
منطقة جيجل والتقاطعات الأندلسية في المجال اللساني
Jijel and Andalusian junctions in the linguistic field
د. بابا جمال الدين (المركز الوطني للبحوث في عصور ما قبل التاريخ علم الإنسان والتاريخ –CNRPAH–)
BABA Djamel eddine National Center for Research in Prehistoric Anthropology and History Tlemcen (ALGERIA)
مقال نشر في مجلة جيل الدراسات الادبية والفكرية العدد 54 الصفحة 107.
ملخّص :ترتّبت على الهجرة الأندلسية على الجزائر عامّة وعلى منطقة جيجل على وجه الخصوص، آثارا حضارية مسّت مختلف مناحي الحياة الاجتماعية والثقافية، خصوصا منها المجال اللساني، فقد كان هدفي من هذا البحث؛ إبراز جوانب من الآثار اللغوية الأندلسية التي لا زالت مستعملة إلى يومنا هذا في لهجة جيجل، فهي تعدّ واحدة من اللهجات المتميّزة بخصائصها اللسانية، فاللغة أو اللهجة –كما هو معلوم- تتأثّر وتؤثّر تبعا لعوامل وظروف مختلفة.
الكلمات المفتاحية : الأندلس- الهجرة- لسانيات- جيجل -تقاطعات.Abstract :
The Andalusian migration to Algeria in general and to the Jijel region in particular, has had cultural effects on various aspects of social and cultural life, especially the linguistic field. My aim in this study, is to show aspects of the Andalusian linguistic influences that are still used today in the dialect of Jijel, which is one of the dialects distinguished by its linguistic characteristics. Thus, language or dialect – as is known – influence and is affected depending on different factors and conditions.
Key words : Andalus- immigration- linguistic- Jijel- junctions.
مقدمة: إن التلاقح الحضاري ظاهرة قديمة في تاريخ الإنسانية عبر التجارة والسفر، فعلماء الاجتماع يؤكّدون أن الإنسان مدني بالطبع إذ لا يقدر على توفير جميع حاجياته بمفرده، لذلك كان مستعدّا فطريا للتعايش مع الآخرين، ويبدو ذلك واضحا من خلال الهجرة الأندلسية نحو إفريقية مع نهاية القرن السادس هجري (12م)، وبداية القرن السابع هجري (13م)، وقد بلغت هذه الهجرة أوجها مع سقوط أهمّ المدن الأندلسية في يد المسيحيين مع منتصف القرن السابع هجري (13م)، ثم تواصلت الهجرة بطيئة نسبيا حتى سقوط غرناطة سنة 897هـ (1492م) حيث عرفت هذه الهجرة دفعاً قوياً، وشملت أعدادا هائلة من الأندلسيين، وامتدّت زمنيا طوال القرن العاشر هجري (16م) حتّى الطرد النهائي لما تبقى منهم سنة 1016هـ (1609م.
- جيجل، الموقع والتاريخ :
دخلت منطقة جيجل في العصر التاريخي مبكّرا مثلها مثل بقية المناطق الساحلية، وما من شكّ بأن نزول الفينيقيين بها للتجارة يؤكّد أنها كانت آهلة بالسكان الأصليين (الأمازيغ ) منذ زمن بعيد كغيرها من المناطق الساحلية[1]، ثم ترك أهلُها بصماتهم في التاريخ بقوة حينما ارتبط قيام الدولة الفاطمية الشيعية بقبيلة كتامة الأمازيغية في القرن العاشر الميلادي، كما كانت منطقة جيجل حاضرة في أهم منعرج تاريخي في مطلع التاريخ الحديث، ألا وهو نزول الأتراك العثمانيين بأرض الجزائر عقب نكبة احتلال الإسبان لمدينة بجاية سنة 1510م، وكانت بلدة جيجل أوّل موطئ قدم لهؤلاء الأتراك المسلمين الذين لبّوا نداء النجدة الموجّه لهم من طرف أعـــيان بجاية، وفي مقدمتهم أبو العبــاس أحمد بن القاضي الزواوي مثلما ذكر المؤرخ بن عسكر في كتابه دوحة الناشر، وفي الوقت الذي تمّ فيه طرد الجنويين من مدينة جيجل بقيادة العثمانيين، ارتفعت استغاثات الأندلسيين الهاربين من محاكم التفتيش الإسبانية يطلبون الإنقاذ، فبعث عرّوج أخاه خير الدين على رأس قوة بحرية لينقذ ما يمكن إنقاذه من داخل البحر وخارجه…، فرجع أخوه من المهمّة التي كُلّف بها، فأنزل من سفنه الأندلسيين الذين أنقذهم من جحيم الإسبان، وأجرى لهم جرايات شهرية، كما أعطى الفلاحين أراضي البور لاستصلاحها واستغلالها[2] .
ومن هنــا فان المفارقة العجيبة أنه رغم الأدوار البــارزة التي لعبتــها هـــذه المنطــقة عبر التاريخ، فإنّ مآثرها وأمجادها مسكوت عنها، وهو الأمر الذي يثير عدة تساؤلات.
أمّا عن موقع منطقة جيجل فهي ذات شكل مستطيل، يغلب على تضاريسها الطابع الجبلي ذو الغطاء النباتي الكثيف، يحدّها البحر المتوسط شمالا، أما من الجنوب فتحدها جبال البابور وجبال سيدي إدريس شمــال القرارم، ويحدّها غربا وادي بوغريون الذي يفصلها عن بجاية، في حين يحدها شرقا وادي الرمال الذي يفصلها عن منطقة القلّ، ونظرا لطابعها الجبلي فهناك شبكة واسعة من الأنهار التي تخترقها مثل أنهار زياما منصورية، وكليلي، وتازة ، وكسير (غرب مدينة جيجل ) ، وأنهار جن جن ، والنيل، وسيدي عبد العزيز، والرمال، ووادي زهور (شرق مدينة جيجل)[3]، وبالنسبة لأصول سكانها فهي متعددة، وفي مقدّمتها العنصر الأمازيغي الأصيل الذي تدعّم بالعنصر العربي ( خاصة أهل الأندلس وأشراف المغرب )، ثم العنصر التركي العثماني ، يقول الأستاذ علي خنوف في هذا السياق : (… بناء على هذا كلهّ نستطيع أن نكوّن فكرة عن أصول سكان المنطقة الممتدة من بجاية الى سكيكدة شمالا، ومن قمم جبال بابور إلى قمم جبال سيدي إدريس جنوبا، ونلخصها في أربعة عناصر أساسية : أمازيغ ، أندلسيون، عرب، أتراك)[4]، ولذلك يبدو واضحا انصهار العنصر الأمازيغي والأندلسي في القبائل الساحلية مثل العوانة وبني قايد وبني احمد وبني عمران وبني يدر وبني حبيبي…وغيرهم، كما يظهر العنصر الأمازيغي العربي واضحا في القبائل الجنوبية، كما يرى البعض أن المناطق الشرقية لولاية جيجل ربما تكون قد تأثّرت قديما ببعض الوافدين من اليمن أو العراق في عهد الأمويين والعباسيين، رغم ضعف هذه الروايات التي تعتمد في معظمها على القصص الشعبية المتوارثة وليس على الكتابات الموثّقة، ككتابات المؤرخين البربر و العرب، ذلك أن كتابات بعض المؤرخين تشير إلى أن منطقة جيجل كانت خارج نطاق الطرق والمسالك التي اعتمدتها جيوش الفاتحين العرب التي جاءت لفتح المغرب الأوسط ( والتي ركّزت جهودها على الأوراس )، كما كانت جيجل من المناطق التي سلمت من التغريبة الهلالية، التي شملت مناطق وأقاليم كتامية متاخمة لها كقسنطينة، وبونة، وكالمة.
وإذا أردنا الحديث عن هجرة العنصر العربي ( أو بالأحرى العنصر الناطق بالعربية ) إلى جيجل كهجرة واضحة تاريخيا، فإننا نشير إلى الوافدين من الأندلس بعد سقوطها عام 1492م، والذين استقرّ بهم الحال بعدد من المدن الساحلية الجزائرية، و في الساحل القبائلي، استقرّ بهم الحال في مدن دلّس، وبجاية، و جيجل.
هذا ومن أهم القبائل الأمازيغية المستقرة فيها، كتامة (جنوب جيجل ) المذكورة في رواية ابن خلدون[5] ، وقد لعبت- حسب رأي الدكتور موسى لقبال – بعض بطونها(جيملة ، ووجانة ) دوراً بارزاً في تأسيس الدولة الفاطمية في القرن التاسع الميلادي ، وقبيلة زواغة ( بلدية فج مزالة ) التي عدّها ابن خلدون فرعا من كتامة، وقبيلة بني خطاب المتاخمة لزواغة، وقبيلة بني يدر (بلدية الطاهير شرق مدينة جيجل )، وقبيلة توفوت (أقصى شرق مدينة جيجل )التي لا يستبعد المؤلف أن تكون فرعاً من القبيلة الأمازيغية الكبيرة (آيت دومر ) التي أشار إليها ابن خلدون، وقبيلة العوانة، وقبيلة بني فوغال، وقبيلة (بني فولكـــــاي) غرب مدينة جيجل، وبالنسبة للعنصر العربي الوافد إلى منطقة جيجل، فان الأستاذ علي خنوف لم يتعمّق في دراسته، إذ اكتفى بالإشارة إلى أصوله الأندلسية، والمغربية ( أشراف مدينة فاس )، والصحراوية ( الساقية الحمراء) ، ولعلّ ما زاد في أمر صعوبة تحديد العنصر العربي؛ هو تعريب العنصر الأمازيغي، وتخلّي سكانـــه عن نسبهم الأصلي، وادّعاء النسب المغربي ( … وهذه الادّعاءات مازالت بقاياها إلى اليوم متوارثة، فمثلا قبيلة العوانة غرب مدينة جيجل، جاء جدّها الأول من المغرب، وبني يدر وبني حبيبي هما كذلك جاء جدهما الأول من المغرب، وأقلّية منهم جاء جدهم من مناطق الجزائر ، ولا نجد قبيلة واحدة تدّعي بأنها عريقة في المنطقة)[6].
- الوضع اللغوي في الأندلس :
لقد شكّلت اللغة في نشأتها وتطّور نظامها بنحو موازٍ لنشأة التفكير الإنساني وتطوّر نظامه، وهي وسيلة مهمّة من وسائل التلاقح الفكري والحضاري عند الشعوب والأمم[7]، فضلا عن كونها أداة اتّصال بين الأفراد والشعوب يعبّر من خلالها كل إنسان عن أغراضه وحاجاته[8]، وقد انمازت اللغة العربية عن غيرها من اللغات الأخرى بالمرونة والاستيعاب، وممّا يعضد من ذلك انتشارها المذهل وسط إثنيات عرقية يصعب اختراقها[9]، والأكثر من ذلك كلّه أن كثيرا من أهالي تلك الإثنيات الذي يطلق عليهم ” أهل الذمّة ” تحدّثوا فيها بطلاقة، وممّا ساعد في ذلك توافر أسباب اللقاء الحضاري والإنساني في بلاد الأندلس من خلال إشراك الإنسان فيها في العيش المشترك عرقاً وديناً، فتعايش العربي وغير العربي والنصراني واليهودي والمسلم، وتمتّعوا بالحرية الدينية والفكرية؛ ممّا أسهم في الحفاظ على هذا العيش وتنميته والعمل على ديمومته، كل ذلك كان سببا في تفاعل اللغات واللهجات المختلفة، وبالتالي تحقّق أكبر قدرٍ ممكن من التواصل الحقيقي بين الشعوب.
فاللغة العربية وبفضل ما تملكه من خصائص ومقوّمات بنيوية، مثّلت منذ نشأتها الأولى أصواتا نطقها الإنسان ليعبّر بها عن حاجاته ورغباته وعلاقته بالآخرين من أجل عيش مشترك بين الجميع[10]، ولذلك اندفع النصارى وغيرهم من الطوائف الأخرى على تعلّم اللغة العربية على حساب أنّها وسيلة للألفة والتآلف مع ساكنيهم من العرب والمسلمين[11]، وقد انعكس انتشار اللغة العربية بصورة إيجابية على بعض طوائف المجتمع الأندلسي، إذ حدث تداخلٌ لغوي بين اللغة الجديدة الوافدة إليهم وبين لغتهم القديمة؛ ممّا أسهم في إحداث تأثير واضح في بعض مناحي حياتهم، إن انتشار اللغة العربية إلى اليوم داخل اللغة الاسبانية لدليلٌ عميقٌ على التأثير العربي والإسلامي الذي هو شاهدٌ ليومنا هذا على حضارة أسّسها العرب والمسلمون في شبه الجزيرة الإيبيرية.
ورغم هذا النجاح الباهر الذي حقّقته العربية، إلاّ أنها لم تُلغ ِاللغات الأخرى التي كان لها حضور في الأندلس وهي اللغة الإسبانية ولغة البربر، ونتيجة لهذا التنوع اللغوي، ظهرت في الأندلس تشكيلات لغوية ولهجية هجينة من بينها (الرومانثية) وهي لهجة متفرعة من اللاتينية تمتزج بالكثير من المفردات العربية، وقد أشار المستشرق الإسباني (خوليان ريبيرا) إلى تشكل أجيال من الأندلسيين يتكلم آباؤهم العربية وأمّهاتهم الرومانثية، ومن الطبيعي أن يعرف الأبناء لغة الآباء والأمهات، ومن دلائل تداخل العربية باللغات الأعجمي وعامية الأندلس ظهور فن الموشّح الذي حرص شعراء الأندلس على جعل الخرجة فيه باللهجات العامية، وفن الزجل الذي كُتِب الكثير منه بالعامية الأندلسية، وقد خلص العديد من الباحثين إلى وجود سمات اختصّت بها لهجة الأندلس[12]، وما هو معروف كذلك من نصوص ووثائق في العامية الأندلسية؛ تلك السلسلة من المؤلفات الأندلسية في لحن العامة التي بدأها أبو بكر الزبيدي (ت379) وتبعه ابن هشام اللخمي (ت 577) وابن هانئ الإشبيلي (ت 733) وغيرهم، وتلك المعجمات الثلاث التي ألّفت في إسبانيا خلال القرون الوسطى، وحوت كثيرا من مفردات العامية الأندلسية، مثل المعجم اللاتيني العربي : Glossarium latino-arabicum الذي ألّفه مجهول في القرن العاشر الميلادي، والمعجم الذي ينسب إلى الراهب القطلاني ريموند مرتين (Raymond Martin) من أهل القرن الثالث عشر الميلادي وعنوانه (Vocabulista in arabico)، وكذا المعجم الذي ألّفه الراهب بدرو ألكالا (Pedro Alcala) نحو سنة 1505 [13].
وربما كانت الأمثال من أكثر هذه الوثائق قيمة في معرفة طبيعة العامية الأندلسية وخصوصا من حيث البناء والتركيب، وقد اهتمّ جماعة من الباحثين بدراسة الناحية الصوتية في العامية الأندلسية مثل سيمونيت وشتايجر، وعكف الأستاذ كولان (Colin) منذ زمن بعيد على استخراج قواعد عامّة لها[14].
وقد نشأت هذه العامية الأندلسية في ظروف تاريخية لا نكاد نعرف من أمرها شيئا ذا بال مثلها في ذلك مثل سائر اللهجات العربية، وهي على كل حال ثمرة انتشار العربية في بيئات جديدة متعدّدة العناصر واللغات، ونتيجة اختلاط العرب الفاتحين بغيرهم من العجم والبربر، ومظهر لما يطرأ على العربية عادة من التبديل والتغيير حين يتكلم بها غير أهلها، وقد وصف ابن حزم بعض هذا الذي ظلّ يحدث في عامية الأندلس حتى عصره فقال : ” ونحن نجد العامّة (يقصد عامة الأندلس) قد بدّلت الألفاظ في اللغة العربية تبديلا، وهو في البعد عن أصل تلك الكلمة كلغة أخرى ولا فرق، فنجدهم يقولون في العنب : العينب، وفي السوط: اسطوط…وإذا تعرّب البربري فأراد أن يقول الشّجرة قال : السجرة، وإذا تعرّب الجليقي أبدل من العين والحاء هاء فيقول : مهمدا إذا أراد أن يقول محمّدا”[15]، ويشير إلى اختلاف عامّية الأندلس بين بلد وآخر فيقول : ” ونحن نجد من سمع لغة أهل فحص البلوط وهي على ليلة واحدة من قرطبة كاد يقول إنها لغة أخرى غير لغة أهل قرطبة، وهكذا في كثير من البلاد فإنه بمجاورة أهل البلدة بأمّة أخرى، تتبدّل لغتها تبديلا لا يخفى على من تأمّله”[16]، وقد ألّف الزبيدي كتابه (لحن العوام) وأشار فيه إلى بعض مظاهر العامية في عصره، وأشار المقدسي في القرن الرابع إلى لغة أهل الأندلس فقال : ” ولغتهم عربية غير أنها منغلقة مخالفة لما ذكرنا في الأقاليم، ولهم لسان آخر يقارب الرّومي”[17]، فالمقدسي يقرّر هنا صعوبة العامية الأندلسية على فهم المشارقة ومخالفتها لعامية المشرق، كما يقرّر مسألة أخرى وهي الازدواج اللغوي.
وأخيرا نجد ابن خلدون يقرّر في مقدمته “أن لغة أهل الأندلس لغة قائمة بنفسها، مباينة –بعض الشيء- للغة أهل المشرق وللغة أهل المغرب أيضا، وأنّها متأثرة بعجمة الجلالقة”[18].
وقد اشتركت في تكوين العامية الأندلسية عوامل عديدة نذكر منها ما يلي :[19]
- لهجات القبائل العربية الداخلة إلى الأندلس من قيسية ويمنية، ولا شكّ أن ذلك كان له أثر في تكوين العامية الأندلسية، ومن الواضح أن بعض الألفاظ والظواهر اللغوية في هذه العامية كالإمالة ترجع إلى لهجات عربية معيّنة…الخ
- ومنها العجمية (el romance) أو الاسبانية القديمة، ذلك أن سكان الأندلس عموما كانوا يعرفونها، وقد ظلّ الإلمام بعجمية الأندلس ظاهرة ملموسة إلى وقت متأخر لدى المؤلفين الأندلسيين، وقد أثّرت عجمية الأندلس هذه في العامية العربية من وجوه مختلفة: [ وفي ثغور شرق الأندلس ينطقون بالتاء طاء فيقولون في الحوت : الحوط…].
- البربرية، ومن الطبيعي أن يكون لها تأثير ما في العامية الأندلسية؛ لأن البربر كانوا يؤلّفون قسما كبيرا من سكان الأندلس، وكان تأثيرهم فيها من حيث النطق، ويبدو أن بعض التراكيب الخاصّة في أسلوب العامية الأندلسية هي من أثر استعمال البربر والعجم للعربية وتكلّمهم بها، وقد دخلت طائفة من الكلمات البربرية إلى عامية الأندلس.
وربما كان تعدّد الجماعات العرقية وتنوعها في المجتمع الأندلسي هو العامل الأكثر أهمية في ذلك التعقّد الحضاري أو الثقافي، ويتمثل هذا التنوّع العرقي في وجود الجماعات العربية والبربرية التي فتحت الأندلس، وعاشت جنبا إلى جنب مع العناصر الوطنية أو الجماعات التي كانت تستوطن الأندلس قبل الفتح الإسلامي، وكثير من هؤلاء كانوا من المسيحيين الذين كان بعضهم ينتمي إلى العناصر الإيبيرية التي كانت قد هاجرت من المغرب منذ زمن طويل، بينما البعض الآخر ينتمي إلى العناصر الكلتية التي وفدت من أوربا، وذلك بالإضافة إلى الجماعات اليهودية القديمة والرومان والقوط، وبعض العناصر الأوربية الشمالية ثم الصقالبة، وهم سلالة أسرى الحرب الذين كان الجرمان يبيعونهم للمسلمين في إسبانيا، وقد نجم عن ذلك الاحتكاك ظهور عناصر جديدة بعضها يقوم على أساس الدم، والبعض الآخر يقوم على أساس التأثر الثقافي والحضاري…فالاحتكاك الثقافي بين الحضارة الوافدة والحضارات المتوطّنة في الأندلس، أدّى إلى خلق تلك الحضارة الأندلسية بملامحها الخاصة المتميّزة التي هي مزيج من تلك الثقافات، وقد نجم عن زواج العرب بالإسبانيات عنصرٌ مسلمٌ جديد عُرف باسم (المولَّدين) الذين أصبحوا بمرور الزمن يؤلِّفون معظم سكان الأندلس، وكان لا بدّ من أن يكتسب هؤلاء المولَّدون كثيرا من ملامح وعناصرَ الثّقافة الإسبانية كاللغة، وبعض العادات وأنماط السلوك من أمّهاتهم الإسبانيات، وربما كان أخطر مثل لهذا التأثّر هو ازدواج اللغة، حيث انتشرت اللغة الرومانسية إلى جانب اللغة العربية، ممّا يكشف عن مدى قوة ذلك الاحتكاك الثقافي بين الحضارة العربية والحضارة الإسبانية القديمة[20].
ولكن إلى جانب ذلك ظهرت عناصر أو فئات أخرى نتيجة لتبادل التأثير الثقافي البحت، ولعبت هذه الفئات دورًا هامّاً في حياة المجتمع الأندلسي وثقافته، وكانت عاملاً من أهمّ عوامل التقريب بين الحضارتين، وبالتالي نشأأأأاأااااااااااتننععععععأاااببللليسسشششأة الحضارة الأندلسية المتميّزة، فكانت هناك جماعة (المستعربين)، وهي العناصر المسيحية التي استعربت في لغتها وعاداتها، وسلوكها وتقاليدها، وإن كانت ظلّت محتفظة بدينها.
- أهم الآثار اللغوية الأندلسية في جيجل :
تزخر منطقة جيجل بتنوع لساني وثقافي يثير الملاحظة والاهتمام بالنسبة للدارس الجادّ للمجتمع الجزائري في مجال اللسانيات، و قد لا نبالغ إذا قلنا أنّ هذا التنوع الثقافي غير المادي، كان هدفا دائما لمحاولات كثيرة، وعلى مدار العقود الماضية عملت على محاولة طمسه أو تشويهه، على غرار الاستعمار الفرنسي الذي اعتمد أساليب ممنهجة من أجل خلق إنسان جزائري بدون مرجعية ثقافية واضحة تمكّن له من وضع أسس ثابتة، يتحرك عليها ويستعملها في بناء مشروع حضاري واضح بصفات وميزات جزائرية، ومن المهمّ أيضا التنبيه إلى أن التغيّر الكبير الذي عاشه المجتمع الجزائري على المستويات الاجتماعية والاقتصادية والديموغرافية، قد غيّر من أنماط عيش النّاس ومن ثم غير من طرق تفكيرهم، إذْ عمل هو الآخر على تقليص حيّز الاهتمام بالحفاظ على الموروث الثقافي لكل منطقة من مناطق البلاد، كلّها عوامل ساهمت بشكل أو بآخر في إضعاف – إن لم نقل القضاء – على الكثير من تلك الخصوصيات ذات الطابع المحلّي، والتي صنعت دوماً جمالية وأصالة الإنسان الجزائري، وتناغمه مع بيئته، ومحيطه المحلّي القائم على مسار تاريخي طويل، ومتدرّج ربطه بمنطقته، وأثمر ذلك الموروث المادي وغير المادي الذي حدّد خصوصية كل منطقة وميزات أهلها، ومن بين أمثلة ذلك لهجة سكان ولاية جيجل، أو ما يُعرف بلهجة ” قبايل جيجل ” أو ” قبايل حدرة “.
كما تجدر الإشارة كذلك إلى أن اللهجة الجيجلية وإن كانت لهجة قائمة بميزاتها الخاصة، إلاّ أنها لا تملك إمكانية أن تكون لغة قائمة بذاتها، ذلك أنها لا تخضع لضوابط نحوية وصرفية أصيلة وثابتة، إضافة إلى كونها تأثّرت بشكل كبير بالعربية، وكونها كذلك تختلف بين مناطق الولاية وأعراشها؛ وذلك لاختلاف أصول الأعراش نفسها بين كتامية، وزواغية، وشلحية أو صنهاجية ( جاءت على الأرجح من الساقية الحمراء و الأندلس )….الخ[21]، فهي ليست موحَّدة، لكن فقط يمكن اعتبارها لهجة محلية – شعبية محدودة النطاق، وذلك قد يرجع إلى عدة عوامل تاريخية.
ومن بين أهم الآثار اللسانية الأندلسية التي عثرنا عليها في منطوق جيجل ما يلي :
- تتميّز العامية الأندلسية ومثلها العامية المغربية بزيادة كاف في أول الفعل المضارع، فيقال في (يكتب) مثلا : [كيكتب]…[22]وهذه الكاف (أو التاء أحيانا) مطّردة في العامية الجيجلية، أما في العامية الأندلسية لوحظت بأنها غير مطّردة ولكنها ترد أحيانا كما نرى في الأمثال والأزجال، ومهما يكن فإن هذه الكاف الشائعة في عامية المغرب لها أصل قديم في العامية الأندلسية، وأهالي جيجل يقولون [كُنبيعْ، وكَيَقْرَاوْ]، ويشير فيليب مارسي إلى أن مناطق غرب جيجل خصوصا (الواد الكبير والميلية)، يستخدمون أداة أخرى مطابقة للأداة (كَ/كو)، وهي الأداة (تَ، تو)، فيقولون : [تنَخَدموا…][23]، وفي منطقة بني يَدَّرْ في جيجل في الشرق الجزائري تُستعمل الكاف في جهات والتاء في جهات أخرى بحيث يُقال “كَيَلْعَبْ” أو “تَيَلْعَبْ”، وهما حَرْفَان وظيفتُهما تبدو أقربَ إلى حَرْفِ التَّوْكِيد.
- من الظواهر الصوتية في العامية الأندلسية والجيجلية إطالة الحركات حتّى تصير الفتحة ألفا والضّمّة واواً والكسرة ياء، وقد نصّ الزبيدي على هذا في كتابه لحن العوام، وساق أمثلة عديدة منها : (قطاع وطيراز في قطع وطراز)…الخ، ويقول الزبيدي : “وقد أولعت العامة بإقحام الياء”[24]، وهي من ظواهر الانسجام الصوتي الذي يميل إليه الإنسان أثناء النطق قصد الاقتصاد في الجهد العضلي .
- شيوع الصوت الأجنبي (تش) في الكلمات المقترضة من اللغات الأجنبية (الإسبانية) مثل: [لَاتْشَا][25]، [تْشِينَا] أي برتقال، وهو صوت مركّب غريب عن اللغة العربية.
- في العامية الأندلسية صور من الحذف والترخيم في أواخر الكلم، ويبدو أنهم كانوا يجرون هذا الحذف في الأسماء المختومة بياء ونون حتى ولو لم تكن للتثنية، فقد ذكر مؤلّف الجمانة في إزالة الرطانة أنهم يقولون : النسرى أي النسرين، والجنى أي الجنين[26]، ومن صور هذا الترخيم قولهم في (متاع)[27] : مْتَا، وفي (قدر) : قَدْ، وهذا كثير في الألفاظ، ويقولون: (السّا ) ويريدون (السّاعة)، قال الصفي الحليّ : “وقد تداولوا هذه اللفظة كثيرا في أزجالهم”[28]، ويبدو أن مثل هذا الترخيم كان شائعا عندهم وعند الجيجليين كذلك.
- ومن هذا القبيل قولهم في الاستفهام أو النفي : (آش) وأصلها : أيّ شيء كما في هذا المثل (آشْ فالكُفر من لذّة) أي ليس في الكفر لذّة، وهي أداة استعمالها جدّ محدود في اللهجة الجيجلية، بحيث تظهر كمورفيم مقترض من اللهجات المجاورة.
- وكقولهم في السؤال مطلقا أو في السؤال عن العدد والمسافة : ‘أَشْحالْ واشْحَالْ’، وأصلها : ‘أيّ شيء حال’، ومن أمثلة استعمالها في الأمثال قولهم : (أشْحالْ بيني وبَين السّْما؟)، فهي هنا بمعنى (كم؟)، وفي العامية الجيجلية يقال في السؤال عن الثمن : (بَشْحالْ) أي بكم؟، وأصلها : بأيّ شيء حال؟…ونجد (آش) هذه متّصلة بأفعال وأسماء كقولهم : آشْتعمل فالبيت الفارغ؟ فـ(آشتعمل) ما تعمل؟ وهذه مستعملة في معظم اللهجات العامية العربية منذ زمن بعيد، كما أنّ (ويليام مارسي) يبدو مقتنعا أن “شْحال” أو “آشحال” من مظاهر التأثير اللغوي الأندلسي/الموريسكي في المنطقة المغاربية، وكذلك كتب الرَّاهب الكاثوليكي (دي ألكالا) “آش حال” بالحروف اللاتينية بهذا الشكل في قاموسه : axhál، مع العلم أن حرف “X” يُنطَق “ش” في مثل هذا السياق في اللغة الإسبانية، وعند شرح مدلولها، يقول (بيدرو دي آلكالا): “إنها تعني بالإٍسبانية “Cuanto”، أيْ: كَمْ. .”[29]
- كذلك تشترك في استخدام عبارة “فَايَنْ”، اختصارا لـ: “فِي أَيْنَ”، كالقول “فَايَنْ كُنْتْ”، كلٌّ من طنجة وغرناطة، على الأقل من بين البلدات والأرياف الأندلسية، وتلمسان وندرومة ومدينة الجزائر، على الأقل إلى غاية القرن 19م.
- ذكر الزبيدي أمثلة عديدة ممّا كان يقع على لسان العامّة في الأندلس من قلب وإبدال بين الأصوات، وبلغ ما عدّده من مواضع متفرّقة من حالات القلب والإبدال نحو خمس عشرة حالة[30]، فمن ذلك إبدالهم النون ميما في مثل قولهم : حلزوم أي حلزون[31]، وإبدال التاء طاء كما في كلمة (است) التي نراها ترسم (اسط) في أمثال عديدة. وقد نقل ابن عبد الملك المراكشي أن أهل شرق الأندلس كانوا ينطقون التاء طاء فيقولون في (حوت : حوط)، وكذلك نجدهم يقلبون الدال طاء في بعض الكلمات، ومن ذلك أيضا إبدال الضاد دالا كما في يمدغ=يمضغ، وهكذا تنطق الكلمة في جيجل أيضا، ومن إبدال القاف كافا والصاد سينا، فهم يقولون : حكّ أي حقّ، والكفز أي القفز…ويبدو أن هذا من أثر القاف المعقودة التي عرف بها الأندلسيون، وقد وُصف أبو حيان في نفح الطيب بما يلي : “عبارته فصيحة بلغة الأندلس يعقد حرف القاف قريبا من الكاف، على أنه لا ينطق بها في القرآن إلا فصيحة”[32]، كلّ هذه الظواهر موجودة وشائعة في اللسان الجيجلي.
- والتصغير من السمات اللغوية المشتركة بين اللهجتين، ففي الأمثال والأزجال نلحظ شغف الأندلسيين وولعهم باستعمال التصغير في كلامهم، وبلغ من استحكام التصغير في لسان أهل الأندلس أنهم يغفلون عن بعض ما يقتضيه الأدب الديني، فقد انتقد عليهم السكوني الإشبيلي استعمال صيغة التصغير في مواطن لا يجوز فيها شرعا[33].
- وما يزال الميل إلى تصغير الكلمات سمة بارزة في اللغة الاسبانية ولهجات المغرب العربي عامّة، وهم يصغّرون حتى الأشياء الصغيرة بطبيعتها، فيقولون في عجلة : عجيلة وفي كسرة : كسيرة، ويبدو من معجم (ألكالا) –وهو يمثل لهجة أهل غرناطة- أنهم كانوا ينطقون فعيل في المذكر، وفعيلة في المؤنث على وجهه الفصيح أي بضمّ الأول وفتح الثاني[34].
- توجد التثنية في الأمثال العامية الأندلسية، ولكنها ترد دائما بالياء والنون، ومثال ذلك : (ضَربَتَيْن فَالرّاسْ)، أما في الضمائر فيستعمل ضمير الجمع للمثنى، ويستعملُ الأندلسيون جمع المذكر السالم حيث تستعمل الفصحى وبعض اللهجات العامية جمع التكسير، ومن ذلك قولهم : أضرسين أي أضراس، وهو ما نجده كذلك في لهجة جيجل.
- وممّا تمتاز به اللهجات الأندلسية شيوع الأسماء التي تنتهي بالواو والنون[35].
- ومن ظروف الزمان المستعملة كذلك ظرف : بيدم أو بيدام، ويستعملون في هذا المعنى أيضا كلمة : مندام ( بمعنى : بينما، ريثما، خلال ما)[36]، “ما دام” المستعملة كثيرا في لهجة جيجل، ويمكن أن تتّصل بضمائر شخصية متمّمة للفعل مثل : ما دامني…الخ.
- أما أسماء الإشارة فيبدو أنهم كانوا يستعملون : ذا للقريب كثيرا، وقلّ استعمالهم لهذا، كما آثروا استعمال (ذا) في الإشارة للقريب للاختصار فيما يبدو، آثروا أيضا استعمال ذاك بدل ذلك، وكذا بدل هكذا مثلهم مثل الجيجليين.
- وتكاد تنطبق القاعدة ذاتها على “فَايُوقْ” أو “فَايْوَقْ” التي تُختَصَر بها جُمْلَة “فِي أَيِّ وَقْت” و”مْنَايَنْ” التي تَختَضِرُ “مِنْ أَيْنَ” وتشترك في استخدامها كل من الأندلس والحواضر والأرياف “الأندلسية” الطابع في منطقة المغرب العربي، وأيضا “عْلاَيَنْ” التي هي في الأصل “على أين” التي صادفها ‘ويليام مارسي’ في طنجة، وجهات أخرى من المغرب بما فيها جنوب البلاد، وقال إنه لم يعثر عليها أبداً في الجزائر .[37]
- وكما كان أهل الأندلس، على الأقل في مملكة غرناطة، يميلون إلى استخدام عبارة “زُوجْ” أكثر من “اثْنَان”، فإن الظاهرة ذاتها سيطرت منذ قرون على الكثير من حواضر وأرياف منطقة المغرب العربي التي تُقاطِع تقريبا عبارة “اثنان”، وتكاد لا تستعمل سوى “زُوجْ” كما هو الحال في مدينة الجزائر.
- تتفرد اللهجة الجيجلية بميزة إدخال حرف ” الحاء ” من أجل الإشارة إلى الأسماء بصيغة المجهول، فبدلا من قول – على سبيل المثال – شجرة يقال: حالشجرة، واد – حَلواد، مهبول – حَمهبول…. الخ. لكنها تصبح أداة تعريف بمجرد إضافة (الـ ) التعريف العادية لها فتصبح: حَالـ….، وهذه الميزة نجدها خصوصا عند الأندلسيين[38].
- ومن المعروف أيضا في مؤلفات المسلمين الذين كتبوا عن الأندلس أن أهل هذه البلاد لا يهمزون، إذ لا ينطقون الهمزة بحيث يلفظون “البئر”: “البِيرْ”، ولا يقولون: نأكل” بل “ناَكُلْ”، كما كان الأندلسيون غير آبهين ببعض صيغ النحو والصرف، وتجاوزت هذه “العدوى” حدود بلادهم[39]، إذْ يستخدم أهل المجال الثقافي المغاربي بصورة عامة، صيغة المتكلم الجمع بدلا من المفرد عند الحديث عن أنفسهم كأفراد، إذ يقولون: “نْرُوحْ” و”نَلْعَب”، وليس “أروح” و”ألعب” أو “نرتاح” بدلا من “أرتاح”، و “نَمْشِي” بدلا من “أَمْشِي” وهو ما نجده كذلك في منطقة جيجل.
وهذه نماذج من الكلمات المشهورة بمنطقة جيجل والتي يعود أصلها إلى الأندلس :
- الليطرات : وفي جيجل يقال ‘يطره’ والجمع ‘يطرات’ على الأوراق النقدية، ..والأشبه أن تكون ليطرات جمع ليطره أي( Letra) بالإسبانية، ولكن هذا الاصطلاح النقدي لا يرقى إلى ما قبل القرن السادس عشر، ويبدو أنهم في الأندلس استعملوا كلمة ‘ليطره’ العجمية لما استعملت له كلمة (سفتجة) الفارسية[40]
- ويوجد في لهجة جيجل من الألفاظ الإسبانية ما ينطق بأكثر قوة مقارنة بما يُنطق في لغاته الأصلية مثل [بومبا] pompe مضخة، [سُوبا] Soupe أي حساء، [شُوبينا] Chopine أي مشروب كحولي، [مُوزيكَا] (موسيقى]، [سْبَارْدِي] بهمس الباء (حذاء رياضي) [فَالْطَا] أي (خطأ)، [بُوشْطَا] (مركز بريد)،[جْرَانْتي] : (journalier عامل يومي).
- بعض الألفاظ الإسبانية بمقطع متشابه مثل : [طَانْقْ] أي (Tank) وتعني الدبّابة، و[بُونْطْ] أي (Point) وتعني النقطة في لعبة الميسر (الشطرنج).
– صوردي[41]: تطلق صوردي في جيجل على العملة، ويقابلها فلس أو مليم.
- [طابلة] ظهرت في قاموس عربي –لاتيني من القرن الثالث عشر، حيث تظهر بأنها من أصل أندلسي، والبعض يقول أنها من أصل لاتيني على كلّ حال من الكلمة (tabula) بمعنى اللوحة[42].
- فيشطا : بمعنى حفلة كبيرة، وأصل الكلمة في اللغة الإسبانية (fiesta) حيث كان الإسبان قديما ينطقون صوت السين شينا، وهذه الكلمة موجودة أيضا في قاموس الدّارجة العربية الأندلسية الذي ألّفه كوريينتي : (فِشْطَة).
- لَعْروصَة : وهي لا تطلق عندهم إلا على المؤنّث، ورُوي أن عامّة الأندلس وصقلية يقولون “عروصة’ بدل من ‘عروص’، ولعلّه رغبة في إطراء الصيغ واطّراد التفرقة في النوع[43]
- إضافة إلى ألفاظ ومفردات كثيرة من بينها : كوزينة من الاسبانية (cocina)، فاميليا (familia) أي العائلة، بْلاصَة تعني المكان (plaza)…….والقائمة طويلة.
الخاتمة:
وفي آخر هذا البحث المتواضع نخلص إلى النتائج التالية :
- أصول سكان المنطقة تتكوّن من أربعة عناصر : أمازيغ، أندلسيون، عرب وأتراك، فهذه العناصر الأربع هي التي انصهرت وكوّنت سكان المنطقة الذين وجدهم الفرنسيون عام 1899م.
- تأثير اللسان الأندلسي ولهجاته بعمق في الّسان الجزائري حتّى أن مناطق واسعة من البلاد تتحدّث اليوم باللهجات الأندلسية دون وعي بهذه الحقيقة على غرار لسان جيجل القريب جدّا من اللهجة الغرناطية كما تؤكّد ذلك الكثير من المصادر التاريخية، وعلى رأسها قاموس الراهب (بيدرو دي ألكالا) أو بيدرو القلعاوي، الصّادر في عام 1501 بعد تسعة (9) أعوام فقط من سقوطها.
- دور الموريسكيين المسلمين الذين خالطوا الإسبان ثم فرّوا من بطشهم، في نقل بعض الكلمات الإسبانية ونشرها في الجزائر عموما وفي منطقة جيجل على وجه الخصوص.
- تكييف الأصوات المقترضة مع النظام الصوتي العربي وذلك في بعض الكلمات الأجنبية مثل كلمة (poya) أصبحت تنطق (بويا) بالباء، وكلمة (vapeur) تحوّلت إلى (بابور)، وكذا مفردة (taverna) أصبحت تلفظ (تْبَرْنَا) أي الحانة.
- هذا ونلحظ وجود بعض الأسماء لألقاب عائلات موريسكية من جيجل على غرار عائلة سيساني، وسيساوي، سْراسْري، ثابت، كَسيري، كَموش، بوطيش…الخ.
وهكذا فقد أثرى الأندلسيون اللهجة العامية الجيجلية، وفي كثير من البلدان العربية، بمفردات وظواهر لسانية لا تزال شاهداً على انتشار أهل الأندلس في مختلف أرجاء العالم العربي وما يمثلّه ذلك لهم من نجاة واطمئنان بعيدا عن ظلم محاكم التفتيش، ومع أننا نفتقر لمثل هذه الدراسات، فإن الحاجة أشدّ إليها بالنسبة لحضارة الأندلس باعتبارها حالة فريدة في تاريخ الإسلام، لأنها الحالة الوحيدة التي تمثّل قيام حضارة متمايزة تمثّل مزيج من ثقافة الإسلام والثقافة الوطنية التقليدية الأصيلة، فازدهرت تلك الحضارة ازدهارا باهراً تركت من خلالها بصماتها على كل التاريخ الإسلامي والعالمي، وبالرغم من ضعف هذه الحضارة وتدهورها ثم اندثارها، فإنها خلّفت وراءها بعض الرواسب أو البقايا (Résidu)، الثقافية منها واللغوية، سواء في المجتمع الإسباني أو حتى في المجتمع المغاربي حتى وقتنا الحاضر.
قائمة المصادر والمراجع :
- باللغة العربية :
- ابن جني، الخصائص، تح عبد الحميد الهنداوي، دار الكتب العلمية، ط2، بيروت، 2002.
- ابن حزم، الإحكام في أصول الأحكام، تح أحمد شاكر، دار الآفاق الجديدة، ط2، بيروت، 1983.
- ابن خلدون، المقدمة، دار الكتاب اللبناني ومكتبة المدرسة، بيروت، 1982.
- ابن خلدون، كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر…، المجلد السادس، دار الكتاب اللبناني، 1983.
- أبو يحيى القرطبي، لحن العوام في الأندلس، تح محمد بن شريفة، القسم الأول، مطبعة محمد الخامس، فاس، 1975.
- أحمد أبو زيد، حضارة الأندلس، مجلة عالم الفكر، ع 1، 1981، الكويت.
- أحمد محمد الطوخي، مظاهر الحضارة في الأندلس في عصر بني الأحمر، مؤسسة شباب الجامعة، الإسكندرية، 1998، ص114
- أحمد المقرّي، نفح الطيب من غصن الاندلس الرطيب، ج3، دار صادر، بيروت.
- الأوسي حكمت، التأثير العربي في الثقافة الاسبانية، دار الشؤون الثقافية، بغداد، 1984.
- بروفنسال ليفي، الحضارة العربية في إسبانيا، تر طاهر أحمد مكّي، دار المعارف، القاهرة، ط3، 1994.
- بلقاسم بلعرج، الدارجة الجزائرية وصلتها بالعربية الفصحى دراسة لسانية للهجة بني فتح (جيجل)، مديرية النشر لجامعة قالمة، 2008.
- حسناء عبورة، التداول اللهجي لألفاظ الأسماك في الساحل الغربي الجزائري –دراسة صوتية معجمية-، مخطوط رسالة ماجستير في اللهجات، 2008-2009.
- الحسين بوزينب، التحليل اللغوي منهاج لاستنتاج جوانب حضارية، نموذج : تحليل الأدب الأعجمي الموريسكي، أعمال المائدة المستديرة حول التاريخ واللسانيات، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، الرباط، 1992.
- حسين مؤنس، معالم تاريخ المغرب والأندلس، دار الرشاد، القاهرة، ط5، 2000.
- حمزة بن قبلان المزيني، دراسات في تاريخ اللغة العربية، دار كنوز المعرفة العلمية للنشر والتوزيع، عمان، الأردن، ط1، 2014.
- الزبيدي، لحن العوام، تح رمضان عبد التواب، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط2، 2000م.
- شحرور محمد، الكتاب والقرآن رؤية جديدة، دار الساقي، بيروت، 2011.
- عبد العزيز مطر، لحن العامة في ضوء الدراسات اللغوية الحديثة، دار الكاتب العربي للطباعة والنشر، القاهرة، 1967.
- عبد الله عنان (محمد)، دولة الاسلام في الأندلس، العصر I- القسم II، دار سحنون للنشر والتوزيع، الطبعة الثالثة، تونس، 1990.
- علي المنتصر الكتاني، انبعاث الإسلام بالأندلس، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط1، 2005.
- فؤاد طوهارة، الهجرة الأندلسية إلى المغرب الأوسط السياق التاريخي والمجال الجغرافي، مجلة حوليات التراث، ع15، 2015.
- فوزي سعد الله، التأثير اللغوي الأندلسي /الموريسكي في المنطقة المغاربية، يوم 14-03-2019، 16:33 http://www.elwatandz.com/culture/15004.html.
- كاردياك (لويس)، المرريسكيون الأندلسيون والمسيحيون المجابهة الجدلية 1492- 1640، تعريب عبد الجليل التميمي.
- علي خنوف، تاريخ منطقة جيجل قديما وحديثا، منشورات الأنيس، ط2، 2011.
- محمد رزوق، الأندلسيون وهجراتهم إلى المغرب خلال القرنين 16-17، إفريقيا الشرق، ط3، 1998.
- المقدسي، أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم، دار صادر، بيروت، د.ت.
- منصف عاشور، في خصائص اللغة العربية بالأندلس، مجلة دراسات أندلسية، ع3، ديسمبر 1989، تونس.
- باللغة الأجنبية :
- Haut du formulaire
- Charles Féraud, Histoires des villes de la province de Constantine, Typographie et lithographie L. Arnolet, 1870, Constantine.
- Fatema Khelef et Redouane Kebièche, évolution ethnique et dialectes du Maghreb, Synergies Monde arabe n°8-2011, pp 19-32.
- Ignacio Ferrando, l’arabe andalou et la classification des dialectes néo-arabes, Aspects of the Dialects of Arabic Today – Proceedings of the 4th Conference of AIDA, Rabat, pp 189-200.
- Philippe Marçais. Le parler arabe de Djidjelli (Nord-Constantinois, Algérie) (Publications de l’Institut d’études orientales d’Alger t. XVI),1952.
[1]– لا أحد يعرف بالضبط متى أسّس الفينيقيون مدينة جيجل، كما أنه لا أحد يعرف لماذا سمّيت بهذا الاسم، فقد اختلف المؤرّخون في كلمة إيقيقلي (IGILGILI) فالبعض منهم يدّعي أنها محلية كتامية لأنها قريبة من النطق الأمازيغي المحلي، والبعض الآخر من المؤرخين مثل شارل فيرو، فيرجع أصلها إلى مدينة القلقة الفلسطينية التي هاجر ملكها أثناء العهد الفينيقي إلى مدينة جيجل فسمّاها باسم المدينة التي هاجر منها، ينظر : علي خنوف، تاريخ منطقة جيجل قديما وحديثا، منشورات الأنيس، ط2، 2011، ص 49، وكذلك C.Féraud, Histoires des villes de la province de Constantine, Typographie et lithographie L.Arnolet, 1870, Constantine. p3..
[2] – علي خنوف، المرجع السابق، ص 76.
[3]– المرجع السابق، ص ص 7-11.
[4] – المرجع نفسه، ص 40.
[5] – ابن خلدون، كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر…(تاريخ ابن خلدون)، المجلد السادس، دار الكتاب اللبناني، 1983، ص 301-308.
[6] – علي خنوف، مرجع سبق ذكره، ص 40.
[7] – شحرور محمد، الكتاب والقرآن رؤية جديدة، دار الساقي، بيروت، 2011، ص 22.
[8] – ابن جني، الخصائص، تح عبد الحميد الهنداوي، دار الكتب العلمية، ط2، بيروت، 2002، 1/78.
[9] – الأوسي حكمت، التأثير العربي في الثقافة الإسبانية، دار الشؤون الثقافية، بغداد، 1984، ص 15.
[10]– شحرور محمد، المرجع السابق، ص 23-24.
[11]– بروفنسال، حضارة العرب في الأندلس، تر ذوقان قرطوط، مكتبة الحياة، بيروت، د.ت، ص88.
[12] – بشار نديم الباججي، بين اللهجة الموصلية واللهجة الاندلسية، https://pulpit.alwatanvoice.com/articles/2008/10/18/148322.html
[13] – دوزي، تكملة المعاجم، ترمحمد سليم النعيمي، دار الرشيد للنشر، العراق، 1981، ص ص 19-21.
[14] – أبو يحى القرطبي، لحن العوام في الأندلس، تح محمد بن شريفة، القسم الأول، مطبعة محمد الخامس، فاس، 1975، ص 273.
[15] – ابن حزم، الإحكام في أصول الأحكام، تح أحمد شاكر، دار الآفاق الجديدة، ط2، بيروت، 1983، 1/ 32.
[16] – المصدر نفسه، ص 31.
[17] – المقدسي، أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم، دار صادر، بيروت، ص 243.
[18] – ابن خلدون، المقدمة، دار الكتاب اللبناني ومكتبة المدرسة، بيروت، 1982، ص 555.
[19] – أبو يحى القرطبي، المرجع السابق، ص ص 275-280.
[20] – حضارة الأندلس، أحمد أبو زيد، مجلة عالم الفكر، الكويت، ع 1، 1981، ص6-7.
[21] – علي خنوف، تاريخ منطقة جيجل قديما وحديثا، ص 26-27.
[22]– Ignacio Ferrando, l’arabe andalou et la classification des dialectes néo-arabes, Aspects of the Dialects of Arabic Today – Proceedings of the 4th Conference of AIDA. Rabat, p 192
[23] – Philippe Marçais. Le parler arabe de Djidjelli (Nord-Constantinois, Algérie) (Publications de l’Institut d’études orientales d’Alger t. XVI), p 152.
[24]– الزبيدي، لحن العوام، ص 76.
[25]– نوع من الأسماك يشبه السردين تماما، أصله الدخيل اللهجي الإسباني alacha الذي يشتقّ من كلمة lancha وتعني باللغة العربية قارب أو زورق صغير أو كلمة lanchero التي تعني بحّار، وكلتا التسميتان تمتان بصلة وثيقة لهذه السمكة وتشتركان في مدلول واحد وهو البحر. ينظر : حسناء عبورة، التداول اللهجي لألفاظ الأسماك في الساحل الغربي الجزائري –دراسة صوتية معجمية-، مخطوط رسالة ماجستير في اللهجات، 2008-2009، ص181.
[26] – أبو يحى القرطبي، لحن العوام في الأندلس، ص 289 نقلا عن الجمانة في إزالة الرطانة، ص 32-33.
[27] – أداة تدلّ على ملكية لشيء معيّن وتكون قبل اسم أو ضمير، وهي مقترضة من اللهجات المجاورة، ينظر : Ph.Marçais, le parler arabe de Djidjelli, p 554.
[28] – أبو يحى القرطبي، المرجع السابق، ص 290 نقلا عن صفي الدين الحلي، العاطل الحاني، ص 50-51.
[29] فوزي سعد الله، التأثير اللغوي الأندلسي/ الموريسكي في المنطقة المغاربية، جريدة الوطن، www.elwatandz.com/mobile/culture/15004.html
[30] – ينظر تصنيفا لها في كتاب عبد العزيز مطر، لحن العامة في ضوء الدراسات اللغوية الحديثة، دار الكاتب العربي للطباعة والنشر، القاهرة، 1967 ص 105 وما بعدها.
[31] – الزبيدي، لحن العوام، تح رمضان عبد التواب، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط2، 2000م، ص 192.
[32] – أحمد المقرّي، نفح الطيب من غصن الاندلس الرطيب، ج3، دار صادر، بيروت، ص 295.
[33] – أحمد محمد الطوخي، مظاهر الحضارة في الأندلس في عصر بني الأحمر، مؤسسة شباب الجامعة، الإسكندرية، 1998، ص114
[34] – أبو يحى القرطبي، لحن العوام في الأندلس، ص 293.
[35]– Ignacio Ferrando, l’arabe andalou et la classification des dialectes néo-arabes, p 190.
[36] – دوزي، تكملة المعاجم، ص 133.
[37]– فيليب مارسيه، اللهجات الغربية، تر حمزة المزيني، (دارسات في تاريخ اللغة العربية)، سلسلة المعرفة اللسانية، دار كنوز المعرفة العلمية للطباعة والنشر والتوزيع، عمان، ط1، 2014، ص 89.
[38] – Ignacio Ferrando, Op.Cit, 195.
[39]– Ibid, p 194.
[40] – أبو يحى القرطبي، لحن العوام في الأندلس، ص 364.
[41] – ومنها الكاردينال دو صوردي، ينظر : لمحمد عبد الله عنان، دولة الاسلام في الاندلس، ص140.
[42] – ينظر : الأصول التاريخية للدّارجة الجزائرية، http://dardja.blogspot.com/
[43] – عبد العزيز مطر، لحن العامة، ص273.