Skip to content

JiL.Center

Primary Menu
  • عن المركز
  • رئيسة المركز
  • شروط الانتساب
  • منشوراتنا
  • مؤتمرات وملتقيات
  • دوراتنا
  • محاضراتنا
  • مسابقاتنا
  • Cont@cts
موقع مجلات مركز جيل البحث العلمي
  • Home
  • التفات الأفعال في شعر حسن السوسي Diversification of the verbs in Hasan al-Susi’s poetry

التفات الأفعال في شعر حسن السوسي Diversification of the verbs in Hasan al-Susi’s poetry

admin 2020-03-21 2 min read
   

 

التفات الأفعال في شعر حسن السوسي

Diversification of the verbs in Hasan al-Susi’s poetry

نجية حسين التهامي الجامعة الإسلامية العالمية ـ ماليزيا

NJEA HUSEA Atohame ISLAMIC UNIVERSITI MALAYSIA   INTERNATIONAL IIUM

مقال منشور في  حمل من هنا: مجلة جيل الدراسات الادبية والفكرية العدد 59 الصفحة 115.

   

Abstract:

Generally speaking, time is expressed by an action or event, and that action has been done by a doer. It is affected by two factors: time and place. Otherwise, no action can take place. When we thoroughly study inflections of verbs in Arabic as a way to express time, we find out that they are not as simple as they look: past simple tense, present simple tense, and futur simple tense. In fact, there are some time expressions accompany with the verbs, which could be averbs or time phrases, and they have a very important role in expressing time. They have a complementary role in expressing the exact time by referring to its continuity, its beginning, or it’s finishing.

It is known that, modifying the speech from one tense to another tense can affect the fluency of speech, and this is what the researcher is looking at in her investigation. Modifying the tenses in poetry has not been studied thoroughly. There is still much more room to investigate modification of tenses in poetry. This study aims at investigating how the poet uses tense modification in his poems as a style that helps him to express his feelings. The main goal of this study is to diagnose and analyse the style of tense modification in Hassan Al-Sousi’s poems, and to investigate the types of tense modification in these poems. This could be conducted by using inductive, descriptive, and analytical methods. This study has four objectives: The first one is to define tense modification in terms of meaning and terminology. The second, to investigate how to modify the inflected verbs from past tense to present tense. While the third objective is concerned with investigating the modification of inflected verbs from past tense to future tense. Finally, the fourth objective is dealing with investigating the modification of inflected verbs from present tense to future tense. Significant findings have been yielded from this study.

Key words: Tense modification, Inflected verbs, Poetry, Hassan Al-Sousi

   

 

ملخص :

 نعلم أن الزمن في الأصل ملازم للحدث أو الفعل، وذلك أنّ الحدث، لا بدّ له من مُحدِث، أو أن الفعل لابد له من فاعل، ولا بدّ له أن يجري في دائرتي الزمان والمكان، فلا فعل ولا حدث يتحقّق خارج هذا النطاق.  وحينما ندرس الفعل ونتعمق فيه باعتباره حدث يدل على الزمن في العربيّة، وبالنظر إلى ما يمكن أن نلاحظه، فإننا نجده في غاية من التعقيد، فالفعل وتصاريفه (الماضي والمضارع والأمر) في حقيقته لا يتعلّق وحده بالزمن، وإنّما يمكنه الوصول لهذه الغاية بإضافة بعض الملحقات إلى الفعل، قد تكون أفعالا أو ظروفا أو أدوات، لتحدّد الزمن وتوجّهه التوجيه المراد، من حيث جريان الفعل، أو الشروع فيه أو انقطاعه.

ومعلوم أن تحوُّل الخطاب من صيغة إلى صيغة من شأنه أن يمنع الكلام من الجريان على وتيرة واحدة وهذا ما تحاول الباحثة أن تؤكده بهذا النوع من الالتفات، ولأن الالتفات في الشعر لم يأخذ حظا وفيرا بين الدراسات الأدبية والنقدية؛ لذلك انحصرت مشكلة هذا البحث في؛ كيفية توظيف الشاعر أسلوب الالتفات للأفعال في قصائده، للتعبير عمّا يجول في نفسه. وبما أن الهدف الرئيس من هذه الدراسة هو تشخيص وتحليل أساليب الالتفات في الأفعال بقصائد الشاعر حسن السوسي، ومناقشة أوجه الالتفات فيها من خلال المنهج الاستقرائي، والوصفي والتحليلي. لذلك انقسم هذا البحث (الالتفات في صيغ الأفعال في شعر حسن السوسي) إلى أربعة مطالب؛ حيث شغل المطلب الأول؛ تعريف الالتفات لغة واصطلاحا، وخصص المطلب الثاني للالتفات من الفعل الماضي إلى الفعل المضارع، بينما اهتمّ المطلب الثالث بالالتفات من الفعل الماضي إلى فعل الأمر، أما المطلب الرابع والأخير فقد عُقد للالتفات من الفعل المضارع إلى فعل الأمر. وخلص البحث إلى مجموعة من النتائج

الكلمات المفتاحية: أسلوب الالتفات، الأفعال، الشِّعْر، حسن السوسي.

 

المقدمة

إنّ المتتبع لبدايات الأدب العربي، ونشأة البلاغة؛ يجد جذور الالتفات ممتدّة وعميقة في التراث الأدبي العربي. فقد كان أسلوب الالتفات مدار بحثٍ لدى البلاغيين القدماء؛ وكان من المواضيع التي تناولها علماء اللغة في كتبهم، وأولوه مزيدا من الاهتمام لما له من أهمية في البلاغة الأدبية عموما، والبلاغة القرآنية خصوصًا. فقد تركزت دراساتهم حول أسلوب الالتفات في القرآن الكريم؛ نظراً لارتباط البلاغة بقضية إعجاز القرآن. لذلك تكاد معظم الدراسات التي تعرضت لأسلوب الالتفات تنحصر في بلاغة وإعجاز القرآن الكريم، في الوقت الذي توجد ندرة في الدراسات حول أسلوب الالتفات في النصوص الأدبية شعرا ونثرا، وحيث إنّ أسلوب الالتفات يمثل كذلك جانبا بلاغيا مهما في الشعر لايمكننا التغاضي عليه، جاء هذا البحث لدراسة الالتفات في قصائد الشاعر الليبي حسن السوسي وذلك، لما تزخر به أشعاره من جماليات الالتفات وحسن بلاغته وروعته.

مشكلة هذا البحث:

 انحصرت المشكلة تحديداً في: كيفية تنوّع أسلوب الالتفات في الأفعال في قصائد السوسي، وكيفية توظيّف الشاعر لهذا الأسلوب في قصائده، للتعبير عمّا يجول في نفسه.

أهمية البحث:

نظرا لما تمثله الأفعال من أهمية كبرى في تماسك النص وارتباطه، تحاول الباحثة من خلال أزمنة الأفعال في الجملة؛ الوصول إلى مراد الشاعر، والتعرف على البعد الآخر بقراءة إبداعية هادفة، عبر انتقالية من صيغة إلى صيغة أخرى مغايرة. وهذا كلّه طبعا يدخل ضمن حدود نفسية الشاعر من توتّر وحب وقلق وبغض وانفعال وحزن وتذكّر، ويعين على فهم دلالات الالتفات من زمن إلى آخر.

         أهداف البحث

إن التفات الفعل عنصر من عناصر التشويق في النص الشعري، يزيد من حيوية اللغة، الأمر الذي يساعد الشاعر ويكون عونه في الحفاظ على إبقاء أفكاره متدفقة يقظة، محافظة على حرارة تأثيرها النفسي عند قارئيه. فالالتفات يساهم في تجديد نشاط المتلقي، واستدرار تشوقه للمزيد من سماع الكلام. فهو  يعد “كسراً للسياق اللغوي داخل النص الشعري، وهو الدافع لجذب الانتباه. لأن السياق إذا ما استمر على وفق نسق بعينه سيكون سياقاً مشبعا”[1] ، وقد تعد لحظة الانتقال في الأفعال خروجاً على المألوف، إلاّ إنه خروج يهدف إلى تحقيق منافع دلالية متعددة، وهذا ما ترجوه الباحثة وما تصبو إلى برهانه، من خلال هذا البحث الذي يهدف إلى تشخيص وتحليل أسلوب الالتفات في الأفعال (الماضي، والمضارع، والأمر) ومناقشة الكيفية التي وظف بها الشاعر حسن السوسي أسلوبه للتعبير عما يجول في نفسه من أفكار جاءت في قصائده، وتشخيص وتحليل أساليب الالتفات التي حفلت بها قصائده، ومناقشة أوجه الالتفات في الأفعال التي لجأ إليها الشاعر للتعبير عما يجول في نفسه من أفكار أراد إيصالها إلى المتلقي، وذلك من خلال المنهج الوصفي، والمنهج التحليلي، والمنهج الاستقرائي.

أسئلة البحث:

 إنّ السؤال الذي سيقود البحث هو: كيف وظّف الشاعر السوسي أسلوب الالتفات في الأفعال للتعبير عما تجيش به قريحته الشعرية؟

بعض من الدراسات السابقة:

 الدراسة الأولى: ) معهد، ابن مختار، أسلوب الالتفات ودلالاته في القرآن الكريم، 2006، رسالة دكتوراه، بكلية معارف الوحي، الجامعة العالمية الإسلامية، ماليزيا؛ حيث عرض الباحث مفهوم الالتفات عند البلاغيين، وموقعه من فنونها، موضحاً مفهوم الالتفات عند أرباب البلاغة. هدفت الرسالة إلى استخلاص دلالات الالتفات التي وردت في القرآن الكريم وفق منهج استقرائي، استنباطي، تحليلي وقد خلصت الرسالة إلى نتائج أهمها: إنّ النظر إلى شاهد الالتفات مع ربطه بشواهد أخرى في القرآن الكريم كلّه؛ يتيح للباحث صورة أكثر دقّة، وأوسع أفق من تلك الصورة الحاصلة من النظر إلى الشاهد في إطاره المحدود. ومع اختلاف الموضوع والمنهج بينها وبين البحث الحالي، إلا أن الاستفادة ستكون متحققة على قدر ما يخدم موضوع هذا البحث لاسيما في صور الالتفات.

الدراسة الثانية: )خليفات، عدنان عبد الكريم، أسلوب الالتفات في القرآن الكريم وجهود أشهر اللغويين والنحاة في دراسته 2008 ، وهي رسالة دكتوراه بجامعة الخرطوم في السودان؛ ناقشت الدراسة جهود أشهر اللغويين والنحاة في دراسة الالتفات للقرآن الكريم. ناقش الباحث معنى الالتفات وبيّنه في ستة أقسام، هي: الالتفات من ضمير الخطاب إلى ضمير الغيبة، ومن الغيبة إلى الخطاب، ومن ضمير التكلم إلى الخطاب، و من الخطاب إلى التكلم، ومن الغيبة إلى التكلم، ثم من التكلم إلى الغيبة. استفادت الباحثة من الدراسة آنفاً؛ من حيث التقسيم المعتمد لأنواع الالتفات في الضمائر.

 الدراسة الثالثة: كوردزي، فاطمة 2012″الالتفات في أشعار محمود درويش”، رسالة دكتوراه, بجامعة (UPM)؛ هدفت الدراسة إلى تشخيص وتحليل الالتفات في أشعار محمود درويش، مستعينة بالمنهج الوصفي والمنهج التحليلي ناقشت الباحثة ظاهرة الالتفات في أشعار محمود درويش؛ حيث اعتمدت على استقراء النصوص الشعرية في ثلاثة دواوين وتحليلها، وصولا إلى عمقها البلاغي. خلصت الدراسة إلى نتائج عدة, حسبما تمخّض عنه مسار التحليل في شمولية طرحه الدال على الدواوين المدروسة.

الدراسة الرابعة: (كاظم، شيماء محمد 2005)، الالتفات في شعر الجواهري. رسالة دكتوراه، كلية التربية، صفي الدين الحلي: العراق. هدفت الرسالة إلى تشخيص مفهوم الالتفات, وأثر التراث البلاغي في ثقافة الجواهري. وقد اعتمدت الباحثة في دراستها أسلوب الالتفات في شعر الجواهري على استقراء النصوص الشعرية وتحليلها وصولا إلى دلالاتها.

الدراسة الخامسة: (الحسيني، محمد جاسم (2004 “أسلوب الالتفات في شعر الرواد العراقيين: دراسة أدبية شاملة” وهي رسالة دكتوراه مقدمة إلى قسم اللغة العربية بكلية التربية صفي الدين الحلي جامعة تكريت في العراق؛ هدفت الدراسة إلى مناقشة فن الالتفات في دراســةً تطبيقيةً، لأجل الكشف عن رؤىً جديدةٍ، وأساليبَ متطورةٍ في دراسة النص الإبداعي؛ وقد انتقى الباحث عينة من خمسة شعراء هم: بدر شاكر السياب، نازك الملائكة، عبد الوهاب البياتي، بلند الحيدري، شاذل طاقة.

         هذه الرسائل الثلاث الأخيرة تشترك مع البحث الحالي في المنهج المتبع لتحليل النصوص الشعرية. وكذلك في تقسيم صور الالتفات الخاصة بالتحولات في صيغ الضمائر، وصيغ الالتفات في الأفعال، والأسماء، وفي الإفراد والتثنية والجمع، لذلك تستفيد الباحثة من تلك الدراسات؛ برغم طابعها الخاص الذي يبحث في شعراء آخرين وقصائد ودواوين مغايرة. وتأتي هذه الدراسة استجابة لتوصيات تلك الدراسات التي أوصت بضرورة التوسع في أسلوب الالتفات في الشعر والنصوص الأدبية. ولا شك في أن هذا البحث يتميز عن غيره من الدراسات بسعة التنوع في أوجه الالتفات المعتمدة، مما يكسبه أهمية متميزة.

 

المطلب الأول: الالتفات لغة واصطلاحا

أولا: الالتفات لغة؛

أطبق أصحاب المعاجم على إن الالتفات هو؛ صرف الشيء عن جهته إلى أخرى. سواء أكان ذلك فيما يتعلق بالجهات، أو فيما يتعلق بالأمور المعنوية كالآراء والأحاسيس وغيرها. وقد جاء في لسان العرب: “لَفَت وَجْهَهُ عَن القوم: صَرَفَهُ والتَفَتَ التفَاتا، والتَّلفُّتُ أَكثَرُ مِنْهُ. وتَلَفَّتَ إلى الشَّيْءِ والتَفَتَ إلَيْهِ: صَرَفَ وَجْهَهُ إِلَيْهِ، وَلَفَتَهُ عَنِ الشَّيْءِ يَلْفِتُهُ لَفْتا: صَرَفَهُ. وفي قوله عزَّ وجلَّ: ﴿أجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا﴾ [2] فاللَّفْتُ: الصرف، يقال ما لفتك عن فلان، أي: ما صرفك عنه.”[3] و”التَفَتَ بوجْههِ يَمْنَة وَيَسْرَى وَلفْتَهُ لَفْتا مِنْ بَابِ ضَرَبَ، أي: صَرَفَهُ في ذات اليمين أو الشمال،  وَمِنْهُ يُقَالُ: لَفَتَّهُ عَنْ رَأْيهِ لَفْتا إِذَا صَرَفَتهُ عَنْهُ”[4]، وقد جاء في الكتاب العزيز: ﴿ولا يلتفت منكم أحدٌ إلا امرأتك﴾ [5]. أي: أمروا بترك الالتفات بوجوههم لئلا يروا عظيم ما نزل بالكافرين من العذاب. وجاء في الحديث النبوي لفظ الالتفات بمعنى اللّي والصرف أي: صرف الوجه يمنة ويسرة في الصلاة إلى جهة خارجها؛ فعن عائشة – رضي الله عنها – قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الالتفات في الصلاة  فقال: “هو اختلاسٌ يختلسهُ الشيطان من صلاة العبد”[6].

“واللام والفاء والتاء كلمة واحدة تدل على الليّ وصرف الشيء عن وجهته المستقيمة، منه لفت الشيء لويته، ولفت فلاناً عن رأيه صرفته، وامرأة لفوت لها زوج ولها ولد من غيره فهي تلفت إلى ولدها”[7].

 مما سبق نرى أنّ الالتفات بتراكيبه واستعمالاته المختلفة يدلُ على معنى الصرف واللّي عن الجهة المستقيمة والطبيعية ، وأكثر ذلك في الماديات، ثم أطلق بعد ذلك على الفن البلاغي المعروف.

ثانيا: الالتفات اصطلاحاً؛

الشيء اللافت للانتباه؛ أن مفهوم الالتفات الاصطلاحي على كثرة وروده في موروثنا البلاغي والنقدي، قد لقي قدرا من الخلط والاضطراب لم يتعرض لمثله مصطلح بلاغي آخر. الأمر الذي سيتوضّح في هذا الباب. فقد كثرت تعاريف الالتفات عند العلماء، وقد يكون أشهرها ما أورده البغدادي في خزانة الأدب حينما قال: “أن يكون الشاعر في كلام  فيعدل عنه إلى غيره قبل أن يتم الأول، ثم يعود إليه فيتمّه، فيكون فيما عدل إليه مبالغة في الأول وزيادة فيحسّنه”[8]. وقد أشار الباحثون إلى هذا الاختلاف وفصّلوا القول فيه تفصيلاً دقيقاً. فمن البلاغيين من عدّ الالتفات انصرافا، مثل أسامة بن منقذ في قوله: “الانصراف؛ أن يرجع من الخبر إلى الخطاب، أو من الخطاب إلى الخبر”[9]. ودليله في ذلك قوله تعالى: ﴿الحمد لله رب العالمين¤الرحمن الرحيم¤ملِكِ يوْم الدينِ¤إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإياك نستعين﴾[10] وهذه فيها انصراف من الغيبة “الحمد لله” إلى الخطاب” إياك نعبد”وفي التراث البلاغي إشارة أخرى لمفهوم الالتفات نجدها عند المبرِّد في كتابه الكامل عند دراسته لغة القرآن الكريم أيضاً في قوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَ﴾[11] ؛ فقال: “كانت المخاطبة للأمة، ثم صرفت إلى النبي صلى الله عليه وسلم إخباراً عنهم.”[12]،.إلا إنّ فخر الدين الرازي:  قد نعته بـ (العدول) وقال: “قيل إنه العدول عن الغيبة إلى الخطاب أو العكس”[13]. ودليله قوله تعالى:﴿حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم﴾[14]  ولم يقل وجرين بكم. وذكر جلال الدين السيوطي  في كتابه الإتقان عن الالتفات فقال: “هو نقل الكلام من أسلوب إلى آخر، أعني من التكلم إلى الخطاب أو الغيبة إلى آخر منها.”[15]

المطلب الثاني: الالتفات من الماضي إلى المضارع

 تشهد الحياة منذ بداية الخليقة؛ صراعاً أبدياً بين الزمن والإنسان وهذا الصراع “وإن كان عجْزِ الإنسان عن حل مشكلة بعينها، هي مشكلة الفناء؛ فإنه اتخذ في حياة الإنسان وعبر العصور المختلفة أشكالًا متباينة؛ فكان صراعًا بين الإنسان ونفسه، وبين الإنسان والطبيعة. وكما كان الصراع بين الإنسان والزمن منبعًا لهذه الصراعات فقد كان كذلك مادة للأدب والفن والعلم والفلسفة”[16]. إذ إنّ السياق يُعِين على تحديد زمن الفعل؛ لأنّ الأفعال خارج السياق لا دلالة زمنية لها، كما للسياق دور مهم في تعيين المقصود من الدلالة الزمنية للأفعال، “ولهذا أُنتقد النحاة لتركيزهم على الزمن في صيغة الفعل، وإهمالهم السياق الذي ورد فيه، فكان على النحاة أن يدركوا أنّ الأفعال مجرد صيغ، وألفاظ تدلّ على زمن ما، هو جزء من معنى الصيغة، وأنّ السياق أو الظروف المقولية بقرائنها الحالية والمقالية، هي وحدها التي تعين الدلالة الزمنية المقصودة من الفعل، وترشحها لزمنٍ بعينه”[17]

      وقد شكّلت ظاهرة الالتفات في الأفعال؛ مشغلاً ذا أهمية بـارزة لأصـحاب الدراسات اللغوية والأسلوبية؛ “فأعطوها بعداً جمالياً ودلاليا. وهذا العدول عن الصيغ الأصلية للأفعـال في السياق النصي؛ له أبعاد بلاغية ومقاصد بيانية، يعمد إليه الناظم فيكشف عن وجه من وجوه البيان الدّلالي الّذي يفاجئ المتلقي، ويثير دهشته، لمخالفته القواعد المألوفة في العرف النحوي “[18]

ويشكل السوسي في التفاته من الماضي إلى المضارع تحولات زمنية ليست عشوائية بقدر ما هي تحولات تزكِّي روح الدراما النصيّة  والتأكيد على روح السرد، أو تماهي الأجناس الأدبية داخل نصوصه على مستوى بناء الخطاب الشعري عنده. وتعمل على توهج اللحظة الزمنية وتحولاتها حسب منطق الاهتمام الذاتي، أو الاجتماعي، أو الإنساني عند الشاعر. والالتفات بين الماضي والمضارع في هذا المطلب؛ يعني بؤرة مغايرة تلعب دورا مهما في إثارة انتباه المتلقي حسب ما يريد الشاعر له أن يندهش، أو ينبهر بحالة معينة. ففي قصيدة “خال آمال”[19] يأتي الالتفات من الماضي إلى المضارع؛ كاشفا عن أن المحبوبة تشكل قيثارة أمل وفضاء شعوريا جارفا لدى الشاعر حيث يقول:

على خّدِّ آمال تربَّعَ خــــــــالُها       فزادَ به بين الحسانِ جمالهَا

تخيّر بين العينِ والأذنِ موضعاً      وأغراهُ منها لينُها ودلالهَــــا

يوشوشُ قولا لستُ أعلم ُكنهُهُ       ولكنُّهُ – قطعًا – سيرويهِ حالهُا

هنا يتحول النص من الاخبار عن الخال الذى في خد آمال، إلى الحرص على أن يكون لهذا الخال دور مستمر في جمال المحبوبة؛ وكأنه يتحول من الحكي بالماضي في البيت الأول والثاني في (تربع، زاد، تخير، أغراه) إلى التصوير بالمضارع في البيت الثالث في (يوشوش، يرويه) ليضع المتلقي أمام تصور وحيد وهو جمال هذه المرأة، التي نحتها الشاعر نحتا، وكأنه يشخّص هذا الخال كاشفا عن دوره العميق، ليس في الشكل الخارجي فحسب، وإنما في الكشف عن العالم الروحي للمرأة. “فالأديب يرى الأشياء والأحداث ويدرك ما فيها من أسباب الروعة أو الإشفاق، ثم يعرضها علينا كأنها حقيقة ملموسة، وهو إذ يعرضها علينا لا يكتفي -غالبا- بعرضها صامتة، بل مفسّرة مصوّرة، أو مجسمة؛ عسى أن ندرك أسرارها فيشملنا الإعجاب أو الرحمة أو الاشفاق” [20]، لذلك فالتحول هنا من الماضي إلى المضارع تحول ليس زمانيا بقدر ما هو تحول جمالي ودلالي في الوقت نفسه يوظفه الشاعر بوعي وحرص “فالسياق الذي وظفت فيه اللفظة هو الذي يمنح المفردة مدلولها المحدد، وهو وحده القادر على منحها العمل داخل الجملة، ولذلك يلازم الالتفات من الماضي إلى المضارع الوصف في كثير من نصوص الشاعر وبخاصة وصف المرأة حيث يصف حركتها كنوع من الجمال يراه الشاعر فيها. فنراه في قصيدة “ريم”[21] يقول:

أقبلتْ تخطرُ ريم       مثلما مرَّ النسيمُ

يتهادى بتثنِّيها       قوامٌ مستقيـــــمُ

فالإقبال عند الشاعر بؤرة يتأسس عليها جمال التثنّي من حيث وصف الشاعر للفعل الماضي (أقبلت) بالحركة التي تبناها الفعل المضارع (يتهادى بتثنّيها) وكأن الماضي في (أقبلتْ، مرَّ) يخدم المضارع (تخطرُ، يتهادى) لأنه يعنى استمرار الوصف وحيويته. لذلك يصنع الالتفات بشكل عام؛ نبرة شعرية تبني خطّاً تواصليّاً ينحرف عن المسار الطبيعي للكتابة الشعرية؛ ليحدث بذلك صورة فنية، وتحوّلا بليغاً في عملية التلقِّي؛ لرغبة الشاعر في التركيز على معنى معين من خلال هذا التحول. حيث رأى قدامة بن جعفر أنّ الالتفات “هو أن يكون الشاعر آخذاً في معنى فكأنه يعترضه؛ إما شك فيه أو ظنّ بأن رادّاً يردّ عليه أو سائلاً يسأله عن سببه، فيعود راجعاً إلى ما قدّمه، فإمّا أن يذكر سببه أو يحلّ الشك فيه” (بن جعفر، قدامة 1963: 53)

وفى موضع آخر من قصيدة “الغزالة” بديوان الرسم من الذاكرة (2004: 33) يكاد يتطابق الوصف من خلال توظيف الالتفات من الماضي إلى المضارع؛ حيث يقول الشاعر:

أقبلتْ تختالُ كالطاووسِ        في زهوٍ أميرةْ

تتهادى كقضيبِ البانِ          في أبدعِ صورةْ

فإذا كانت المرأة عند السوسي في القصيدة الأولى، أقبلت تخطر مثل مر النسيم؛ فإنها هنا أقبلت تختال كالطاووس. وإذا كانت في القصيدة الأولى تتهادى بتثنّي قوامها، فإنها هنا تتهادى مثل غصن البان فتبدو في أبدع صورة. هنا يصبح الالتفات من الماضي (أقبلت) إلى المضارع (تتهادى) فاعلا في ايجاد مبررا للوصف الجمالي المادي الذي يعمد إليه الشاعر، معمّقا بذلك معنى الجمال المرتبط بالمرأة. وهنا يعلّي الشاعر من شأن المرأة باعتبارها – عنده – كائن جمالي يعطى للحياة معنى وشكلا، و عنصر هام في حياته يشكل لحنا جميلا. فالشاعر هنا يلفت إلى جمالها المحسوس ويشير إلى نظرته للأنثى وكأنها بمثابة المعادل النفسي عنده للانسجام مع الواقع. لذلك فهو يهرب إلى جمالها كتعويض نفسي له.

ويكشف الالتفات من الماضي إلى المضارع؛ عن التوسع في الوصف عبر طريقة الحكي أو السرد في النص الشعري عند الشاعر، عبر توظيف الالتفات؛ ملحماً رئيساً يتعلق بالحكي عن الأنثى بشكل عام. فضلا عما كان في السابق من وصف الجمال عند المرأة. إلا إنه ما يزال يعمق هذا المعنى في كثير من نصوصه، مستعينا في ذلك بمفردات معينة تتكرر كثيرا عنده مثل: كان، كنت، كنا، كانت، وغير ذلك. ففي قصيدة “هي” يقول الشاعر:

قابلتُها عند المجمَّعِ صدفةً              فكأنمــا كنـــــا على ميعـــادِ

تلك التي سكنتْ خيالي حقبةً           وتسَرَّبتْ في مهجتي وفؤادي

قد كنتُ أُخفي ما يجولُ بخاطرِي      عنها وأكتمُ لوعَتِي وسُهادِي

عشرون عاما وهى ما زالتْ كما         هي حلوةُ في أعيُنِ النقَّادِ

عينانِ لا أحلى وثغرٌ باســـمٌ              مغرٍ… وخَطْرةُ عودِها الميَّادِ

وكنوزُ فتنتِها ولؤلؤُ ثغرِها               متألقـًـا كالكوكــبِ الوقــَّـادِ

لا مثلُها أخرَى تُحَّبُ وتُشتهى          لو كنتُ أمْلِكُ صَبْوَتِي وعِتادِي[22]

هنا يخدم الالتفات من الماضي إلى المضارع ظاهرة الحكي حول المرأة، تلك الظاهرة التي تقف في هذا النص عند حدود الجمال وحوله، بلغة السرد أو الحكي عنها؛ وكأن الشاعر عازف ماهر يسعى لتجسيد لحنه، متنقلا به من الماضي (قابلتها، كنا، سكنتْ، تسربتْ، كنتُ)  إلى الحاضر ( تُحَبُّ، تُشْتَهَى) بنغمة تكون أعلى صوتاً وأجمل وقعاً في النفس. فهذه المرأة بهذا الوصف أمنية الشاعر في الماضي. لكنه بمقام المضارع هنا صنع الشاعر مفارقة مدهشة. فمع كل هذا الوصف ومع أنها تُحَب وتُشْتَهى إلا إن الشاعر لا يملك مؤهلا لذلك من الصبوة والعتاد وهذه سمة الحكي  في القصة. حيث تحدث لحظة الدهشة؛ تلك التي تلفت القارئ إليها.

 وفى قصيدة “نجوى”[23] يؤدي الالتفات من الماضي إلى المضارع؛ وظيفة محددة هي انتقال الشاعر تدريجيا إلى أمنيته، بعد الافصاح عن مكنون نفسه بالسرد. حيث يقول الشاعر:

نجوى غرامٌ جديدٌ            قد صارَ في الكلِ كُلَّا

عَشقتُهُ دون مرأى            ولــــو رأيتُ فـــأولَى

تمتعتْ منه أذني              فالأذنُ بالصوتِ جذْلَى

تخَيَلتها ظُنوني                أبــهى الحسانِ وأحلى

فهل يكون لعيني              حــظٌ لكـ،،ـى تتملّــى؟

فالعشق والوصف والصوت سرد في مخيلة الشاعر يتصاعد دراميا عبر توظيف الماضي، حتى يصل إلى ذروته في الالتفات إلى المضارع المعتمد على السؤال، لتعميق قيمة أمنية الشاعر في رؤية نجواه المعنية في هذه القصيدة؛ حيث يخدم الالتفات -من الماضي (عشقتُ، رأيتُ، تمتّعتْ، تخيّلَتْها) إلى المضارع (يكون، تتملّى)- تلك الطاقة التخيلية عند الشاعر تعبِّر عن الخيال المسترسل عنده.

     إن المدى الشاسع والزمن الويل المنقضي هو الذي يجعل الصورة باهتة التصور في ذهن المتلقي، حيث أن المتلقي غائب عن زمن الحدث الماضي، الأمر الذي يجعله متفاعلا جزئيا عن طريق الاستماع فقط “وهذا القصور الوظيفي الأسلوبي لصيغة الماضي في تجسيد الحدث الماضي؛ تتجاوزه صيغة المضارع من خلال تضييق المدى الزمني بين زمن الحدث، وزمن الحكي فيصبح هو إياه.”[24]

وفى مواضع أخرى يأتي الالتفات من الماضي إلى المضارع مؤسسا لحالة مغايرة؛ لكنها مرتبطة بوجدان الشاعر نحو الوصف، لكنه وصف ليس للمرأة كما كان في نصوص سابقة وكثيرة في أعمال الشاعر. إنه وصف للمكان حيث يقول الشاعر في قصيدة “خيمة المجد” بديوان تقاسيم على أوتار مغاربية: 74) التي ألقاها في مهرجان ابن عبّاد:

كأنها القاعةَ الكبْــرىَ قدْ احْتشد،َتْ             بالوافدِينَ وغصَّتْ بالمحِبينَا

سرادق علـــويّ الق،درِ بـــــارَكَه             منْ باركَ العلويينَ الميامِينَــــا

ردَّ اعتبــارَ كريمٍ غــارَ كوكَبُــــهُ              بعد ائتلاقٍ وواسَى كالمُواسينَا

يا منعشَ الفكرِ قدْ ضاءتْ منارتُهُ             مشارفَ الغربِ تحضيرًا وتَمْدينَا

أنحتفـــي بِــكَ أمْ أنتَ المُجَمِعُنــا               ِنَحْتفي بالمَشُوقِينَ المُلِمِّينـــا

هنا يكون الوصف مغايرا مبرزا التاريخ والمجد الماضي، حيث يسعى الشاعر إلى جره للحاضر، من خلال توظيف الالتفات. لأن الماضي له سلطة على الحاضر “فالفعل الماضي إذا أخبر به عن الفعل المضارع الذي لم يوجد كان أبلغ وأكدُّ وأعظم موقعا وأفخم شأنا ، لأن الفعل الماضي يعطي من المعنى أنه قد كان ووجد وحدث وصار من الأمور والمقطوع بكونها وحدوثها”[25] ، لذلك لم يكن التحول من الماضي والوقوف على أعتاب المضارع عملا مجانيا، إنما جاء معتمدا على قلق السؤال؛ ليؤكد على التحول من التاريخ إلى المستقبل الذي تأسس على الاعتراف بأن الاحتفاء ليس للفرد، بل للمجموع. لذلك تلبّس الشاعر عند تحوله من الماضي (ضاءت)، إلى المضارع في (أنحتفي) روح الجماعة، ليشير إلى أن الاحتفاء يؤسس لحالة مغايرة تصنع مستقبل الجماعة، من خلال الاعتماد على الماضي. وفى قصيدة “الغارة” والتي قيلت في مناسبة ذكرى الغارة الأمريكية على مدينتي طرابلس وبنغازي بليبيا، يأتي التحول من الماضي إلى المضارع؛ مبرزا تحولات الحالة النفسية للشاعر بشكل خاص، وراصداً لسوء الحال بشكل عام، حتى أن الشعر لم يعد بهجته في ظل هزيمة الوطن. حيث يقول الشاعر:

رآني صديقِي مطرقًا فَتبسَّمَا     وأنشَدَ شِعْرًا قد رويناهُ مُحْكَّمَا

(أتاكَ الربيعُ الطلقُ يختالُ ضاحكًا             مِن الحسنِ حتى كادَ أنْ يتَكَلَّمَا)

فَشَاهِدْهُ واكتبْ إن أردتَ قصيدةً               تصور ما صاغَ الربيعُ ونمنَمَا

فهذا مجالُ القولِ إن كنتَ قائلًا                وهذا مجالُ الشِّعْرِ إن كنتَ مُلْهِمَا

فناديتُ حرفِي أنْ يضئَ فأظْلَمَا                وناشدْتُ شِعْري أنْ يغنِّي فَغمغَما

وكيفَ يصوغُ الحرفُ إن كان مُوثَقٌ         وكيف يغنّي الشعرُ إن كان مُلْجِمَا

وماذا يقولُ الشعرُ لو كان صادقًا             سوى أن هذا الغربُ قد كان مُجْرمَا[26]

يتخذ الشاعر هنا مكان السارد أو الراوي، ليسرد قصة الغرب مع وطنه، لذلك اعتمد على عناصر السرد من حيث توظيف الماضي الدال على التشويق، واستدعاء شخصية متخيلة تدعم هذا السرد، ويصف الربيع ليكشف عن النقيض النفسي المغرق في همومه، من جراء ما حدث لوطنه. ثم يأتي المضارع كاشفا ومؤكدا على حالة العجز والقهر؛ التي يحياها الشاعر معتمداً على قلق السؤال. فكيف للحرف أن يشرق وهو موثّق؟ وكيف للشعر أن يغنِّي وهو ملجم؟ فلم يكن غرض الشعر هنا غايات البحث عن الجمال، أو وصفه ولا الترنم به، وإنما كان للنص هنا هدف واحد هو وصف إجرام الغرب. لذلك كان الالتفات من الماضي للمضارع مؤسسا لحالة نفي لكل أغراض الشعر، إلاّ غرضا واحداً وهو وصف اجرام الغرب، ومؤكدا على الهزيمة الداخلية لنفسية الفرد المهان، الذى يتعرض وطنه لقهر الغرب. وهذا يؤكد على المسافة الشعرية الجامعة بين الفعلين “ونحن لا نريد أن ننكر أهمية اللفظة في الصورة البيانية، ولكنها تظل محدودة القيمة إذا لم تنسجم مع السياق الفني العام للنص”[27]

وفى “قصيدة الميلاد الثاني” والتي يتحدث فيها الشاعر عن مولد ابنه وموته حيث يأتي التحول من الماضي إلى المضارع فارقا بين حالتين؛ إحداهما حلوة، والأخرى مُرّة؛ حيث يقول الشاعر:

وحملُكَ الأولُ كان تسعةً من الشهورِ

اكتنفتها هالةٌ من الرجاءِ

وظلَّلتها مزنةٌ من الأملِ

وأعقَبَتْها بَهْجَةٌ عريضةُ منَ الحبورِ والهناءِ والجذلِ

فانفتَحتْ نوافذُ واسعةً مُطَّلةً على سهولِ

واخْضَوْضَرتْ ممتدةً امامَنَا حقول

تنضجُ فيها كلَّ يومٍ سنبلةً

وتنثنَّي قُرُنفلةً

ويسْتَهِّلُ برعمٌ مبشرٌ بزهرةٍ

وواعدٌ ببذرةٍ

ومؤذنٌ بموسمينِ[28]

وكأن الحمل الأول الذى اكتنفته البهجة والسرور والفرح؛ فتح بابًا لجمال الكون في نظر الشاعر، ذاك الجمال الذي أكَّدت عليه وسائل الفرح باستخدام الماضي(كان، اكتنفتها، ظللتها، أعقبتها، انفتحتْ، اخضوضرتْ)، من اكتناف هالة الرجاء، وتظليل مزنة الامل، واخضرار الحقول، من خلال غنائية الشاعر العازفة على كل أوتار الجمال، حتى لم يعد فيه شيئا قبيحا. ثم يأتي المضارع (تنضج، تتثنَّى ، يستهِّلُ)كاشفا عن وعود جمالية تؤكد على آمال الشاعر، وأحلامه في المستقبل لذلك كان المضارع منبهًا إلى تحولات المستقبل مع تحولات الحياة بوجود نبتة الابن القادم.

وفي القصيدة نفسها، يأتي التحول الأخير من البهجة إلى الحزن؛ حيث يأتي الحمل الثاني ليس من بطن الأم إلى براح الأرض، وإنما من براح الأرض، إلى باطن الأرض أو القبر. حينها تتحول الأشياء إلى مشهد معتم فيكّون الالتفات من الماضي، إلى المضارع مشهدا من الحزن، ولوحة من التحمل والصبر على الابتلاء الجديد. حيث يقول الشاعر:

وقد تَلَوْنا حين ذاكَ الحملِ

(ياسين) وسورةَ (الرحمنِ)

وقد رأينَا كيفَ أيوبَ على جراحِهِ اسْتَكانَ

وكيفَ أنَّهُ على بِساطِ صبرهِ استراحَ

فألهَمتْنَا كيفَ نُكْبِحُ الجماحَ، ونلعقُ الجراحَ

وكيف نُلْجِم الشِّفاهَ عنْ كلامِنَا المباح.[29]

هنا تأتي تحولات الالتفات التي تجعل غنائية النص دفوفا للحزن. فالحمل الثاني إلى القبر؛ يحمل على الصبر، ويستدعي الوجدان الإيماني؛ مستمدَّا من الماضي روح الحزن ومعنى الحكمة، ومعتمدا على المضارع في تصوير الصبر وتأثيره، وكيف لنا أن نلعق الجراح ونلوذ بالصمت؟ من هنا يكون المضارع متوالدا من الماضي وناتجا عنه، لافتا إلى قيمة الصبر في تهذيب النفس عند الصدمة، وكيف يكون الوجدان الإيماني متوهجا في حال الفقد. فمثل هذه المواقف الوجدانية التي يكون الالتفات من الماضي( تلَوْنَا، رَأيْنَا، اسْتكَان، اسْتراحَ، ألْهَمتنا) إلى المضارع (نُكبِحُ) نُلجمُ) فيها معتمدا على استفهام يحيل إلى القلق والتوتر، وتكون أداة الاستفهام الغالبة في التوظيف ( كيف) التي تدل على الحال، وكأن الشاعر يعي أن هذا التوظيف يشير إلى قلقِ المستقبل على حساب الماضي وتردي الحال بالنسبة للذات الشاعرة. وهنا يكون الالتفات من الماضي إلى المضارع هو قنطرة المرور الفنية لتجسيد هذا المعنى.

وفى قصيدة “عيد النُّهى”[30] التي كتبت بمناسبة تسمية الجزائر عاصمة للثقافة في 2007 كما هو وارد في صدر القصيدة؛ حيث يأتي الالتفات من الماضي إلى المضارع؛ ليشكل علامة فارقة بين الماضي والمستقبل، وبين لقاء التاريخ ولقاء الجسد، حيث ينتقل الشاعر بالخطاب الشعري من العموم إلى الخصوص. فيقول:

يا جــارةَ الوادي أتيتُك حــــامِلا          نفحاتِ أهلِي وابتهاجِ صِحَابي

إنَّا التقينَا في النضالِ وفى الهوَى          وتواشجُ الأنسابِ بالأنســـابِ

اليومُ في عيدِ المعارفِ نلتقـــى            ونمُدُّ نحو عُلاكِ بالأسبــــابِ

يؤكد الالتفات هنا في (التقينا) على التلاقي في النضال المشترك، والمحبة وعمق التاريخ والوشائج العربية في وحدة الأنساب؛ حيث يبرر المضارع  (نلتقي) في لقاء مغاير هو التقاء بالجسد الذي يأتي مؤكدًا لالتقاء التاريخ، وهنا يلفت الشاعر إلى وهم الحدود بين الدول العربية، التي يجمعها تاريخ واحد، ودين واحد، ولغة واحدة، ومجد واحد، ونضال واحد. فليست الجزائر تختلف عن ليبيا نضالاً؛ لذلك كان المضارع فاتحا الباب واسعا، بصرف النظر عن القطر، أو الجنس او اللون، فالشاعر جاء إلى الجزائر ليمدَّ بالأسباب لعلوها ورقيها، متحوِّلا من الماضي التاريخي إلى الواقع الفعلي، ضاربا بذلك مثلا يحتذى للنضال من أجل علو الأمة العربية ورقيّها.

وفى قصيدة “هاتف” يأتي الالتفات مراوغا؛ ويأتي ذلك بعدم كشف ظاهره عن معناه مباشرة، بل يشير إلى معنى آخر يدل على المعنى الحقيقي؛ “ويتأتى ذلك بتلبيس الأمر عن السامع، بلطيف الاستدراج وحسن الإجمال مع ما فيه من البلاغة والفصاحة”[31]

 حيث يقول الشاعر:

تَلْفَنتْ واتْصَلْتْ بي عبـــر هاتفِهـــا                 بمنطقٍ دونَـــه شـــدوُ العصافيـــرِ

كلمْتُهــــا بعدمـــا غــابتْ رسائِلُهــا                عني، وأمسيتُ منها نصفُ مهجورِ

لمـــا هتفتُ أتانــي صوتُهَــا مرحَــا               كــأنَهُ بعضَ ألحـــــانِ المزاميـــــرِ

تمثّلَتْ لـــي بأحلَــى ما عَهِـــدْتُ بها              حسنًا يتيهُ على أحــلَى التصاويــــرِ

فرطَّبَتْ حــــرَّ أشواقــــي برقّتِـــــها             وبلسَمتْ في فؤادي كلَ مشطـــــورِ

وهَدهدتْ صحواتَ الشوقِ في خُلدي            ولملمتْ بيدِ الإحســــانِ منثــــورِي

ضاعَ الكلامُ الذي قدْ جئتُ اطلبُــــها             من أجلِـــــهِ ونَبَتْ عني تعابيــــري

أحبُهــــا؟ لستُ أدري غير أنَّ يـــدي            بها ارتعاشٌ وصوتي صوتُ مقرورِ[32]

يأتي عنصر السرد هنا غالبا على خطاب النص الشعري، موسّعا توظيف الالتفات فيه من حيث توالي الأفعال الماضية (تلفنْتُ، كلمْتُها، غابتْ، أمسيتُ، هتفتُ، تمثَّلتْ، بلسمتْ، هدهدتْ…..) التي تأخذ المتلقِّي إلى عميق التأمل والاغراق في تفاصيل النص، حتى يفيق المتلقي على مضارع مذهول بملء السؤال (أحبها؟ لست أدري).  وهنا يكمن جمال الالتفات؛ فالمضارع وما اعتمد عليه من سياق لغوي؛ لا يكشف مباشرة عن إجابة السؤال وإنما يقدم دلائل تشير إلى الإجابة؛ (غير أن يدي بها ارتعاش** وصوتي صوت مقرور). فهذا السياق في الإجابة يشير إلى علامات الحب، ولحظة اضطراب العاشق وكأن للالتفات من الماضي إلى المضارع دورا في خلق الدهشة الشعرية المبنية على مفارقة جميلة في بنية النص، ومدى معرفة الأديب ما يجب أن يستخدمه في إبداعه الأدبي من ألفاظ تؤدي إلى النتيجة التي يرمي إليها، ويتوقع وقعها على إحساس المتلقي. فهو يميل إلى استعمال الكلمات التي يشعر بأنها توحي بما يريد أن يرسخه في نفس القارئ، ومع أنه يرى أن كل ألفاظ اللغة تصلح لاستخدامها في عمله الأدبي؛ إلا أنه يتحرّى الدقة في اختيار المكان المناسب الذي يضعها فيه، بحيث لا يصلح غيرها لهذا المكان.

 وفى قصيدة “أمل” [33]يتخذ الالتفات من الماضي إلى المضارع بعدا قوميا، تتشكل من خلاله العلاقة العاطفية بين أبناء العرب. فالقصيدة كتبت في مناسبة زيارة الشاعر حسن السوسي لتونس حسب ما كتب في مقدمة للقصيدة؛ حيث يقول الشاعر:

أقِمنا بينهــم زمنًـــا              وعِشْنا عندهُم مُــدَّهْ

وقَفْنا من محبتِهِــــم            على قاعدةٍ صَلْــــدَهْ

فما نَكَثُوا لنا عَهـــْدًا           ولا حَلــــّوا لنا عُقده

إذا مــــرَّت بنا أيـــا           مُهُم في ساعةِ الشِّده

مَشَتْ في نارِنــا برْدَا         وفي ضيقتنـــا نَجْـدَهْ

سنذكرهم ونذكرْ أنهم        كــــانوا لنـــا عُــــدَّه

ومن يحيا بـلا احبـــا        بِهِ في غيبةِ الوِحـــدَهْ

يعشْ -إن عاشَ- منفيًا      ويقضي عُمْرُه وَحْدَهْ

يدور الالتفات هنا من الماضي إلى المضارع في دائرة الحب القومي، وتأكيد روح الانتماء؛ حيث يتمدد الماضي واصفا العلاقة الحميمة والدافئة للشعب التونسي، ليلتفت إلى اطلاق وجدان الشاعر تجاه الشعب التونسي، الذى سيظل بما قدّمه عالقا بذاكرة الذات الشاعرة التي تلبست بالجموع في مقام التعبير بالــــ (أنا) لتفتح دائرة الالتفات على البعد القومي، وتتخلص به من البعد الذاتي. وبذلك يصبح الوجدان جماعيًا وقوميًا، حتى أن الخطاب يتحول إلى معنى الحكمة في قول الشاعر(ومن يحيا بلا أحبابه في غيبة الوحده**يعش إن عاش منفيا ويقضي عمره وحده). وهذا خطاب الحكمة الذي يؤكد على الوجدان القومي، ويستلهم التراث الإنساني كله. فالإنسان لا يحيا وحيدا، وإلّا فسوف يكون منفيا وغريبا، وإن القوة في الوحدة العربية . وهذا المعنى جاء منبثقا من التحول من الماضي في (أقمنا، عشنا، وقفنا،… ) إلى المضارع (نذكرهم، يحيا، يعش، يقضي) بقصد؛ إثارة الماء الراكد في المتلقي تجاه الوحدة العربية والترابط الوجداني العربي وأبعاده القومية.

المطلب الثالث: الالتفات من الفعل الماضي إلى الفعل الأمر

لاشك أن استخدام الصيغ الفعلية بأزمنة مختلفة؛ ضرب من التضاد الذي يحدث تحوّلا أو التفاتا يؤثر في السياق على نحو واضح؛ على اعتبار أن دلالة الزمن الماضي مضادة لدلالة الأمر “فمن الطبيعي أن تختلف المعاني باختلاف الأزمنة، لأن الحدث لايتحول إلى الفعلية إلَّا إذا اقترن بزمن معلوم، وان استخدام الأفعال بصور متباينة من حيث الزمن؛ يحدث انكسارا فيما بين الأفعال ذاتها”[34]

ويشكل الالتفات من الماضي إلى الأمر؛ ملمحا بارزا في شعر حسن أحمد السوسي، ويتخذ صورا كثيرة تشير إلى عالم الشاعر الداخلي في معظمها، وتبرز وجدانه الذاتي والوطني، فمن الوجدان الذاتي يأتي الالتفات؛ مبرزا وجدان الشاعر نحو محبوبته حيث يقول الشاعر في قصيدة “أميرة الأميرات”[35]

نحن يا حلوةُ من عينيكِ سهمٌ ورميّْه

جُرِحْنا منكِ ومن هذى العيونِ العسليهْ

فادركينا قبل أن نُصبحَ للحبِّ ضَحيّهْ

فجراح الماضي هنا توشك أن تودي بالذات الشاعرة، لذلك فهو يستصرخ المحبوبة أن تدركه بوصالها قبل أن يقتله الحب ويصبح ضحية له. وهنا يبدو الالتفات فاعلا في تجسيد الحنين المتجذر في ذات الشاعر،  ويصنع الالتفات من الماضي (جُرِحْنا) إلى الأمر (فادركينا) تقابلا بين حالة الشاعر في الماضي، وما يتمنى أن يكون عليه في المستقبل. وهذا التقابل له قيمته الأسلوبية الكبرى؛ حيث يعكس تقابلا بين صوت مقيد بزمان كله جروح  الهجر، وبين معنى يرغب الشاعر أن يدركه عبر أمنياته في وصال المحبوبة.

أما في قصيدة ” انفاس فاس”[36] التي كتبها الشاعر ليلقيها في ملتقى أدبي بمدينة فاس المغربية؛ يتحول الالتفات من المحبوبة الأنثى إلى المحبوبة المكان والوطن حيث يقول الشاعر :

قد اتينا في يومَ عُرْسُكِ نشدو       لكِ بالأغنياتِ شـــدو الطيـــورِ

أنت هَيَّأتِ دوحةً وربيعًـــا         ووصلتِ الشُّحْرورَ بالشحرورِ

وتكفَّلْتِ بالصباحِ وبالدفءِ        فقــــرَّتْ جوانــــحُ المقــــرورِ

فاسمعي الآن ما يُنَغَّمنَ في الروض   وما يبتدعنّه من صفيــــرِ

من الواضح أن خطاب الأنثى كما في سياق القصيدة يمثل لفتة حميمة في أوضاع اللغة الشعرية التي تنتقل من الماضي إلى الأمر، ومن نجوى الذات الرومانسية، إلى رومانسية البوح المنطوق بالحبيبة والوطن. فالحبيبة الوطن هنا جاءت بالشاعر المدجج بخطاب الجمع ليشدو لها وجدانا وطنيا مفتوحا على المطلق الجمالي للمكان الذى يسكن ذات الشاعر، وهنا يأتي الماضي(هَيَّأتِ،وصلتِ، تكفَّلْتِ، فقرَّتْ)؛ واصفا ذاكرة الجمال تجاه المكان والوطن عند الشاعر؛ من الأغنيات والطيور والدوح والصباح والدفء والشحرور، لتتعامد على الأمر (فاسمعي) الراغب في الاستمتاع بهذا الجمال، حيث يشير الشاعر إليها أن تسمع ما يتنغم في الروض لها من موسيقى تعزف بحب الوطن. وهنا جاء الالتفات ليشكل نبرة ملائمة للخطاب الغزلي الوطني الذي تتمثل فيه عفوية الخطاب وحيويته الدافقة واتساقه المتناغم وقدرته التواصلية الفائقة، وذلك عندما يغنى بصوت جمعي مفعم بمستقبل مشرق لوطنه الذى يعشقه، ويعيش فيه.

وإذا ما انتقل الشاعر من الخطاب الهامس والحلم للوطن، ليتحول إلى الخطاب الصارخ في موقف مغاير يحتم عليه أن ينبّه وطنه إلى عروبته وعزّته؛ فإن الالتفات من الماضي إلى الأمر يأتي راصدا لهذا التحول، مجَسِّدا صرخة الشاعر القوية تجاه وطنه؛ الذى يُعتدى عليه من قبل الغرب الغاشم، وكان لابد من غضبة شعرية توقظ الأذهان وتنبّه إلى أهمية الأوطان عند أبنائها حيث يقول الشاعر في قصيدة “الغارة”[37] والتي قيلت بسبب الغارة الأمريكية على مدينتي طرابلس وبنغازي:

اذا ما غضِبْنا غضبــــةً عربيـــةً             هتكْنَا حجابَ الشمسِ أو قطرَتْ دما

فيا شعبنا الغالي فِدًى لك كلُّ منْ              سعَى سعيةً للنيْلِ مِنكَ ومِنْ رمَـــى

فعشْ فوق أرضٍ أرضعتْكَ حَميّةً             مباركـــــةً قد زادهـــا الله أنعمـــا

فالشاعر هنا يتناص مع تراثه القديم في التعبير عن الغضب العربي وهو مدفوع لاستحضار التراث من قول بشار بن برد :

” إذا ما غضِبْنا غضبة ًمضريةً     هتكنا حجابَ الشمسِ أو أمطرتْ دما”[38]

فاستدعاء التراث هنا يمثل قيمة المجد العربي وعمقه من خلال هذا التناص، ويؤسس لوظيفة الالتفات من الماضي(غضبنا، هتكنا) إلى الأمر (فعِشْ) الذى يشير إلى ضرورة أن يكون الغضب مستمراً،  وعلى الإنسان أن يعيش فوق الأرض التي أرضعته حميّة مباركة ونعمة حب الوطن.

إن الالتفات من الماضي إلى الأمر هنا يضعنا إزاء تكوين شعري يستقطب كل لحظات الوجد الوطني في الماضي والمستقبل، ويتماهى مع المكان ليخلق ثورة عارمة توقظ الوطن، وتشدّ أزره حيال الاعتداء عليه، وتخلق في نفس الوقت تجسيدا لعوالم وطنية موضوعية، وأصوات متشابكة مفعمة بالرغبة والأمل في الانتصار للوطن.

يتغير الالتفات من الماضي إلى الأمر في أعمال الشاعر فيكون الماضي من غير الشاعر نفسه، والأمر موجها له. ويبدو ذلك في قصيدة

“قالت وقلت”[39] لتعبر عن التجربة، وتهميش ضمير المذكر في مواجهة ضمير الأنثى حيث يقول الشاعر:

فمصمصتْ شفتيها وهى معرضةُ         فلــــم يُثِرْ فيَّ شيئـــا ذلك الزعــــلُ

فعلَّقتْ بسمـــــةً صفراءَ باهتــــةً           في الثغـــرِ لا فرحٌ فيها ولا جـــذلُ

وفاجأتني ولـــم تمهلْ بقولتِهــــا            صفني، فحُسْني كما شاهدْتَ مكتملُ

قل فيَّ شعرا واسمعني مقاطِعَهُ            فكمْ يروقُ لقلبي المُدْنَفِ الغـــــــزلُ

يأتي الالتفات من الماضي(مصْمَصَتْ، علّقَتْ، فاجأتني) إلى الأمر(صفْني، قلْ، أسْمِعْني)  هنا متعلقا برؤية الأنثى لذاتها وقدرتها على استثارة الشاعر ؛حين مصمصتْ شفتيها وعلقتْ عليها بسمة صفراء. ثم تفاجئه آمرة بأن يصفها بشعره غزلا؛ لأن الغزل يروق لها وعليه أن يصفها حتى تحقق غرورها وترتاح لأهمية جمالها عند شاعرها. وتفخر بأن شاعرها قد وصفها بألطف الأوصاف وأليقها بها. وهنا يأتي الالتفات متكلِّفا لأنه لم يصدر من وجدان الذات الحقيقي، وإنما صدر عن وجدان عبّر إليه بخياله، وجدانٌ مفتعل ومنقول للتعبير عن خطاب الأنثى. .

ويبدو للباحثة أن الوجدان عند الشاعر تختلف أشكاله، وأنواعه في توظيف الالتفات، فهو وجدان المحبوبة ووجدان الوطن ووجدان العروبة ووجدان الخلان والاصدقاء، وإن اتخذ هذا النوع الاخير مساحة ضيقة في التجربة الشعرية العامة للشاعر، وذلك لأنه مرتبط بقصيدة المناسبات، ورغم أن هذا النوع من القصائد قليل ونادر عند الشاعر؛ لكنه يشكل علامة أيضا في تجربة الشاعر وجزء من وعيه بتوظيف الالتفات.

ففي قصيدة “قضية قلب”[40] والتي قيلت في تكريم الشاعر رجب الماجري في سنة 2001 يأتي الالتفات من الماضي إلى الأمر رقيقا يبرز وجدان الشاعر تجاه أصدقائه، كاشفا عن روح الشاعر النقية المحبة لخلانه حيث يقول الشاعر:

نفحاتُ شعرِكَ أنعشتْ أرواحَنا           وأعدْنَ للصبواتِ قلبي الناسيَا

والشِّعْرُ ما لمسَ القلوبَ بسحرِهِ          فأحالهُــــنَّ حدائقًــــا وسواقيَا

للـــهِ أنتَ إذا ابتـــدأتَ بمطلــــعٍ         وإذا هتفتَ بمـا تنمَّـــقَ شاديا

مـــازالَ منبــــرهُ يهشُّ لنفحــــةٍ          مما تفيضُ مطالعـــاً وتناهيًا

لا ترتوي أرواحَنَا مِنْ خمـــــرهِ          وسلافِهِ ما دمتَ أنتَ السَّاقِيَا

فأدرْ كؤوسِكَ واسقِ من ترياقِها         مُهَجًا تَحِنُّ إلى طِلاكَ صواديا

يرتبط الوجدان هنا بالشعر؛ حيث يشتركان فيه المادح والممدوح، وربما رأى الشاعر أن يمدح ممدوحه بما يكبره ويبقيه حيا حتى يتحرّى الصدق في مدحه ولا يتكلفه. لذلك جاء الماضي ( أنْعَشْتَ، أعَدْنَ، لمَسَ، أحالهُنَّ، ابتدأتَ، هتفتَ) تعبيرا عن قيمة شعر الممدوح وسلطته على المادح ،كنوع من التعبير بالوجدان المخلص الصادق. وتعميقا لهذا المعنى استخدم الشاعر ضمير الجمع حيث نفحات الشعر تنعش أراوح الشعراء وتعيد للقلوب بهجتها. ثم يتوسع الشاعر السوسي في قيمة الشعر وفضله على ذائقة الشعراء ووجدانهم؛ كنوع من التمهيد لمجيئ فعل الأمر (فأدرْ، اسقِ) بتحنان جميل ليثبت ما تقدم من تشكيل الماضي لقيمة الشعر، وكأنه شراب الخمر. فيطلب منه أن يدير كؤوس الشعر ليرتوي الشعراء من ترياقها مادامت من منبعه. فيكون الالتفات من الماضي إلى الأمر تأكيدا على وجدان صادق تجاه الممدوح وتعبيرا عن تلاحم الاجيال في تقدير قيمة الشعر وجماله. وهنا يصبح الخطاب الوجداني أكثر شعرية وأشفُّ صدقا في خصوبته المتنوعة، ومعانقته لفعل الحياة الخلاق والمحتضن للواقع من خلال الماضي, والمفتوح على المستقبل من خلال الأمر.

وفي المنحى ذاته يقدم الشاعر حسن السوسي قصيدة في عُرسِكم “أغنّي”[41] والتي قيلت بمناسبة تكريم رواد التعليم بمدينة درنة عام 1997 ؛حيث يأتي الالتفات فيها من الماضي إلى الأمر محمولا على صوت الحكمة محتفيا بالشباب ومنبهًا إلى دورهم في صناعة المستقبل، واثقًا من قدرتهم على ذلك لانهم صنيعة تعليم الرواد المخلص الأمين حيث يقول الشاعر:

فتقدستْ هممُ الشيوخِ وبوركـــتْ           روحُ الشبابِ المنصفِ التــوَّاقِ

لولاهمُـــو عَفَتْ الديارُ وأمحــلتْ            فَهُمُو طلائعُ غيثِها المـــغداقِ

فاصنعْ كما صنعوا ولا تحفلْ بما            تُسدِيهِ, واتركْ للشبابِ الباقِي

هنا صوت الحكمة التي تنصف الشباب وتعوِّل على دورهم في المستقبل، فقد تقدست هِمم الشيوخ المعلّمين في الماضي لكن الشباب هم عماد المستقبل، وعلى الشيوخ أن يسدوا لهم النصح وعليهم الباقي في تكملة المسيرة. لذلك يأتي الالتفات من الماضي (فتقدستْ، عَفَتْ)  إلى الأمر(فاصنعْ) مشكّلا التعادل والتكافل بين دور الشيوخ المعلمين، ودور الشباب المتعلمين؛ مشيرا إلى انحياز الشاعر إلى عمل الشباب وتطلعاته المستقبلية لدورهم في بناء المستقبل. غير متناسٍ لدور المعلّمين الأوائل الذين رفعوا منار العلم وبنوا قواعد الأخلاق؛ من خلال رؤية شعرية تشير إلى قدرة الشاعر التعبيرية التي يحرك بها عواطفه، ويبلور رؤيته بشكل متوازن بين موقفه الفردي، ومقتضيات التعبير عن الوجدان الجماعي في لحظة تاريخية بين دور الشيوخ وتطلعات الشباب.

 

الخاتمة

جاء أسلوب الالتفات في أشعار حسن السوسي عبر التفاته بين الأفعال في مراتب عالية من البلاغة، حيث تنوعت مقاصده، وتعددت فوائده ومن ذلك فإن الباحثة في هذا البحث قد توصلت إلى عدة نتائج استند عليها الشاعر في التفاتاته منها:

  1. الالتفات بشكل عام عاملا مهمّا في تقديم رؤية الذات والعالم من خلال القصيدة الغنائية التي تشف عن وجدان فردي وقومي؛ يدعم شعرية القصيدة، ويدخلها مناطق التفرّد واختصاصها بصوت خاص يعزز رصيد ثري من اشكال التجسيد للحقائق الشعرية المختلفة.
  2. . يشكل الالتفات عند السوسي ملمحا بارزا في شعره حيث يأتي توظيف الالتفات فلسفة رؤيته للحياة والمرأة والوطن، ويشارك في توجيه خطابه الشعري وخلق مفارقات عديدة تؤثر على تنويعات الخطاب بحالة من الدهشة، حيث يتخذ الالتفات في الأفعال صورا كثيرة تشير إلى عالم الشاعر الداخلي في معظمها وتبرز وجدانه الذاتي والوطني.
  3. يرتبط الزمان ارتباطاً وثيقاً بفكرة الحب، سواء في الشعر أم في الفلسفة.
  4. يعدل عن الفعل المضارع إلى فعل الأمر في السياق للدلالة على اختلاف الفعلين لفظاً ومعنى.
  5. يشكّل الالتفات بين المضارع والأمر، في شعر السوسي تحوّلًا في الخطاب من الخاص إلى العام؛ ليفتح آفاق النص الشعرى على فضاءات متعددة.
  6. ساعد الالتفات على مستوى الفن الشعرى في توظيف الشاعر للغة مكثفة وتبسيط القول، والتخفيف من الاستعارات.
  7. شكّل الالتفات في هذا المبحث تأكيدًا على التوظيف الرمزي في بناء الصورة الشعرية

قائمة المصادر والمراجع

 

أ‌.  القرآن الكريم

ب‌. الدواوين

– السوسي، حسن 2008. ديوان  إشارات . ط1. ليبيا. اللجنة الشعبية العامة للثقافة

  والإعلام.

– السوسي، حسن 2004. ديوان الرسم من الذاكرة. ط1. ليبيا. مجلس تنمية الإبداع

  الثقافي.

– السوسي، حسن 1998. ديوان تقاسيم على أوتار مغاربية. ط1. ليبيا . الدار الجماهيرية للنشر.

– بن برد، بشار ، ديوان، 2010. تح؛ مهدي ناصر الدين. لبنان. دار الكتب العلمية .

المصادر الأخرى:

  • البغدادي، عبد القادر.1997. خزانة الأدب. ط2 . مصر. مكتبة بولاق .
  • الجوزيه، ابن القيم 1988. التبيان في أقسام القرآن. ط2. تح: محمد حامد الفقي.

          لبنان. دار المعرفة

  • الحمادي، جلال2007. العدول في صيغ المشتقات في القرآن الكريم . رسالة

         ماجستير. كلية الآداب. قسم اللغة العربية، جامعة، تعز. اليمن.

  • سليمان، فتح الله 1990. الاسلوبية مدخل نظرى ودراسة تطبيقية، ط 1. القاهرة،

         مكتبة الآداب للنشر والتوزيع

  • السيوطي، جلال الدين 1985. الإتقان في علوم القرآن. سوريا. دار الكتاب 1987.
  • الشايب، أحمد 1972. أصول النقد الادبي. ط8. القاهرة. مكتبة النهضة المصرية.
  • الرازي، فخر الدين. 1985. نهاية الاعجاز. ط2. تح؛ بري شيخ أمين. لبنان. دار

         العلم للملايين.

  • الزركشي، بدر الدين 1957. البرهان في علوم القرآن ط1، لبنان. دار المعرفة.
  • أبو زايدة، عبد الفتاح 2000. الكتابة والإبداع. دراسة في طبيعة النص الأدبي.ط1.

          مالطا. منشورات إلجا.

  • عبد الرحمن، إبراهيم 1987. بين القديم والجديد دراسات في الادب والنقد. ط2

        القاهرة.  مكتبة الشباب.

  • العلويّ، يحيى بن حمزة. 1975. الطراز لأسرار البلاغة. لبنان. المكتبة العصرية.
  • غياث بابو 2013. دلالة العدول في صيغ الأفعال، مجلة دراسات في اللّغة العربية

         وآدابها، فصلية محكّمة.

  • ابن فارس، أحمد 1979. فقه اللغة. ط 1. تح: أحمد حسن بسج. مصر. دار الكتب

         العلمية.

  • المبرّد، محمد بن يزيد.1987. الكامل في اللغة والأدب. لبنان. دار العلوم.
  • محمد، أحمد2003، الزمن في اللغة ط1 عمان. الاردن. دار الشروق.
  • المقّري، أحمد بن محمد 1985 المصباح المنير فى غريب الشرح الكبير، ط4.

         مصر. المطبعة الأميرية.

  • ابن منقد، أسامة. 1995. البديع في نقد الشعر. ط4. تح: أحمد بدوي وحامد عبد

         المجيد. مصر. مكتبة الخانجي

 

[1] سليمان، فتح الله 1990. الاسلوبية مدخل نظرى ودراسة تطبيقية، ط 1. القاهرة، مكتبة الآداب للنشر والتوزيع

[2] يونس: 78

[3]  المقّري، أحمد بن محمد 1985 المصباح المنير فى غريب الشرح الكبير، ط4. مصر. المطبعة الأميرية، مادة لَفَت.

[4] المصدر السابق: مادة لَفَتَ

[5] هود:81

[6] الزركشي، بدر الدين 1957. البرهان في علوم القرآن  ط1، لبنان. دار المعرفة،ج5: 310

[7] ابن فارس، أحمد 1979. فقه اللغة. ط 1. تح: أحمد حسن بسج. مصر. دار الكتب العلمية.ج5: 258

[8] البغدادي، عبد القادر.1997. خزانة الأدب. ط2 . مصر. مكتبة بولاق ص:110

[9] ابن منقد، أسامة. 1995. البديع في نقد الشعر. ط4. تح: أحمد بدوي وحامد عبد المجيد. مصر. مكتبة الخانجي.

[10]الفاتحة:1- 4

[11] يونس: 22

[12] المبرّد، محمد بن يزيد.1987. الكامل في اللغة والأدب. لبنان. دار العلوم، ج3: 69

[13] الرازي، فخر الدين. 1985. نهاية الاعجاز. ط2. تح؛ بري شيخ أمين. لبنان. دار العلم للملايين

[14] يونس:22

[15] السيوطي، جلال الدين 1985. الإتقان في علوم القرآن. سوريا. دار الكتاب 1987،ج1: 235

[16] عبد الرحمن، إبراهيم 1987. بين القديم والجديد دراسات في الادب والنقد. ط2 القاهرة.  مكتبة الشباب، ص: 587

[17] غياث بابو 2013. دلالة العدول في صيغ الأفعال، مجلة دراسات في اللّغة العربية وآدابها، فصلية محكّمة، ع 12

[18] غياث بابو،ص:ع12، مصدر سابق

[19] السوسي، حسن 2004. ديوان الرسم من الذاكرة. ط1. ليبيا. مجلس تنمية الإبداع الثقافي، ص: 23.

[20] الشايب، أحمد 1972. أصول النقد الادبي. ط8. القاهرة. مكتبة النهضة المصرية، ص: 211.

[21] ديوان الرسم من الذاكرة، ص: 29، مصدر سابق.

[22]   ديوان الرسم من الذاكرة، قصيدة “هي” مصدر سابق

[23]  السوسي، حسن 2008. ديوان إشارات . ط1. ليبيا. اللجنة الشعبية العامة للثقافة والإعلام. قصيدة “نجوى”

[24] الحمادي، جلال2007. العدول في صيغ المشتقات في القرآن الكريم . رسالة ماجستير. كلية الآداب. قسم اللغة العربية، جامعة

    تعز. اليمن، ص: 114

[25] الجوزيه، ابن القيم 1988. التبيان في أقسام القرآن. ط2. تح: محمد حامد الفقي. لبنان. دار المعرفة، ص: 150

[26] ديوان إشارات، قصيدة؛ “الغارة”، مصدر سابق.

[27] أبو زايدة، عبد الفتاح 2000. الكتابة والإبداع. دراسة في طبيعة النص الأدبي.ط1. مالطا. منشورات إلجا.، ص: 59.

[28] ديوان إشارات، قصيدة؛ ” قصيدة الميلاد الثاني” مصدر سابق

[29] المصدر السابق

[30] ديوان إشارات، مصدر سابق

[31] العلويّ، يحيى بن حمزة. 1975. الطراز لأسرار البلاغة. لبنان. المكتبة العصرية، ص: 216.

[32] ديوان تقاسيم على اوتار مغاربية، قصيدة: “هاتف”، مصدر سابق.

[33] ديوان تقاسيم على أوتار مغاربية، مصدر سابق.

[34] محمد، أحمد2003، الزمن في اللغة ط1 عمان. الاردن. دار الشروقع ص :94)

[35] ديوان إشارات قصيدة أميرة الأميرات، مصدر سابق

[36] المصدر السابق قصيدة؛ انفاس فاس

[37] ديوان إشارات، مصدر سابق

[38] ديوان بشار بن برد، 2010. تح؛ مهدي ناصر الدين. لبنان. دار الكتب العلمية ، بيروت ج1: 136.

[39] المصدر السابق، ص: 56

[40] ديوان الرسم من الذاكرة ص: 111، مصدر سابق

[41] ديوان الرسم من الذاكرة ص: 184، مصدر سابق

Continue Reading

Previous: التّحوُّلُ الدّلاليُّ بينَ البناءِ للمعلومِ والبناءِ للمجهولِ في القِراءاتِ القرآنيَّةِ The semantic transformation between active voice and passive voice in the Qur’anic readings.
Next: صدور العدد 60 من مجلة جيل الدراسات الادبية والفكرية

مقالات في نفس التصنيف

إدماج التكنولوجيا في التعليم وعلاقته بالجودة
1 min read

إدماج التكنولوجيا في التعليم وعلاقته بالجودة

2025-06-04
الضحك الجنائزي: تقنياته ومقاصده (دراسة تداولية في نادرة من نوادر أبي دلامة)
1 min read

الضحك الجنائزي: تقنياته ومقاصده (دراسة تداولية في نادرة من نوادر أبي دلامة)

2025-06-03
معايير جودة التعلم الإلكتروني: تحديات وإكراهات
1 min read

معايير جودة التعلم الإلكتروني: تحديات وإكراهات

2025-06-02

  • JiL Center on UNSCIN
  • JiL Center Journals
  • JiL Center on Research Gate
  • JiL Center on Youtube
  • JiL Center on Find Glocal
  • Follow us on Facebook

    Visitors

    Today Today 504
    Yesterday Yesterday 1,386
    This Week This Week 4,493
    This Month This Month 5,364
    All Days All Days 20,498,421
     

    تصنيفات

    الأرشيف

    من الأرشيف

    • مؤتمر  حقوق الإنسان في ظل التغيرات العربية الراهنة | أبريل 2013
      مؤتمر حقوق الإنسان في ظل التغيرات العربية الراهنة | أبريل 201317/01/20140admin

      نظم  مركز جيل البحث العلمي بالتعاون  مع كلية القانون بجامعة   بسكرة  وورقلة الجزائر مؤتمرا ...

    • مؤتمر الحق في بيئة سليمة | ديسمبر 2013
      مؤتمر الحق في بيئة سليمة | ديسمبر 201322/01/20140admin

      ...

    • مؤتمر العولمة ومناهج البحث العلمي | أبريل 2014
      مؤتمر العولمة ومناهج البحث العلمي | أبريل 201403/05/20140admin

      تحت رعاية وزارة العدل اللبنانية وبحضور ممثلين عن مديرية قوى الأمن الداخلي اللبناني وسماحة مفتي ...

    JiL Scientific Research Center @ Algiers / Dealing Center Of Gué de Constantine, Bloc 16 | Copyright © All rights reserved | MoreNews by AF themes.

    Cancel