
الأنظمة النحويَّة الخمسة عند نحاة العربيَّة
Five Grammatical systems For Arab Grammarians
د. محمد الطيب البشير بابكر
أستاذ مساعد بجامعة الخرطوم ـــ كلية التربية ـــ قسم اللُّغة العربية ـ السودان
Dr .Mohammed Altayeb Albeshier Babikir, Assotant professer – khartoum university -faculty of Education – Deparment of Arabic
مقال نشر في مجلة جيل الدراسات الادبية والفكرية العدد 62 الصفحة 49.
Abstract
As each science has a system upon which it is based; Arabic syntax as one of those sciences,but one of the greatest, it is also based upon many systems which led to founding of its construction and the constancy of its corners. So what are those systems? What is their nature?
And what are their sources? For the significance of these systems in Arabic syntax, the researcher saw that to do research on it, and here comes this paper between your hands. The study aimed at identifying the systems upon which Arabic syntax is based on one system after another knowing their details. It also aimed at explaining the foundations upon which they are based and discussing them. One of this studies aims is revealing the sources of those systems, checking their legitimacy and putting the systems on the scale of criticism and inspection. There searcher adopted the descriptive methodology which is based on collecting the data, organizing it, categorizing it, putting it in order and then looking for its meaning through the analysis, observation, investigation and tracking in order to reach the desired objectives in this study. The study has come to many findings, the most important are: Arabic syntax is based on five systems, which are: analysis system, similarity system in its two types, (the visible and the hidden), the system of functioning, approximation system and representation system. All the five systems of syntax are derived from the nature of language. Lastly, the study came to that Arab language is arbitrary and logical
Key words: System ـ The Express ـ Sibling system
مُلخَّص :
لمَّا كان لكلِّ علمٍ من العلوم نظامٌ يقومُ عليه فإنَّ علم النحو العربي ــــ كواحد من تلك العلوم بل من أجلها ــــ قام على عدة أنظمة أدَّتْ إلى تشيد صرحه وثبات أركانه ، فما تلك الانظمة ؟ وما طبيعتها ؟ وما مصادرها؟ ؛ ولأهمية هذه الأنظمة في النحو العربي رأيتُ أنْ أبحثَ فيها فكانتْ هذه الورقة التي بين أيديكم . هدفتْ الدراسةُ إلى التعرف على الأنظمة التي قام عليها النحو العربي نظاماً تلو الآخر ، والإلمام بتفاصيلها ، كما هدفت إلى بيان الأصول التي استندت عليها ومناقشتها ، ومن أهداف الدراسة ــــــ كذلك ـــ الكشف عن مصادرها والتحقق من شرعيتها مع وضعها في ميزان النقد. اتَّبعَ الباحثُ في هذه الدراسة المنهج الوصفي الذي يقوم على جمع المادة وتنظيمها وتصنيفها وترتيبها ثم النظر في فحواها بالتحليل والملاحظة والتقصي والتتبع بغية الوصول إلى نتائج تحقق الأهداف المنشودة من هذه الدراسة . هذا ، وقد توصلتْ الدراسة إلى جملة من النتائج ولعلَّ من أهمها : قيام علم النحو العربي على خمسة أنظمة هي : نظام الإعراب ونظام المشابهة بنوعيه (ظاهر وخفي) ونظام العمل ونظام التقدير ونظام الإنابة ، الأنظمة النحوية الخمسة جميعها مُستمدَّة من طبيعة اللغة . وأخيراً توصلتْ الدراسةُ إلى أنَّ لغة العرب لغة اعتباطية منطقية .
الكلمات المفتاحية : النظام ـ الإعراب ـ المشابهة
مقدِّمة :
تفردتْ العربيةُ بمقدرتها على الاحتفاظ بخصائصها وميزاتها ؛ ويُعزا ذلك أولاً لنزول الوحي بها ، فقد نزلتْ الرسالة الخاتمة بهذا اللسان ، ووعد اللهُ تعالى بحفظ الذكر الذي أنزله بالعربية ، فاختصتْ العربية العالية بين لغات الدنيا قاطبةً بهذا الاحتفاظ . وثانياً لتلك العزلة التي أثمرت بنتائج رائعة تمثلت في المحافظة على خصائص العربية كخاصية الإعراب وثبات أصواتها مع سعة مدارجها وتنوع صرفها واشتقاقها وتعدد أبنيتها وصيغها وكثرة مصادرها وغنى مفرداتها بالاشتراك والترادف والتضاد واستعدادها الذاتي للنحت والتوليد والتعريب. واستمدت اللغة تلك الخصائص من طبيعة الأعراب التي فُطروا عليها ، ومن سلائقهم التي جُبلوا عليها . وما العربيةُ إلا مجموعةٌ من الطبائع التي تعاضدت مع بعضها بعضا لتكون هذه اللغة المتميزة بتلك الخصائص ، هذا التعاضد بين تلك الطبائع شكل نظاماً مترابطاً ترابطاً دقيقاً بُني على المشابهة الشكلية وغير الشكلية في كل مستوياتها الصوتية والأسلوبية والنحوية ، فكثيرٌ منه واضحٌ جليٌ ، وكثيرٌ منه خفيٌ لا يستنبطه إلا العلماء ، ذلك النظام الخفي يُعد في كثيرٍ من الأحيان خروجاً عن القياس العقلي المنطقي إلا أنَّه ـــ في حقيقة الأمرـــ في صميم النظام اللُّغوي للعربية .
هكذا قامت العربية على طبائع العرب ، ولكن بعد أن مرت الأيام أخذت تلك الطبائع اللغوية والسجية التي فُطر عليها الأعراب تتقلص شيئاً فشيئا بعامل ظهور اللحن ، فكان لابدَّ من وضع نظام يجاري طبائع العرب في كلامهم ، فقعدوا القواعد النحوية وهي ـــ في الحقيقة ـــ صناعة ولكن على نهج نظام تلك الطبائع التي نسجتْ ذلك النظام الذي بُني على المشابهة المنطقية وغير المنطقية ، فأوَّل عمل قام به النحاة هو استيعاب نظام اللغة المبني على طبائع العرب استيعاباً جيداً ، فعلموا بخصائصها وأدركوا نظامها ، فعلموا أنَّ فيها اللفظ المشترك الذي يحتمل أكثر من معنىً وفيها ما يحتمل الحقيقة والمجاز وفيها ما يدل بالمنطوق وهو ظاهر جلي وفيها ما يدل بالمفهوم وفيها العام والخاص والمطلق والمقيد ، وفي كلٍ منها ما دلالاته قاطعة وما دلالاته محتملة ، فيها الراجح وفيها المرجوح ، وعلموا أنَّ ما يعتبر راجحاً عند هذا قد يُعتبر مرجوحاً عند ذاك ، كما لاحظوا أنَّ بعض ألفاظها متحركة ومتغيرة في أواخرها ، وأنَّ بعضها ثابت يلزم حالة واحدة ، كما أحصوا أساليبها فتوصلوا بعد طول تمحيص ومفاتشة للغة العرب إلى أنَّ اللغة مكونة من مجموعة من الأنظمة المترابطة ، هذا الترابط فيه المنطقي وفيه الاعتباطي ، وعلى ذلك وضعوا نظاماً مكوناً من مجموعة أنظمة داخلية تتعاضد مع بعضها ، هذا التعاضد ـــ أيضاً ـــ بعضه منطقي وبعضه اعتباطي ليكون النظام النحوي ممثلاً في القواعد النحوية .
إذنْ النظام النحوي مكون من مجموعة أنظمة داخلية ، هذه الأنظمة المترابطة تمثلت في نظام المشابهة التامة ونظام المشابهة الجزئية ونظام الإعراب ونظام الإنابة ونظام التقدير ونظام العمل ، كل هذه الأنظمة المترابطة استمدها النحاة من تلك الطبائع ، وعليَّ مناقشة ذلك قبل أن يجف مداد هذه الورقة .
أولاً : نظام الإعراب :
الإعراب لغةً :[1] الإبانة والتبيين والإيضاح والتوضيح ، يُقال : عَرَّبْتُ له الكلام تعريباً وأعْرَبْتُه له إعراباً إذا بينته ، والإعرابُ والتعريبُ معناهما واحد وهو الإبانة ، وأعرب عن لسانه وعرَّبَ أبان ، وأفْصِحْ وأعْرِبْ عمَّا في ضميرك أَبِنْ . والإعرابُ اصطلاحاً هو تغيير أواخر الكلمات بتغير مواقعها في الكلام .
هذا ، وقد ورثَ العربُ لغتهم معربةً ، فالإعرابُ فيها من أبرز خصائصها ، فبه تميَّزتْ على سائر اللغات ، وهو الفارق الوحيد بين المعاني المتكافئة ، فبالإعراب تُميز المعاني وتُفهم الأغراض ، ولولا الإعرابُ ما مُيِّز بين فاعلٍ من مفعولٍ ولا مضافٍ من منعوتٍ ولا تعجبٍ من استفهامٍ ولا نعتٍ من تأكيد ، فالإعرابُ أقوى عناصر العربية ، بل هو سرٌ من أسرار جمالها ، فأصبحت قوانينه وضوابطه ـــ بعد أن وُضعت ـــ هي العاصمة من الزلل المُعوِّضة عن السليقة ، وعلى الرغم من أنَّ العرب قد ورثوا هذه اللغة معربةً شعراً ونثراً فإنَّهم وجدوا أنفسهم في حاجة ماسَّة إلى وضع قانونٍ يصف ظاهرة الإعراب وصفاً دقيقاً ؛ وذلك لتسرب اللحن إلى اللسان العربي بعامل الاختلاط ، ولعلَّ من أكبر الدوافع على سن قوانين الإعراب هو شعور العرب بوراثتهم للغتهم معربة، وعلى الرغم من هذا فإنَّ هنالك بعض الآراء تقول بحداثة ظاهرة الإعراب وإنَّه من صنع النحاة ونفوا ظاهرة الإعراب عن كلام العرب والأعراب ، والحقُ أنَّ خطأ هذا الأمر بيَّن وفساده واضح ، وقد ردَّ على هذه الآراء من ردَّ ؛ ولعدم صحتها وبيان بطلانها فإنِّي في هذه الورقة لا أُعيرها اهتماماً ولا أولها ذكراً ، وإنَّما أكتفي بما سُلِّم به ـــ وهو الحق ـــ وهو حقيقة ظاهرة الإعراب ووجودها في كلام العرب ، فما كان من النحاة إلا أن وضعوا قوانياً تصف ما هو موجود في كلام العرب لا ما ينبغي أن يكون عليه كلامهم ، ولنا أن نتعجب أشدَّ العجب ممَّن وسموا ظاهرة الإعراب في العربية بأنَّها قصة ، بل أروع قصة ، على أية حال إنَّ ظاهرة الإعراب ظاهرة عربية محضة تميزت بها العربية عن بنات أمها السامية ؛ إذ تجردت السريانية والآرامية منها تماماً ، بينما وُجدتْ قليلاً في العبرية القديمة والبابلية القديمة.[2]
أبتْ العربيةُ الاستغناءَ عن ظاهرة الإعراب ، فوصفها النحاة حق الوصف ، فأوفوها حقها ، وليس في وسع باحثٍ محقق أنْ يُنكر احتفاظ البدو الفصحاء بالإعراب ، فشرع النحاة في دراسة تلك الظاهرة وتتبعها حتى تمكنوا من سن قوانين لها على وفق ما وجد من كلام الأعراب الفصحاء .
وعليه أقولُ إنَّ كلاً من القرآن الكريم وكلام العرب شعراً ونثراً كان معرباً ، وما قوانين النحاة وقواعدهم إلا انعكاس لذلك الواقع اللغوي الحي . وهذا هو أبو علي الجبائي يقول في ذلك : “خصَّ اللهُ تعالى هذه الأمة بثلاثة أشياء لم يعطها مَنْ قبلها ، الإسناد والأنساب والإعراب”[3] .
وسأتمثلُ لفطرة الأعراب في الإعراب بما حكاه ابن جني من أمر لقائه بأبي عبد الله محمد بن العساف العقيلي التميمي ـــ وهو أحد الأعراب ـــ حيث سأله ابن جني : كيف تقولُ : (ضربْتُ أخوك) ؟ فقال : أقولُ : (ضربْتُ أخاك) فأداره ابن جني على الرفع فأبى ورفض ، وقال : لا أقولُ (أخوك) أبداً ، فقال له ابن جني : كيف تقول : (ضربني أخوك) ؟ فقالها الأعرابي فرفع ، فقال له ابن جني : ألستَ زعمْتَ أنَّك لا تقول : (أخوك) أبداً ؟! فقال الأعرابي : اختلفت جهتا الكلام [4] !! فعلَّق ابن جني على هذا الحوار بقوله : “هذا أدلُّ شيءٍ على تأملهم مواقع الكلام وإعطائهم إيَّاه في كل موضع حقه وحصته من الإعراب عن ميزة وعلى بصيرة وأنَّه ليس استرسالاً ولا ترجيما”[5] فالأعرابي لا علم له بقواعد النحو ، فلم يقلْ : إنَّ (أخوك) فاعلٌ أو إنَّ (أخاك) مفعول ، بل عبَّر عن ذلك بقوله : (اختلفتْ جهتا الكلام) وهذا إنْ دلَّ إنَّما يدلُ على طبيعتهم التي فُطروا عليها ؛ لرفض الرفع في غير موضعه وقبوله في موضعه .
وسأتمثلُ ـــ كذلك ـــ لطبيعة الإعراب في كلام الأعراب بما أورده المبرد وابن الأنباري وابن جني أنَّ أبا العباس حكى عن عمارة إنَّه كان يقرأ قوله تعالى : (ولا الليلُ سابقُ النهار) [6] بنصب لفظة (نهار) ، فقال له العباس : ما أردْتَ ؟ فقال الأعرابي : (سابقُ النهارِ) بالجرِّ ، فقال له العباس : فهلا قلْتَهُ ؟ فقال : لو قلته لكان أوزن .[7] من هذه القصَّة نخرج بعدة فوائد وهي على النحو التالي :
أولاً : حقيقة ظاهرة الإعراب في العربية .
ثانياً : إنَّ الأعراب يقرأون القرآن على فطرتهم دون الإحاطة بقراءاته .
ثالثاً : إمكانية الفطرة والطبيعة السليمة من إيصال صاحبها إلى الوجه الصحيح .
رابعاً : مقدرة الفطرة والطبيعة السليمة على التمييز بين الصحيح والأصح .
خامساً : إنَّ القراءات القرآنية موافقة تماماً لفطرة الأعراب .
سادساً : صحة القاعدة القائلة بإعمال اسم الفاعل فيما بعده نصباً وجرَّاً ، علماً بأنَّ الأعرابي لا علم له بإعمال اسم الفاعل ولا حتى بقواعد النحاة ، فكل وجهٍ قد أملاه عليه طبعه وسجيته .
ولعلَّ تمسك هؤلاء الأعراب بلهجاتهم وتأملهم مواقع كلامهم وإعطائهم إياه حصته من الإعراب عن ميزة طبع وبصيرة سجية هو الذي جعل النحاة ينكبون على كلامهم ويعملون على وصفه بقواعدٍ تصف تلك الطبيعة الربانية التي خُصوا بها .
ثانياً : نظام المشابهة :
نظام المشابهة هو من أهمَّ أنظمة النظام النحوي على الإطلاق ؛ وذلك لأنَّه يدخل في تكوين الأنظمة الأخرى ، كما يعمل على ربطها ، ومن هنا استمدَّ أهميته ، فما من نظامٍ نبسط الحديث فيه إلا وهو مستند على مبدأ المشابهة التامة أو الجزئية ، أضف إلى ذلك كلِّه أنَّه نظام يمكن عن طريقه إثبات طبيعة تلك القواعد النحوية ، وإنَّها مستمدَّة من روح اللُّغة ، لذلك ينبغي ألا يُستغرب عند عرض هذا النظام إذا ولجتُ إلى بقية الأنظمة الأُخرى ، ولأُبسِّط شرح ذلك أقولُ :
إنَّ نظام المشابهة نظام شمولي يشمل كل الأنظمة ويربطها ببعضها بعضا ، وهذا الأمر أشبه بكلية الدراسات العليا في الجامعات ، فالدراسات العليا لها نظام قائم بذاته ، له قوانينه وأسسه وشروطه ، إلا أنَّ هذه الكلية ــــ رغم ذاتيتها ـــــ لا تستطيع أن تقدم برامجها إلا من خلال الكليات الأخرى ، وهي في ذات الوقت تمثل الرابط بين تلك الكليات ، فهي في حاجة للكليات الأخرى لتنفيذ برامجها ، والكليات في حاجة لبرامجها ، وعندما تعقد كلية الدراسات العليا مؤتمراً تجد كيان هذه الكلية مُمَثلاً في كليات الجامعة . وعلى هذا يكون حال نظام المشابهة مع بقية الأنظمة التي تعمل في خدمة العربية . فيدخل نظام المشابهة في تقعيد معظم القواعد النحوية إنْ لم تكن كلها ، كما يدخل في ربط تلك الأنظمة مع بعضها بعضا، وكذلك يدخل ـــ وهو الأهم ـــ في ربط القاعدة النحوية بطبيعتها اللُّغوية التي أُسْتمدَّتْ منها ، ولي أنْ أطرح سؤالاً : لماذا أدخل النحاةُ هذا النظام ـــ نظام المشابهة ـــ في عملية التقعيد ؟ ولماذا منحوه هذه الأهمية بين تلك الأنظمة ، فللإجابة عن ذلك أقولُ:
إنَّ النحاة وجدوا هذا النظام متَّبعاً في طبائع العرب ، وكادتْ حياتُهم كلُّها تُبنى عليه ، ونظام المشابهة واحدٌ من الأنظمة الفطرية عند العرب ، وعليه تقوم معظم اللُّغة ؛ لذلك استعاره النحاة من تلك الطبيعة ، حتى يخرجوا بقواعدٍ نحويةٍ مبنيةٍ على ما بُنيتْ عليه اللُّغة ، فوجدوا أنَّ ممَّا درج عليه العربُ في طبائعهم القياس والمشابهة ، فكثيراً ما يقيسون الأشياء بعضها ببعض ، ويشبهون بعضها ببعضها الآخر ، فمثلاً إذا سُئل أعرابي : لماذا جمعتَ كذا على كذا ؟ لقال : ( حملاً على كذا ، ألا ترى أنَّهم يقولون في جمع كذا كذا ) على هذا الطبع اللُّغوي عند العرب حمل النحاةُ كثيراً من الأحكام على بعضها الآخر ، ومن ذلك حمل المنصوبات على المفعول به والمرفوعات على الفاعل والضمير في البناء على الحروف لشبهه إيَّاها في قلة الحروف ، وحملوا التبعية على المجاورة لما قبلها ، والأسماء العاملة على الأفعال ؛ لأنَّها أدتْ معانيها وعملت إعمالُها ، والممنوع من الصرف على الأفعال ، وغير ذلك كثير .
هذا التشابه قسمان : تشابه تام وتشابه جزئي ، والتشابه الجزئي قد يكون تشابه شكلي أو تشابه ضمني ، أمَّا التشابه التام مثل تشبيه (ما) النافية بليس ؛ وذلك في قلة حروفها ودلالة النفي وفي حاجتها للمرفوع ثمَّ المنصوب بعدها ، وأمثلة هذا الباب قليلة ، وهذا النوع من المشابهة هو الذي يدخل في إطار المنطق العقلي .
وأمَّا نظام المشابهة الجزئي فمن أمثلته بناء المنادى على الضم حملاً على بناء (قبل وبعد) على الضم ، ووجه التشابه الجزئي فيها هو عدم التنوين في حالة الإفراد ونصبها في حالة الإضافة ، وهذا التشابه لا يقبله المنطق العقلي وإنَّما ترتضيه طبيعة اللُّغة ؛ لأنَّ من طباع العرب حمل الشيء على الشيء وإنْ لم يكن مثله في جميع الأشياء . وفي هذا دليلٌ على مجافاة بعض القواعد النحوية للمنطق العقلي وتماشيها فقط مع طبيعة اللُّغة ، ومن أمثلة التشابه الجزئي ـــ أيضاً ـــ جزم المضارع في جواب الطلب حملاً على (إنْ) وقد أورد سيبويه في كتابه تحت مسمى : (باب من الجزاء ينجزم فيه الفعل إذا كان جواباً لأمرٍ أو نهي أو استفهام أو تمني أو عرض)[8] فحملَ الخليلُ جزمَ المضارع في جواب الطلب على أنَّ الطلب فيه معنى (إنْ) بقوله : “إنَّ هذه الأوائل كلاها فيها معنى (إنْ) فلذلك انجزم الجواب .[9] وأراد الخليل بالأوائل الطلب الذي جَزَمَ المضارعَ الواقعَ في جوابه ، وشاهدُنا في هذه المسألة هو حمل جزم المضارع في جواب الطلب على جزم المضارع في جواب (إنْ) الشرطية ؛ وذلك لتشابه (إنْ) الشرطية والطلب بعض التشابه . ومثل هذا التشابه الجزئي يخالف قواعد المنطق العقلي ولكن هو مقبول عند الطبيعة اللُّغوية ، ومن أمثلة التشابه الشكلي توكيد الفعل المضارع بعد (لا) النافية تشبيهاً لها بــــ (لا) الناهية مع اختلاف مضمونيهما ومن ذلك قوله تعالى : (واتَّقوا فتنةً لا تصيبنَّ الذين ظلموا منكم خاصة) [10] وهذا تشابه جزئي تقبله اللُّغة ولا يقبله المنطق العقلي ؛ وذلك لأنَّ من قواعد المنطق العقلي القياس وهو حمل الشيء على الشيء إذا كان في معناه، وبالطبع هذا منافٍ لما سبق ذكره . ومن أمثلة التشابه المعنوي إعمال (إنَّ) عمل الفعل في كون افتقارها دوماً لاسم بعدها كافتقار الفعل للفاعل .
وعليه فإنَّ المشابهة إمَّا تامة وإمَّا جزئية والجزئية إمَّا شكلية أو غير شكلية، والمشابهة غير الشكلية أو الجزئية بصورة عامة هي التي لا يقبلها المنطق العقلي ، وقد عدها كثيرٌ من الناس تعسفاً من النحاة، ولكن الأمر في حقيقته ليس تعسفاً بقد ما هو مجاراة لطبيعة اللُّغة الاعتباطية ، فاللُّغة فيها جوانب خفية لا يدرك نظامها إلا العالم الحاذق ، ومن ذلك نظام المشابهة الخفية الذي يتتبع لغة العرب عندما تتبع هي الأخرى نظام الاعتباط وتبتعد عن المنطق العقلي .
إذنْ استندَ النحاةُ في تقعيد القواعد النحوية على طبيعة العرب في ميلهم إلى التجانس والتشابه بنوعيه، وذلك ما جعل النحاة ـــ وفي مقدمتهم الخليل ــــ يقومون بمعالجة القياس المنطقي الذي جرده الحضرمي والعدول عنه عندما يبتعد عن طبيعة اللُّغة ، وكتاب سيبويه ذاخرٌ بمسائل العدول عن القياس، وهذا ما يُلتمس من خلال أسئلة سيبويه وتفسير الخليل للمسائل في ضوء نظام العربية وبعيداً عن المنطق العقلي.
وهذا لا يعني أنَّ طبيعة العربية لا تلتقي بالمنطق العقلي بل كانت كثيراً ما تلتقيه، وكذلك كثيراً ما تخالفه فراعى النحاة ذلك كلَّه في تقعيدهم ، فكانت اللُّغةُ بطبيعتها لها ظواهر يمكن أنْ تفسر في ضوء المنطق العقلي ، فلم يتردد النحاةُ لحظةً واحدةً في تفسيرها به ، وبالمقابل كان لها ـــ أيضاً ـــ ظواهر لا يمكن تفسيرها بالمنطق العقلي، حينها عدل النحاة ــــ الأوائل منهم ــــ عن المنطق العقلي ، وجاروا بقواعدهم الطبيعة اللُّغوية التي أخذتْ في هذا المنحى الحركة الاعتباطية على نحو ما فعل الخليل في أمر عدوله عن القياس المنطقي ، واعتماده على نظام المشابهة بنوعيها الذي استمده من روح اللُّغةِ نفسِها .
ثالثاً : نظام العمل :
المقصودُ بنظام العمل نظرية العامل والمرادُ بالعمل النحويِّ بيان الارتباط المعنوي بين الكلمات العربية في التركيب العربي للجملة وما ينشأ عن هذا الارتباط من تأثير في اللفظ يشير إلى المعنى المطلوب ويدل عليه ، فأثر العامل في المعمول ليس لفظياً فقط بل يشمل المعنى أيضاً ، فالأشياء التي يتعلق بها العامل لا تعبَّر عن مسمياتها تعبيراً مجرد، بل تعبر عنها بقيد اتّصافها بما يدل على ذلك العمل ، سوى على جهة الوقوع منه أو عليه أو إضافته به، ولكلٍ من هذه الحالات نمطٌ إعرابيٌّ خاص . فتأثيرُ العامل في المعمول تأثيرٌ مزدوجٌ في اللفظ وفي المعنى.[11] و سأكتفي هنا بالحديث عن شرعية هذه النظرية وإثبات أنَّها مُسْتَمدَّة من أصلها من طبائع الأعراب رغم صناعتها ، وذلك على النحو التالي :
إنَّ من عادات العرب وطبائعهم في كلامهم إضافة الشيء الحقيقي إلى ما ليس بحقيقة ، كقولهم : (أراد الحائطُ أنْ يقعَ) وقولهم (أراد فلانٌ أنْ يموتَ) إذا احتضر .[12] ومن ذلك قوله تعالى : (فوجدا فيها جداراً يريدُ أنْ ينقضَّ فأقامه) [13] .
من هذه الطبيعة في كلامهم استمدَّ النحاة شرعية نظرية العامل واعتمدوا نظرية العمل أساساً لعملية التقعيد ، ولتوضيح ذلك وبيانه أقول :
عزا النحاةُ عمل الرفع والنصب والجر والجزم في أواخر الكلمات لعوامل ، هي ـــ في الأصل ــــــ غير حقيقية، وإنَّما العامل الحقيقي هو المتكلم ، فهو الذي يرفع وينصب …إلخ ، فأسس النحاةُ العمل لتلك العوامل غير الحقيقية، كما أسند العرب الفعل لفاعل غير حقيقي ، كما بينتُ في الأمثلة السابقة ، فاعتمدوا بذلك نظرية العامل، وأخذوا في تأسيسها وتقعيد القواعد عبرها ، فلم يُعملوا الكلمات عمل بعضها جزافاً مكتفين بتلك الشرعية المستمدَّة من طبائع العرب ، بل جعلوا لكل عامل سنداً ونموذج من طبائع العرب في كلامهم ، وأظنُ أنَّ الأمثلة ستكون أبلغ في إيصال الأفكار ، لذلك سأعرضُ نموذجاً لبيان ذلك :
إنَّه مما درج عليه العرب في طباعهم استخدام اسم المفعول مكان اسم الفاعل أو العكس ، ومن ذلك قول الحطيئة من البسيط :[14]
دعِ المَكَارِمَ لا تَرْحلْ لِبُغْيَتِهَا *** واقْعُدْ فإنَّكَ أنْتَ الطَاعِمُ الكاسي
فالبيتُ في معرض الذم لذلك لم يقصد بـــ (الطاعم الكاسي) اسم الفاعل وإنَّما أراد اسم المفعول (المُطْعَم المَكْسُو) ومثل هذا هو ما حمل النحاة إلى القول بقاعدة اشتراك اسم الفاعل واسم الفعول في العمل ، فكلاهما يرفع مرفوعاً بعدهما ، وكلاهما ينصب مفعولاً ، وكلاهما يجر مضافاً إليه ، وكلاهما يعمل بشروط مشتركة بينهما .
وكذلك ممَّا حمل النحاة إلى القول بقاعدة إعمال اسم الفاعل واسم المفعول نفس العمل أنَّهما متضادات في المعنى ، فاسم الفاعل يدل على الفعل وفاعله ، واسم المفعول يدل على الفعل ومفعوله ، ومن عادة العرب وطبائعهم في كلامهم تسمية المتضادين باسمٍ واحدٍ كالجون للأبيض والأسود . هذا وبمقدور كلِّ باحثٍ أن يعزو باباً من أبواب العمل النحوي إلى طبيعةٍ وسجيةٍ موجودة عند العرب .
رابعاً : نظام الإنابة :
الإنابةُ هي إحدى مكونات النظام النحوي التي اعتمدها النحاة لتقعيد القاعدة النحوية، وقد لعبت دوراً كبيراً في عملية التقعيد النحوي ، ولم يكن هذا النظام ـــ كغيره من الأنظمة ــــ صنيعة عقلية تبعد عن لغة العرب ، بل هو نظام مستمد من طباع العرب وعاداتهم في كلامهم، حيث أدرك النحاة تمام الإدراك أنَّ هذا النظام معمول به في كلام العرب ، حيث وجدوا أنَّ العرب ينيبون بعض الأشياء عن بعضها، ومن ذلك إنابتهم لحرف (الميم) في لفظ (اللهم) عن (ياء) النداء ، وكذلك إنابتهم لـــ (التاء) في نداء الأب والأم مناب (ياء) المتكلم ، ولمَّا استقرَّ لدى النحاة ما لا يدع مجالاً للشك وجود الإنابة اعتمدوها نظاماً من أنظمتهم التي كونت ــــ ـبتعاضدها ـــــ النظام النحوي ؛ لذلك قال النحاة في قواعدهم النحوية الإعراب بالنيابة ، وقصدوا به أن تنوب حركة فرعية عن حركة أصلية ، وذلك في حالات محددة ، أطلقوا عليها اسم مواضع الإعراب بالنيابة .
وعلى هذا قاموا بحصر أبواب الإعراب بالنيابة في سبعة أبواب هي (الاسم المثنى وجمع المذكر السالم وجمع المؤنث السالم والممنوع من الصرف والأسماء الستة والفعل المضارع المعتل الآخر والأفعال الخمسة) وحصروا العلامات الفرعية فوجدوا أنَّ منها ما هو حرف مثل : (الواو والياء والألف والنون وحذف حرف العلة وحذف حرف النون) ومنها ما يكون من الحركات مثل : (الفتحة والكسرة)، والأصل في الإعراب أنْ يكون بالضمة عند الرفع والفتحة عند النصب والكسرة عند الجر والسكون عند الجزم ، فإنْ رُفعتْ كلمةٌ بغير الضم كانت موضعاً للإعراب بالنيابة وسُمِّيتْ علامة إعرابها بالعلامة الفرعية ، وينوب عن حركة الضمة ثلاث حركات : (الألف والواو وثبوت النون ) ، وينوب عن حركة الفتحة : (الياء والألف وحذف النون والكسرة) ، وينوب عن الكسرة : (الياء والفتحة) ، بينما ينوب عن السكون : (حذف حرف النون وحذف حرف العلة) .
وكذلك استخدم النحاةُ نظام الإنابة في مواضع كثيرة من علم النحو ، ومن ذلك إنابة المفعول به أو الجار والمجرور أو المفعول المطلق عن الفاعل ، وذلك عند تغير صيغة الفعل الماضي أو المضارع إلى صيغة تحمل دلالة المجهول ، وضبطوا تلك الصيغة في الماضي والمضارع ضبطاً دقيقاً .
وكذلك استخدم النحاةُ نظام الإنابة في إنابة الفاعل أو نائبه مناب الخبر ، وذلك عندما يقع كلٌ من اسم الفاعل واسم المفعول موقع المبتدأ المسبوق بنفي أو استفهام، فيعملان حينها على رفع ما وقع بعدهما على أنَّه فاعل أو نائب فاعل، هذا الفاعل أو نائبه ينوبان عن خبر معموليهما، نحو قولنا : (أمقبولٌ العذرُ؟) .
ومن مواضع استخدام الإنابة في القواعد النحوية إنابة المصدر مناب فعله، وذلك عند حذف المبتدأ، نحو قولنا : (عملٌ متقنٌ) .
وكذلك استخدم النحاةُ نظام الإنابة في نظام الإعمال ، كأنْ تنوب بعض العوامل عن بعضها ، مثل إنابة المشتقات في العمل مناب الأفعال ، وإنابة اسم الفعل مناب الفعل في العمل ، وغير ذلك كثير .
خامساً : نظام التقدير :
التقديرُ هو حذفُ كلمةٍ أو أكثر لفظاً وإبقاؤها في المعنى والنية ، وقد يرد مصطلح (التقدير) بألفاظ أُخرى مثل : (الإضمار والحذف والتمثيل) ، وفي كل الأحوال فالتقدير يعالج قضايا في الجملة العربية ، فيحللها ويبين أوصولها ويكشف أسرارها من ناحية التركيب المعنوي . وقد ذهب سيبويه في كتابه أنَّ ما يذكره من إضمار هو “تمثيل لا يتكلم به”[15] . وهذا النوع من التقدير يعين على فهم الجملة ، ولكن بالمقابل هنالك تقديرات يجوز ذكرها نحو قولنا : (ماذا أكلتَ؟) فيُقال في الجواب : (التفاحةَ) ، فيجوز إظهار العامل المقدر وهو (أكلتُ) ، وكلاهما يخدم المعنى النحوي ، ولكن عدم التقدير أولى من التقدير ؛ لأنَّ الأصل في كلام العرب أن تذكر أجزاؤه تامة ، ولكن يلجأ إليه النحاةُ ـــ في أغلب الأحيان ـــ عند حدوث معضلة لا يمكن تفسيرها من خلال المذكور ؛ إذاً يلجأ إليه النحاة عندما يتعذر عليهم تفسير الكلام المذكور تفسيراً نحوياً ، فكأنه أداة يتم بوساطتها الملاءمة بين قواعدهم النحوية وكلام العرب. فيلجأون إليه أحياناً للضرورة الشعرية وأحياناً لضرورة عقلية كما في تقدير الضمائر المستترة في الفعل أو في الناسخ ، وأحياناً يُلجأ إليه كي تستقيم القاعدة النحوية ، وأيَّاً ما كان الدافع لاستخدام التقدير فإنَّه أخذ مشروعيته من كلام العرب أنفسهم الذي كثرت فيه التقديرات ، فهو نظام كغيره من الأنظمة مستمد ومقتبس من اللُّغة ذاتها ، فعن طريق السماع أدرك النحاة أنَّ العرب يقدرون اللفظة واللفظتين والجملة أحياناً في كلامهم ، فوجدوا أنَّ العرب يقدرون الفعل كثيراً كما في الإغراء والتحذير والاختصاص وغيرها ، وتبين لهم أنَّه طبعٌ من طباعهم ، فاستقلوه في صنع نظام يتمكنوا من خلاله من إكمال بناء بقية الأنظمة ، فاستخدموه في جميع أنظمتهم في نظام العمل والإعراب وفي الإنابة وغيرها. فالتحليلُ النحوي للجملة العربية ليس تحليلاً شكلياً فقط ، وإنَّما وُضع في الاعتبار المعنى الذي يقصده المتكلم ، فإذا لم تستقم القاعدة النحوية بصورة الألفاظ المذكورة في الجملة نظر النحاة إلى المعنى، هل يحتمل أنْ ينوي فيه المتكلم لفظة تزيد الكلام وضوحاً ، فإنْ وُجد ذلك حُملتْ عليه القاعدة النحوية على التقدير طالما أتاح لهم التقدير وضوح المعنى بجانب استقامة القاعدة النحوية.
فوصف النحاةُ بذلك الجملةَ العربيةَ وصفاً صورياً في المقام الأول، وضمنياً في المقام الثاني، فوصفوا العلاقات الناشئة بين كلمات الجملة وصفاً موضوعياً، معتمدين على كل الأنظمة النحوية، وعلى مقدمتها نظام التقدير النحوي.
لذلك ذهب النحاةُ إلى القول بتقدير العوامل على نحو ما ذكرتُ آنفاً ، كما قالوا بتقدير الحركات الإعرابية على أواخر الكلمات ، وبينوا سبب التقدير، كما قالوا بتقدير المبتدأ والخبر، وبينوا مواضع وأسباب ذلك التقدير، كما قالوا بتقدير (كان) واسمها، بل ذهبوا إلى جواز تقدير جملة (كان) بكاملها، وكذلك بينوا مواضع ذلك وأسبابها، وأبواب النحو مليئة بالتقديرات ، وبما أنَّ النحاة جعلوا للتقدير أسباباً ومواضعَ فإنَّ هذا يدلُ دلالةً واضحةً على أنَّهم جعلوا التقدير فرعاً عن الذكر أو فرعاً عن عدم التقدير، كما فعل العرب في كلامهم حيث جعلوا الأصل ذكر الكلام تاماً وظاهراً والفرع هو الحذف والتقدير .
وعليه أقولُ : إنَّ النحاة اقتبسوا نظام التقدير من كلام العرب ، ليس هذا فحسب بل اقتبسوا ـــ كذلك ـــ المقدار في استخدام نظام التقدير كما كانت تفعل العرب.
كما لا يفوتني أن أذكر أنَّ النحاة وجدوا في كلام العرب أساليبَ تختلف عمَّا يجري عليه عامَّة كلامهم فأولوها اهتماماً خاصاً، فأعملوا فيها تلك الأنظمة، فتميزتْ تلك الأساليب بأحكامٍ خاصة بها، ولعلَّ من تلك الأساليب أسلوب التعجب وأسلوب النداء وأسلوب الشرط وغيرها .
كل تلك الأنظمة النحوية السابقة استندت على طبيعة لغوية وعادة كلامية جارية على ألسنة العرب، فراعتْ تلك الأنظمة طبيعة اللُّغة ، فأُعملتْ معاً في تقعيد القواعد النحوية ؛ ليس هذا وحده يدلل على طبيعة القواعد النحوية ، وإنَّما موافقة معظم القواعد النحوية لكلام العرب يُعدُّ أيضاً دليلاً على طبيعتها ، وفي ذكر الشواهد النحوية ــــ التي بيَّنتْ ما خرج عن قواعدهم ـــ كبيرُ دليلٍ على صدق تلك القواعد ومصداقية النحاة في وصف لغة العرب .
وعليه ، فقد جاءت القواعد النحوية قواعدَ صادقةً ، لأنَّها وُضعتْ مراعية لطبيعة كلامهم وعاداتهم وتقاليدهم ونزعاتهم وميولهم وطرائقهم في التفكير والتعبير . وما عسى أنْ ينتجوا من قواعد بعد مراعاة ذلك كلِّه ، وما عسى أنْ يراعى ذلك كلُّه بعد أنْ عاش النحاةُ زمناً مديداً في بوادي العرب التي عُرف أهلُها بحرشة الضباب ومضغة الشيح والقيصوم ، ولم يرووا إلا عمَّن خلصتْ عربيتهم من شوائب التحضر ، ولم تفسد طبائعهم، بل ظلت صافيةً نقيةً ، ولم تلحن ألسنتهم بل ظلتْ تجري على عرق العروبة الأصيل وإرثها القديم، فعلى ذلك قُعِّدتْ القواعد النحوية التي جعلت من العربية الفصحى نموذجاً مفروضاً ومثلاً أعلى يقتفيه كلُّ كاتبٍ عربي .
وضع النحاة عبر تلك الأنظمة النحو العربي بجهدٍ لا يعرف الكلل وتضحية جديرة بالإعجاب، وذلك بعرض اللُّغة الفصحى في قواعد وتصويرها بها في جميع مظاهرها، من ناحية الأصوات والصيغ وتركيب الجمل ومعاني المفردات على صور محيطة شاملة ، بحيث بلغت قواعدهم الأساسية مستوىً من الكمال لا يسمح بزيادة لمستزيد !
وذلك لأنَّهم جمعوا شواهدهم من البادية موطن اللُّغة الأصيل ؛ ولأنَّ معاييرهم كانت صورةً معبرةً عن طبيعة العربية الفصحى في بنائها الصوتي ودلالاتها الموحية وفي جميع مظاهرها البسيطة والمركبة والمقتبسة والمسموعة والمستعملة والمهملة والمنحوتة. وحتى المستشرقين اعترفوا بدقة مقاييس النحاة ونجاحها في التعبير عن طبيعة العربية الفصحى .
الخاتمة :
وضع النحاة نظاماً نحوية أقل ما يمكن أنْ يُوصف به هو الصحة والمتانة ، حيث استطاع هذا النظام أنْ يصمد أمام تلك الثورات التي قام بها أصحابها ضد طريقة النحاة في وضعهم للقواعد النحوية، تلك الأنظمة مكَّنتْ النحاة من وصف لغة العرب وصفاً مثالياً ، هذا الوصف يسَّر عملية محاكاة لغة العرب من ناحية وأبرز خصائص لغة العرب الخفية ناهيك عن الظاهر منها ، وممَّا هو جدير بالملاحظة أنَّ هذه الأنظمة عكستْ مدى الجهد المنظَّم المبذول الذي اتَّبعه النحاة في بناء صرح النحو العربيّ، هذا الجهد قامتْ به أجيال متساوقة من النحاة ، فوضعَ كلُّ جيلٍ ما أملته عليه قريحته وأتاحته له ظروفه وبيئته وفق تلك الأنظمة الموسومة بهذه الورقة . وعليه فإنِّي موجزٌ ما توصلتُ إليه من نتائج في الأسطر التالية :
1/ قيام علم النحو العربي على خمسة أنظمة هي : نظام الإعراب ونظام المشابهة بنوعيه (ظاهر وخفي) ونظام العمل ونظام التقدير ونظام الإنابة .
2/ الأنظمة النحوية الخمسة جميعها مُستمدَّة من طبيعة اللغة .
3/ اللغة العربية لغة اعتباطية منطقية .
وأُنهي هذه الدراسة بتوصية متواضعة وهي البحث عن أنظمة أخرى يمكن أنْ تضاف لما سبق ذكره من أنظمة ساهمت في بناء صرح النحو العربيّ ، فبهذه الدراسة المقترحة يتحقق إحدى أمرين : أولهما إضافة أنظمة جديدة لم يتوصل إليها الباحث في هذه الورقة وتكون إضافة حقيقية واستكمال لهذه الدراسة، وثانيهما تعضيد وتأكيد وتثبت لمَّا وصلتْ إليه الدراسة في هذه الورقة التي أرجو أن تكون قد حققت الهدف من إجرائها . هذا والله المستعان وعليه التكلان .
قائمة المصادر والمراجع :
1/ القرآن الكريم .
2/ الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين البصريين والكوفيين، ابن الأنباري (عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله الأنصاري أبو البركات كمال الدين )، المكتبة العصرية، بلا م ن ، ط1 ، 1424هــ ـــ 2003م .
3/ تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي، السيوطي (جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر)، تحقيق محمد الفريابي، دار طيبة، بلا م ن، بلا ط، بلا ت ط.
4/ الخصائص، ابن جني (أبو الفتح عثمان)، تحقيق محمد علي النجار، عالم الكتب، بيروت، بلا ط، بلا ت ط.
5/ دراسات في فقه اللُّغة، صبحي إبراهيم الصالح، دار العلم للملايين، بلا م ن ، ط1، 1379هــ ـــ 1960م .
6/ ديوان الحطيئة برواية وشرح ابن السكيت، دراسة وتبويب مفيد محمد، دار الكتب العلمية، بيروت ـــ لبنان، ط1 ، 1413 هـ ـــ 1993م ، ج2 ،
7/ الصاحبي في فقه العربية ومسائلها وسنن العرب في كلامها، ابن فارس (أحمد بن زكريا القزويني الرازي أبو الحسين)، تحقيق محمد علي بيضون، بلا ن ، بلا م ن ، ط1 ، 1418هـ ــــ 1997م .
8/ ظاهرة الإعراب في العربية، عبد الكريم الرعيض، منشورات جمعية الدعوة الإسلامية العالمية، طرابلس ــ ليبيا ، ط1 ، 1399هـ ــ 1990م .
9/ الكامل في اللُّغة والأدب ، المبرد (أبو العباس محمد بن يزيد) ، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم ، دار الفكر العربي ، القاهرة ، ط3 ، 1417هـ ـــ 1997م .
10/ الكتاب ، سيبويه (أبو بشر عمرو بن عثمان بن قنبر) ، تحقيق عبد السلام محمد هارون ، مكتبة الخانجي، القاهرة ، ط3 ، 1408هـ ـــ 1988م .
11/ لسان العرب ، ابن منظور (محمد بن مكرم بن علي أبو الفضل جمال الدين الأنصاري الرويفعي الأفريقي)، دار صادر ، بيروت ، ط3 ، 1414هـ .
1/ لسان العرب ، ابن منظور (محمد بن مكرم بن علي أبو الفضل جمال الدين الأنصاري الرويفعي الأفريقي) ، دار صادر ، بيروت ، ط3 ، 1414هـ ، مادة ( عرب) .
[1]
[2] ينظر دراسات في فقه اللُّغة ، صبحي إبراهيم الصالح ، دار العلم للملايين ، بلا م ن ، ط1 ، 1379هــ ـــ 1960م ، ص235 .
[3] تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي ، السيوطي (جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر) ، تحقيق محمد الفريابي ، دار طيبة ، بلا م ن ، بلا ط ، بلا ت ط ، ج1 ، ص605 .
[4] ينظر الخصائص ، ابن جني (أبو الفتح عثمان) ، تحقيق محمد علي النجار ، عالم الكتب ، بيروت ، بلا ط ، بلا ت ط ، ج1 ، ص77 .
[5] المصدر السابق ، ابن جني ، ج1 ، ص 76 .
[6] يس ، 40 .
[7] ينظر الكامل في اللُّغة والأدب ، المبرد (أبو العباس محمد بن يزيد) ، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم ، دار الفكر العربي ، القاهرة ، ط3 ، 1417هـ ـــ 1997م ، ج1 ، ص201 . وينظر الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين البصريين والكوفيين ، ابن الأنباري (عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله الأنصاري أبو البركات كمال الدين ) ، المكتبة العصرية ، بلا م ن ، ط1 ، 1424هــ ـــ 2003م ، ج2 ، ص542 . وينظر الخصائص ، ابن جني ، ج1 ، ص126 .
[8] الكتاب، سيبويه، (أبو بشر عمرو بن عثمان بن قنبر) ، تحقيق عبد السلام محمد هارون ، مكتبة الخانجي ، القاهرة ، ط3 ، 1408هـ ـــ 1988م ، ج3 ، ص93 .
[9] المصدر السابق ، ج3 ، ص93 .
[10] الأنفال ، 25 .
[11] ينظر ظاهرة الإعراب في العربية ، عبد الكريم الرعيض ، منشورات جمعية الدعوة الإسلامية العالمية ، طرابلس ــ ليبيا ، ط1 ، 1399هـ ــ 1990م ، ص323 .
[12] ينظر الصاحبي في فقه العربية ومسائلها وسنن العرب في كلامها ، ابن فارس (أحمد بن زكريا القزويني الرازي أبو الحسين) ، تحقيق محمد علي بيضون ، بلا ن ، بلا م ن ، ط1 ، 1418هـ ــــ 1997م ، ص160 .
[13] الكهف ، 77 .
[14] ديوان الحطيئة برواية وشرح ابن السكيت ، دراسة وتبويب مفيد محمد ، دار الكتب العلمية ، بيروت ـــ لبنان ، ط1 ، 1413 هـ ـــ 1993م ، ج2 ، ص 119 .
[15] الكتاب ، سيبويه ، ج1 ، ص103 .