرب الأهلية بين شركاء الميدان بالأمس القريب، خصوصا بعد تسلل أطراف إقليمية ودولية لتشرع الثورة في أكل أبنائها ومبادئها معلنة حالة الدولة الفاشلة حسب توصيف المنظمات الدولية لا سيما في الحالة الليبية واليمنية.
2- غياب القيادة وغياب المشروع:
الأحداث التي انطلقت من تونس وامتدت إلى غيرها من أقطار العالم العربي، لم تدع لها قيادات فكرية أو سياسية أو نخب اجتماعية بعينها ، وإنما جاءت مرتبطة بحدث إحراق البوعزيزي لنفسه احتجاجا على الظلم والقهر الذي مارسه نظام بنعلي مجسدا في ضابطة الشرطة التي صفعته على وجهه، لم يكن أحد من منظري علم السياسة أو السوسيولوجيين من الغرب أو من العرب يتنبأ بحدوث اضطرابات في مستوى ما وقع، فالمنطقة على صعيد الحكم والتنمية تسير وفق وتيرة عادية متحكم فيها أمنيا واجتماعيا من طرف النظم السياسية، ومراقبة من قبل الأطراف الدولية بشكل يضمن صيرورة المصالح الغربية وغيرها بهذه الأقطار. لكن سرعان ما ينكسر حاجز العنف وتنطلق جموع المحتجين التي رفعت سقف مطالبها بشكل سريع، بانضمام فئات واسعة إلى المظاهرات، ليصبح خطاب “الشعب يريد إسقاط النظام” شعار المرحلة أمام ذعر وارتباك الأنظمة الحاكمة، سيما بعد فرار بنعلي وزمرته إلى العربية السعودية.
هذه المرحلة كما التي سبقتها لم تؤطرها قيادة سياسية ولا نخبة مثقفة، الكل ظل مذهولا أمام سيولة الأحداث، القوى التقليدية من أحزاب سياسية ونقابات وقوى المجتمع المدني ظلت تراقب الأحداث في حالة ذهول وتوتر، وحتى لا تتجاوزها، اضطرت إلى الالتحاق بالاحتجاجات وترديد نفس شعارات الشباب الغاضب
بطبيعة الحال لا يمكن إغفال ما قامت به نخب المجتمع من دور في كشف فساد الحكام وتسلطهم الذي ساعدت على فضحه كذلك ثورة المعلومات ولا سيما شبكات التواصل الاجتماعي، لكن أمام التطورات المتلاحقة ولا سيما عند سقوط رأس النظام ظهرت هذه النخب التقليدية عاجزة عن قيادة المرحلة وملأ الفراغ، لأنها لم تكن ببساطة مهيأة كما أنها بشكل أو بآخر ظلت طيلة هيمنة النظام البائد تؤثث المشهد دون القدرة على تشكيل معارضة حقيقية لسياساته، وحتى أكبر القوى المؤثرة في الساحة المصرية مثلا، جماعة الإخوان المسلمون، فهي كحركة إصلاحية، ربما امتلكت خطة للتعبئة والحشد الجماهيري، لكنها افتقدت إلى مشروع بناء الدولة، نفس الشيء يقال بالنسبة للقوى العلمانية أو اليسارية…
هذا العجز السياسي البنيوي لنخب ما بعد سقوط الأنظمة تمثل بشكل ملموس في غياب مشروع للثورة، وعلى العكس من ذلك بزغت المشاريع الحزبية والفئوية والأجندات المختلفة لما بعد السقوط المدوي، فالعلمانيون وجدوها فرصة للمطالبة بتجسيد إديولوجيتهم في تدبير قضايا المجتمع، والإسلاميون المعتدلون اعتبروا المرحلة فرصة تاريخية للبحث عن السلطة من خلال صناديق الاقتراع مفرطي الثقة في شعبيتهم وقدرة الشعب على حراسة الثورة وفي ذهاب النظام إلى الأبد. والسلفيون الذين ظلوا لعقود ينتقدون العمل السياسي انتفضوا ينادون بتطبيق الشريعة الإسلامية. قراءة المرحلة لم تكن في المستوى المطلوب من طرف مختلف مكونات المجتمع، لم يكن للثورة قيادة كما لم يكن لها برنامج ومشروع موحدان. أمام نشوة “الانتصار” هلل الجميع ورقص الشباب في الميادين، لكن أسئلة محرقة لم تطرح بإلحاح، وإن طرحت لم يجب عليها بتفصيل، من مثل، وماذا بعد؟ هل سقط النظام أم فقط رأس النظام؟ وما هي ردود فعل باقي أجنحته؟ وما حظوظ الثورة المضادة في العودة؟ وكيف السبيل إلى تحصين المكاسب؟ كيف نقيم دور المؤسسة العسكرية أثناء الثورة وبعدها؟ وهل الثورة مستمرة إلى غاية بناء مؤسسات الدولة ونجاح التحول الديمقراطي؟ ما هي البدائل التنموية لما بعد الثورة؟ هذه الأسئلة وغيرها كثيرة أهملت، فضاعت البوصلة، وغاصت الساحات لسبب أو بدون سبب بالمتظاهرين الذين كانوا يتقنون الهتاف والصراخ لكنهم لم يحسنوا الاستفادة من جو الحرية في غياب أي برنامج مرحلي مدروس، فانطلقت المصالح الفئوية ووصلت أحيانا إلى الشرطة التي تظاهر كثير من أفرادها من أجل الحق في إطلاق اللحية. الأوراق مبعثرة، لا أحد يعرف من أين يمسك الخيط، وحدها المؤسسة العسكرية، التي لا يستطيع أحد أن ينكر أنها كانت جزءا من النظام السابق، هي التي كانت تدير الأوضاع وفق رؤية محددة.
3- دور المؤسسة العسكرية:
دور الجيش في الأنظمة العربية هو تدخلي بامتياز في العملية السياسية إلى جانب السلطة السياسية إن لم يكن متماهيا معها، وأسباب ذلك كثيرة منها ما هو ذو طابع تاريخي، فعلى امتداد التاريخ العربي الإسلامي كان القائد السياسي هو نفسه القائد التنفيذي للجيش، وبعد استقلال الدول العربية صعد الضباط إلى منصة السياسة بسرعة فائقة.
وقد برر البعض هذا الصعود بمقولة الضرورة التاريخية التي تقوم على ثلاثة افتراضات:
1-يعيش العالم العربي حالة شديدة من التخلف وأزمة انتقال لا يمكن تخطيها إلا عن طريق التغيير الثوري للبناء الاجتماعي والنظام السياسي.
2- ليست هناك قوة قادرة على إحداث التغيير المطلوب، باستثناء ضباط الجيش.
3-الضباط لديهم القدرة على التأثير في هذا التغيير.
وانطلاقا من هذه الأفكار، فرض الجيش نفسه في العالم العربي كقوة سياسة تحكم إما مباشرة كما كان الشأن أيام جمال عبد الناصر بمصر أو معمر القذافي في ليبيا أو الهواري بومدين في الجزائر، حيث مجلس الثورة هو الهيأة التنفيذية للدولة، أو من وراء الستار عندما يعود العسكري للخلف تاركا رئيسا مدنيا أو ذا خلفية عسكرية يقود البلاد تحت مراقبته، دون إمكانية المساس بمصالح المؤسسة العسكرية المختلفة كما هو الوضع حاليا في الجزائر.
وقد استفادت الجيوش العربية من اهتراء المجتمع المدني والسياسي الذي لم يستطع طيلة عقود من الاستقلال أن يقدم تصورا متكاملا لقضايا المجتمع بعيدا عن الارتهان لأجندة دولية وإيديولوجيات خارجية لم تتمكن من الانغراس في جسم المجتمع ، أو بالاقتراب من النظام نفسه من خلال تملقه والانخراط في مؤسساته بشكل أفقد الجماهير أي ثقة في الأحزاب السياسية التي عجزت عجزا تاما أي من أطيافها عن أن تشكل معارضة حقيقية وبديلة للنظام القائم. وحتى بعد أن اندلعت الاضطرابات في أكثر من بلد عربي، كان الرقم الصعب في المعادلة السياسية هو الجيش، كما كان مخاطب القوى الدولية التي شاركت في إدارة الأحداث من خلال التنسيق مع الجيش . هذه المؤسسة التي لم تتحول في أي من البلدان العربية إلى مؤسسة عادية تابعة للدولة كما هو الشأن في الأنظمة الديمقراطية حيث سياسة الدفاع يشرف عليها وزير مدني ويضطلع الجيش بالدور التنفيذي تحت إشراف السلطة السياسية.
هذه المكانة فوق العادة التي اكتسبها الجيش في النظام السياسي لها ما يدعمها اجتماعيا، حيث ظلت الشعوب تنظر تاريخيا للجيش كمؤسسة إنقاد للبلاد أثناء الأزمات الداخلية أو أثناء مواجهة أي عدوان خارجي.
ويفسر بعض الباحثين مسألة الانقلابات العسكرية في التاريخ العربي الحديث والمعاصر من خلال “نظرية المسلك الطبيعي” التي تقوم على فكرة أنه “عند كل فوضى أو أزمة تمر بها البلاد وتمس تطوره، يصبح تدخل الجيش وإقامة دكتاتورية عسكرية ضرورة تاريخية محتمة، وينبغي النظر إليه باعتباره المسار الطبيعي في التطور السياسي للبلدان العربي” .
ولا يختلف وضع وموقف الجيوش في فترات الثورات العربية عنها في غيرها من حالات التوتر والاضطراب، فبطبيعة الحال فإن العسكر يكرهون الثورات ويتوجسون منها لاعتبارات عدة منها:
– إن الثورة كما أسلفنا هي تغيير سريع فجائي، قد تجهل مآلاتها، حتى بالنسبة للمؤسسة العسكرية التي وإن توفرت على أفضل الأجهزة الاستخباراتية، فهي غالبا ما تفضل حالة الاستقرار، لما توفره من أمان لمصالحها، فأثناء معمعة الأحداث في مصر بعد 25 يناير 2011، ارتفعت أصوات مطالبة بابتعاد الجيش عن مجال الاقتصاد ومد رقابة البرلمان لميزانية الجيش بعد أن جرب المصريون إدارة المجلس العسكري للبلاد منذ سقوط مبارك إلى غاية تنصيب الرئيس المنتخب مرسي في 30 يونيو 2012، وقد اتضحت مخاوف الجيش من هذه المطالب أثناء إصدار الإعلانات الدستورية وصياغة مسودات الدستور.
– إن الجيش مهما التزم قادته الحيادية في العملية السياسية في فترات الاستقرار، فإنهم أثناء فترات الاضطراب، غالبا ما تنحاز مواقفهم، وإن لم يعلنوها، إلى النظام الحاكم الذين ينتمون إليه بشكل أو بآخر، لكن حسب تقييمهم للوضع قد يغيرون المواقف دون أن يتركوا الأمور تنفلت من أيديهم، فحالة الثورة قد تعصف بقيادات من الجيش وتضعهم تحت المسائلة وحتى المحاكمة، كما حصل في أعقاب الثورة الإسلامية في إيران والإطاحة بحكومة الشاه في 11 فبراير 1979، حيث وافقت محكمة طهران على أول أربع أحكام بالإعدام في حق جنرالات الشاه في نهاية الشهر نفسه.
– انطلاقا من ذلك، يمكن الجزم أن دور الجيش في نجاح الثورة أو فشلها حاسم، ففي ثورة الياسمين بتونس لعب الجيش دورا مفصليا في نجاحها وفرار بنعلي إلى السعودية عقب اتخاذ الجنرالات بتونس قرار الحياد الإيجابي، حيث عملوا على حراسة مؤسسات الدولة الاستراتيجية ، ولم يرضخوا لطلب بنعلي التدخل بالقوة لتفريق المتظاهرين، فلم يجد النظام بدا من التخلي على السلطة والهروب خوفا من المحاكمات وغيرها، أما في اليمن فقد انقسم الجيش على نفسه وأدخل البلاد في حرب أهلية رمت بهذه الدولة المأزومة تاريخيا في براثن الدولة الفاشلة، في سوريا، الجيش رغم بعض الانشقاقات ظل متماسكا، وقمع الثوار وأدخل البلاد في عملية تدمير داخلية سيظل الشعب السوري يعاني من تداعياتها لسنوات طويلة، كما سرع بتدويل القضية السورية وإدخالها في لعبة سياسة الاستقطابات والمصالح الخارجية. في مصر استغل الجيش حالة الاستقطاب الحادة بين فرقاء الميدان وعدم تبصر السياسيين وغضب جانب من الشارع المصري على حكم الرئيس مرسي، لينفذ عملية انقلابية مخطط لها بدقة شاركت فيه مؤسسات أخرى من الدولة ليعلن رسميا عن فشل الربيع العربي والعودة إلى نقطة الصفر في مصر، ويتحقق السيناريو الأسوء وهو عودة الدولة العميقة من خلال الحكم العسكري .
من كل ما ذكرنا آنفا، نستنتج أن تجربة الثورة بالبلدان العربية، لم تحقق الإنجازات التي انتظرتها الجماهير، لا سيما تلك المرتبطة بدمقرطة الحياة السياسية وتحقيق التنمية، بل على العكس من ذلك رمت بالعديد من المجتمعات في حروب أهلية، وعمقت من ارتهان البلدان التي شهدتها للخارج، وأضعفت من ثقافة المواطنة ومؤسسات الدولة وأججت بالمقابل النعرات الطائفية والمذهبية. السبب المباشر في ذلك أن تحركات ما سمي ب”الثورة” افتقدت إلى الشروط الأساسية لتحولها إلى مشروع تغييري ناجح تنخرط فيه النخبة كما مختلف الفئات الاجتماعية في مسيرة طويلة من الإصلاح ولا ترتبط بعملية متسرعة نظر إليها بشكل خاطئ بأنها الفرصة التاريخية للتحول الديمقراطي.
المبحث الثاني:الثورة أم الإصلاح، أيهما الأصلح؟
ربما تكون كلمة ثورة من أكثر الكلمات استعمالا في الأدبيات الاشتراكية والشيوعية تحديدا، بحيث قصد منها بالتدقيق تغيير النظام الرأسمالي بكل مقوماته الإيديولوجية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية إلى نظام اشتراكي، تسترجع من خلاله الدولة وسائل الإنتاج وتعمل على تحقيق العدالة الاجتماعية لفائدة طبقة البروليتاريا، غير أنه من داخل الفكر الاشتراكي برز اسم برنشتاين الذي أعاد تعريف الحركة العمالية واعتبرها “حزبا إصلاحيا اشتراكيا ديمقراطيا” وليست حزبا للثورة الاشتراكية. وعلى العكس من ماركس، اعتبر برنشتاين أن التناقضات داخل الرأسمالية لا تظهر بشكل واضح، إنما يجري باستمرار تخفيفها، فيتم ترويض الرأسمالية بشكل متدرج، لتصبح أكثر تكيّفاً مع المطالب الاجتماعية لطبقة العمال. والكارتيلات والتروستات والمؤسسات الائتمانية تنظم بتدرج الطبيعة الفوضوية للنظام، لذلك، وبدلاً من حصول انهيارات مالية واقتصادية كما تصوّر ماركس، هناك ميل ضمن النظام الرأسمالي للوصول إلى حالة من الازدهار الدائم. كما تضعف التناقضات الاجتماعية بحسب وجهة نظر برنشتاين، من خلال استمرار الطبقة الوسطى وتوزيع أكثر ديمقراطية لملكية رأس المال عبر شركات الأسهم. انطلاقا من هذا التحليل يخلُص برنشتاين إلى أن الحزب الاشتراكي يجب أن يكرّس نفسه من أجل التحسين التدريجي لظروف الطبقة العاملة، وليس بهدف الاستيلاء الثوري على السلطة السياسية، وفي هذا الإطار يظهر برنشتاين منظرا مركزيا للأحزاب الاشتراكية في أروبا التي تعمل على التلطيف من حدة الشعارات التي رفعتها الشيوعية اليوتوبية التي نظرت لانقراض الدولة.
وبذلك يبدو أن الثورة ليست هدفا في حد ذاتها، بل هي تحول مفصلي، إذا توفرت شروط نجاحه قد ينقل المجتمعات إلى بر الأمان، بينما إذا غابت هذه الشروط، انغمس بالبلدان التي تشهدها في فوضى عارمة لا أحد يعلم متى وكيف تنتهي. أما الإصلاح الذي قد يكون نتيجة الثورة الناجحة، وهو الغاية من أي تحرك شعبي، ليس هدفه قلب النظام وتغيير الأوضاع جذريا بقدر ما هو عملية ترميمية ترمي إلى الإبقاء على الأوضاع الإيجابية كسيادة القانون والتماسك الاجتماعي والسلم الداخلي، وتغيير الأوضاع السلبية من ظلم وفساد إداري ومالي وسوء توزيع للثروة بشكل متدرج وفق رؤية إصلاحية محددة المراحل والأهداف، منضبطة لمنطق التاريخ وفي إطار سلمي هادئ، سيما وأن الثورة بالمفهوم العلمي الذي يقوم على إحداث تغيير جذري في بنية النظام السياسي على مستوى التصور والمؤسسات أصبحت غير ممكنة إطلاقا، فزمن الثورات المتطرفة قد ولى مع الثورة الاشتراكية البلشفية التي استندت إلى بناء إيديولوجي مختلف تماما عن أسس الدولة القيصرية بروسيا ومع الثورة الإسلامية بإيران التي بعد طردها لنظام الشاه أزاحت البنيان الرأسمالي السياسي لنظام آل بهلوي، أو الثورات البرتقالية في أروبا الشرقية التي أزاحت، في نهاية الثمانينات وبداية التسعينات، النموذج الاشتراكي كاختيار في حكم الدولة إلى النموذج الرأسمالي بكل دعائمه السياسية والاقتصادية والفكرية. أما “الحركات الثورية” هنا وهناك في العالم العربي أو في غيره فهي عندما تطالب بمحاربة الفساد والاستبداد ودمقرطة الحياة السياسية، فهي لا تأتي بشيء جديد، فالنظام القائم نفسه يدعي بأنه يعمل على تطهير الحياة السياسية والاقتصادية من الفساد ويجري انتخابات ويقر إصلاحات في هذا المجال أو ذاك، متبنيا ما يمكن أن نسميه ب”الديمقراطية الهجينة”، الاختلاف يكمن في طبيعة الانتخابات التي يجري هل هي حرة ونزيهة أم لا؟ وفي حقيقة الإصلاحات التي يطبق هل هي روتوشات لتلميع وجه نظام مغرق في الفساد، أم فعلا إصلاحات عميقة تستند إلى إرادة سياسية حقيقية وصادقة تستهدف تجاوز حالة التخلف والانفتاح على مبادئ الحكم الصالح.
وبهذا المعنى لم يعد مكان للثورة، بل فأغلب التحركات التي تعرفها المجتمعات، تتغيى إصلاح الأوضاع، والإصلاح لا يكون بالهيجان والغضب الذي منهجه الهدم ابتداء والبناء بعد ذلك، وقد يكون الهدم سهلا نسبيا، لكن ما أعسر البناء عندما تغيب الخطط والوسائل والإرادات…، سقط رأس النظام في مصر في 18 يوم، وأخفقت الثورة في التحول الديمقراطي وأعادت العسكر من جديد إلى السلطة، بظلم أكبر وفساد أعظم، قامت الثورة في تونس وفر بنعلي وبعد فترة مخاض دامت أكثر من سنتين، انتخب ديمقراطيا رئيس كان يشكل دعائم النظام السابق، الوضع في سوريا وليبيا واليمن كارثي، حيث لا صوت يعلو على صوت الرصاص.
من تم تأتي خطورة الثورات، تستطيع أن تطيح بالأفراد وبالمؤسسات، لكن لا أحد يمتلك رؤية عن مآلاتها، وعن كيفية التحكم في صيروراتها، هي عبارة عن هيجان للبحر لا أحد يستطيع أن يوقفه، ولا يعلم متى وأين يتوقف، وقد يتحول إلى تسونامي جارف يأتي على الصالح والطالح وعلى الأخضر واليابس، ذلك هو حال هيجان الشعوب سيما عندما يفتقد إلى التبصر والمسؤولية والوعي المنضبط، انتقاله إلى الفوضى والعنف والتسيب وتصفية الحسابات واستغلال الفرصة لتحقيق مصالح خاصة، أيسر من تحوله إلى عملية إصلاح وبناء مسؤولة وفق استراتيجية وبرنامج متوافق عليه، تحدد فيه الأدوار والمراحل والآليات. لذلك بمجرد أن سقط رأس النظام في مصر عمت حالة من الفوضى وانعدام القانون وأصبحت الكلمة الفصل للفوضويين ولمن يتبنون أفكار متطرفة وذوي السوابق باسم الثورة، أصبحوا يقودون الاحتجاجات بتوجيه من جهات، من مصلحتها أن يعم الارتباك صفوف الثوار، وإرهاق الطلائع الثورية، ويمثل إجراء فتح السجون وإطلاق سجناء الحق العام والمجرمين المحترفين والاستعانة ب”البلطجية” في تصفية الخصوم وخوض المعارك،حالة صارخة لانحراف الثورة وتخبط المشهد الثوري. وبدل شعارات الدولة المدنية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، بدأت دعوات الإقصاء والعمالة والتخوين، تجد لها صدى في الشارع وعلى وسائل الإعلام، لتفاقم حالة من الاستقطاب، عجزت نخب المجتمع ومؤسساته أن تخفف من حدته وأن تجتمع على كلمة سواء لتأطير المرحلة ومحاصرة الانفلات.
لذلك عندما نتحدث عن الإصلاح كبديل للثورة بما هو “تغيير منهجي في نمط السلوك المؤسسي للدولة الرسمية … يغير ما به من عوج، وينظر بتؤدة واحترام لمنهجية الرؤية الإصلاحية بشكل يوازن بين الطموحات العالية ومنطقية الإمكانات وإدراك واقع الحال وصعوبات المسألة”
وكغيره من المشروعات الاجتماعية الكبرى فعملية الإصلاح هي الأخرى، تحتاج إلى شروط ومقومات بدون توفرها تتحول كل محاولة إصلاحية إلى ترقيع أو إفساد يأتي على إيجابيات الأمر المراد إصلاحه، فنسقط في حلقة مفرغة من الإصلاح وإصلاح الإصلاح، كما هو حال غالبية الدول العربية، حيث دخلت منذ حصولها على الاستقلال في دوامة من المشاريع الإصلاحية، وجربت العديد من النظم الإيديولوجية، الاشتراكية والرأسمالية والقومية والإسلامية، دون أن يتمكن أي منها من تحقيق الطفرة الاجتماعية والتقدم الاقتصادي والاجتماعي المنبني على أسس معرفية علمية.
ولا يمكن نسبة الكوارث التي حلت بدول المنطقة العربية من حروب أهلية بين دولة وأخرى وانقلابات وفوضى وتدخل أجنبي…إلى الإيديولوجيات والعقائد التي ادعت الطغمة الحاكمة أنها تنهل منها في تنزيل الخطط السياسية والاجتماعية، بقدرما يتعلق الأمر بطبيعة الحكم نفسه، وطريقة تمثل وفهم هذه العقائد وشكل توظيف مبادئها لغاية خدمة المشروع التنموي.
لا أحد ينكر أن النظام الاشتراكي بمقولاته المبنية على العدالة الاجتماعية والاقتصاد المخطط وتدخل الدولة المفرط قد ارتقى بمجتمعات إلى مصاف الدول الكبرى على مستوى التقدم التقني والعلمي والبناء الحضاري بشكل العام، وما النموذج الصيني الذي خفف نسبيا من صرامة بعض المبادئ الاشتراكية، عنا ببعيد، نفس الشيء يقال بالنسبة للنظام الرأسمالي بكل براديكماته هو الآن النظام المنتصر، تبنته دول عربية كثيرة منها المغرب وتونس في الوقت الذي تبنت دول أخرى النظام الاشتراكي كالجزائر ومصر قبل أن تتحول إلى النظام الرأسمالي، لكن بعد مضي عقود، كل هذه الدول تجد نفسها وبشكل متقارب في ذيل قائمة مؤشرات التنمية الاجتماعية، ولم تكن الدول التي ادعت تبنيها للنموذج الإسلامي في الحكم، بأحسن حالا، كالعربية السعودية والسودان، فالأولى حيث تزاوج حكم آل سعود مع الفهم السلفي الوهابي للإسلام لينتج نظاما يماثل نظام الإكليروس القروسطي، الدور الأساسي لشيوخ الوهابية هو شرعنة السلوك السياسي للحكام الذين يرون أنهم يمثلون النموذج الإسلامي في الحكم، بينما لا يتعدى هذا العنوان التمظهرات الخارجية للإسلام، أما عمق المجتمع فيئن تحت ضغط الاستبداد السياسي والظلم الاجتماعي والفساد المالي….أما السودان أثناء حكم جعفر النميري فلم ير من الإسلام إلا الحدود فشرع في تطبيق حد السرقة وحد الزنا … ولم يلتفت إلى حد فساد الحكام وإلى عدالة الإسلام وشوراه ليكرس بذلك حكما استبداديا لا يبتعد عنه النظام العسكري الحالي الذي، عندما انقلب على الحكم عام1989، ادعى هو الآخر الثورة الإسلامية وتحالف مع أقوى حركاتها أنذك، قبل أن يلفضها ويرمي بقياداتها في السجن، مرسخا لحكم عسكري غير تداولي للسلطة.
وبالتالي يمكن القول أن العيب ليس في العقيدة التي تستند إليها النظم في الدول العربية، ولكن عيبها هي أنها كلها دكتاتورية مستبدة تسلطية شمولية، مع اختلاف النسب بالطبع، تتدثر بلبوس الجمهورية وهي في العمق ملكية عندما يسعى الرئيس إلى نقل السلطة إلى ابنه، وتدعى تداول السلطة وهي في الحقيقة تؤسس للرئيس والزعيم القائد مدى الحياة، وتقول بالديمقراطية والبرلمانية والدستورية، وهي تعتبر أن الشعوب غير مؤهلة للديمقراطية، بمفهوم المخالفة أنها مؤهلة فقط للاستبداد.
إذن في ظل هكذا تمثل للحكم لا يمكن للإصلاح أن يؤتي ثماره، وقادته ينظرون إليه من زاوية رؤيتهم لعلاقات السلطة وفهمهم للحكم ونظرتهم للشعوب، إذ هم رعايا دورهم الامتثال لقرارات الحاكم والتصفيق لإنجازاته والدعاء له بالصلاح وبالنصر على أعدائه الداخليين والخارجيين، وكل قول غير ذلك معارض أو منتقد، فهو محاولة لشق عصى الطاعة وزرع الفتنة وتفتيت الصف الوطني وخدمة الأجندة الخارجية إلى غير ذلك من التهم الجاهزة التي يتفنن النظام في إلصاقها بالمعارضين، وينزلها جهاز قضائي غير مستقل في شكل أحكام ترمي بالأصوات الحرة في غياهب السجون أو تضطرهم إلى الفرار إلى الدول الغربية ليقضوا بقية حياتهم في وضع اللجوء السياسي والاغتراب الاجتماعي.
في ظل هذه الأوضاع المغلقة للأنظمة السياسية العربية لا يمكن أن نتحدث عن الإصلاح بمفهومه الحقيقي، رغم أن بعض الخطط في هذا المجال أو ذاك حققت بعض النجاح الظرفي في هذه الدولة أو تلك، كالإصلاح الزراعي في مصر في فترة حكم جمال عبد الناصر، لكنها لم تستطع تؤسس للطبيعة التراكمية للإصلاح بعد نكوص نظام أنور السادات عن النموذج القومي الناصري وتوجهه إلى النموذج الغربي الرأسمالي.
الإصلاح الذي يمكن أن يحقق الانتقال الإيجابي للمجتمعات من حالة الارتخاء والهامشية في المشهد الحضاري العالمي إلى حالة الجاهزية والتيقظ والإسهام في المنجز الإنساني، ينبغي لزاما أن تتوفر شروطه وموجهاته، ومن بينها:
1- البيئة المساعدة: لا يمكن الحديث عن إصلاح شامل دون أن تتوفر بيئة ومساحة دنيا من الانفتاح السياسي تمكن من حرية الرأي والفكر والنقد، وبطبيعة الحال، لا ينتظر من الحكم الاستبدادي أن يفكك آليات التسلط من تلقاء نفسه، بل إن ذلك رهين بمدى ذكاء وتفطن المجتمع المدني والسياسي الذي يجب أن يمارس ضغوطا قوية وكثيفة لإرغام السلطة السياسية على تقديم تنازلات في شكل إصلاحات سياسية لن تكون صريحة في تبني النموذج الديمقراطي في الحكم، لكنها تساهم ولا شك في تسجيل نقاط في اتجاه محاصرة البنية الاستبدادية وهذا ما يسميه عالم السياسة ألفريد ستيبان تآكل السلطوية ، ولن يتأتى ذلك بدون التعبئة العامة للجماهير عبر إشاعة الوعي السياسي المنفتح على قيم الحرية والديمقراطية، وكشف عيوب ومخاطر الممارسة التسلطية في الحكم في ارتباطاتها العضوية بالفساد المالي والإداري لأجهزة الدولة، وفي هذا الاتجاه يمكن استثمار الهوامش الواسعة التي أتاحتها الوسائل الجديدة للتواصل والإعلام. إن هذ المسار التوعوي البنائي ليس سهلا ولا بالطريق القصير، لذلك يحتاج من نخب المجتمع المتنور، التي يفترض أن تطالب وتقود الإصلاح، أن تمتلك الصبر والنفس الطويل وأن تؤمن بالتدرج في الإصلاح كسنة كونية،
2- تحقيق الإصلاح ليس مرتبطا بفئة دون أخرى ولا بمجال دون آخر، لذلك يتطلب إجماعا من نخب المجتمع والتفافا من قواه الحية من أحزاب سياسية ونقابات وجمعيات وجماهير…فبعد أن تمت عملية هدم منظم لبنية المجتمع، بدرجات لم تحدث من قبل، من قبل النظام، لم يعد المجتمع يملك الكثير من الكيانات التي تسمح بتنظيم الفعل الجماعي في ظل أفق فكري محدود مشدود إلى المعيش اليومي ومرتبط أيما ارتباط بالمصلحة الفئوية، لذلك فالمطلوب أن تبدأ مبادرات جماعية، تخرج الناس من حالة السلبية إلى حالة الفعل، ومن حالة الانتظارية إلى حالة التوثب ومن ضيق الفئوية إلى ساحة الوطن،التي تتسع لكل الاختلافات في الرأي والموقف والتصور، بعد التوافق حول آليات التغيير ووسائل الإصلاح التي ينبغي لزوما أن تبلور استنادا إلى التشاور والتشارك والقبول بالرأي المخالف، وفق خطة وبرنامج عمل محكم الصياغة، منطلقه ومنتهاه الأسلوب الديمقراطي، باعتبار الديمقراطية هي صمام الأمان لحل كل الخلافات ومواجهة كافة أشكال الاضطراب والعنف التي قد تعصف المجتمعات .
3- حقيقة الإصلاح المنشود: منذ الاصطدام بالحضارة الغربية، بعد حملة بونابارت على مصر، وأطروحات الإصلاح والنهضة تردد على لسان المفكرين والمصلحين، من أمثال محمد عبده والأفغاني وأحمد أمين…وبعد كبوات الاحتلال التي ابتليت بها أغلب الدول العربية، ظهرت مفاهيم أخرى كالحداثة التي اشتغل عليها الفكر السياسي والعقل العربي لمدة طويلة بوصفها مشروعا يمكن أن يدخل الأمة العربية إلى التاريخ الحضاري للأمم، دون أن يكون لذلك أثر على طبيعة الدولة وحالة المجتمع الذي استمر في إنتاج أزماته،”ولعل الوجه الأبرز للأزمة التي تتخبط فيها البلاد العربية إنما يعود إلى ما أسماه الباحث الفرنسي سيرج لاتوش بالتحديث دون حداثة، أي تلك المفارقة العجيبة بين رغبة جامحة في الأخذ بأدوات التحديث لما يجلبه من ممكنات الضبط والنجاعة التي تستهوي نخب الحكم الراغبة في مد أذرعها الاستحواذية على المجتمع، ولكن مع العدول عن الأخذ بأبعاد الحداثة السياسية والاقتصادية مثل الحريات السياسية والفكرية، والفصل بين جهاز الدولة وشخص الحاكم، وضمان استقلالية المجتمع المدني عن المجتمع السياسي وتقييد الحكم بسلطة القانون، واستقلالية السوق عن الإرادة التحكمية للدولة,,,”
4- أولوية إصلاح التعليم: لعل تردي مستوى التعليم من الأسباب التي جعلت البنية الذهنية للشعوب العربية تتبلد، وذاك ما راهن عليه الاستبداد في إدامة وإشاعة عقلياته وأسلوبه في الفهم والإدراك، حتى انتقل عنف الدولة تجاه المجتمع إلى عنف المجتمع ضد نفسه، وتحول تسلط النظام على الشعب إلى تسلط بين فئات الشعب نفسه، وغدا بذلك التسلط عملة رائجة داخل الجامعة كما داخل الأسرة، من تم يبدو البحث في إشكاليات التعليم من أولويات الخطاب الإصلاحي، فالمشروع الإصلاحي لا يمكن أن يستوعبه ويتمثله الأميون وأنصاف الأميين من خريجي أغلبية المؤسسات التعليمية الرسمية التي تنمي في الناشئة ملكة النقد والإبداع وطرح السؤال، عوض حشو الذاكرة بالمعلومات دون مسائلة مدى صحتها، ومن تم تحتاج بيئة الإصلاح إلى “مجال ثقافي يبتدع ويحلل وينقد ويعيد صوغ الأسئلة وفق ما يفرزه المعيش ويراكمه التاريخ”. ،فلا يمكن للإصلاح أن ينجح دون محتوى ثقافي يقرأ الموروث قراءة نقدية تحليلية وينفتح على التجارب الإنسانية بشكل عقلاني مستحضرا شروط الواقع وإمكانيات الاستفادة من المشترك الإنساني في الفكر والسياسة والعلم والتكنلوجيا.فباستحضار ما يزيد على قرن من تاريخ العرب الحديث والمعاصر، يتضح كيف فشلت كل تجارب إعادة التمثل الأعمى للماضي باعتباره النموذج الأمثل في الحكم والتنظيم، وكيف انتكست كل دعاوى القطع مع هذا الماضي بسلبياته وإيجابياته والارتماء الأرعن في أحضان الوافد دون تمحيص ولا انتقاء، فسقطت هذه التجارب في أزمة الرفض الاجتماعي لأن المقاربة لم تكن سليمة في كلتا الحالتين.
إن إهمال التعليم أو إفراغه من محتواه الثقافي الإبداعي، جعل منه وسيلة من وسائل كسب العيش وفي أحسن الأحوال آلية للارتقاء الاجتماعي والخلاص الفردي، وأفقده دوره التغييري الفردي والجمعي، الذي يوفر البيئة الصحية للتحول الاجتماعي العاقل في السياسة كما في المجتمع والاقتصاد.
5- احترام مبدأ التراكمية والتدرج: إذا كانت الثورة ظاهرة اجتماعية هوجاء عاصفة وفجائية، فالإصلاح عملية مستمرة في الزمان وفي المكان، قد يكون بطيئا فلا يشعر به المجتمع، وقد يحقق الطفرة أحيانا فيبدو على شكل قرارات واضحة، يستفيد منها المواطن في بعض من مجالات حياته، لذلك فإن عقلانية الإصلاح تأتي من كونه يؤمن بالتدرج والتراكمية، فالمغرب لم يسو ملف حقوق الإنسان إلا بشكل تدريجي، فبعد ما كان نظام الحكم ينكر وجود ظاهرة الاعتقال السياسي والاختفاء القسري، اضطر تحت الضغط الخارجي ونشاط المجتمع المدني إلى إقفال معتقل تازمامارت وغيره، وإحداث هيأة رسمية (وزارة- مجلس استشاري) تعنى بحقوق الإنسان، وبانتقال الحكم إلى الملك محمد السادس، بدت إرادة الدولة في طي الماضي الأسود لحقوق الإنسان بإحداث هيأة المصالحة والإنصاف التي عقدت جلسات استماع لفائدة الضحايا الذين استفادوا من تعويضات قدمتها لهم الدولة، ليسجل المغرب بذلك طفرة حقيقية في هذا المجال بإصدار دستور يوليوز 2011.
وبالتالي فإن المشروع الإصلاحي قد يستفيد من بعض منجزات النظام الاستبدادي، نفسه الذي كلما اضطر إلى فتح المجال السياسي بهذا القرار أو ذاك، إلا وارتفع سقف مطالب المجتمع التي لا تعرف حدودا، سيما إذا كانت رؤية الإصلاح واضحة لنخبه، متجلية لجماهيره العريضة.
إن ما ينعم به المغرب حاليا من انفتاح سياسي، قد انطلق ولا شك منذ البدايات الأولى للاستقلال عندما استمات القصر في رفض فكرة الحزب الوحيد أو المهيمن التي انتصر لها حزب الاستقلال أنذاك المستقوي بتاريخه الوطني واقترابه من جيش التحرير، وكرس (القصر) التعددية السياسية، رغم أنها لم تكن تعددية حقيقية قائمة على انتخابات حرة وديمقراطية، لكنها عبر التراكم والتدرج أوصلت إلى السلطة من كانوا محكوما عليهم بالإعدام، ومن كانوا ممنوعين من التنظيم السياسي.
إن هذه القرارات التي فطن إليها الملك الراحل الحسن الثاني، أو تلك التي حالفه الحظ فيها عند إفشال محاولات انقلاب كثيرة، خطط لها العسكر، هي من أبقت المغرب دولة مدنية، مؤهلة أكثر من غيرها لتمثل المشروع الإصلاحي في أرقى تجلياته. لكن ذلك بطبيعة الحال لا يزيل الطبيعة الاستبدادية لنظام الحكم في المغرب، بنسب متفاوتة طيلة تاريخ حكم الراحل الحسن الثاني.
من خلال ذلك، يمكن القول أن النموذج الإصلاحي يراكم كل التغييرات الإيجابية ولو كانت من إنجاز أعداء التغيير أنفسهم، ويبني على هذه التراكمات في التقدم إلى الأمام، ولا ينسحب من الميدان لهذه الدعوى أو تلك، فالأحزاب الوطنية في المغرب ظلت تخوض الانتخابات، رغم علمها المسبق بأن النظام المخزني كان يكيفها كيفما يريد، ويعبث في المشهد الحزبي كيفما يشاء، رغم ذلك ظلت النخب الوطنية جاهزة لكشف هذه العبث من داخل مؤسسات الدولة أو من خارجها رغم المضايقات والمحاكمات، قبل أن يتكرس انفراج سياسي ساهم فيه انتقال الحكم سنة 1999، وحراك فبراير 2011، ليظل مطلب الإصلاح حاضرا في خطاب النخب كما في المتخيل الجمعي للشعب المغربي، قد يتخذ شكل مطالبات بالتنزيل الديمقراطي للدستور، أو إقرار ملكية برلمانية أو محاربة الفساد واقتصاد الريع أو توسيع هامش الحقوق والحريات إلى غير ذلك من المطالب التي يرتبط تحقيقها بمعادلة القوة بين نظام الحكم والقوى الحية بالمجتمع، المتأثرة هي الأخرى بمدى نضج البيئة المشجعة على الإصلاح.
على سبيل الختم:
إن “الحراك الثوري” الذي انطلق منذ نهاية عام 2010، في مناطق متعددة من العالم العربي، يعد محطة تاريخية مفصلية في الشعور الجمعي لشعوب المنطقة، فعلا علقت عليه آمال عريضة في الانتقال بالمجتمعات التي عاشته إلى الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، وكسرت حاجز الخوف الذي ظل جاثما بقوة على شعوب اعتقد البعض أنها غير مؤهلة لتبني الديمقراطية، لكن إكراهات الواقع المأزوم والتاريخ التحكمي للنظم السياسية بالمنطقة، كان له قول آخر، لترتمي بعض أجزاء المنطقة في حروب أهلية واضحة المعالم، وتطفو الانتماءات البدائية بديلا عن الدولة المنهارة، أو يعود النظام الاستبدادي بلبوس جديد، ويستمر الوضع في إنتاج الأزمات، ويعود بذلك صوت التغيير والإصلاح إلى الخفوت في انتظار اتضاح معالم الوضع بعد تدويل العديد من النزاعات الداخلية، وانخفاض سقف المطالب إلى حدودها الدنيا المتصلة بالأمن ورغيف الخبز، لكن معركة التغيير والإصلاح، هي جولات متصلة ومتلاحقة من الهزائم والانتصارات، يشهد التاريخ والتجارب الإنسانية أن الحسم فيها يكون دائما عاجلا أو آجلا لفائدة الشعوب.