
صنع السياسات العامة في دول الخليج العربي
Public Policy making in the Arab Gulf states
أ.د. بلال شحيطة رئيس قسم العلوم الاقتصادية في كلية العلوم الاقتصادية وإدارة الاعمال في الجامعة اللبنانية Prof Bilal chehaita (Lebanese University) |
د. جومانا كيال أستاذة مساعدة في كلية العلوم الاجتماعية الجامعة اللبنانية Dr Joumana kayal (Lebanese University) |
ورقة منشورة في كتاب أعمال مؤتمر الأمن المجتمعي والجماعي في الوطن العربي الصفحة 11.
Abstract :
Public policies are a very important tool adopted by public authorities to solve a particular economic or social dilemma or to obtain a result that society desires, and cannot be automatically reached without government intervention. Policy formulation and effective implementation processes on the ground and assessing their direct and secondary impacts on the foreseeable and long-term horizon require a range of political conditions, institutional qualifications, technical capabilities and outreach efforts to maximize the benefits of citizens.
This study aims to explore the policy-making environment to identify its multiple pillars and approaches (political and economic) and the key factors that contribute to rationalizing its development, evaluation and evaluation process in theory and practice. It also seeks to focus on the role of overviewing, oversight and accountability by the active forces of the society with the aim of enlightening public opinion and promoting a culture of dialogue, participation, responsibility and interaction in the decision-making process taken by makers in the Arab Gulf states.
Hence, this paper presents the following basic problematic: what are the main features of the imbalance in policy-making in the Arab Gulf states and therefore what are the challenges associated with not being able to make these policies (economic factors = governance) and those associated with unwillingness (political factors = governance policy).
Many sub-questions are included in this problematic: What are the most prominent approaches to policy-making? What are the factors and criteria for their success or failure? What are the frameworks and mechanisms in which a politician mixes with the economist? Where has it failed and where have policy makers succeeded in the Gulf Arab states? What reforms and dynamics should be followed to give people a real and constructive role in the management of their countries’ affairs, taking into account the differences that characterize the Arab Gulf countries? …
Since the subject of this study involves exposing the challenges facing public policy-making in the Gulf States, the descriptive exploratory approach has been used, which helps to characterize the phenomenon as it is in fact, and describe it accurately and express it qualitatively. In fact, the qualitative expression describes the phenomenon and explains its characteristics, size or degree of association with other phenomena.
The content analysis technique of international institutions dealing with the subject of policy-making, articles, newspapers and research studies has been used to reveal the importance of rationalization and the optimization of resources and capabilities for the sustainable development of these countries.
The results of public policies have varied in the Arab Gulf states, while some of these countries have made real progress in the development of some sectors, some have failed to achieve balanced and sustainable development, and to varying degrees, they have failed to diversify their economies and failed to meet the requirements of bloc and economic integration. The Arab Gulf countries today are at a crossroads and need to rethink seriously and deeply in their way of developing, implementing and evaluating their various policies.
Keywords: Public policy, new social contract, calendar, governance, exercise of power, community discussions.
ملخص:
تعتبر السياسات العامة أداة شديدة الأهمية تعتمدها السلطات العامة لحلّ معضلة اقتصادية أو اجتماعية معينة أو الحصول على نتيجة يرغب فيها المجتمع، ويتعذر بلوغها بشكل تلقائي من دون تدخّل الحكومة. وتتطلب عمليّات صياغة السياسات العامّة وتنفيذها بشكل فعّال على أرض الواقع وتقييم تأثيراتها المباشرة والثانوية في الأفق المنظور وعلى المدى البعيد توفير مجموعة من الشروط السياسية، والمؤهلات المؤسساتية، والقدرات الفنية، والجهود التواصلية بهدف تحقيق الفائدة القصوى للمواطنين.
تهدف هذه الدراسة إلى سبرأغوار بيئة صناعة السياسات العامة لتبيان ركائزها ومقارباتها المتعددة (سياسية واقتصادية) والعوامل الأساسية التي تساهم في ترشيد عملية وضعها وتقييمها وتقويمها نظرياً وعملياً. كما تسعى إلى التركيز على دور المسائلة والرقابة والمحاسبة من قبل قوى المجتمع الفاعل بهدف تنوير الرأي العام وتشجيع ثقافة الحوار والمشاركة والمسؤولية والتفاعلية في عملية صنع السياسات العامة لدى أصحاب القرار في دول الخليج العربي.
من هنا تطرح هذه الورقة الإشكالية الأساسية التالية: ماهي أبرز معالم الخلل التي تواجه صنع السياسات العامة في دول الخليج العربية وبالتالي ما هي التحديات المرتبطة بعدم القدرة على إنجاح هذه السياسات (عوامل اقتصاديةّ = حوكمة) والأخرى المرتبطة بعدم الرغبة (عوامل سياسية = سياسة الحكم).
وتندرج تحت هذه الإشكالية العديد من التساؤلات الفرعية وهي: ما هي أبرز المقاربات في صنع السياسات العامة؟ ما هي عوامل ومعايير نجاحها او فشلها؟ ما هي الأطر والاليات التي يختلط فيها السياسي بالاقتصادي؟ اين أخفق وأين نجح صانعو السياسات العامة في دول الخليج العربية؟ ما هي الإصلاحات والديناميكيات الواجب اتباعها لإعطاء الشعوب دورا حقيقيا وبناء في إدارة شؤون بلدانهم أخذين بعين الاعتبار التباينات والاختلافات التي تتميز بها بلدان الخليج العربية؟ …
بما ان موضوع هذه الدراسة ينطوي على كشف التحديات التي تواجه صنع السياسات العامة في دول الخليج تم الاستعانة بالمنهج الاستكشافي الوصفي، الذي يساعد في توصيف الظاهرة كما هي في الواقع، ووصفها وصفًا دقيقًا والتعبير عنها كيفيًا ، فالتعبير الكيفي يصف لنا الظاهرة ويوضح خصائصها، أو حجمها أو درجة ارتباطها مع الظواهر الأخرى.
تم الاستعانة بتقنية تحليل مضمون التي تصدر عن المؤسسات الدولية التي تعنى بموضوع صنع السياسات العامة والمقالات والصحف، والدراسات البحثية وذلك بغية الكشف عن أهمية الترشيد والاستغلال الامثل للموارد والمقدرات في سبيل التنمية المستدامة لهذه البلدان.
لقد جاءت نتائج السياسات العامة متفاوتة في دول الخليج العربي، ففي حين حققت بعض هذه الدول تقدماً حقيقياً في تطوير بعض القطاعات، فشلت بعضها في تحقيق التنمية المتوازنة والمستدامة، كما فشلت هذه الدول بدرجات متفاوتة في تنويع اقتصاداتها وأخفقت في تلبية متطلبات التكتل والتكامل الاقتصادي. إن بلدان الخليج العربية اليوم تقف على مفترق طرق وتحتاج إعادة النظر بشكل جدي وعميق في أسلوبها في وضع وتنفيذ وتقييم سياساتها المختلفة.
كلمات المفاتيح : السياسات العامة، العقد الاجتماعي الجديد، التقويم، الحوكمة، ممارسة السلطة، نقاشات مجتمعية
مقدمة:
ارتبطت المؤسسات العامة في دول الخليج العربية، شأنها شأن بقية دول المنطقة العربية والعالم، بنشأة الدولة وتطور أدوارها السياسية والاقتصادية والاجتماعية. بيد أن السياسات العامة في دول الخليج العربية خضعت، سواء في تفسيرها أو في عملية صياغتها، لأنظمة الدولة الريعية التي ظهرت وتنامى دورها نتيجة التراكم الكبير للثروة النفطية، وجرى تسخيرها لتعزيز السيطرة على المجتمع. وعلى الرغم من أهمية هذه المقاربات التي ركزت على مفهوم الدولة الريعية لشرح عملية صنع السياسات العامة في دول الخليج العربية، فإنها غيَّبت في أحيان كثيرة دور القوى الاجتماعية وتأثيرها في السياسات الحكومية، وأغفلت الدور الذي يؤديه الفاعلون غير الرسميين؛ مثل التجار، ورجال الأعمال، والقطاع الخاص عمومًا. كما قلَّلت من أهمية التوازنات القبلية والعائلية ودور المجالس التمثيلية في عملية صنع السياسات العامة في دول الخليج العربية.
وبمقدار ما أسهمت السياسات العامة في دول الخليج العربية في تحقيق نمو اقتصادي وتنموي وانفتاح اجتماعي وثقافي، فرضت هذه السياسات جملةً من التحديات والمشكلات؛ أبرزها أن عملية صنع السياسات العامة في دول الخليج العربية، على اختلاف قطاعاتها المالية والاقتصادية والاجتماعية، يشوبها الكثير من الغموض؛ فمن غير المعلن ما هي الرؤى التي تبنى عليها السياسات العامة وعلى أي أسس تتغير. إضافة إلى ذلك، تتعرض هذه السياسات إلى تشوهات عميقة؛ نتيجة غياب المساءلة والشفافية وحكم القانون والفصل بين السلطات وجدية ومهنية جهاز الدولة الإداري. ونادرًا ما تخضع هذه السياسات لعملية مشاركة في الصياغة وتقييم دقيق وموضوعي لتكلفتها وآثارها الاقتصادية والاجتماعية، ومدى قدرتها على تحقيق العدالة في توزيع الثروة. كما أنه لا تولَى أهمية مؤسسية لتراكم الخبرات؛ نتيجةً لعدم وضوح عملية إقرار السياسات العامة، وتغيير المستشارين والشركات الاستشارية.
ولمواجهة هذه التحديات، تعالت في الآونة الأخيرة دعوات تقاسمتها جمعيات المجتمع المدني والاعلام لتنفيذ إصلاحات عميقة؛ بالنظر إلى أن صنع سياسات عامة رشيدة لا يمكن أن يتم بمعزل عن إصلاحات سياسية عميقة تشرك أكبر عدد ممكن من فئات المجتمع وقواه في صنعها، والتعاون في تنفيذها، والاستفادة من عوائدها.
أولا: صنع السياسات العامة
توصف السياسات العامة للحكومات بأنها مجموعة من النشاطات (القوانين، اللوائح، المراسيم، الخطط، الأفعال، والسلوك) التي تختارها من خلال إدارتها للمجتمعات. تعد الحكومات بصفة عامة نشطة في بلورة وصناعة وتطوير السياسات العامة فكل سنة تصدر العديد من اللوائح والقوانين والمراسيم عن السلطات التنفيذية بالتنسيق مع السلطات التشريعية، تعقبها بعد ذلك مجموعة من التعليمات والإجراءات المفسرة والموضحة من قبل الإدارات التنفيذية.
يشمل تحليل السياسات العامة مجموعة مرتكزات أساسية متجددة: التدخلات الجماعية المنتجة لوسائل حقيقية موجهة للقطاعات المختلفة، طرق واليات الحكومة في تدخلاتها العمومية، المعلومات المطلوبة والخطوات المنهجية في صنع السياسات العامة، مخرجات هذه السياسات وتقييمها ومتابعتها.
- مفهوم السياسة العامة
تعرفُ السياسةُ العامة [1]في اللغةِ الإنجليزيّة بِمُصطلح public policy ، وهي عبارةٌ عن نظامٍ معينٍ تسعى الحكومة المحليّة في الدولة إلى تطبيقه، والتحقق من التزامِ الجميع فيه سواءً أكانوا أفراداً أم مؤسسات. وأيضاً تُعرفُ السياسةُ العامة بأنها برنامجُ عملٍ حكوميّ يحوي مجموعةٍ من القواعد، والتي تلتزمُ الحكومة بتطبيقها في المجتمع. ومن التعريفات الأخرى للسياسة العامة: هي مجموعةٌ من الاتجاهات الفكريّة التي تسعى الحكومة إلى تنفيذِ الهدف الخاصة بها، من خلال الاعتماد على مجموعةٍ من الوسائل والأدوات،
عرف جيمس أندرسن رئيس قسم دراسات السياسة في جامعة تكساس، السياسة العامة بأنها “برنامج عمل هادف يعقبه أداء فردي أو جماعي في التصدي لمشكلة أو لمواجهة قضية أو موضوع”. كما عرفها ديفيد أستن عالم السياسات العامة الكندي بأنها “توزيع القيم في المجتمع بطريقة سلطوية آمرة، من خلال القرارات والأنشطة الإلزامية الموزعة لتلك القيم في إطار عملية تفاعلية بين المدخلات والمخرجات والتغذية العكسية”. كما يرى عالم السياسات المقارنة الأميركي جابرييل ألموند بأن السياسة العامة تمثل “محصلة عملية منتظمة عن تفاعل المدخلات – مطالب + دعم – مع المخرجات – قرارات وسياسات… – للتعبير عن أداء النظام السياسي في قدراته الاستخراجية والتنظيمية، التوزيعية الرمزية”.
اذن السياسة العامة محصلة عملية منتظمة يتفاعل بها عدة عناصر كالمدخلات او المرتكزات والمطالب الضرورية التي تراها الدولة من خلال التوجه الاستراتيجي فضلا عن توفير الدعم والموارد والميزانية والقرارات الحاكمة لتنفيذ تلك سياسات، فالسياسات هي الوسيلة التي يتم بواسطتها تحقيق الأهداف والغايات التي تم تبنيها في الخطط الاستراتيجية، وادارة الأداء هي الطريقة التي يتم بواسطتها مراقبة وتقييم تنفيذ السياسات، ومن ثم انعكاس ذلك التقييم في التخطيط الاستراتيجي وبالتالي في صياغة سياسة أخرى.
- لماذا نحتاج إلى سياسة؟
يمكن القول إن التخطيط الاستراتيجي إذا أُنجز بشكل شامل يعتبر كافيا بالنسبة لحكومة لبلوغً غاياتها وأهدافها، ولكن هذا الاعتقاد خاطئ. ببساطة، لا يمكن من الناحية العملية تطوير جميع السياسات الضرورية لتنفيذ الخطة الاستراتيجية كجزء من عملية التخطيط السنوي، فالسياسات بحاجة إلى أن يتم تطويرها والتشاور بشأنها وتنفيذها وتعديلها ضمن عملية مستمرة، وليس فقط ضمن دورة التخطيط السنوي. وقد تكون هناك حاجة إلى تطوير سياسات جديدة للتكيف مع عدد من العوامل المختلفة، مثل: رؤية الدولة، مبادرة من المجلس التنفيذي، مطلب مجتمعي، الخطة الاستراتيجية، متطلبات فدرالية، أحكام قانونية، ضغوط من العامة أو المتعاملين، مبادرة دولية، الحاجة لسياسة جديدة، أحداث خارجية أو بيئة متغيرة، كالتقدم التقني والتكنلوجي، التكيف مع تغيرات في سياسات دوائر أخرى، ضغوط الموازنة المالية.
- تقويم السياسات العامة
أن فحوى التقويم يمكن فهمـه على أنـه عمليـة تحليـل عـدد من السياسات أو البرامـج أو المشروعات والبحث عـن مزايـاها وعيوبهـا المقارنـة , ووضـع نتائج هـذه التحليلات في أطـار منطقـي , فالتقويـم ليس مجرد وصف للبدائل المتاحــة , فقـد تصف بـديـلا دون الإشارة إلى غيـرة , لكـن التقويم فحص لمزايـا وعيـوب البديـل في علاقاتـه بمسار أو أكثـر للحـركـة , بما في ذلك للا فعل.
ولا يطبق التقويم على البدائل المستبعدة لبعضها البعض وإنما أيضا على البدائل المستقلة والمترابطة، ويعد التقويـم المرحلة الأخيرة من عمليات السياسة والتي تتضمن نشاطات متسلسلة، وتقويم السياسة العامـة كنشاط وظيفي يمكـن بـل ويجب أن يتحقق مـن خلال عمليات الرسم والصنع والصياغة والتطبيق، وليس كنشاط لاحق وكمرحلـة أخيرة.
فالتقويم قـد يـؤدي إلى أعـادة الدورة التي تبـدأ بالمشكلـة ثم بالبحث عن البدائل ثم المفاضلـة لتقرير أو تعديل أو أنها صالحـة للبقاء والاستمرار، وبالتالي فأن تقويم السياسة العامـة يعنـي أتبـاع أساليب علميـة هـدفها الحكــم علـى مـا أذا كانت سياسات الحكومـة وبرامجها التنفيذيـة تحقق الأهداف المطلوبــة بالقـدر المرغوب فيـه من الفعاليـة والاقتصاد[2] .
أن عملية التقويـم للسياسـة العامـة ينبغـي أن يكـون شمولياً كماً ونـوعاً، وأن يكون متلازمـا فيها ضمـن جميـع مراحلها وعملياتها وأنشطتها، وعليـه أن هناك قناعـة جازمـة ازاء وحـدة العلاقـة والمهمـة والمسؤوليـة التي تجمع بيـن صانعي السياسة العامـة ومنفـذيها، وكذلك مقوميها.
أن عمليـة صنـع السياسة العامـة عمليـة معقـدة تتسـم بتنـوع مكوناتهـا، التـي يكـون لكـل منهـا اسهامـه المختلف، فهـي تقـرر الخطـوط الأساسية للفعل وتتسـم بتوجهها نحـو المستقبـل وسعيها إلى تحقيق الصالح العام وذلك بأفضل الوسائل الممكنـة، فالمفروض أن يتم التقـويم أثنـاء صنـع السياسة أو البرنامـج، فيـوفر معلـومات عـن أثار المقترحات علـى كـل أعضاء المجتمع ويساعـد في عمليـة الاختيار، وقـد يقلل أيضاً مـن تحيـز صناع السياسة من خلال تزوديهـم بالمعلومات الضرورية والتي على اساسها قـد يقررون أعـادة صنـع السياسة.
ولا يعنـي التقـويـم الرسمـي هنـا اتخاذ قـرار الاختيار فهـو يساعـد بتـوفيـر الأساس الوقائعـي لموضوعـات القـرار لكـل المشاركيـن فيـه، وتظل نـوعيـة الدليـل ومصداقيتـه، وفي الغالب تفسيـره مثـار جـدل، ويظـل التقـويـم في هـذه المرحلـة ( تعٌـلم )، فعنـدمـا يتوافـر دليـل علـى مزايـا وعيـوب بديـل معيـن، تتولـد رؤيـا جـديـدة تقـود إلى خلق بدائـل أفضـل فتصبـح عمليـة صنـع السياسة العامـة دائـريـة الشكـل.
وتتباين الجهات التي تتـولى عمليـة التقـويـم للسياسات العامـة بتبايـن النظـم السياسيـة، فنظـم الحكم النيابيـة والبرلمانيـة تميـل إلى الأخـذ بمبـدأ الفصل بين السلطات الثـلاثة، وإلى خلـق حالـة توازن بينهـا حتـى لا تطغـى أحـداها علـى الأخـرى. ولـذا تتمتـع السلطـة التشريعيـة في هـذه الأنظمـة بحـق الرقـابـة والتقـويـم علـى تصرفـات السلطـة التنفيـذيـة لضمـان دستوريتها وشرعيتها والتزامها نص وروح التشريـع، فتقـوم السلطة التشريعية بتقويم مشروعات رسم السياسة العامـة وتمويلها وتعديلها.
يتولى صانعي السياسة العامـة ومـن خلال أشغالهم لمواقعهم الرسميـة في الحكومـة بتقويـم السياسة العامـة إرضاءً لناخبيهم كمـا في الأنظمـة السياسية الديمقراطيـة ، فيتوقعون انسياب التغذيـة العكسية أليهم مـن مجموعـات الدوائـر الانتخابيـة ويتعرفـون علـى أرائهم ازاء برامـج السياسة العامـة القائمـة.
وفي مثـل هـذه الحالـة فإن شكـل التقـويم يكـون مـن خـلال مـراقبـة صانعـي السياسـة العامـة لمواقف الدوائـر الانتخابيـة تجـاه البرامـج بحيث يصبـح المعيـار أو المقيـاس في تقـويـم أي برنـامج هـو شيـوعـه أو عـدم شيـوعـه بيـن جمـاعـات الناخبيـن علـى أساس القبول أو الرفض، ويتبلـور أيضـا مـن خلال ما تنشره الصحف والأجهزة الاذاعيـة والمرئيـة وشكاوى المواطنين والموظفين وحتـى الاشاعـات، وكذلك نتائـج البحوث الاجتماعيـة، وجميعها تمثـل تغـذيـة عكسيـة غير منتظمـة تسهم في جعـل صانعي السياسة العامـة يكتسبـون انطباعات أوليـة وتقويمـات غيـر رسميــة حول نجاح أو فشـل البرامـج الحكوميـة ، بالشكل الذي يـدفع هـؤلاء الصناع نحـو التصرف اللازم في نهايـة الأمـر، استجابـة لمجمل المعاييـر والمقاييس السياسية التـي يقتضيها الواقع.
بمعنى أن النشاط التقييمي سوف يكـون لـه مردود على تطويـر صنـع السياسة واختيار البدائـل، أي أن النشاط التقييمي ينطلق مـن كـونه في عمليـة صنع السياسات التي تشمـل ما يأتي : الاستجابـة، العدالـة، المساواة، تخفيف ضغـط المطالب المساندة، التوازن بيـن القـوى، المعلـومـات أو البعـد المعلومـاتي لمـدخـل في عمليـة صنـع السياسات العامـة، على اعتبـار أن كم ونوعيـة ومصداقيـة المعلومـات المتوفرة تـؤثـر على فعاليـة السياسات .
- السياسة العامة و نظام الحكم السياسي
إن دراسة العلاقة بين النظام السياسي والسياسة العامة تتحدد من خلال معرفة ادوار المؤسسات والقوى المكونة للنظام السياسي الرسمية وغير الرسمية في صنع السياسات العامة.
فالسياسات العامة[3] من حيث الرسم والتنفيذ والتقييم هي نتاج أداء تلك المؤسسات، وترتبط بشكل مباشر وغير مباشر بدور تلك المؤسسات، وعلى ضوء ذلك الأداء تتوقف درجة نجاح السياسات العامة في تحقيق أهداف ومتطلبات المصلحة العامة، وبالتالي فان النجاح أو عدم النجاح في تحقيق تلك المتطلبات هو الذي يظهر تباين الأنظمة السياسية في كيفية ممارسه مؤسساتها عند صنع السياسة العامة . والسياسة العامة ترتبط درجة تحقيقها للأهداف، بشكل مباشر وغير مباشر، بكفاءة وتوازن عمل تلك المؤسسات في صنع السياسات العامة، فاستقلالية السلطة التشريعية، كمؤسسه رسميه، في ممارسة دور الرسم، إضافة لدور الرقابة والتقييم لعمل السلطة التنفيذية وأجهزتها الإدارية في تنفيذ السياسات العامة، يؤدي إلى أن تكون العملية السياسية داخل النظام السياسي أكثر ديمقراطية، وبالتالي نجاح السياسات العامة.
وهذا الأمر ينطبق أيضا على دور المؤسسات غير الرسمية ومدى استقلاليتها وتأثيرها في مؤسسات النظام السياسي الرسمية وفق صيغ متفق عليها، حيث أن قدرة تلك المؤسسات في تمرير متطلبات المجتمع إلى المؤسسة التشريعية ومنها تصاغ في إطار قرارات وتشريعات السياسات العامة وتطبيقها من قبل المؤسسة التنفيذية بشكل يكفل تحقيق متطلبات المجتمع.
أما فقدان استقلالية عمل المؤسسات الرسمية وانعدام التوازن بينها والافتقار إلى صيغ للعمل السياسي بينها وبين المؤسسات غير الرسمية وضعف قنوات الاتصال بين النظام السياسي من جهة والمجتمع من جهة أخرى،فإن جميع هذه العوامل تقود إلى هيمنة المؤسسة التنفيذية فتكون هذه الأخيرة هي المسؤولة عن عمليات رسم وتنفيذ للسياسات العامة فتقود إلى فشل السياسات العامة في تحقيق الأهداف العامة، وما يتحقق من سياسات وأهداف لا يمثل سوى مطالب ومصالح فئة معينه في المجتمع هي أكثر ارتباطا بالنخبة الحاكمة، لذلك تكون السياسات العامة في ظل تلك العلاقة سياسات نخبويه وفئوية، ولا تتحقق ألا في إطار ضيق .
موضوع السياسات العامة، يشكل مطلبا ينبغي فهمه واستيعابه بشكل جيد ضمن الواقع المعاصر، لأنه يؤدي بنا إلى معرفة الأدوار الرسمية وغير الرسمية في عملية رسم السياسات، ويعيننا على القيام بالواجبات وتحقيق الأهداف، لأن السياسة العامة تمثل الدائرة المركزية التي تهم المواطن من النظام المجتمع (صحة، إسكان، تعليم، غذاء، طرقات، مواصلات، أمن، رفاه اقتصادي واجتماعي…). وبما أن الحكومات تمتلك السلطة على مجموع أفراد المجتمع ومخولة عنهم، لذلك فإنها تضع السياسات العامة التي تتناول أفعالها وتصرفاتها ودوافعها، ولا تشمل السياسات العامة أفعال الحكومات فحسب بل تشمل امتناعها عن فعل أشياء في حالات معينة.
ثانيا: السياسات العامة بين فكي الاقتصاد (التقويم والحوكمة) والسياسة (سياسة الحكم)
يعتبر صنع السياسات من المهام الأساسية لأي دولة، لكن هذه العملية لا تأتي من فراغ فهي ذات طابع ديناميكي ونتاج تفاعل أطراف عديدة حكومية وغير حكومية، داخلية وخارجية، وما يتضمنه ذلك من مشاورات واتصالات وضغوطات. والمجتمع المدني من جمعيات أو منظمات أو نقابات أو تجمعات أو مبادرات …الخ في المجتمع له دوراً أساسياً في عملية صنع السياسة سواء من خلال تحالفها مع بعضها البعض او صراعها مع بعضها البعض، أو مع الدولة في سبيل التأثير على عملية صنع السياسة ، أو من خلال تقديمها لأنماط عديدة من الضغوطات -المدخلات معلومات – مشاورات – خبرة – مطالب – تأييد …..الخ للنظام السياسي.
والمجتمع المدني بصياغته الجديدة لم يكن إلا نتاج أزمة، ففي حين كان لأحداث أوروبا الشرقية الفضل في تسليط الأضواء على دور المجتمع المدني في عملية التحول الديمقراطي، فإن أزمة دولة الرفاهة في أوروبا الغربية قبل سنوات مما حدث في أوروبا الشرقية هي التي أدت إلى إحياء مفهوم المجتمع المدني من جديد[4]. وبناء على ذلك برزت أدوار جديدة وعديدة منوطٌ بها المجتمع المدني، بعضها متعلق بالتحول الديمقراطي والبعض الآخر ذو صلة بصنع السياسات العامة. و تحليل دور الفاعلين الاجتماعيين في عملية صنع السياسة العامة مرهون بطبيعة العلاقة بين الدولة والمجتمع المدني، هل هي علاقة تقوم على التناقض والتعارض أم علاقة تقوم على التعاون والتكامل؟.
في هذا المبحث من الدراسة سيتم البحث في طبيعة ونشأة هذه العلاقة وشكلها من خلال العودة الى مفهوم العقد الاجتماعيّ وأهم التحولات التي طرأت على هذا المفهوم وأدت فيما بعد إلى ظهور المجتمع المدني ودوره في صنع السياسات العامة.
- المفهوم الكلاسيكي للعقد الاجتماعي
يتردد مصطلح العقد الاجتماعي منذ القدم، في فلسفات )سقراط وأفلاطون 400 ق.م), ومن ثمّ دراسته وبلورته بشكل “نظرية علمية” علي يد بعض علماء الاجتماع ، وهو عبارة عن اتّفاق مجموعة من “الأفراد” فيما بينهم لتكوين “مجتمع”، بناءً على قاعدة الفائدة المتبادلة وتجنب الأضرار، مقابل تسليم الفرد لإرادة الجماعة، ممثّلة بالسلطة.
لما كانت طبيعة الإنسان كما يراها هوبز (1679) هي الشر دائماً استلزم الأمر وجود قوة نفوذها أعلى من العقد تكون مهمتها تنفيذ العقد إجبارياً على الأفراد، هذه القوة هي الدولة أو الحكومة.
تلا هوبز جون لوك (1704) الذي اتفق معه في وجود عقد اجتماعي بين الدولة والأفراد، إلا أنه خالفه في كون سلطة الحكومة المشرفة على تنفيذ العقد مطلقة، فهو يرى أن السلطة مقيدة بقبول الأفراد لها؛ ولذلك يمكن سحب السلطة منها بسحب الثقة فيها .
أخيراً اكتملت الفكرة على يد جان جاك روسو (1778) مع فارق أساسي بينه وبين هوبز، ذلك أن روسو يرى أن الحالة الطبيعية للإنسان هي الفترة الذهبية من تاريخه، ولكن الإنسان بفعل الأطماع تجرد من النقاء الطبيعي، وانتقل إلى حالة من الفوضوية اقتضت وجود عقد اجتماعي لتنظيم حياة الناس ومحاولة العودة بهم إلى الحالة الطبيعية. [5]
- المفهوم الجديد للعقد الاجتماعي
“العقد الاجتماعي”، المصطلح كما المفهوم نشأ في الإطار الغربي، هو التوافق الضمني على مستوى المجتمع، والسابق للدولة والدستور، حول الأسس التي يقوم عليها العيش المشترك بين أفراد هذا المجتمع وعن توقعاتهم من الهيئات التي قد يجري تشكيلها لتأطير هذا العيش. أي أن “العقد الاجتماعي” هو الأساس الذي يمهد لقيام الدولة ولإعداد دستورها. فهو أكثر ثباتا واستمرارا من كل من الدولة والدستور. فالدولة قد تسقط بفعل انقلاب أو ثورة والدستور قد يعدل أو يعلق، مع استمرار “العقد الاجتماعي” كمرجع ضمني لقواعد السلوك الاجتماعي والسياسي ولما ينتظر من أي واقع جديد. أي أن “العقد الاجتماعي” هو مخزون القيم المشتركة بين أفراد المجتمع. [6]
ويرتبط تطور مفهوم “العقد الاجتماعي” بالحداثة المتشكلة في أوروبا في عصر نهضتها ثم في عصر أنوارها، والتي تدرجت لتعتبر جملة من الحقوق الإنسانية على أنها “طبيعية” غير قابلة للنقض أو التصرف من حيث المبدأ، ولا سيما منها “الحياة والحرية وطلب السعادة”، ولترى أن هذه الحقوق تصان لجميع المستحقين ضمن إطار الدولة الخادمة لمواطنيها، لا الحاكمة لرعاياها. الإشارة إلى سمة “الطبيعية” في وصف هذه الحقوق يبين القناعة بأنها لم تكن أفكارا مستحدثة بالنسبة للناظرين بها، بل إجلاء وإعراب لقيم حاضرة في الوجدان الإنساني وإن كانت تفتقد التعبير الجلي.
يذكر هنا أن الأصول الفكرية لهذا التوجه، من دون افتراض العلاقة السببية مع عدم إسقاط تأثيرها بالكامل، كانت قد برزت في المحيط الإسلامي، وإن اختلف المصطلح والتركيز، في مقاصد الشريعة، حيث حفظ النفس هو الحق بالحياة، وحفظ العقل هو الحق بالحرية، وحفظ العرض هو الحق بالكرامة، وحفظ المال هو الحق بالملكية، وحيث حفظ الدين هو التعبير المقابل للعقد الاجتماعي.
يمكن القول إن مسار الدول في أواخر القرن العشرين قد تأثر بمجموعة من العوامل من أهمها :
- التحول من النظم الاشتراكية إلى نظام الاقتصاد الحر .
- العولمة .
- التكيف الهيكلي ( الخصخصة ) .
ومن ثم فإن اغلب الدول أصبحت في حاجة إلى صياغة عقد (اجتماعي جديد) من شأنه أن يغير من طبيعة ووظائف ودور الدولة في علاقاتها بالمجتمع في ضوء انسحابها من التزامات الدولة الراعية، إلى الدولة الشريكة في التنمية مع أطراف أخرى أهمها القطاع الخاص ومنظمات المجتمع المدني والمواطنين .
تتركز الأفكار المحورية لهذا العقد في نقد التصور السائد الذي يرى أن تخفيض الفقر يتم من خلال إعانات للفقراء، ويقترح بدلا من ذلك تطبيق نموذج التمكين .وإن تحقيق الديمقراطية والمشاركة أصبح أداة أساسية للتحول الثقافي، وبذلك يستطيع المواطنون أن يمتلكوا المرافق والخدمات العامة ويديروها ويحرصوا على الحفاظ عليها .وأخيراً تأتي أهمية بناء القدرات من أجل تقديم خدمات عامة عالية الجودة .
ومعنى ذلك أن العقد الاجتماعي الجديد يتطلب إعادة صياغة العلاقة بين الدولة والمواطنين من خلال القيام بإصلاح سياسي واسع المدى يقوم على المشاركة والنقد، ووضع برنامج للتنمية المستدامة من القاعدة إلى القمة، والتركيز على مبدأ المواطنة، والانتقال من السلطوية التي ميزت أداء الدولة في الماضي إلى الديمقراطية وفتح الباب أمام تداول السلطة .
بعبارة أخرى العقد الاجتماعي[7] الجديد سواء على صعيد العلاقات بين الدول أم الصعيد الداخلي في كل دولة معناه تكييف وضع الدولة في ضوء المتغيرات السياسية والاقتصادية والثقافية الجديدة، وعدم ترك المواطنين في العراء ضحايا للرأسمالية المتوحشة التي تساعد عليها الاتجاهات الغالبة في العولمة اليوم واشراك المجتمع بعملية صنع وتقويم السياسات العامة .
ومن المفيد هنا اعتبار طبيعة “العقد الاجتماعي” في السياق الخليجي ومقارنته بما يقابله في الدول الأكثر استقرارا.
- العقد الاجتماعي من منظور خليجي
من حيث الشكل والنظم والأطر الإدارية المعتمدة، شذب القرن العشرون الدول الخليجية الناشئة، على تفاوت بين حالاتها، وفق الصيغة الأوروبية. إلا أن هذا التقدم في الهيكل لم يصاحبه تطور مكافئ في المضمون، فبقي العقد الاجتماعي ملتبسا مأزوما. من حيث المبدأ، توافقت المجتمعات الخليجية على مفهوم الدولة الخادمة لمواطنيها، ولكن من حيث الواقع، فإن الاستئثار بالسلطة بقي سيد الموقف.
الدولة الخليجية الحديثة ليست حداثية[8]، أي أنها لا تحكم من منطلق سيادة المواطن وخادمية الحاكم، بل على أساس “الهيبة” التي يجمعها الحاكم من اعتبارات ترهيب وترغيب. أما ما يقوم مقام العقد الاجتماعي فصيغة مخضرمة تجمع المفهوم الحداثي القائم على حقوق للمواطن والمفهوم الأول القائم على وجوب الطاعة لصاحب الهيبة والقوة.
فالمقايضة هنا هي أن الدولة تتوقع من المواطن الطاعة والصمت السياسي إزاء الواقع القائم والسكوت عن سلوك الحاكم ومن نال رضاه، مقابل باقة من الخدمات أهمها الصحة والتعليم والتوظيف والتقاعد.
انتفاضات “الربيع العربي” جاءت تعبيرا عن عجز الأنظمة عن الإيفاء بوعود المقايضة. ولكنها مقايضة مستحيلة، قبل الربيع العربي وبعده، ذلك أن الدولة عاجزة عن تحقيق القدر الكافي من هذه الخدمات إلا من خلال تجويفها وإفراغها من مضمونها، كله أو بعضه.
حتى دول الخليج، ذات الدخل المرتفع والصناديق السيادية الهائلة، أمست تدرك أنها تسير نحو الاستنزاف ما لم تضع حدا لدعم السلع وتعمد إلى إلغاء المخصصات والامتيازات، وما لم تلجأ إلى الجباية الضريبية.
وهنا تبرز أهمية فتح ملف يبحث في سياسة الدولة الريعية في الخليج العربي[9]، وتبحث في التداعيات المختلفة على الدول الخليجية جراء الكثير من العوامل المتداخلة، التي من شأنها إعادة النظر في البنية السياسية والاقتصادية والدستورية في دول الخليج العربي، وبشكلٍ خاص تلك الآثار الواضحة للعيان، التي ترافقت مع انخفاض أسعار النفط، وتزايد أعداد المواطنين في الخليج، والآثار التي خلفها التقدم التكنولوجي على الطلب على النفط والبدائل التي يتم التوصل إليها بشكلٍ مستمر؛ مما أثر في صعوبة تنفيذ الخطط والمشاريع في الخليج.
إن نظرية الدولة الريعية[10] بحاجة ماسة ومهمة لإعادة التفكير فيها وفي أسسها وعناصرها على ضوء المستجدات الأخيرة، ذلك أن هذا الحقل قد تجاوز تلك التأكيدات النظرية البسيطة التي تربط بين السبب الواضح والنتائج المباشرة، إذ إنها بحاجة إلى ميكانيزمات جديدة، وآليات مختلفة للفهم، والتحليل، وذلك لمعرفة آثارها على مؤسسات الدولة من جهة، وهيكلية الاقتصادات الوطنية، والثقافة السياسية. لتتوجه الأسئلة الجديدة في ضوء الوقائع الجديدة والتغيرات المختلفة إلى ما وراء العقد الاجتماعي الذي يتشكل بفعل الإيرادات النفطية، باتجاه توقعات المواطنين من حكوماتهم والأنظمة السياسية من جهة، وكيف تساهم هذه الأنظمة في تشكيل اهتمامات المواطنين ووعيهم من الجهة الأخرى.
وليس اكثر دلالة على هذا الواقع من الخبر الذي أوردته مجلة فورين بوليسي[11] إلى أن «مشروع رؤية السعودية 2030″ يهدد بتحلل العقد الاجتماعي الذي يربط الدولة بالشعب السعودي، وهو العقد الاجتماعي الذي وصفه محرر صحيفة الاندبندت بأنه عقد اجتماعي غير معلن قائم على قبول انعدام الحريات السياسية مقابل الحصول على حصة من ثروات البلد النفطية من خلال الوظائف الحكومية ودعم المحروقات، والغذاء، والسكن وغيرها من الامتيازات الاجتماعية المدعومة من قبل الدولة.
وذلك العقد الاجتماعي مهدد فعلياً بالتداعي بتبني نموذج «الصدمة الاقتصادية الاجتماعية» عبر تحول مفاجئ من نموذج دولة الرفاه الريعية إلى نموذج الاقتصاد النيوليبرالي المتوحش الذي يتضاءل فيه دور الدولة إلى حد كبير، ويتحول المجتمع فيه إلى غابة لا بقاء فيها إلا للأصلح ولا حق للمواطن فيها سوى الذي يستطيع اجتراحه وفق قوانين السوق.
ثالثا: صنع السياسات العامة في بلدان الخليج العربية بين عدم القدرة وعدم الرغبة
أن الحكومات الخليجية تتولى صياغة وتنفيذ عدد كبير من السياسات المالية والاقتصادية والاجتماعية، على غرار سائر الحكومات حول العالم، إلا أن كثيراً من الغموض يشوب عمليات إعداد تلك السياسات، وتتعرض إلى تشوهات عند تنفيذها نتيجة طبيعة الأجهزة البيروقراطية بشقيها المركزي والمحلي، ونادراً ما تخضع إلى أي تقييم دقيق وموضوعي لتكلفتها المالية وآثارها الاقتصادية والاجتماعية والبيئية.
إن أي قرار بسن سياسة حكومية ما، يؤدي إلى تخصيص الموارد العامة[12] الشحيحة لغرض معيّن عوضاً عن تخصيصها لسياسات بديلة أخرى. في هذا السياق، ثمة دور حاسم للتحليل المسبق للسياسات في تحديد الخيارات، بهدف تحقيق توازن مقبول بين عناصر كثيرة ومتداخلة في عمليّة صياغة السياسات تشمل تحليل السياق السياسي، والظرفية الاقتصادية والاجتماعية، ومعرفة اتجاهات الرأي العام، فضلاً عن التأثيرات الاقتصادية والاجتماعية المتوقعة للسياسات.
ويحتاج صانعو السياسات أن يقنعوا الرأي العام بأن أي تخصيص للموارد لتعزيز أو إعانة قطاع اقتصادي معيّن أو شريحة مختارة من الأُسر أو المؤسسات، يسعى في النهاية إلى خدمة المصلحة العامّة وتحسين رفاه المجتمع وفي شكل أفضل من أية خيارات أخرى متاحة.
- الخلل نتيجة عدم القدرة
من المؤكد أن صانعي السياسات في سائر الدول يخضعون إلى ضغوطات سياسية ومطالب فئوية تؤثر في خياراتهم في مجال السياسات. مع ذلك تختلف الدول الديمقراطية عن غيرها بسبب عوامل أساسية ثلاثة تساهم في ترشيد عملية وضع السياسات.
أولاً، لكل فرد الحق في الانتماء إلى تنظيمات سياسية ومدنية بهدف التأثير على عملية صنع السياسات، وثمة حالات كثيرة تراجعت فيها الحكومات عن سياسات تخدم مصالح مجموعات ضغط كبرى بسبب معارضة جمعيات محلية صغيرة خلقت تعاطفا واسعاً حول قضيتها.
ثانياً، تساهم الصحافة المستقلة ومنتديات الفكر ومؤسسات البحث العلمي والأكاديمي في تنوير الرأي العام وبالتالي التأثير على عملية صنع السياسات.
ثالثاً، صحيح أن الكثير من السياسات العامة يُؤدي إلى إعادة توزيع المنافع، أي أنها تفرِض تكاليف على مجموعة مقابل تحويل منافع لصالح مجموعة أخرى، ما قد يُحسِّن رفاه بعض الأفراد على حساب رفاه أفراد آخرين، إلا أن هذا الأمر يكتسي أهمية ً بالغة في عملية التناوب على السلطة بين الاتجاهات السياسية الوازنة داخل المجتمع، حيث تكون الانتخابات مناسبة لمعاقبة الحكومة على سياساتها أو فرصة لتجديد الثقة فيها.
وتفتقر الدول الخليجية في شكل عام إلى العوامل الثلاثة، وتتسم فيها عملية وضع السياسات بالغموض والمركزية المفرطة، والمشاركة المحدودة حتى للمعنيين المباشرين بالسياسات. ويبدو جلياً ضعف قدرة الهيئات المسؤولة على وضع السياسات في تقديم الحجج الموضوعية المناسبة لدعم خياراتها، ولا تشعر بالحاجة إلى ذلك في كثير من الأحيان بسبب غياب المساءلة التي تشكّل أحد الدعائم الأساسية في تحسين صنع السياسات والتي تفرض الشفافية في اتخاذ القرار، بدءاً من صياغة السياسات وصولاً إلى تنفيذها وتقييم آثارها.
- الخلل نتيجة عدم الرغبة
من نافل القول أن كل نظام اجتماعي، أينما كان، هو بناء ليس خالداً ويتعرض بمرور الوقت للعوامل غير المواتية وللتصدّع والخراب، وهو لذلك بحاجة إلى أن يعاد ترميمه وبناءه باستمرار. ويُرجع فيريرو السبب في ذلك إلى أن مبدأ الشرعية الذي يقوم عليه النظام الاجتماعي هو شيء وقتي عابر لا يملي إرادته إلى ما لا نهاية.
وإذا تتبعنا بدقة الهندسة الاجتماعية هذه لوجدناها غير مسبوقة تاريخياً في قصر فترتها، وفي عنفها إزاء أنماط الإنتاج والاستهلاك التقليدية، بل وحتى في وجهها الثقافي. والصفة التي يجدر رصدها بدقة في العقود الثلاثة الأخيرة، على الصعيد السياسي، تكمن في تمتع السلطة الخليجية باستقلالية لا مثيل لها عن مجتمعها. ويكتسب هذا الاستقلال ثلاثة أوجه يجب أخذها جميعاً بعين الاعتبار:
الأول: الاستقلال الاقتصادي
وهو ما شكل أساس مفهوم الدولة الريعية والذي استند على تحليل عوائد النفط. لكن الاستقلال الاقتصادي لا يتركز فقط في عدم الاعتماد على فرض ضرائب على المواطنين، لكنه يشمل قدرة السلطة على ممارسة ما أسماه بول فياي تفكيك المجتمع، وإعادة تشكيله واختراقه، وفي النهاية الهيمنة عليه. ولا تشكل عمليات الرعاية التي ركّز عليها مفهوم الدولة الريعية إلا أقل الأمور أهمية مقارنة بفتح البلاد على مصراعيها لاكتساح قوى السوق العالمية التي لا تشمل السلع المادية وحسب بل الوسائط الخدمية والثقافية، إضافة إلى البنية الحقوقية والقانونية.
الثاني: الاستقلال عن العمالة المحلية
يشكل وضع العمالة غير المواطنة ذات النسب الكبيرة( بلغ عدد العمالة الوافدة في دول الخليج 13 مليوناً بما يشكل 67.8% من إجمالي العمالة، الإمارات تشكل 88.5% وفي قطر 87.3%)[13] عنصراً من عناصر استقلالية السلطة عن المجتمع. فمن الواضح أن قوة العمل الأساسية في هذه المجتمعات يتم استيرادها كسلعة من الخارج للاستخدام لفترة محددة دون أي حقوق سياسية وبأقل الحقوق التفاوضية في سوق العمل، وهي معرضة للترحيل حينما تنتفي الحاجة لها. إن هذه الوضعية تمكن الدولة الخليجية من الانتفاع من قوة عمل ماهرة دون التعامل معها كجزء من مجتمعها التمثيلي الذي يجب عليها أن تلبي، أو على الأقل أن تظهر استجابتها لتلبية حاجاته وتحقيق قيمه (هكذا تُفهم عملية توليد الشرعية والمحافظة على استمرارها).
بالمقابل فإن هذه الأعداد الضخمة من قوة العمل الخارجية، عربية كانت أم أجنبية، تُهمش المجتمع المحلي سياسياً أمام نظام حكمه وذلك عبر إزاحته من مواقع الإنتاج التي يمكن من خلالها أن يتم صراع اجتماعي أو سياسي.
الثالث: الاستقلال الأمني/العسكري
برغم صغر أسواقها، فإن دول الخليج تقوم بإنتاج سلعتين استراتيجيتين على الصعيد الدولي، النفط والفوائض المالية. وهو ما أدى إلى مد الضمانات الأمنية الغربية إلى جميع دول الخليج. وهذه الضمانات التي جرى اختبارها مراراً بنجاح تضيف ركناً حيوياً لإقواء السلطة الخليجية وحمايتها مما يتهددها من التحديات الداخلية والخارجية.
وقد سعى الغرب أثناء الحرب الباردة والعقد والنيف اللذين تلاهما إلى الإبقاء على الأوضاع القائمة في الخليج دون تغيير بسبب خوفه أن تدخلاً أقل ربما يقود لنجاح الاتحاد السوفيتي في التأثير على المنطقة أو أن الاضطراب في الخليج قد يجرّ إلى اضطراب إمدادات النفط مع ما يحمله ذلك من زيادة لا تحمد عواقبها في الأسعار.
من آثار هذا التدخل تجميد عملية الإصلاح السياسي في الداخل كنتيجة للاعتماد على الضمانات الأمنية الغربية وعلى استقلالية السلطة في الميدان الأمني حيث بات الاعتماد الطبيعي على مواطنيها للتعبئة العسكرية أمراً قليل الأهمية. ومن الواضح أن الحاكم الذي لا يستمد وضعه من الرضا الداخلي عليه بل من حماية القوى الأجنبية، يعيش علاقة فريدة مع شعبه: فالأدبيات السياسية تكاد تُجمع أنه من المتعذر أن تستمر تشكيلة حاكمة دون دعم داخلي من طبقة اجتماعية أو إثنية أو طائفة تسند الحكم في وجه مناوئيه في الداخل وتوفر له الشرعية، وبمقابل هذه الشرعية يقوم الحاكم بأداء واجبه في عقد صريح وإن لم يكن مكتوباً وهذا الواجب بالغ التعقيد، ويتضمن فيما يتضمن توفير الأمن وإدارة نظام قانوني يضمن حقوق الأفراد والجماعات، ويلبي ضرورات اقتصادية في حد معين يتفاوت من مجتمع لآخر يمكن للأفراد عبره من الإنتاج والعيش. بيد أن هذا التوازن بين واجبات الحاكم وحقوق المواطنين ينهار حينما تأتي قوى خارجية لتضمن للحاكم وجوده.
- الدولة الخليجية: سلطة مطلقة و مجتمع عاجز
إن البلدان الخليجية اليوم تقف على مفترق الطرق وتحتاج الى إعادة النظر بشكل جدي وعميق في أسلوبها في وضع وتنفيذ وتقييم سياساتها المختلفة. فإضافة إلى الإصلاحات المؤسسية وعلى صعيد الحوكمة، تحتاج هذه البلدان إلى نقاشات مجتمعية مفتوحة حول السياسات العامة تهدف إلى تحسين ثقافة الحوار والمشاركة والمسؤولية.
وبدلاً من أن يستند صانعو السياسات وأصحاب المصلحة إلى ادّعاءات مبنية على الحدس أو الخبرة المختارة في شكل مقصود لدعم مصالحهم، ينبغي تطوير برامج تدبير السياسات العامة والاستعانة بالحجج المبنية على تقييمات علمية موضوعية تنجزها الجامعات ومراكز الأبحاث المستقلة.
ويلجأ صانعو السياسات في الدول الخليجية إلى مؤشرات غير دقيقة، بل ومخطئة من الوجهة العلمية، لتعظيم إنجازهم في شكل هو أقرب بكثير إلى الدعاية الشعبية منه إلى التقييم الفعلي للسياسات. وتساعد البنية الإدارية المعقّدة وغياب المعلومات المفيدة والحديثة حول تكاليف وتداعيات السياسات العامة ونتائجها إلى تشتّت المسؤولية وتبديد الموارد المحدودة للدول. تُبصر هذه المشاريع والبرامج المتعارِضة النور في معظم القطاعات الحكومية؛ وتُسلّط الضوء على سوء تنظيم عملية صنع السياسات في الخليج العربي وعلى الحاجة الملحّة إلى تعزيز هذه الآلية. وليس ادل من المثال التالي:
في 17 آذار/مارس 2019، أطلق وزير البيئة والمياه والزراعة السعودي[14] عبد الرحمن الفضلي برنامج “قطرة”، وهو برنامج وطني جديد للحفاظ على المياه بغية ترشيد استهلاكها في السعودية التي تُعتبَر من البلدان الأكثر جفافاً في العالم وهي ثالث أكبر مستهلك للمياه للفرد الواحد. في الأسبوع التالي، أعلن مكتب الإدارة الاستراتيجية لرؤية 2030 إطلاق العديد من المشاريع الجديدة الكبرى في العاصمة لبناء مساحات خضراء، منها حديقة الملك سلمان ومشروع الرياض الخضراء. الهدف من المشروعَين هو تحويل قلب الرياض إلى الحديقة المدينية الأكبر في العالم. تبلغ كلفة مشروع الرياض الخضراء 23 مليار دولار، ويشتمل على حديقة مائية تمتد على مساحة 14 هكتاراً (35 أكراً) وقناة بطول 3.5 كليومترات (2.2 ميلَين). سوف تستهلك الحديقة المزمع إنشاؤها ما لا يقل عن ربع مليون متر مكعّب من المياه يومياً، ما يؤدّي إلى استنفاد كميات المياه التي يمكن ادّخارها بموجب برنامج “قطرة” في منطقة الرياض.
وعلى الرغم من إحداث هيئات تضطلع بإجراء تقييمات السياسات العامة في بعض الدول الخليجية في شكل لجان برلمانية أو ديوان المحاسبة، إلا أن تلك الهيئات تبقى ضعيفة ومعظم عملها ينحصر في إطار الدعاية من أجل الاستهلاك العام والاستخدام السياسي من دون أي متابعة فعلية وحقيقية. [15]
إن هذه الدول الخليجية البالغة الاستقلال تظهر قوية جداً أمام شعوبها. فهي لا تتمتع فقط بمزايا اقتصادية وأمنية وسكانية تغنيها عن الاعتماد على مواطنيها، إنها فوق كل ذلك، ونتيجة لكل ما سلف ذكره، تتمتع بأهم مزية: إلغاء الحاجة لنيل الشرعية. بمعنى آخر، فإن النهاية المنطقية لدولة بالغة الاستقلال في مجال الاقتصاد وتوفير قوة العمل والأمن هو تحرير السلطة من قابلية المحاسبة، من ضرورة قيامها بتقديم تبريرات حقيقية أو ظاهرية تقول أنها تلبي مطالب شعبية أو أنها تسعى لتحقيق أهداف عامة مرغوبة.
إن المشكلة الملازمة لكل الدول الحديثة وهي مكابدة أزمة دائمة للشرعية تصبح مشكلة لا وجود لها في الخليج. ومن هذا يتبين أنه برغم وجود كل الشروط التقليدية لوجود أزمة إلا انه لا تظهر على السطح أية أزمة. وليس صعباً معرفة السبب: إن السلطة الخليجية لا تملك شعباً؛ وهو الشيء نفسه الذي نصفه حينما نقول بأن الشعب الخليجي لا يملك سلطة.
لهذا فإن اتجاهات الرأي العام الخليجي اللامبالية ظاهرياً تجاه السياسة، يجب تفسيرها في الاستقلالية البالغة التي تتمتع بها السلطة الخليجية. وهذا ربما يكون حجر الزاوية في عملية الإقصاء السياسي التي تتصف بها المنطقة الخليجية.
وعلى عكس مفهوم الدولة الريعية القائم على تحقيق الشرعية عبر ما يمكن أن تسميه “رشوة عامة” فإننا صرنا نمتلك تصوراً أكثر تماسكاً. وهو تصور وإن لم يكن ينكر دور الإنفاق العام والتحرر من ضرورة دفع الضريبة في تهدئة المواطنين إلا أنه تصور يضع بالإضافة إلى المداخيل النفطية العاملين الإضافيين، السكاني والأمني كأركان أخرى لنجاح النظام الخليجي في ضبط مواطنيه. ونتيجة ذلك كله هو الإخلال بالتوازن الدقيق بين الحكام والمحكومين وبدفع السلطة إلى منزلة شاهقة من الهيمنة على المجتمع.
تلك مجموعة من السياسات المطلوبة والعاجلة اليوم في دول الخليج، ولم يعد أحد يأخذ بالجدية الكاملة (مشروعات التحول من النفط الى اقتصاد منتج)، فليس النقص في الافكار[16] انما النقص في الرغبة في التطبيق والاستعداد لدفع ثمن ذلك التطبيق . ان افكار البدائل في دول الخليج تتصف بالتماثل المكتبي في اهدافها، وتستخدم تقريبا نفس المفردات، كمثل مساهمة القطاع الخاص او الاعتماد على الابتكار، او بناء مجتمع المعرفة، او التحول (للحكومة الذكية) او بناء (المدن الذكية) ، الا انها مفردات و مشروعات لازالت ورقية، لم تظهر الدولة بعد الجدية المطلوبة في تحويلها الى برامج عمل يصاحبها جدول زمني محدد وخطوات تنفيذية ملموسة، واعادة هيكلة للقطاع العام او ترقية التعليم وتجويده، تلك قرارات سياسية لم تتخذ في الغالب بعد.
فالمعضلة التي تواجه دول الخليج ان هناك تراجع في الدخل النفطي يتوجب التفكير في مخارج لتعويضه، وتلك المخارج في معظمها تحتاج الى قرارات سياسية، ربما هي صعبة على متخذ القرار اليوم وربما موجعة، لسبب اجتماعي ( تقليص دور دولة الرعاية) او لسبب سياسي ( تقديم تنازلات في المشاركة الجادة في اتخاذ القرار) وما يتطلبه من سيادة القانون على الجميع والمساواة في الحقوق والواجبات.
الخاتمة
تعتبر السياسات العامة أداة شديدة الأهمية تعتمدها السلطات العامة لحلّ معضلة اقتصادية أو اجتماعية معينة أو الحصول على نتيجة يرغب فيها المجتمع، ويتعذر بلوغها بشكل تلقائي من دون تدخّل الحكومة. وتتطلب عمليّات صياغة السياسات العامّة وتنفيذها بشكل فعّال على أرض الواقع وتقييم تأثيراتها المباشرة والثانوية في الأفق المنظور وعلى المدى البعيد توفير مجموعة من الشروط السياسية، والمؤهلات المؤسساتية، والقدرات الفنية، والجهود التواصلية بهدف تحقيق الفائدة القصوى للمواطنين.
رغم انّ الحركات الاحتجاجية التي اندلعت في سياق ثورات الربيع العربي قد أثرت في مختلف المجتمعات الخليجية، إلا انّ حالة التأهب لدى الحكام من أجل اتخاذ قرارات جريئة تتناسب مع تطلعات شعوبها بالمشاركة السياسية الفعالة لم تترجم عمليّا على أرض الواقع بسبب غياب استراتيجيات شاملة و متكاملة بين مختلف المجالات للتطوّر السياسي.
فقد أحدث صانع القرار في هذه الدول مبادرات استباقية، تمثّلت في منح مالية للعائلات و دعم الكثير من المواد الغذائية، لمواجهة محاولات استنساخ الحراك الغاضب في بعض الأقطار العربية و دعوات متفرقة لإجراء تغييرات إصلاحية في الأنظمة السياسية الخليجية. و لذلك، لازالت اغلب دول الخليج تواجه تحديّات بناء الدولة الحديثة على أساس مقوّمات سيادة القانون و تفعيل دور المجتمع المدني و كذلك استئصال الفساد الذي من شانه أن يحقق التنمية و السلم الاجتماعي داخل مجتمعاتها.
و يمكن تصنيف معرقلات[17] التطوّر السياسي نحو الدولة الحديثة الى ثلاث مسائل أساسية:
أولا، أغلب دول الخليج لم يكتمل بناء الدولة الحديثة فيها، في ظلّ ضعف المؤسسات البرلمانية أو تهميش القوانين الدستورية بسبب تواصل مفهوم شخصنة صناعة القرار. و بالتالي، لا يمكن لنظام سياسي مبني على تقديس الشخص الحاكم أو المتنفذّ في السياسة أو مجال المال و الأعمال إرساء تقاليد دولة مؤسسات من شانها أن تحقق التوازن و العدالة داخل المجتمع.
ثانيا، لا زالت دول الخليج تعاني من إضعاف لدور المجتمع الأهلي و تهميش لأدوار الحزب السياسي أو النقابات أو الصحافة برغم من أنّ المعطى القبلي بدأ يتقلص وازدادت نسبة التعلّم و قدرة المواطن على الانخراط بحسّ سياسي واعي في إدارة الصالح العام. و لكن عدم وجود إطار قانوني ودعم جديّ من الحكومات الخليجية يعرقل تفعيل الدور المهم للمجتمع الأهلي في بناء التطوّر السياسي رغم توّفر الكفاءات والموارد البشرية والمادية، بالإضافة الى المبادرات التي من شانها أن تساهم في انخراط فعّال للمواطن داخل الشأن العام.
وفي ذات السياق يجب على الحكومات الخليجية أن تدعم حيويّة المجتمع الأهلي باعتباره ضامنا لفعالية و شفافية مشاريع بناء الدولة و مهمته الأساسية تقريب الدولة الى مصالح الناس وهمومهم الحقيقية بعيدا عن تمركز السلطة في أيدي أشخاص متنفذّة. و بالتالي، فتوّجه الدولة نحو تمكين و تقوية مختلف الفاعلين في المجتمع المدني يضفي حيوية داخل المجتمع و يزيد ثقة المواطن في صناع القرار.
أما ثالثا، و مما لا شك فيه انه لا يمكن تناسي وضعية المرأة الخليجية التي يغلب عليها التهميش أو الانسحاب الإرادي من المشاركة السياسية بالرغم من نسبة التعلّم المرتفعة والكفاءات الجامعية، ممّا يؤثر سلبيا على تطوّر ثقافة الانخراط المجتمعي ويعطل مسار بناء الدولة الحديثة وتعيق مبادراتها وتهمّش كفاءاتها في إدارة الشأن العام.
يتطلب تعزيز آلية صناعة السياسات العامة في دول الخليج العربية تمكين الكيانات الحكومية وغيرها من أصحاب الشأن، لا سيما الخدمة المدنية المهنية. يقتضي ذلك تطوير إمكاناتهم في تحليل السياسات وإعدادها، واستخدام موظفين حكوميين مؤهّلين ويتقاضون رواتب جيدة، وتأمين مشاركتهم وتمكينهم في إطار الآلية الكاملة لصناعة السياسات العامة – بدءاً من وضع الأجندة وصياغة السياسات وصولاً إلى اتخاذ القرارات بشأن تلك السياسات وتطبيقها وتقييم النتائج. من شأن ذلك أن يساهم في تعزيز الدور الطبيعي لوزارة الاقتصاد والتخطيط في صناعة السياسات المحلية.
وهنا يجب ان نشدّد على العوامل السياسيّة الضروريّة لتحقيق التنوّع الاقتصادي والإصلاح الجوهري. إنّ حكومات مجلس التعاون الخليجي تركّز إجمالاً على المحافظة على السلطة عوضاً عن تحسين المجتمع، وهذا ما يولّد تضارب مصالح في ما بين المحكومين والحاكمين. وهنا نقترح زيادة التنمية لتشجيع قيام نظام ديمقراطي بشكل أكبر، كما حصل في حالة الدول الآسيويّة مثل سنغافورة وكوريا الجنوبية. فَمع زيادة التنوّع الاقتصادي، يزداد الاستقلال الذاتي في شتّى القطاعات. وعلى العموم، فإنّ قرار التنوّع الاقتصادي يبدو أشبه بقرار سياسي عوضاً عن قرار اقتصادي، بما أنّ السياسيّين هم من يقرّرون إصداره أم لا.
فالإمكانيّة موجودة، إلّا أنّه من الضروري تناول المناقشات المهمّة حول العقود الاجتماعيّة في هذه الدول والنماذج المطلوبة للنهوض بالإصلاحات، وبناء إجماع جديد ما بين النُخب السياسية والعامّة. وعلى العموم، فقد بينت الدراسة أهميّة أن يواكب الإصلاحُ السياسي (الرغبة من خلال نظام الحكم) الإصلاحَ الاقتصادي (القدرة من خلال الحوكمة والتقويم).
قائمة المصادر والمراجع:
- أدهم عدنان طبيل، المجتمع المدني وصنع السياسات (الخدمات الاجتماعية نموذجاً)، مجلة الحوار المتمدن، العدد 4757- تم الاطلاع عليه بتاريخ 24/3/2015 http://www.ahewar.org/rss/default.asp?lt=27
- التعليم من أجل المشاركة | مقرر السياسة العامة للدولة/عملية صنع السياسات العامة ، المعهد الدنماركي المصري للحوار، تم الاطلاع بتاريخ 2015 http://www.cefp-edu.com/ar/Curriculum/Details/26\
- الحسن عاشي، تقييم السياسات يُعتبر حلقة مفقودة في العالم العربي – مركز كارنيغي للشرق الأوسط – مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، تم الاطلاع بتاريخ: 11/3/2014
https://carnegie-mec.org/2014/03/11/ar-pub-5490
- الخليج: نمو الوافدين 4.8% والمواطنين 2.9%، جريدة القبص، العدد 12780 ، تم الاطلاع عليه بتاريخ 29 يناير 2020 https://alqabas.com/article/5746948-
حسن منيمنة، العقد الاجتماعي المأزوم وحتمية “الربيع الثاني، تم الاطلاع عليه بتاريخ 2/05/2018
https://www.alhurra.com/different-angle/2018/05/02
- سهام الدريسي، معوّقات التطور السياسي في دول الخليج العربي، تم الطلاع عليه بتاريخ 14/4/2014
https://mpcjournal.org/arabic/blog/2016/04/14/
- طارق يوسف، تنوّع الاقتصادي في مجلس التعاون الخليجي: دروس الماضي وتحديات المستقبل، مركز بروكنجز الدوحة، تم الطلاع بتاريخ 10/9/2019 https://www.brookings.edu/ar/events
- عدنان عبد الأمير مهدي الزبيدي، تقويم السياسة العامة: دراسة نظرية – المركز الديمقراطي العربي للدراسات الاستراتيجية الاقتصادية والسياسية ، تم الاطلاع عليه بتاريخ 17/8/2017
https://democraticac.de/?p=48534
- علي بن سليمان الرواعي، سياسات الدولة الريعية في الخليج العربي | مجلة الفلق الإلكترونية العدد 33، تم الاطلاع عليه بتاريخ 12/5/2018 https://www.alfalq.com/?p=10900
- فتحى سيد فرج، العقد الاجتماعي الجديد، الحوار المتمدن، العدد 2246- تم الاطلاع عليه بتاريخ 4/9/2008
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=130864&r=0
- محمد الرميحي، تنويع مصادر الدخل في دول الخليج: الاماني والحقائق تم الاطلاع عليه بتاريخ 28/2/2017https://rumaihi.info/2017/02/28/%d8
- محمد عبيد غباش، مفاهيم السلطة في الخليج، مركز الخليج لسياسات التنمية، تم الاطلاع في تاريخ: 18/5/2019 http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=130864&r=0
- مركز كارنيغي للشرق الأوسط – مؤسسة كارنيغي للسلام الدولية تقييم السياسات يُعتبر حلقة مفقودة في العالم العربي https://carnegie-mec.org/2014 /03/11/ar-pub-54909
- مروان معشر، تغييرات كبيرة تحدث.. هل العرب مقبلون على ثورات جديدة؟ تم الاطلاع عليه بتاريخ 18/11/2018 https://midan.aljazeera.net/reality/politics/2018/11/18/
- مصعب قاسم عزاوي، تفسخ العقد الاجتماعي العربي،القدس العربي، تم الاطلاع بتاريخ :7/8/2017
https://www.alquds.co.uk/
- مهند العزاوي، مفهوم وخصائص السياسة العامة الحكومية، تم الاطلاع عليه بتاريخ 24/5/2018
https://www.alhadathcenter.net/views/40896-2019-06-10-21-06-46
- مهند العزاوي، أثر البيئة الاستراتيجية في رسم السياسة العامة الحكومية، تم الاصلاع عليه بتاريخ 6/10/2019 https://www.alhadathcenter.net/views/40896-2019-06-10-21-06-46
- هادي فتح الله، تحدّيات صنع السياسات العامة في السعودية، صدى تحاليل عن الشرق الأوسط، تم الاطلاع بتاريخ 22/7/2019 https://carnegieendowment.org/sada/79189
[1] مهند العزاوي، مفهوم وخصائص السياسة العامة الحكومية، تم الاطلاع عليه بتاريخ 24/5/2018 https://middle-east-online.com/%
[2] عدنان عبد الأمير مهدي تقويم السياسة العامة: دراسة نظرية – المركز الديمقراطي العربي للدراسات الاستراتيجية الاقتصادية والسياسية ، تم الاطلاع عليه بتاريخ 17/8/2017 https://democraticac.de/?p=48534
[3] مهند العزاوي، أثر البيئة الاستراتيجية في رسم السياسة العامة الحكومية، تم الاطلاع عليه بتاريخ 6/10/2019
https://www.alhadathcenter.net/views/40896-2019-06-10-21-06-46
[4] أدهم عدنان طبيل، المجتمع المدني وصنع السياسات (الخدمات الاجتماعية نموذجاً)، مجلة الحوار المتمدن، العدد 4757- تم الاطلاع عليه بتاريخ 24/3/2015 http://www.ahewar.org/rss/default.asp?lt=27
[5] فتحى سيد فرج، العقد الاجتماعي الجديد، الحوار المتمدن، العدد 2246- 4-9-2008
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=130864&r=0
[6] حسن منيمنة، العقد الاجتماعي المأزوم وحتمية “الربيع الثاني، تم الاطلاع عليه بتاريخ 2/05/2018
https://www.alhurra.com/different-angle/2018/05/02
[7] مروان معشر، تغييرات كبيرة تحدث.. هل العرب مقبلون على ثورات جديدة؟، تم الاطلاع عليه بتاريخ 8/11/
2018 https://midan.aljazeera.net/reality/politics
[8] محمد عبيد غباش، مفاهيم السلطة في الخليج، مركز الخليج لسياسات التنمية، تم الاطلاع في تاريخ: 18/5/2019
https://www.aljazeera.net/specialfiles/pages/480646bb-029c-43bb-bee6-d10db94abe22
[9] طارق يوسف، تنوّع الاقتصادي في مجلس التعاون الخليجي: دروس الماضي وتحديات المستقبل، مركز بروكنجز الدوحة، تم الطلاع بتاريخ 10/9/2019 https://www.brookings.edu/ar/events
[10] مصعب قاسم عزاوي، تفسخ العقد الاجتماعي العربي، القدس العربي تم الاطلاع بتاريخ: 7/8/2018 https://www.alquds.co.uk/
[12] الحسن عاشي، تقييم السياسات يُعتبر حلقة مفقودة في العالم العربي – مركز كارنيغي للشرق الأوسط – مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، تم الاطلاع بتاريخ: 11/3/2014 https://carnegie-mec.org/2014/03/11/ar-pub-54909
[13] جريدة القبص، الخليج: نمو الوافدين 4.8% والمواطنين 2.9%، العدد 12780 ، تم الاطلاع عليه بتاريخ 29 يناير 2020 https://alqabas.com
[14] هادي فتح الله، تحدّيات صنع السياسات العامة في السعودية، صدى تحاليل عن الشرق الأوسط، تم الاطلاع بتاريخ 22/7/2019 https://carnegieendowment.org/sada/79189
[15] علي بن سليمان الرواعي، سياسات الدولة الريعية في الخليج العربي | مجلة الفلق الإلكترونية، تم الاطلاع عليه بتاريخ 12/5/2018 https://www.alfalq.com/?p=10900
[16] محمد الرميحي، تنويع مصادر الدخل في دول الخليج: الاماني والحقائق، تم الاطلاع بتاريخ 29/02/2017
https://rumaihi.info/2017/02/28/%d8%
[17] سهام الدريسي، معوّقات التطور السياسي في دول الخليج العربي، تم الطلاع عليه بتاريخ 14/4/2014