الحجاج العاطفي في الخطاب السجالي: مقاربة حجاجية للردود حول كتاب
صحيح البخاري نهاية أسطورة لرشيد أيلال
The emotional argumentation in the polemical discourse: An argumentative approach to the responses to the book “sahih Al-Bokhari.. the end of myth.
ياسين الشعري ـ عبد المالك السعدي ـ المغرب
yassin chaariـ university abdelmalek essaadi ـ Morocco
مقال منشور في مجلة جيل الدراسات الادبية والفكرية العدد 71 الصفحة 43.
الملخص:
يروم هذا البحث دراسة السجالات التي أثارها كتاب ’’صحيح البخاري.. نهاية أسطورة’’ لرشيد أيلال، انطلاقا من منظور حجاجي، يراهن أساسا على الكشف عن الحجاج العاطفي في هذه الخطابات، نظرا لكونها تنزع إلى إثارة انفعالات المتلقي والاستحواذ على عواطفه، فتستخدم اللغة في انزلاقاتها وتحولاتها الدلالية، لتغدو آلية للتضليل وبسط الهيمنة ونفي الآخر وتدميره، والعمل على إنهاء حضوره ووجوده. إنها خطابات تحفل باللغة الانفعالية، فالمساجل عادة ما يصوغ خطابه بطريقة تهدف إلى تحريك عواطف المتلقي (الخصم والجمهور)، للتأثير فيه وحمله على التسليم بالدعوى والأخذ بها.
الكلمات المفتاحية: الباطوس، الحجاج، الخطاب، السجال، العنف اللفظي، الخطاب العاطفي، التواصل، الحوار…
Abstract
This research aims to approach the polemical discourse by Rashid Ailal’s book ” Sahih Al-Bukhari the end of a myth”, based on an argumentative rhetorical, revealing the emotional argumentation in these discourses that tend to provoke the emotions of the recipient. They are speeches full of emotional language, so speaker usually formulates his speech in a way that aims to stir the emotions of the addressee, to influence it and make him accept the claim and be convinced of it.
key words pathos, argumentation, discourse, polemic, verbal violence, Emotional discourse, communication, Dialogue.
مقدمة:
يعد الخطاب السجالي شكلا من أشكال التفاعل الخطابي، وحدثا تلفظيا، يعتمد على أقوال تتضمن أفعالا إنجازية لها قدرتها الخاصة على تحقيق القصد المشترك بين خطاب الأنا وخطاب الآخر( ). ويتشكل من الفعل ورد الفعل، فعل القول بوصفه فعلا يثير العملية السجالية، ورد الفعل بوصفه استجابة تكمل دائرة هذه العملية( ). ويحيل في الغالب على معنى المبارزة بين الخصمين، ويشي بنوع من الصراع والعداوة بينهما، فكل خطاب سجالي – كما يقول Garand))- مستمد من صراعٍ( ) يُجسد فكرة الحرب التي يتضمنها المعنى اللغوي للسجال، حيث تتحول فيه الفكرة في عملية سجالية إلى خطاب( ) يستخدمُ اللغة في انزلاقاتها وتحولاتها الدلالية، ويهتم بجانبها العاطفي اهتماما واسعا، فتغدو كل إمكانية من إمكاناتها محملة بالعاطفة وحاملة لها.
ولما كان الأمر كذلك، فإن اهتمامنا في هذا البحث سيتمركز أساسا حول الكشف عن كيفية تشكل الباطوس في سجالات المحافظين وردودهم على (رشيد أيلال)، فقد عمد هؤلاء إلى إثارة عاطفة المتلقي والنوازع الكامنة فيه، لأن الانفعالات تساعد المتلقي على اتخاذ قرار ما، ويُقْصد بها «الأسباب التي تجعل الناس يغيرون أحكامهم، وتلزم عنها اللذة والألم، مثل الغضب والشفقة والخوف وسائر التأثيرات الأخرى»( )، فكثير من الناس لا يمكن تغيير مواقفهم استنادا إلى حجج عقلية (اللوغوس)، ولكنهم يصبحون على استعداد لذلك إذا شاركتهم مشاعرهم، فالقدرة على الإقناع ـ كما يقول (ميشيل ماييرMechel Meyer )ـ تقتضي المعرفة بما يمكن أن يحرك الذات التي نتوجه إليها بالخطاب، أي معرفة ما يحركها( ).
غير أن مؤول الخطابات الحجاجية لا يجد في البلاغة القديمة ما يمكن أن يتزود به من أدوات تسعف في تحليل التقنيات اللغوية والأسلوبية التي تبني الأهواء،( ) لذلك سنستند إلى طرح (كريستيان بلانتان Christian Plantin) الذي انتهى في تصوره لبلاغة الأهواء إلى إقامتها على مبدأين هما: ملفوظات الانفعال، الذي استعاره من النظرية التوليدية ومن النظريات المعجمية والنحوية التي اهتمت برصد الأفعال المعبرة عن الانفعالات، من خلال وصف المعجم المعبر عنها. ( )ومواضع الانفعال، ويتعلق الأمر هنا بملفوظات لا تحتوي على لفظ من ألفاظ الانفعال، ولا على تعبير يمكن أن نستشف منه انفعالا معينا، ولكنها رغم ذلك تستطيع أن تثير عاطفة المتلقي، فتلك الملفوظات لا تعين الانفعالات بأسمائها ولا تشير إليها بما ينجم عنها من آثار نفسية وفيزيولوجية، بل نحن إزاء ضرب من التوجيه الانفعالي مداره على وجود سمات انفعالية، بها يتجه الملفوظ نحو التعبير عن انفعال ما وبفضلها يغدو حجة تبرره. ( ) فما هي أهم العواطف التي أثارتها الردود حول كتاب رشد أيلال ’’صحيح البخاري.. نهاية أسطورة’’؟ وما الغاية منها؟ هل هي غاية إقناعية تسعى – من خلال إبرام علاقة اتفاق مع المتلقي- إلى التأثير فيه وإقناعه بالعدول عن أمر ما وتبني أمرا آخر؟ أم غاية عدوانية تنشد إفحام الآخر وتخويفه، عبر احتفائها بالعنف اللفظي وانزلاقات اللغة؟
1ـ البناء الحجاجي للباطوس في الخطاب السجالي
يتوخى المساجلون في خطاباتهم على اختلاف أنواعها (التصريحات، المقالات، خطابات منصات التواصل الاجتماعي) التأثير إما في الخصم أو في الجمهور عامة، أو فيهما معا، فهم إذ يتوجهون بخطاباتهم إلى المستمع يكون قصدهم إثارة انفعالاته واستدرار عاطفته، والتحكم فيها، لتوجيهه الوجهة التي يريدون، إما للقيام بفعل ما، أو تجنب آخر. ويرتبط الأمر في هذه السجالات بقضية خلافية شائكة، تتطلب اتخاذ موقف، قد يكون مؤيدا لموقف أيلال الذي يعتبر فيه البخاري مجرد أسطورة أخذت عند المسلمين أكثر مما تستحق، أو قد يكون معارضا، يتشبث بالبخاري وينافح عنه… لذا كان التحكم في عواطف المتلقي وسيلة من وسائل التأثير فيه وحمله على القيام بالفعل. أمام هذا القصد لجأ المساجلون إلى انتقاء جملة من الملفوظات ذات الطبيعة الانفعالية الوجدانية، سواء كانت حاملة للانفعال، أي تعبر عنه بطريقة مباشرة أم غير مباشرة، أو تكتفي بالإيحاء به فقط. ويتمثل القصد من وراء هذه الملفوظات في بناء متوالية من الانفعالات، تتقصد تحريك نفوس المتلقين، إما من خلال إثارة نوازع الخوف عبر خطاب التحريض، أو إثارة النقمة والسخط على رشيد أيلال، أو الإيهام بالشفقة، أو إغراء المتلقي وإغوائه، بالإضافة إلى ذلك ثمة ملفوظات لا تتضمن لفظا من ألفاظ الانفعال، ولكنها مع ذلك لا تعرى عن إثارة العاطفة، فهي تتضمن ما سماه بلانتان مواضع الانفعال… ولعل ما يمكن أن نلاحظه على الانفعالات التي تثيرها خطابات المحافظين هو تداخلها وتلازمها مع بعضها، لدرجة يصبح معها عزل انفعال قائم بذاته أمرا في منتهى الصعوبة، ذلك لأن من شأن خطاب عاطفي ما أن يثير انفعالين، مثل التحريض الذي يثير عاطفتي الخوف من جهة، وعاطفة الغضب من جهة أخرى، فحينما يلجأ المساجل إلى تحريض جهة عليا على خصمه يثير فيها انفعال السخط والغضب على هذا الخصم، مما يستوجب معه إثارة خوف الخصم، وهكذا.
في المقابل نلمس حضور انفعال الغضب وانفعال الخوف بصفتهما انفعالين قائمي الذات… كما يلاحظ تنوع الأهواء المثارة في هذه الخطابات، ويُفَسَّرُ ذلك بتهجم أيلال على صحيح البخاري الذي يعد عند المسلمين أصدق كتاب بعد كتاب الله، فالقضية تمس الأمة الإسلامية جمعاء، أي إنها قضية دينية روحانية، لذلك فالمخاطَب في هذه السجالات هو كل مسلم متشبث بدينه وبثوابته ومرتكزاته، وبطبيعة الحال فالخطاب الذي يتوجه إلى العامة يكون غنيا بإثارة انفعال المتلقي واستدرار عاطفته… ومن بين أهم الأهواء التي تعمل خطابات المحافظين على توليدها ما يأتي:
1ـ 1ـ خطاب التحريض وإثارة الخوف والغضب
نقصد بخطاب التحريض هنا: ذلك الخطاب الذي يسعى إلى التخويف من خلال الحض على العنف والدعوة إلى التحيز ضد الشخص. وهو عبارة عن فعل فاعل ـ لنسميه هنا: المحرِّض ـ يدفع آخر (المحرَّض)، من خلال العمل على إثارة انفعال الغضب الكامن فيه وتهييجه، إلى فعل شيء أو اتخاذ قرار ما ضد شخص آخر (المحرَّض عليه). وتحذوه من وراء ذلك رغبة في تحقيق الهيمنة وبسط السيطرة، لذلك يقترن بالعنف، فيغدو خطابا عدوانيا هدفه قمع الخصم وإلجامه وإلحاق الأذى به.
ولعل التحريض من أهم المقاصد التي تتحرك لأجلها خطابات المحافظين السجالية، التي تتوخى إثارة خوف رشيد أيلال ليعدل عن رأيه حول صحيح البخاري، أي إن التحريض هنا وظيفته إثارة عاطفة الخصم من خلال بعث الخوف في نفسه، وجعله تعلة لتغيير المواقف والآراء. فالتحريض هو خير وسيلة لإيقاف رشيد أيلال عند حده، ويتخذ في هذه الخطابات مظاهر متعددة، بين التحريض على القتل والتحريض على حرق الكتاب، والتحريض على السجن وغير ذلك. كما يعمل على إثارة غضب الجهة التي يتوجه إليها المتكلم بالخطاب، من خلال تحريضها على اتخاذ موقف من رشيد أيلال.
يلحظ المتأمل في هذه السجالات أن خطاب التحريض يغتني بذكر الملفوظات التي تُعبر عنه صراحة، وذلك بغية إنشاء بناء حجاجي قوامه عاطفة الخوف من جهة، الرهينة هنا باستشعار أيلال بالخطر المحدق به، وعاطفة الغضب والسخط من جهة أخرى، المرتبطة بالجهة المتوجه إليها الخطاب، التي يدعوها المتكلم إلى ضرورة اتخاذ موقف بشأن رشيد أيلال، إما بسجنه، أو بمنع كتابه وحرقه، أو بإنزال العقوبات الجسدية به، أو بمواجهته والرد عليه… ويمكن حصر ملفوظات التحريض التي تتضمن لفظا من ألفاظ العاطفة الواردة في خطابات المحافظين في ما يأتي:
– »وددت لو أن الدولة هنا تحدث لجنة علمية من أجل تتبع أمثال هذا الرجل […] وأن يستدعوا وأن يستتابوا وأن يعلموا […] قبل الوصول إلى إنزال العقاب بهم بما يستحقون، لأن الأمر لا ينبغي أن يبقى هكذا، هذا يتطاول على محكمات الكتاب، وهذا يتطاول على محكمات السنة، وهذا يتطاول على أئمة التفسير، ما هذا؟ هل هي فوضى؟ هل هي فوضى؟؟ « ( ).
– »فهل في هذه المملكة من يوقفه عند حده؟ ويوقف أمثاله عند حدهم؟ أم أن الأمر فوضى؟ ولا يمكن أن يبقى فوضى، لا بد من إيقاف هذا النزيف « ( ).
– »ووالله لو حصل مثل هذا الفعل الشنيع في عهد حاكم غيور على الدين ما كان جزاء صاحبه إلا أن يجلد ظهره ويقمع شره، ويقطع دابره، ليتعظ به غيره « ( ).
– أين أنتم يا معشر المسلمين لتشعلوا مواقع التواصل مستنكرين على هؤلاء المتجرئين على مقدساتنا»( تعليق). «
– أين المجالس العلمية لتأخذ على يده وتمنع هذه المهزلة العظيمة؟» (تعليق « (
– «[..] ونطالب الجهات الوصية على الأمن الفكري والروحي للمغاربة بالتحرك لتأديب من سولت له نفسه الطعن في ثوابتنا، فهذا الكاتب ومن وراءه يسعون إلى فتنة المغاربة في دينهم ويطعن بشكل مباشر في ثوابت الأمة. وأنا أتساءل أين هو دور المجلس العلمي الأعلى، ووزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في مواجهة مثل هذا الإجرام الذي يوجه إلى السنة المطهرة على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم»( ).
– «[..] نوجه نداء مباشرا لأمير المؤمنين – وفقه الله وحفظ به دينه – باعتباره حامي حمى الدين دستوريا أن يوقف هذا الإجرام ويؤدب الجناة على مسهم بثوابت الأمة»( ).
يؤسس خطاب التحريض لانفعال الخوف والفزع من خلال إيراد مجموعة من الألفاظ التي تثير الخوف، والتي يغلب عليها طابع العنف والعدوانية، من قبيل (يوقفه عند حده، يجلد ظهره، يقمع شره، يقطع دابره، التحرك لتأديب، يؤدب الجناة…)، وهي ملفوظات تشكل هذا الهوى وتعلن عنه صراحة، ويعد الضمير (هو) هو الموضع النفسي، في هذه الملفوظات، وهو موضع القيام بالفعل، وهذا الضمير بإمكانه أن يدل على شخص محدد، كما يمكن أن يدل على الجمهور ككل، أما المستهدف من وراء هذه الملفوظات التحريضية فهو رشيد أيلال، الذي ترغب في إيذائه وممارسة العنف ضده، لإرغامه على العدول عن موقفه من البخاري، أي إن التحريض هنا ذو وظيفة إرغامية، لا تتورع عن استخدام العنف أو التحريض لحمل الخصم على الدعوى، ومسوغ ذلك العواقب الوخيمة التي من الممكن أن يجنيها على نفسه إذا هو لم يتراجع عن رأيه.
كما يؤسس هذا الخطاب أيضا لعاطفة الغضب والسخط، حينما يتوجه به المتكلم إلى سلطة عليا (الملك، الدولة، الجهات الوصية على الأمن الفكري والروحي، المجلس العلمي الأعلى، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية)، أو جماعة ما (معشر المسلمين)، لإثارة نقمتها وسخطها على رشيد أيلال والتدخل لإيقافه عند حده، وإرغامه على التنازل عن دعواه الماسة بصحيح البخاري، أحد أهم أركان الإسلام عند المسلمين بعد كتاب الله. إن هذا التوجه بالخطاب إلى هذه السلط مدعاة لإثارة نقمتها، وإشعارها بالأخطار التي من الممكن أن تهدد الأمن الروحي للمسلمين. ويسوغ هذا الغضب حجاج سببي يتعلق بنقد أيلال لكتاب صحيح البخاري، وتطفله على الحديث النبوي، لذلك فالمخاطب عمل على الاحتجاج للشعور الذي يريد إثارته، وهو احتجاج يزيد من حدة غضب الطرف الموجه إليه الخطاب، فقول الفيزازي محتجا لعاطفة الغضب «لأن الأمر لا ينبغي أن يظل هكذا…» هو قول يلمس وجدان المتلقي، ويدفعه بالتالي إلى اتخاذ قرار ما بشأن أيلال. ولعل ما يلفت القارئ في هذه الملفوظات التي تتوجه إلى هذه السلط العليا حضور الاستفهام (فهل..؟، وهل…؟، أين…؟ أين؟..)، وهو استفهام يراد منه إيقاظ هذه الجهة وجعلها منخرطة بدورها في هذه المسألة، واستشعارها بأنها معنية بالأمر، فبصفتها قائمة بأمور العلم والمسلمين فإنه من واجبها التدخل لإيجاد الحل، ومواجهة من سولت له نفسه المس بتعاليم الدين الإسلامي، وردعه عن ذلك.
وبالإضافة إلى التعبير عن التحريض بالألفاظ الانفعالية الصريحة التي وقفنا عندها أعلاه تلجأ هذه الخطابات أيضا إلى الإيحاء، واستخدام تعابير تضمر العاطفة المتوخى إثارتها، ولا تصرح بها، من هذه التعبيرات: « لتأخذ على يده»، فهو تعبير كنائي، لا ينطق بالعاطفة، وإنما هو بمثابة تعبير مجازي حل محل التعبير الحقيقي «لتمنعه مما يريد أن يفعله»، وهذا التعبير التحريضي مقصده إثارة خوف الخصم، دون أن يتضمن لفظا انفعاليا ولا أثرا نفسيا…
هكذا، فالتحريض ــ بوصفه فعلا ــ يأخذ في الخطاب السجالي للمحافظين السيرورة الآتية:
1ــ العنصر الأول: المحرِّض: المحافظون؛
2ــ العنصر الثاني: المحرَّض: الجهات والهيآت العليا (وزراة الأوقاف، الملك، المجالس العلمية…)؛
3ــ العنصر الثالث: المحرَّض عليه: رشيد أيلال؛
4ــ العنصر الرابع: الأمر الموجب للتحريض: كتاب “صحيح البخاري .. نهاية أسطورة”.
وتجمع بين هذه العناصر علاقات متعددة، يمكن توضيحها في الترسيمتين الآتيتين:
الشكل 1:
المحرِّض المحرَّض = الغضب
المحرَّض المحرَّض عليه = الخوف
الشكل 2:
فعل التحريِض
الانفعال:
الغضب الخوف
المحرَّض المحرَّض عليه
1ــ2ـ خطاب الغضب وإثارة النقمة والسخط
لما كان الغضب هو ذلك «الأثر النفساني [الذي] تحدثه رغبة محركة، دافعها الألم إلى الانتقام، من أجل احتقار أصاب شخصا في ذاته أو من يمت إليه بصلة نسب»( )؛ ولما كنا نغضب ضد من يحتقر ويحط من قدرنا أو قدر من يعنينا أمره، فمثلا من يعتز بالفلسفة؛ فإنه قد يقلق على من يطعن فيها؛ ومن يتباهى بالجمال، قد يضجر متى نظرنا إليه بعين القبح»( )؛ فإن المحافظين يسعون ـ في خطاباتهم السجالية المناهضة لخطاب رشيد أيلال ـ إلى إثارة غضب الجمهور المسلم المتشبث بدينه الإسلامي، لكي لا يلتفت إلى دعوى أيلال إلا بالرد المناقض لها، وألا ينساق وراء ادعاءاته. وخير وسيلة لذلك هي توجيه الخطاب إليه، وإشراكه في اتخاذ القرار، وجعله طرفا معنيا بالأمر. فهذه الخطابات تستحضر الجمهور، وتشعره بالمسؤولية الموضوعة على عاتقه. وهو ما يجعلها تعين المتلقي لخطاباتها بقولها: “يا معشر المسلمين”، أو تستعيض عن ذلك بضمير الجماعة “أنتم” أو “نحن” أو “نا الجماعة”، توخيا لخلق التطابق وعقد الصلة بين “المتكلم” والجمهور المسلم.
وتُمعن خطابات المحافظين في إيراد تعبيرات تجعل من أمر إثارة غضب الجمهور ونقمته على رشيد أيلال أمرا منتظرا، لذلك فهي لم تتورع عن سلوك مسالك عدة لأجل إثارة نوازع الغضب الكامنة في نفوس الجمهور، بدءا بتحريضه على أيلال الذي وقفنا عنده وبينا جانب الغضب الكامن فيه، وصولا إلى الربط بين المتكلم والجمهور حتى يغدوَا في هذه الخطابات لحمة واحدة، وانتهاء بوصل المتكلم بين رشيد أيلال وبين أشخاص آخرين ممن عرفوا بمعاداتهم للدين الإسلامي وللسنة النبوية، كرشيد المغربي والشيعيين والملاحدة والرافضيين… وتختلف سبل إثارة الغضب في هذه السجالات بين إيراد تعبيرات صريحة تتضمن لفظا من ألفاظ الانفعال، ـ والاستناد أحيانا عوضا عن ذلك ـ إلى المواضع التي تولد العاطفة دون أن تشير إليها أو تتضمن لفظا من ألفاظها. ويمكن تبيين ذلك في ما يأتي:
1-2-1- ملفوظات الغضب غير المباشرة
ـ «بحال هاذ الحثالة كايكونوا مدفوعين من جهات معينة باش ايشعلوا نار الفتنة». (تعليق).
ـ «تسكبون الزيت على النار أيها المفسدون». (تعليق).
تعبر هذه الملفوظات عن هوى الغضب بطريقة غير مباشرة، وتترسم في ذلك سبيل الإخفاء عوض التصريح والكشف. ففي الملفوظ الأول عبارة «باش ايشعلوا نار الفتنة» هي التي تثير عاطفة الغضب، وذلك من خلال استخدام تعبير جاهز، لا يتضمن لفظا انفعاليا مباشرا، ولكنه مع ذلك لا يعرى عن توليد العاطفة. وتوليده للعاطفة راجع إلى ما له في المشترك القيمي من حمولة دلالية، تدل على أن هناك شخصا يريد بالناس شرا، من خلال لجوئه إلى إشعال الفتنة بينهم. وهذا الملفوظ الاستعاري يقوم بتبئير قيام أيلال بنقد صحيح البخاري في فعل إشعال الفتنة، وتتجلى وظيفة هذا التبئير في تقديمه في صورة خطر على المسلمين وعقيدتهم. وفي الملفوظ الثاني استخدم المتكلم تعبيرا كنائيا، لا يثير بدوره عاطفة الخوف بطريقة مباشرة، فهو يقدم أيلال في صورة من يصب الزيت على النار ليزيدها اشتعالا وضراوة. وتكمن بلاغة هذا الاستخدام في بناء صورة سلبية للخصم، تثير وجدان الجمهور وتهيج فيه هوى السخط والغضب. إن هذين الملفوظين يثيران غضب الجمهور بناء على العواقب والنتائج الوخيمة التي من الممكن أن يكون أيلال سببا فيها، وهما إذ يعملان على إلصاق بعض الأفعال السلبية به ( يصب الزيت على النار، يشعل نار الفتنة) فلكي يحركا وجدان المتلقي، ويعملا على تأدية الغرض البلاغي المنوط بهما على نحو أبلغ من التعبير العادي.
1-2-2- مواضع انفعال الغضب
ـ «وانتم خصكوم تفطنوا نهاذ القضية، هؤلاء ـ أيلال وغيره ـ رأس مالهم رفض الدين، ليس لهم حتى علم، القدرة ما عندمشي باش يرفضوا الدين، لو كانوا يستطيعون أن يأتوا بكلام منسجم ومحكم ومركب لاستطاعوا إقناع الناس ببعض أفكارهم، لكنهم لا يستطيعون لأن هذه شبه […]. هؤلاء يريدون اقتناص الرموز، ففي الكتب الإسلامية الرمز الأول عند المسلمين بعد كتاب الله هو البخاري»( ).
لا يتضمن هذا المقتطف لفظا من ألفاظ الانفعال، كما لا يتضمن أثرا نفسيا أو فيزيولوجيا ما، ولكنه مع ذلك يستطيع بعث عاطفة الغضب في نفوس الجمهور، فانفعال الغضب هنا تولده بعض المواضع التي تتجلى وظيفتها في بناء الموقف المثير للعاطفة،( ) وتنوب عن ألفاظ الانفعال التي تشكل الأهواء المراد إثارتها إما تصريحا أو إيحاء. من بين المواضع التي يتضمنها النص:
ـ موضع ماذا؟ : يرتبط هذا الموضع بطبيعة الحدث الذي من الموجب أن يثير غضب الجمهور، وهو الموضع الأساس هنا، الذي تتفرع عنه باقي المواضع الأخرى، ويتعلق الأمر بحدث رفض الدين الإسلامي والتجرؤ عليه، واقتناص رموزه، لاسيما البخاري، الذي عد رشيد أيلال صحيحه مجرد أسطورة.
ـ موضع من؟ (طبيعة الشخص): يتعلق الأمر بالرافضين للحديث النبوي، والمتجرئين على أحد أهم رموز الإسلام، ومنهم رشيد أيلال، الذي جاء الخطاب الذي اقتطف منه هذا النص للرد عليه. إن استحضار طبيعة هذا الشخص في هذا الخطاب تسهم في توجيهه نحو إثارة غضب الجمهور والنقمة عليه، فقد اشتهر بين الناس بسمعته السيئة وبتمرده وتجرئه على ثوابت الدين الإسلامي من غير علم، وهذا ما عمل على بيانه هذا النص في القول إن رشيد أيلال وأمثاله ليس لهم أي علم للخوض في مثل هذه الأمور الدينية.
وتسعى خطابات المحافظين ـ عموما ـ إلى بث الغضب في عاطفة الجمهور، وإثارة المشاعر السلبية تجاه رشيد أيلال، لذلك فأغلب الخطابات التي هي بصدد الدراسة لا تخلو من إثارة هذا الانفعال، لاسيما من خلال الاستناد إلى المواضع الانفعالية، من قبيل ما ذكرناه آنفا، وأيضا مواضع أخرى من مثيل: موضع المماثلة أو النظائر، الذي تمثل أساسا في تشبيه هذه الخطابات أيلال بمجموعة من الأشخاص الذين اشتهروا بعدائهم للدين الإسلامي وبرفضهم للسنة النبوية، كرشيد المغربي المسيحي الذي ارتد عن الإسلام وجعل من نفسه عدوا يطعن فيه، وسلمان رشدي صاحب رواية “آيات شيطانية”، وزكريا أوزون صاحب كتاب “جناية البخاري.. إنقاذ الدين من إمام المحدثين”، كما ماثلوا بينه وبين الشيعيين الذين همهم الطعن في أهل البيت، والمشركين الذين قالوا عن القرآن الكريم إنه أساطير الأولين. وتتجلى وظيفة هذا التماثل هنا في نقل القيمة المتفق عليها بين الجمهور حول هؤلاء الأشخاص المشهورين بسمعتهم السيئة إلى رشيد أيلال، لاستخلاص الحكم نفسه عليه، فالذي يصدق عليهم يصدق عليه. وجدير بالذكر أن هذا الموضع لا يثير انفعال الغضب فقط، بل يثير عاطفة الخوف أيضا، فتشبيه أيلال بهؤلاء من المحتمل أن يثير نوازع الخوف الكامنة في الجمهور، من خلال إشعاره بالخطر المحدق بعقيدته، فهو يولد شعورين متلازمين هما شعور الخوف والغضب.
ولكن، ليس الجمهور وحده هو المقصود من وراء إثارة انفعال الغضب، بل إن المساجلين عملوا على إثارة غضب أيلال، وذلك عبر استخدام الشتم واللعن، فهذه الخطابات ــ خاصة خطابات المواقع الاجتماعيةـ لم تعر عن توظيف اللعن والشتيمة، بل إنها تغتني بهذا الاستعمال، وهو ما يعمل على تحقير الخصم، وبالتالي إثارة غضبه.
1ـ3ـ خطاب الترهيب وإثارة الخوف والفزع
ليس خطاب التحريض وحده الذي يثير انفعال الخوف بل يقاسمه في ذلك خطاب التخويف الذي استخدمه المحافظون في خطاباتهم. وإذا كنا قد وقفنا في المحور الذي خصصناه لخطاب الغضب عند تجل من تجليات هذا الانفعال، المتمثل في الاستناد إلى موضع مثل ماذا؟ (المماثلة)، واعتبرناه دالا على انفعالين هما: الغضب والخوف، فإن خطاب الترهيب بدوره يعد استراتيجية خطابية تستخدمها خطابات المحافظين رغبة منها في بعث شعور الخوف والفزع في الخصم كي يتراجع عن آرائه في صحيح البخاري، أي إن الترهيب في هذه الخطابات استراتيجية وظيفية تتقصد إثارة انفعالات الخصم ودفعه للتخلي عن آرائه كرها وعدوانية، تماشيا مع المتوالية الناظمة لكل خطابات المحافظين، والتي تقوم على الرغبة في قمع الخصم أيلال وردعه، دون التورع عن استخدام مختلف الوسائل، حتى وإن كانت وسائل عدوانية هادمة للخطاب أكثر مما هي مدعمة له.
ولا يتوخى الترهيب هنا حمل المخاطب على الإذعان والتسليم لدعوى المحافظين طواعية، كما لا يتوخى حمله على التنازل عن آرائه حول صحيح البخاري اقتناعا منه بحججهم، وإنما يحملونه على ذلك بالإكراه ويرغمونه على تقبل رؤاهم، من خلال العمل على تهييج مشاعر الخوف والرعب في نفسه. فهم يفرضون السلوك الواجب اتباعه من خلال الاستناد إلى التهديد، الذي يتجاوز كونه آلية حجاجية إلى كونه آلية للقمع وبسط السيطرة، ما يجعلنا نسجل على هذا الخطاب تجاوزه لمبادئ البلاغة، وانخراطه في ممارسة خطابية تهدف إلى التخويف والترهيب والقمع وكبح صوت الاختلاف، لتتبنى الوحدوية في الرأي سبيلا لها، إذ لم يعد القصد تَمَلُّكَ الخصم وإنما تصفية الحساب معه، وبالتالي استخدام البلاغة في غير ما وضعت له، فإذا كانت قد وضعت أساسا لتجاوز العنف وتدبير الاختلاف بين أطراف الخطاب؛ فإنها في هذه الخطابات أصبحت تحتفي بالوحدوية في الرأي وبالعنف الذي لا يفضي إلى حدوث الإقناع، وإنما يسم هذا النوع من الترهيب بميسم الباتوس القسري، الذي «لا تقوم فيه الاستراتيجية الإقناعية على الحوار مع الآخر وكسب ثقته بإثارة نوازع الخوف الطبيعية الكامنة فيه، بقدر ما تروم إقصاءه ومعاداته والرمي به في وهاد من الرعب ومحوه من الوجود، في سبيل إرساء سلطة أو ترسيخ إيديولوجية».( )
وقد تصاعدت درجة التخويف في هذه الخطابات إلى درجة لجأ معها المتكلم إلى التهديد بالقتل، سالكا في ذلك مسالك عدة منها ما يتضمن لفظا انفعاليا، ومنها ما يكتفي بالإيحاء بالعاطفة، ومنها ما يحتوي موضعا انفعاليا. ويمكن تمثيل ذلك فيما يأتي:
1-3-1- ملفوظات الخوف المباشرة
ـ «كل من يحارب الله ورسوله سينال جزاءه في الدنيا قبل الآخرة إن لم يتب قبل فوات الأوان». (تعليق).
ـ « والله العظيم أنت أخطر من الإرهاب على الإسلام، ولكن انتقام الله أشد». (تعليق).
ـ « قريبا سينتهي مصيرك بالذبح إن شاء الله». (تعليق).
ـ « [..] إن الأمر خطير، إن الأمر خطير للغاية».( )
ـ « اقترب للناس أمثالك حسابهم». (تعليق).
تتميز هذه الملفوظات بكونها تحمل العاطفة التي تتقصد إثارتها، فهي تذكر لفظا من الألفاظ المسببة للخوف ( سينال جزاءه، أخطر من الإرهاب، الأمر خطير، الذبح…). وتتغيا هذه الملفوظات إنشاء متوالية حجاجية من الانفعالات قوامها التأثير في الآخر من خلال تحريك نوازع الخوف الكامنة فيه. إنها تتقصد أن تثير خوف الجمهور من رشيد أيلال، الذي قدمته هذه الملفوظات ـ وغيرها ـ في صورة خطر متربص بالدين الإسلامي «إن الأمر خطير، إن الأمر خطير للغاية»، « والله العظيم أنت أخطر من الإرهاب»، فهذان الملفوظان يعمقان الشعور بالخوف لدى الجمهور، فإذا كان الملفوظ الأول قد عمل على تعميق هذا الانفعال من خلال التوكيد والتكرار واستخدام لفظة “للغاية” التي تدل في هذا الموضع على المبالغة، فإن اللفظة الثانية عملت على تعميقه من خلال القسم واستخدام صيغة أفعل التفضيل “أخطر”، ولفظة “الإرهاب” التي ما إن تذكر حتى تهتز لها المشاعر لاقترانها في العرف اللغوي وفي تمثلات الجمهور المشتركة بالقتل والفتك وانتهاك حرمة الأبرياء.
1-3-2- مواضع الانفعال
تبرر انفعال الخوف مجموعة من المواضع، من بينها: موضع ماذا؟ الذي يتصل بطبيعة الحدث، وموضع مثل ماذا؟ الذي سبق أن وقفنا عنده، وموضع العواقب، المتعلق بالنتائج المترتبة عن فعل ما…
إن هذه المواضع هي أهم المواضع التي تم بها تبرير عاطفة الخوف في خطابات المحافظين وردودهم على رشيد أيلال. يتعلق الموضع الأول (ماذا؟) بمساس رشيد أيلال بالحديث النبوي من خلال ادعائه أن صحيح البخاري مجرد أسطورة، وهذا الفعل بإمكانه أن يثير خوف الجمهور المسلم على عقيدته، فالخوف هنا مبرر بكونه خوفا على التمثلات الدينية الإسلامية المشتركة. ويتبدى هذا الموضع ـ مثلا ـ في قول الفزازي في خطابه: «(الأستاذ) ـ وما هو بأستاذ ـ يطعن في الوحي نهارا جهارا»( )، فالطعن في الوحي هنا هو الحدث الذي يبرر عاطفة الخوف. وقد اختار الفزازي الوحي عوض السنة أو الحديث لأنه يرى أن ما قاله الرسول «ص» موحى له من الله تعالى، لذلك فالطعن في السنة هو طعن في الوحي، ألم يقل الله تعالى في كتابه العزيز: «وَمَا َيْنطِقُ عَنِ الهَوَى إنْ هُوَ إلَّا وَحْيٌ يُوحَى»( ) ؟
وباستحضارنا لموضع (العواقب) نقف عند هذا المثال الذي يتضح فيه لجوء المساجل إلى هذا الموضع لإثارة نوازع الخوف في وجدان الجمهور المسلم: «من قرأ هذا الكتاب فقد خرج عن الملة». (تعليق)؛ فيتبدى لنا من خلاله أن المساجل يلجأ في تخويفه للجمهور إلى ذكر النتائج المترتبة عن قراءة كتاب أيلال الذي يمس حسبهم بالدين الإسلامي. فهذا الملفوظ ـ بدوره ـ لا يتضمن لفظا انفعاليا ولا أثرا نفسيا أو فيزيولوجيا، ولكن مع ذلك فهو لا يعرى عن إثارة وجدان الجمهور، من خلال استثماره للقيم وللتمثلات المشتركة بين المسلمين، فإذا كان للدين الإسلامي مرتكزان هما: القرآن والحديث النبوي، وكان المسلم ملزما بالعمل بما ورد في القرآن واتباع هدي النبي «ص»؛ وكان كتاب أيلال يمس بالحديث الصحيح ـ فإن قراءة هذا الكتاب بإمكانها أن تجعل المسلم يشكك في عقيدته ككل، لذلك فقراءته تعادل الخروج عن الملة. وبهذا يقوم قبول المتلقي الخضوع لهوى الخوف وتصديق الخطاب على قبوله للأسباب الداعية إليه وتسليمه بالمعايير التي يضمرها. ( )
1ـ4ـ خطاب الترغيب والإغواء وإثارة التحفيز
إذا كان لخطاب التخويف في سجالات المحافظين حضور بارز؛ فإن خطاب الترغيب لم يحظ في هذه الخطابات بالنصيب الذي حظي به التخويف، ولكن مع ذلك فإننا لا نعدم في هذه الخطابات لجوءها إلى إغواء الجمهور وإغرائه، طلبا لتحفيزه وتشجيعه للقيام بالفعل.
ويتقصد المتكلم من وراء الترغيب والإغواء في هذه الخطابات منحى يروم الإقناع القائم على تحبيب المتلقي في الأمر الواجب اتباعه، واستثارة إعجابه به. فهذا الانفعال مناقض للتخويف، لأنه يقوم على إثارة انفعالات المتلقي الجميلة وبث الإعجاب في نفسه، أي إنه لا يفرض عليه الأمر بالقوة، بل يحببه فيه ويجذبه محركا فيه نوازع الإعجاب الطبيعية الكامنة فيه. ويقوم هذا الأسلوب في متواليته الحجاجية على المحاجة بالنتائج الإيجابية التي من الممكن أن يجنيها الجمهور إذا ما هو أخضع إرادته للمتكلم، ويساعد على تحويل القضية الحجاجية إلى وعد بعيد المنال بحدث مثير للإعجاب، وهو ما يسمى بحجة أد كاروتام “Ad carotam”.( )
ويروم المحافظون من خلال استنادهم إلى خطاب الترغيب جعل الجمهور متشبثا بعقيدته، حريصا عليها، ومنافحا عنها من تسلط الأعداء، وقد سلكوا مسالك عدة في ترغيبهم للجمهور في الرد على أيلال أو في التخلص من كتابه، من بين تلك المسالك ما يعبر عنه هذا الشاهد:
ـــ «في هذا المركز ومع هذه الفئة من الأساتذة نُكون إن شاء الله لجنة محكمة من العلماء، وغاتكون جائزة لافتة للنظر لمن يقوم ببحث حول البخاري، وياخذ واحت الجائزة في حدود عشرة (10) ملايين إن شاء الله، صحيح البخاري يستحق أن نخدمه»( ).
يلجأ خطاب مصطفى بنحمزة ـ في محاولته للتأثير على المتلقي ـ إلى اعتماد استراتيجية الوعود والإغراءات، تلك الاستراتيجية التي تجعل المتكلم يكسب ود الجمهور، وتستهويه للدخول في العملية السجالية. فقد أراد المتكلم في هذا المثال أن يحفز الباحثين على الرد على رشيد أيلال، من خلال تأليفهم لكتاب يعرفون فيه بالبخاري، ويردون فيه على الطعون التي وجهها له، سعيا منه إلى إعادة الاعتبار لصورة البخاري، ونقض خطاب الاتهام الذي انتقص منه، وقدمه في صورة سلبية مناقضة لتلك التي استقرت عنه في الوعي الجماعي. فكانت الجائزة وسيلة لإغراء الباحثين وإغوائهم، وتحفيزا لهم، ودفعهم للمنافسة للحصول عليها. وهذا ما يجعلهم يشعرون باللذة، لذة الظفر بالمال وكسبه، تلك اللذة التي تجعل المتلقي يلهث وراء موضوع الرغبة بغية تحقيقه، فجميع الناس ـ كما يقول أرسطو ـ متى أرادوا الأمور حصلوا عليها فإنهم يشعرون باللذة، وبالعكس، فإنهم متى تعذر عليهم حصولها شعروا بالألم»( ). وقد استند المتكلم في هذا الملفوظ إلى موضع كم؟، المتمثل في قوله: «وياخذ واحت الجائزة في حدود 10 ملايين»، فعشرة ملايين هنا دافع ومحفز للمتلقي لقبول ما اقترحه عليه المتكلم، ووسيلة للسيطرة عليه وتملكه.
إن التلفظ بقيمة الجائزة المالية في هذا الملفوظ ليس في نظرنا إلا آلية للتلعب بالعقول، ودفعا بها للإقدام على الفعل الذي يريده منها المتكلم. فالإغواء ـ رغم كونه يترك للمتكلم حرية الاختيار ولا يدفعه إلى الفعل رغما عنه ـ إلا أنه لا يخلو من بعض التجاوزات، التي تتمثل أساسا في فرض أمر ما على المتلقي بناء على مجموعة من الإغراءات التي تجعله أعمى عن رؤية الحقيقة، يعمل وفق رأي المتكلم طمعا في نيل الأجر، وفي هذا إقصاء لذاتيته وخضوع لسلطة المتكلم، التي فرضها عليه بالمال، فيصبح بالتالي متحكِّما فيه، يقوده إلى أي وجهة أراد، ويفرض عليه رأيه كيفما كان…
إلى جانب ذلك، لجأ المتكلم ـ لتبرير سياسة الوعود والإغراءات التي ارتكز عليها في خطابه ـ إلى حجة الاستحقاق، الماثلة في قوله: «صحيح البخاري يستحق أن نخدمه»، التي تساهم في تثبيت دعوى الخطيب، من خلال العمل على منحها مصداقيتها؛ إذ أثبت من خلالها جدارة صحيح البخاري بخدمته والتعريف به. وهي هنا بمثابة إجابة عن سؤال مضمر، «لماذا أكتب كتابا أعرف فيه بصحيح البخاري وأدافع به عنه؟»، افترض المتكلم أن المتلقي لابد أن يتوجه به إليه، فكانت بالتالي حلقة وصل بين خطاب المتكلم واستجابة المتلقي. بهذا يمكن إعادة صياغة هذا الملفوظ وفق الشكل الآتي:
اخدموا صحيح البخاري، (لماذا؟)، [لأن] البخاري يستحق.
وهو الذي يثبت لنا أن حجة الاستحقاق هنا بمثابة حجة سببية يبرر بها الشيخ دعواه، حيث عمل على الربط في ملفوظه بين المقدمة والنتيجة بالرابط (لأن) المحذوف.
هكذا، يكون الملفوظ الترغيبي الإغوائي في الخطاب السجالي لمصطفى بنحمزة قائما في استراتيجياته على المتوالية الحجاجية التي تتخذ هذا التسلسل:
ـــ اخدموا صحيح البخاري = الدعوى؛
ـــ لتأخذوا الجائزة= المُحَفِّز؛
ــ 10 ملايين = موضع الكم؛
ــ لماذا؟ = السؤال المضمر؛
ــ لأن= الرابط الحجاجي المضمر؛
ــ صحيح البخاري يستحق أن نخدمه = الحجة المعززة.
خاتمة
حاولنا في هذا البحث أن نكشف عن الكيفية التي يتشكل بها الحجاج العاطفي ووظائفه ومقاصده في خطابات المحافظين وردودهم على كتاب رشيد أيلال، استنادا إلى طرح كريستيان بلانتان، الذي بناه على مبدأين أساسين هما: الملفوظ العاطفي، ومواضع الانفعال. ويمكننا إجمال النتائج التي توصلنا إليها في النقاط الآتية:
1- تتميز الخطابات المدروسة بطابعها الديني الروحي، فهي تعالج قضية دينية تتعلق بالحديث الصحيح عامة، وبصحيح البخاري خاصة، فقد وطنت نفسها حول نقد كتاب رشيد أيلال والنيل من صاحبه، انتصارا للبخاري وردا للاعتبار له… ويتم هذا ضمن ممارسة خطابية تراهن على وجدان المتلقي وتخاطب عواطفه وهواجسه، ولا تتورع – في ذلك – عن المزج بين المستويات البلاغية والعنف اللفظي، ولا تخلو من إقصاء الآخر والتحريض عليه وتهديده، ضاربة عرض الحائط المبادئ والقواعد المنظمة للعملية التواصلية. فهي تستبدل بالاختلاف والتعددية مناهضة الاختلاف، ووحدوية الرأي، وإن كان صنيعها هذا مخالفا لطبيعة الخطاب السجالي الذي يقوم أساسا على بلاغة الاختلاف.
2- إذا كان الباطوس الذي يتوجه إلى الجمهور يثير النوازع العاطفية الطبيعية الكامنة فيه؛ فإن الباطوس الموجه إلى الخصم هو باطوس عدواني قسري، يثير عواطف الخصم لإرغامه بالقوة على التنازل عن دعواه حينا، ولكنه قد يتجاوز ذلك في أحايين أخرى، ليغدو تخويف الخصم وترهيبه وسيلة من الوسائل التي يقتضيها العنف اللفظي، والتهجم على الخصم وقمعه وإقصائه…
3- تأثير الهوى العقدي في خطابات المحافظين، إذ لم تكن هذه الخطابات إلا مرآة لهذا الهوى، وهو هوى لا ينفصل عن الخطاب السجالي الذي يظل خطابا إيديولوجيا، فالبلاغة فيه تتداخل مع الإيديولوجيا، وتصبح محملة بها ولا تنطق إلا من خلالها.
قائمة المصادر والمراجع:
المصادر:
1- الفيزازي (محمد)، على الموقع الإلكتروني: www.youtube.com/watch?v=a6PW1GbLTCo
2- بنحمزة (مصطفى)، تصريح على الموقع الإلكتروني: www.youtube.com/watch?v=LJzy5jneLec
3- نافع (رضوان)، ويبقى البخاري شامخا أيها الأقزام.، على الموقع الإلكتروني: http://howiyapress.com
4- “شيخ سلفي يدعو إلى جلد مؤلف صحيح البخاري نهاية أسطورة وإحراق كتابه”، على الموقع الإلكتروني: https://azilalalhora.com/print.php?print=9637
المراجع العربية:
أ- الكتب:
1- القرآن الكريم، رواية ورش عن نافع.
2- عبيد (حاتم)، من الخطابة إلى تحليل الخطاب ــ مفاهيم خطابية من منظور جديد، دار رؤيا للنشر، القاهرة، مصر، ط 1، 2018.
3- مشبال (محمد)، في بلاغة الحجاج نحو مقاربة بلاغية حجاجية لتحليل الخطابات، كنوز المعرفة، عمان، الأردن، ط 1، 2017.
4- عبد الفتاح يوسف (أحمد )، الخطاب السجالي في الشعر العربي تحولاته المعرفية ورهاناته في التواصل، ، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت، لبنان، ط 1، 2014، ص 9.
ب- المقالات:
1- الولي (محمد)، “مدخل إلى الحجاج: أفلاطون وأرسطو وشايم بيرلمان”، مجلة عالم الفكر، المجلس الوطني للثقافة والفنون، الكويت، ع 2، المجلد 40، أكتوبر 2011.
المراجع المترجمة:
1ـ أرسطو )طاليس)، الخطابة، ترجمة: عبد القادر قنيني، أفريقيا الشرق، الدار البيضاء، المغرب، 2008.
المراجع الأجنبية:
1- Didier MAILLA, Les manipulations du discours de séduction : éclairage pragmatique. https://journals.openedition.org/erea/5970
Christian Plantin – 1998 – Les Raisons Des Emotions. 2-
https://fr.scribd.com/document/162760999/Plantin-1998-Les-Raisons-Des-Emotions
3- Ruth Amossy et Marcel Burger, Introduction: la polémique médiatisée, https://journals.openedition.org/semen/9072