
إشكالية الأجناسية بين النقدين العربي و الغربي
Genre Overlapping among Western and Arab Critic
جبور أم الخير/ أستاذة محاضرة/ جامعة محمد بن أحمد وهران 2 /الجزائر .
Professor DJEBBOUR Oum El Kheir – University of Oran 2 – ALGERIA
مقال نشر في مجلة جيل الدراسات الادبية والفكرية العدد 62 الصفحة 109.
Abstract:
The issue of literary over lapping subsumes within the framework of literary theory or literary poetry. As a matter of fact, the boundaries between literary genres fade away either temporarily or permanently. Poetry overlaps with or with other arts. This is due to what the author’s attitude towards freedom of creativity or modernity.
Genre overlapping is connected to the text concept. Indeed, the determination of the text nature, including its salient characteristics and mechanisms, contributes to the perception of genres purity or their overlapping and the subsequently resulting mixture of the latter. A genre is comparable to a textual contract between a writer and a reader while overlapping is analogical to an act of rebellion over a previous contract.
Both Western and Arab literary critical studies investigated this phenomenon and scrutinized the creator’s preoccupations with regard to this modernist overlapping of literary genres. This experience opened new horizons to writers in view of the demonstration of a new artistic reality in which a limitless freedom of creativity interacted with their peculiar immanence. In addition to this, valuable opportunities for optimum writing mechanisms, impregnated with humanitarian views, were provided.
It is undebatable that a sound knowledge of the literary genres plays a significant role in literary history as well as in textual and artistic development. For this reason, the controversy revolving around this question involves two outstanding groups comprising proponents and opponents of genre overlapping.
Keywords: Literary over lapping / theory / literary genres / critical studies / writing mechanisms.
الملخص:
تدرج إشكالية تداخل الأجناس الأدبية ضمن نطاق نظرية الأدب أو ضمن الشعرية الأدبية. فأحيانا تختفي الفواصل بين الأجناس الأدبية بصورة مؤقتة أو دائمة، فيتداخل الشعر مع النثر أو باقي الفنون و يكون السبب ما يعلنه الأديب من حرية الإبداع و حداثة.
و يتصل موضوع تداخل الأجناس بمفهوم النص، إذ أن تحديد طبيعة النص بمواصفاته و آلياته يساهم في الحكم على صفاء الأجناس أو تداخلها و اختلاطها. فالجنس هو بمثابة عقد نصي بين كاتب و قارئ، أما التداخل فهو تمرد على ذلك العقد المسبق.
قاربت الدراسات النقدي العربية و الغربية هذه الظاهرة و دققت في عملية اشتغال المبدعين بهذا التداخل الحداثي للأجناس الأدبية، فهذه التجربة فتحت آفاقا جديدة للأدباء، بغية إبراز واقع فني جديد ، تفاعلت معه ذاتيتهم الخاصة بحرية لا حدود لها، و فاتحة أمامهم كذلك آليات لكتابة إبداعية جديدة، تشبعت برؤية إنسانية.
الأكيد أن المعرفة الكلية بالجنس الأدبي تساهم في تطور التاريخ الأدبي و كذا التطور النصي و الفني. ولهذا انقسم الجدال التنظيري لهذه الإشكالية إلى قسمين، بين مؤيد ورافض لتداخل الأجناس.
الكلمات المفتاحية: الأجناسية / نظرية/ التداخل/ الأدب/ الكتابة/ الشعر و النثر.
مقدمة:
شهدت الإبداعات الحديثة ظاهرة لافتة مست الأجناس الأدبية في صميمها ، بحيث أصبحت هذه الأخيرة تتجاور و تتداخل في النص السردي الواحد، بل تذوب و تنصهر في هيكل واحد، متحدية التصنيفات التقليدية و الكلاسيكية التي تعودها المتلقي، لقد سعت هذه القوالب الجامدة لسنوات وعقود، أن تحافظ على هذه الفواصل الثابتة و القارة كقوانين و مفاهيم أساسية، يتم بواسطتها الحكم على جمالية النص وتقييمه فنيا.
وقد قارب النقد المعاصر هذه الظاهرة اللافتة، مدققا في عملية اشتغال المبدعين بهذا التداخل الحداثي للأجناس الأدبية، فهذه التجربة فتحت آفاقا جديدة للأدباء، بغية إبراز واقع فني جديد، تفاعلت معه ذاتيتهم الخاصة بحرية لا حدود لها، و فاتحة أمامهم كذلك آليات لكتابة إبداعية جديدة، تشبعت برؤية إنسانية. و لكن المؤكد أن هذا النمط الجديد لم يظهر من فراغ و لم ينزل من السماء، وإنما كانت له إرهاصاته الأولى، البسيطة والجزئية، ثم اكتسح المجال الكتابي كلية تقريبا، فارضا نفسه ومشككا في الموجود الكلاسيكي القديم. كما أسهم هذا النمط الجديد في انتقال مجال الرؤية عند القارئ من محدوديته إلى فضاء أوسع، فتعددت القراءات و أضحت إنتاجية النص لصيقة بمخزون ثقافي و نفسي لا محدود يفعّله القارئ بطاقاته الخاصة.
تتبعت الدراسات النقدية العربية و الغربية هذه الظاهرة الحديثة، فانتبهت إلى ظاهرة إزالة الفواصل بين الأجناس الأدبية كتجربة مؤقتة و محدودة أحيانا و ثابتة أحيانا أخرى. فهذا التزاوج داخل النص الواحد يتكيف مع الإبداع الحداثي و التعددي و لا يناقض الجانب الشعري و الجمالي للنص الإبداعي من منطلق قانون التطور و قانون حرية الإبداع . فالنقاش النقدي المتجدد كان حول ثبات الجنس الأدبي أو تحوله ، نظريا و تفعيلا. أو بصياغة أخرى حول طبيعة الجنس الأدبي و جدواه و جدوى الدعوة إلى تحرره. ولكن وفي حقيقة الأمر، غطى هذا النقاش الجزئي من الناحية الفنية و الجمالية نقاشا عاما وكليا حول مفهوم النظام و الثورة و التمرد كمفاهيم عامة و شمولية، نقاش شغل المحافل الجامعية الغربية الفلسفية والسياسية منها.
لا يخفى على أحد أن قضية الأجناس الأدبية تندرج ضمن إطار نظرية الأدب أو ضمن الشعرية الأدبية، فهذا الطرح أصبح من المسلمات النقدية. فكل المهتمين بالمفاهيم النقدية يعلمون أن مجال اشتغال الشعرية أوالبيوطيقا poétique هو الكشف عن الآليات الأدبية من حيث الدلالة والبنية وكذا الوظيفة.[1]
وفي مقام آخر لا يمكننا الحديث عن الجنس الأدبي دون الحديث عن النص وعن العلاقة الجدلية التي تجمعهما، فتحديد كليهما مبني على وجود الأخر، فالنص هو المنطلق الأول لتقرير جنسه و يتحقق ذلك عن طريق البحث عن المتشابه و الثابت في النصوص المتراكمة. كما أن الجنس هو الذي يقدم شكل النص ويساهم في تشكيله، ومن جهة ثانية فإن قواعد الجنس الأدبي موجودة و لكنها غير محددة بشكل نهائي، فقد تتحول الرواية القصيرة إلى قصة طويلة نوعا ما، كما قد تتداخل الأسطورة مع الرواية التاريخية في إنتاج أدبي واحد أو تتحول اللغة السردية للرواية إلى لغة شعرية وهذا ما دفع كارل فيتور إلى التساؤل ” هل يمكن كتابة تاريخ الأجناس إذا لم يكن ممكنا تحديد أي معيار للجنس مسبقا؟”
وحديثنا عن بنيات النص الأدبي، تجعنا نفترض أن النص الفني لا يكتفي أحيانا بتحقيق جماليته ووجوده بانتمائه إلى جنس أدبي ما، بل يحقق ذلك بالتمرد عن هذه القواعد التي تحدد الجنس.
ويلاحظ المتتبع لهذا الموضوع، كما لاحظنا نحن، اختلاف و تنوع المصطلحات المتعلقة بهذا المفهوم، في المراجع الغربية و العربية، فنجدها متنوعة و متعددة، منها: ( genre littéraire / الجنس الأدبي أو les formes fixes / الأشكال أو types/ الأنماط).
والجنس مفهوم اصطلاحي و نقدي و ثقافي يهدف إلى تصنيف الإبداعات الأدبية حسب مجموعة من المعايير و المقولات التنميطية، كالمضمون و الأسلوب و السجل … فالجنس هو بمثابة عقد نصي أو اتفاق خطابي بين المرسل و المرسل إليه أو بين الكاتب المبدع و المتلقي المفترض.[2] فباختصار العبارة يصنع المتشابه و المشترك و القائم باتفاق، ما يسمى الجنس الأدبي.
بداية و كما جاء على لسان جميل حميداوي وكما اتفق عليه جميع النقاد تقريبا ، يبقى الجنس الأدبي مبدأ تنظيميا للخطابات الأدبية، ومعيارا تصنيفيا للنصوص الأدبية، و مؤسسة تنظيرية ثابتة ، تسهر على ضبط النص و الخطاب… ويساهم الجنس الأدبي في الحفاظ على النوع الأدبي، و رصد تغيراته الجمالية الناتجة عن الانزياح و الخرق النوعي.[3]
ولعل إلمام المشتغلين بالعملية الإبداعية الأدبية بمختلف مفاهيم عوالم الجنس الأدبي له عديد الفوائد والمنافع، إذ يمكنهم هذا الإلمام بقواعد الجنس الأدبي أن يدركوا درجة تطور التاريخ الأدبي و كذا التطور الجمالي و الفني و النصي.
أما تاريخيا فبداية التنظير للأجناس الأدبية يعود فيه الفضل إلى أرسطو في كتابة ” فن الشعر”، فقد صنفها هذا الأخير بطريقة علمية مؤسسة على الوصف ، فأبرز سماتها و مكوناتها ، و هنا نجده يقسمها إلى أقسام ثلاثة : الملحمة و الشعر الغنائي والدراما.
أما الفيلسوف الألماني هيجل فقد بدل مجهودا معتبرا في تقديم نظرية للأجناس الأدبية منطلقها تفكيره الفلسفي، فكان طرحه مثاليا مطلقا، و من هنا حاول التقريب بين الرواية و الملحمة، فالرواية حسبه تشخيص للوحدة المفقودة بين الذات و الموضوع وبحث عن السعادة الكلية المفقودة في الملحمة اليونانية.
و يعد لوكاش من أكثر النقاد تطبيقا للأساسيات الفلسفية و الجمالية لهيغل، فهو يخطو خطوات هيغل معتبرا الرواية لا تعد أن تكون إلا تطورا للملحمة. و قد استعرض فكرة سيطرة النثر على الشعر في كتابه ” غوته و عصره ” فيقول:
” لماذا لا نكتب إلا ناذرا قصيدة حكيمة قصيرة بالمفهوم الإغريقي؟ لأننا لا نجد إلا أشياء قليلة جدا تستحق ذلك. لماذا لا ننجح إلا ناذرا في الملحمة ؟ لأننا لا نملك مستمعين. و لماذا يميل هذا الاتجاه القوي نحو الأعمال المسرحية؟ لأن الدراما، بالنسبة إلينا، هي الشكل الوحيد للفن، الذي تخلق ممارسته المتنامية حقا، الأمل ببعض المتعة في الحاضر.” [4]
وقد ألمح لوكاتش إلى فكرة ضرورة محاربة التداخل بين الأجناس الأدبية عند غوته، لأنه يكشف عن الرداءة و عدم التحكم في المادة الإبداعية و لارتباط هذا الفصل بالخلود الأدبي وبالتفوق الفني والجمالي الحقيقي، يقول في ذلك:
” يجب على الفنان أن يقاوم بكل قواه، هذه الاتجاهات البائخة، البربرية، الصبيانية حقا، يجب أن يفصل عملا فنيا عن آخر بحلقات صلبة من السحر، و يحصر كل عمل ضمن خصائصه و خصوصياته، تماما كما تصرف القدماء، الذين أصبحوا فنانين كبارا، بالضبط لأنهم فعلوا ذلك.”[5]
في غمار حديثه عن الملحمة و الرواية، استنبط لوكاش أن الأزمنة التي فقدت التلقائية والانسجام تبقى سجينة الشكل النثري (الرواية كملحمة بورجوازية ) ،و هنا يستبعد الشعر عن الآداب العالمية العظيمة ويتحول فجأة و دون الرغبة في ذلك إلى شعر غنائي، و حينذاك يكون بإمكان النثر أن يتناول بقوة المعاناة والخلاص والمعركة والتتويج والسير والتكريس. فامتداده وميزاته المتحررة من الإيقاع تمنحانه قوة تعبير متكافئة عن الصلات وعن الحرية. [6]
أما تودوروف فرأى أن الأجناس ما هي إلا تقسيمات تساعد على تصنيف النصوص. و لكنه افترض في المقابل أن مجرد التفكير بعدم وجودها أمر مستحيل و مرفوض.
Les genres sont des classes de texte[7]
ذهب ” هانس ياوس” إلى أن الأجناس ضرورة لا غنى عنها، بغية تنظيم عملية الإبداع و عملية التلقي. قائلا:” لا يمكن أن نتصور أثرا أدبيا يوجد داخل ضرب من الفراغ الإخباري و لا يرتهن إلى وضعية مخصوصة للفهم.”[8]
والملفت للنظر أن الأحكام النقدية و الإبداعية قد اختلفت في حق الجنس الأدبي، فعاب البعض كل تحرر عن الجنس و عده تقصيرا و ضعفا في حين اعتبره البعض الآخر تميزا و تجديد أو حداثة و من هنا وجدناهم ثمنوه و مدحوا صاحبه.
منذ البداية ،انقسم الجدال التنظيري و التطبيقي الحداثي حول الجنس الأدبي إلى قسمين:
- قسم أول تساءل حول جدوى بقاء الأجناس و الأنواع، مشككا فيها و في فائدتها من الأساس.
- وقسم ثان، شدد بصرامة على وجود الأجناس و الأنواع، ولكنه فتح باب النقاش حول طبيعة الحدود التي تؤطر لكل نوع.
وقد تتبع بعض النقاد طبيعة الحدود الفاصلة بين نوعين أو جنسين متسائلين حول مقدار المساحة المسموح بها للاختراق و التداخل، فهذا التحديد الدقيق هو الذي يقف حاجزا أمام تحول النص عن نوعه الأصلي والأول الذي انطلق منه إلى نوع هجين ومرفوض. فهل يمكن أن نجد نصا يجتمع فيه نوعان أو جنسان؟ هو سؤال نقدي أولدته الحداثة ولكنه كان موجودا سابقا في النصوص الرومانسية، فقد أنتجت هذه الفترة أعمالا مزجت بين المأساة و الملهاة بعدما كانت المرحلة الكلاسيكية تشدد على الفصل بينهما.
و الملفت للنظر أن التوجه الحداثي الذي طالب بنسف الأنواع و الأجناس و دعا إلى القفز فوق الحواجز وتجاوز التصنيفات والحدود مع الدمج و المزج بين الأنواع، قد امتلك حججه و منظريه الذين تمسكوا بقدسية الإبداع و انفتاح النص الجمالي أمام كاتبه و المتلقي معا… ، فكانت حجج بعض الأدباء لذلك، هو إضفاء روح الجدة على النص من خلال الاستعانة بأدوات بعيدة عن النموذج الواحد، فهذا التداخل يسمح لهم بإنتاج نص خصوصي، مع السعي على إبقاء النوع الأساسي و الغالب، وهذا حتى لا يضيع النص الجديد في الفراغ، فاقدا بذلك هويته و مقللا من احتمال تلقيه بصورة مفهومة، ومقحما نفسه في دوامة من التغييب و الرفض و الاستبعاد.
وقد كانت الرواية في المرحلة الحديثة هي ملتقى الأنواع الأدبية، كما ألمحنا إلى ذلك سابقا فهي تضم إليها بقدرة فائقة عناصر ملحمية و درامية و غنائية. و قد زعم البعض أن الرواية التي تلبس رداء التراث، تتخذ شكلين، فهي إما تعتمد على تقنيات التراث أو تعتمد على مقاطع من التراث و تجعلها هذه العملية تقترب بها من عوالم التناص المتشعبة. و هذا التميز للرواية لا يمنع تجلي هذا التداخل في القصة القصيرة كذلك، فثمة حضور قوي لعناصر مسرحية في عديد الأعمال المعاصرة.
وبتوالي الأيام و الدراسات ، انتبه بعض المتأخرين إلى صعوبة التجنيس ،فها هو ” جان ماري شايفر ” J .M Schaeffer يطرح عديد الإشكاليات الجوهرية حول هذا الموضوع في كتابه ماهية الجنس الأدبي؟ متسائلا:
- ماذا نقصد بالجنس الأدبي؟ و الأجوبة قد تكون :
- معيارا.
- جوهرا مثاليا
- قالبا للمقدرة الأدبية .
- مجرد مفهوم للتصنيف .
- ما العلاقة التي تربط النصوص بالأجناس الأدبية ؟
- ما العلاقة التي تربط نصا معطى بجنسه الأدبي؟
- ما العلاقة الموجودة بين الظواهر التجريبية و التصورات؟
- هل تسهم الأجناس الأدبية في تطور جوهر الأدب؟[9]
قد تكون الأسئلة التي نطرحها حول تداخل الأجناس أهم من المجهودات التحليلية و التفسيرية التي تعلل لهذا الرأي دون ذاك أو تنتصر لتصورات واقعية أو افتراضية. و إذا كان ” شايفر ” يقارب هذا الموضوع بالبحث عن الكامن وراء الجنس الأدبي، فإن ذلك بغية الوصول إلى انفتاح أوسع و أعمق للنص الأدبي.
أعلن ” رنيه ويليك” عدم الفائدة من الفصل بين الأنواع الأدبية، يقول : ” لا تحتل نظرية الأنواع الأدبية مكان الصدارة في الدراسات الأدبية في هذا القرن، و السبب لذلك واضح ، هو أن التمييز بين الأنواع الأدبية لم يعد ذا أهمية في كتابات معظم كتاب عصرنا. فالحدود بينها تعبر باستمرار، و الأنواع تختلط أو تمتزج، و القديم منها يترك أو يحور و تخلق أنواع جديدة أخرى إلى حد صار معه المفهوم نفسه موضع شك. [10]
و في الجانب المقابل صرح ” موريس نادو Maurice Nadeau” أن كتابة كلمة رواية على غلاف كتاب ما، أضحى من عادات النشر التي لا ضرورة لإتباعها، و السبب في ذلك لأن الجنس الأدبي يتحول و يتطور وينتقل بحرية من إطار إلى آخر، فقال : ” إننا أمام خلخلة الأجناس.” [11]
و ضمن هذا التوجه زعم ” رولان بارت” أن الكتابة خلخلة تحطم كل بناء تصنيفي، و عادة لا تنتج الكتابة إلا نصوصا، و من هنا فلا يصنف النص بل إن حضوره يلغي الأنواع الأدبية.”
و من الأسماء التي دعت إل حرية تداخل الأجناس ، نذكر “كروتشه” الذي استبعد كل تقسيم نوعي عن الفن و الأدب مضيفا أن التقسيمات الفنية و الأدبية هي تقسيمات تعليمية ، يهدف من ورائها إبراز البديهي للمتلقي المبتدئ. فكروتشه يستصغر فوائد القواعد التي تحدد أطر النوع أو الجنس ، بل يرى أنها تشوش على نقاد الفن و دارسيه ، هذا التشويش يمنعهم من تثمين القيمة الجمالية للنص و تذوقه على حساب تتبع مدى التزام المبدع بقواعد النوع الأدبي، فتحول العملية النقدية إلى آلية فارغة من المتعة.
و لم يبتعد عنه ” بلاشوت Blouchot ” فقد طالب بتحرير الفنون الأدبية من كل قانون بما في ذلك قانون التجنيس.
أما في الدراسات النقدية العربية فإن مفهوم الجنس الأدبي يعد من القضايا الحديثة، إذ بدأ التطرق إلى هذا الموضوع بعد احتكاك النقاد العرب بالكتب الأجنبية بصورة مباشرة في القرن الماضي و بعد ترجمة العديد من الدراسات التي تناولت هذه القضية. والواضح أن المتتبع للكتب التراثية سيلاحظ قلة اهتمام النقاد العرب القدامى بمختلف الأجناس الأدبية و انشغالهم الكلي بالشعر.
ومن القدماء الذين اجتهدوا في تصنيف الأنواع الأدبية، نذكر الجاحظ الذي قسم الكلام إلى منثور ومنظوم، يقول في ذلك :” لا بد من أن نذكر فيه أقسام تأليف جميع الكلام ، و كيف خالف القرآن جميع الكلام الموزون والمنثور غير المقفى على مخارج الأشعار والأسجاع، وكيف صار نظمه من أعظم البراهين، و تأليفه من أكبر الحجج.[12]
أما عن المحدثين فقد كانت مشاركة ” غنيمي هلال ” لهذه القضية من خلال كتابه ” دور الأدب المقارن” فربط الأجناس الأدبية بالقوالب الجاهزة التي تقيد الإبداع الفني من خلال أساسيات متفق عليها وتصنيفات مؤطرة ببداية و نهاية محددة، فعرفها كما يلي: ” نقصد بالأجناس الأدبية القوالب الفنية العامة التي تفرض على الشعراء و الكتاب مجموعة من القواعد الفنية الخاصة بكل قالب على حدة.”[13]
أما الناقد ” كيليطو” فيرى استحالة الخوض في موضوع النوع الأدبي صراحة أو ضمنيا بعيدا عن نظرية الأنواع، و يضيف أن خصائص نوع ما، لا تظهر إلا من خلال نوع آخر، فالأمر أقرب إلى تعريف العلامة عند ” دي سوسير ” فالنوع يتشكل بما ليس موجودا في الأنواع الأخرى( علاقة المدح بالهجاء )
وإذا انتقلنا إلى ” سعيد يقطين ” ، فنجده من أبرز النقاد الذين خطا بالموضوع خطوات مهمة، خطوات أثرت في الدراسات النقدية المعاصرة له واللاحقة، فهو من الأوائل الذين ميزوا بين النوع والجنس كتابة وتفعيلا.
وحينما نتتبع المصطلحات التي وظفت للإشارة إلى التمازج و التداخل الذي فعل بين الأنواع الأدبية، نجد هذه المصطلحات عديدة و مختلفة، و منها : تعدد الخواص ، تداخل الأنواع ، الكتابة عبر النوعية، ووحدة الفنون ، وتفاعل الأنواع، وغيرها من المصطلحات التي استخدمت للحديث عن النص المفتوح.
وجدير بنا أن نتساءل، هل يمكن أن يتلاحم نوعان أو أكثر في نص أدبي واحد؟ وهل يكون هذا المزج من الأساليب الفنية المقصودة لدى المبدع؟
إن واقع الكتابة الأدبية العالمية و كذا العربية، يؤكد لنا على تجلي ما يسمى انفتاح النص الروائي أو تداخل الأجناس الأدبية فيما بينها ضمن مكتوب واحد. و يحدث هذا الأمر، غالبا، حينما يشعر الأديب أو يعي استحالة استيعاب الجنس الواحد لأفكاره أو لرؤيته أو لتجربته الشعورية والإبداعية أو وقتما يستمر الشاعر بداخل الروائي حيا، يسمع و يبصر و يتنفس و يتحدث ، من خلال الإطار الشعري. و سنعرض هنا لتجربة بعض الروائيين الجزائريين الذين كتبوا باللغة الفرنسية، إذ تمظهر تداخل الأجناس في كتاباتهم بصورة بارزة ، فها هو ” محمد ديب” يوظف تقنيات الشعر في ثلاثيته، فمن بين الخصائص الأسلوبية في رواية ” الدار الكبيرة ” التكرار لبعض الألفاظ و بعض الصيغ، تكرار ازدواجي يقوم على الجمع ببين عبارتين أو كلمتين، أو تكرار تشابهي يقوم على المقاربة بين عبارتين متشابهتين:
“وجهها، وجه جميل و صغير.” [14]
فهذه التقنية و الممارسة في التكرار ( الخاصة بالشعر ) تولد إيقاعا داخل النص، و هذا طبيعي لكون محمد ديب شاعرا بالدرجة الأولى كما كان يحو له أن يردد ” أنا شاعر بامتياز و قد انتقلت من عالم القصيدة إلى الرواية و لم يحدث العكس.[15]
و في رواية ” رقصة الملك ” انتقل محمد ديب” إلى أسلوب مغاير في تأليفه الروائي ، إذ نجده يسافر بخياله إلى عالم خيالي تضيع فيه الحكمة و يزول منه المنطق المنظم للأشياء و الحقائق، هو عالم روائي تتداخل فيه الرواية مع الأسطورة والرمز و الحلم و يبالغ في ذلك و يتعامل مع اللامعقول الخيالي الذي يحيلنا إلى الواقع المشابه. و وسط مشروعه الجديد نجد محمد ديب يخادع ذكاء الجميع، ففي داخل هذا الضياع وهذا الهذيان بحث كاتبنا عن سلطة الكلمة التي تتحدى الكل و تتجاوز الحدود للدفاع عن المشروع الوطني الأكبر الذي لم ينجز بعد.
و ما يلاحظ في رواية ” رقصة الملك” أن كاتبنا محمد ديب يقطع القصة بين الحين و الآخر للعودة إلى الماضي مستخدما تقنيات السينما من تلاحم و مقاطع ارتدادية. كما أنه اعتمد الأسلوب الشعري و كذا تفعيل الوقائع التاريخية عن طريق الهذيان وأسلوب التجلي. و قد اتفق عديد النقاد أن هذه الرواية بعيدة عن الأسلوب التقليدي، فقد طغت عليها الحوارات و المنولوج الطويل، إضافة إلى استخدام تقنيات المسرحية.
أما كاتب ياسين ، فمعروف عنه أنه شاعر تحول إلى العالم الروائي لأسباب مرتبطة بالقراء، فالرواية أسرع وصولا إلى الجمهور الواسع ، و لكن حبه للشعر بقي حيا بداخله. في روايته ” نجمة ” أقحم الكاتب السرد الأدبي مع المقاطع الشعرية، و لهذا تصنف روايته كرواية شعرية، فاختلط عنده الشعر بالحوار. إذ يمكن قراءة بعض فصول هذه الرواية كنصوص شعرية مستقلة قبل أن نرى دلالات معينة تطفو على السطح. يتداخل عالم النثر و عالم الشعر في أعمال كاتب ياسين، فإذا كان يستخدم قصيدة واحدة فيها من الشعر المرسل ، فإننا نجد الوضع مختلفا في النجمة المضلّعة، إذ وصلت القصائد إلى إحدى عشرة قصيدة، إضافة إلى مسرحية – هي بدورها- مزج فيها بين النثر و الشعر.
و لأن عالم كاتب ياسين عالم يتعايش فيه الشعر مع النثر، فهو يفتقد إلى النظام الذي نصادفه في الرواية الكلاسيكية، هذا النظام الذي يراعي الخطة المحكمة، فهو يطبق مبدأ الأجناس الدخيلة في الرواية. فتنعدم البداية و النهاية. فالكل يتداخل ويفترق شكلا و مضمونا، فالقارئ يتقدم في الرواية عن طريق التراجع. ولهذا يجد المتلقي صعوبة في استكشاف النص، و تكمن الصعوبة في الفوضى العامة التي يقود بها كاتب ياسين العملية السردية، فنفس الأحداث تتكرر و تتداخل الأماكن و الأزمنة، و تمتزج أصوات الشخصيات إلى درجة أن الخطاب الصادر عنهم يبدو غير منسجم و غير مكتمل.
يقترب الشكل الفني لرواية “نجمة” من الفن التشكيلي الحداثي، فهذه الرواية تشابه اللوحة التجريدية التي نطيل التأمل فيها لنتوصل إلى ربطها بالعنوان و بالأجزاء القريبة من الواقع الحقيقي و البعيدة في تشتتها. فالأيدي والأرجل و الرأس، أعضاء موجودة و لكنها لا تقدم كما هي في ترتيبها المعهود و شكلها المعروف.
أما السبب الثاني الذي يدفع الأديب إلى استخدام تداخل الأجناس، فهو نقل القارئ من قراءة تقليدية إلى قراءة مفتوحة ومتجددة الإيقاع، إلى قراءة ناضجة و واعية، قراءة تفرض على القارئ توظيف معارفه العالمية و العربية. وأقرب ممثل لهذه المجموعة، هو ” مالك حداد” ففي رواياته يولي كاتبنا الألفاظ والتأملات الوجودية الأهمية الكبرى على حساب الشخصيات والمواقف. و هو بنفسه يعترف بذلك : ” إن ما يعنيني هو الشعر و ليس القصيدة، و في مجال الرواية، ما يهمني هو الأثر النهائي و ليس البناء والمواقف والشخصيات .”[16]
يقترب مالك حداد في رواياته من أسلوب الشعراء، فنصوصه قصائد تفوح منها روائح الأحاسيس، فبناء النص هو بناء شعري، يهتم فيه بالكلمات على حساب الأفكار، فنجده يضحي بالحركة و بالحدث والانفعالات النفسية.
ففي رواية ” سأهبك غزالة” مثلا، لم ينس الكاتب حبه الأول للشعر، إذ يصادف القارئ مقاطع كاملة أقرب إلى النظم الشعري، فيبدأ كاتبنا في نسج روايته انطلاقا من الكلمة فالجملة وصولا إلى البناء النهائي للعمل، و لا يحدث العكس.
و ملامح النظم الشعري تبدو من خلال تكرار بعض الكلمات التي يراد إبرازها و التأكيد عليها كما مرّ علينا سابقا، عند محمد ديب:
” … و انصرف المؤلف حاملا مخطوطة معه.
و لم يتردد المؤلف في اجتياز عتبة المكتب.
… و أغلق المؤلف الباب كما يُغلق الإنسان الكتاب.[17]
رافقت الأجناس الأدبية عملية التطور الفني و الجمالي للنصوص الإبداعية تنظيرا و تطبيقا عبر المراحل التاريخية المختلفة، وقد أسست هذه الأجناس مفاهيم و قواعد ثابتة أحيانا و مرنة قابلة للخرق في أحيان أخرى، تولد عنها انفتاح المبدعين والإنتاج الإبداعي على عوالم الشعر و الأسطورة و المسرح والسينما والملحمة . لقد تجاهلت الكتابات التي صنفت ضمن الشعرية هذه القوالب الجامدة لعبثيتها وقيودها الخانقة التي توقف تفكير الفنان و المتلقي معا وكان هذا الانزياح الجمالي المتعمد بعد اصطدامها مع الحداثة وحرية الفن. و لكن التساؤل يبقى مطروحا حول احتمال الزوال الكلي للجنس الأدبي، فهل ستموت الأجناس الأدبية –يوما ما-كما مات المؤلف عند بعض التوجهات الفلسفية و التنظيرية؟
قائمة المصادر و المراجع:
- الجاحظ ، البيان و التبيين, مكتبة الخانجي، القاهرة ، ط 7/ 1998.
- جميل حمداوي، نظرية الأجناس الأدبية ( نحو تصور جديد للتجنيس الأدبي) مكتبة المثقف، الطبعة 2011.
- جورج لوكاتش، غوته و عصره، ترجمة بديع عمر نظمي، بيروت، دار الطليعة بيروت، الطبعة الأولى، 1984.
- رنيه ويليك، مفاهيم نقدية، ترجمة محمد عصفور، المجلس الوطني للثقافة و الفنون و الآداب، الكويت، 1987.
- رولان بارت، درس السيميولوجيا، ترجمة ع بنعبد العالي، دار توبقال، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الثالثة 1993.
- لؤي علي خليل ،تداخل الأنواع بين القاعدة و الخرق، دراسة نظرية، مجلة جامعة دمشق، العدد 3-4، 2014،.
- مالك حداد، سأهبك غزالة، ترجمة ، صالح القرمادي، الدار التونسية للنشر 1986.
- محمد غنيمي هلال، دور الأدب المقارن في توجيه دراسات الأدب العربي المعاصر، نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، دط ، دب ،1992.
- Jean Déjeux , Mohamed Dib , écrivain Algérien, Sherbrooke, éd Naaman , 1978.
- Lukacs, la théorie du roman, trad Claire Voye, éd Gonthier,1963,
- Malek Haddad, Pourquoi des romans ? Les lettres francaises10-11 décembre1965
- Mohamed Dib , La grande maison ,éd Seuil, Paris 1952.
- Tzetevan Todorov, les genres de discours, éd Seuil, Paris1978.
[1] ) جميل حمداوي، نظرية الأجناس الأدبية ( نحو تصور جديد للتجنيس الأدبي) مكتبة المثقف ، الطبعة 2011، ص 5.
[2] ) ينظر المرجع نفسه، ص20.
[3] ) ينظر المرجع نفسه، ص 7.
[4] ) جورج لوكاتش، غوته و عصره،ترجمة بديع عمر نظمي، بيروت، دار الطليعة بيروت، الطبعة الأولى، 1984، ص 65.
[5] ) المصدر نفسه،ص 66.
[6] ) ينظر Lukacs, la théorie du roman, trad Claire Voye, éd Gonthier,1963, p 52.
[7] ) Tzetevan Todorov, les genres de discours, éd Seuil, Paris1978, 47.
[8] ) لؤي علي خليل ،تداخل الأنواع بين القاعدة و الخرق،دراسة نظرية ، مجلة جامعة دمشق،العدد 3-4، 2014، ص148.
[9] ) جميل حميداوي،نظرية الأجناس ، ص12-13.
[10] ) رنيه ويليك، مفاهيم نقدية، ترجمة محمد عصفور ، المجلس الوطني للثقافة و الفنون و الآداب ، الكويت ، 1987، ص311.
[11] ) رولان بارت، درس السيميولوجيا،ترجمة ع بنعبد العالي، دار توبقال ، الدار البيضاء، المغرب،الطبعة الثالثة 1993، ص 43.
[12] ) الجاحظ ، البيان و التبيين,مكتبة الخانجي، القاهرة ، ط 7/ 1998، ص383.
[13] ) محمد غنيمي هلال، دور الأدب المقارن في توجيه دراسات الأدب العربي المعاصر، نهضة مصر للطباعة والنشر و التوزيع ، دط ، دب ،1992 ص 42.
[14] ) Mohamed Dib , La grande maison ,éd Seuil, Paris 1952, p 31.
[15] ) Jean Déjeux , Mohamed Dib , écrivain Algérien, Sherbrooke,éd Naaman , 1978, p 10.
[16] ) Malek Haddad, Pourquoi des romans ? Les lettres francaises10-11 décembre1965, p4.
[17] ) مالك حداد، سأهبك غزالة ، ترجمة ، صالح القرمادي ،الدار التونسية للنشر 1986،ص 97.