
التربية والايديولوجيا: التقاطعات والحدود
Education and ideology: Intersections and borders
نورالدين أرطيع• د.عبد الله بن عتو/جامعة محمد الخامس، المغرب
مقال منشور في مجلة جيل العلوم الانسانية والاجتماعية العدد 55 الصفحة 91.
ملخص:
شكلت التربية وما تزال قطب رحى المجتمعات بكل أشكالها وعقائدها وتوجهاتها، فهي، اليوم، أفيون الشعوب ومحرك عجلاتها، إن إلى الأمام أو التقهقر إلى الوراء. ولعل مرد هذا المد والجزر غياب سلطة القيادة الذاتية؛ فالتربية مجال معرفي- تكاملي- براديغمي يجمع بين التنظير والتطبيق، رغم علله وزلاته. إلا أن هذا المنطق خاضع لسلطات أخرى ومؤسسات ذات سيادة تتحكم في الفعل التربوي في أبسط إلى أعقد ملامحه. تحكم أطلقت عليه الدراسات التربوية والفلسفية مصطلح الايديولوجيا. لذلك سعت هذه الورقة البحثية التنقيب عن ملامح الايديولوجيا في الخطاب التربوي، وبعض وظائفها داخل النظام التربوي عامة، مع تقديم نماذج لهذا تاريخية وحديثة.
الكلمات المفاتيح: الخطاب التربوي الموجه- الايديولوجيا- التزييف المعرفي – العلم الشامل- التمويه التربوي- العنف اللاخلاقي .
Abstract:
Education has been, and still is, a movement of societies in all its forms, beliefs and orientations. Today, it’s the opium of peoples and the engine of their wheels, either forward or backward. The reason for this tidal waives the absence of the power of self-leadership; because education is a cognitive – integrative- pragmatic- domain that combines theory and practice, despite its distortions and slips. However, this logic is subject to other authorities and sovereign institutions that control the educational act in simpler to the most complex features. A control called by the educational and philosophical studies ‘ideology’. Therefore, this paper sought to explore the features of the ideology in the educational discourse, and some of its functions within the educational system in general, while presenting historical and modern models of it.
Keywords: educational discourse oriented, ideology, cognitive counterfeiting, comprehensive science, educational camouflage, immoral violence.
مقدمة:
قامت التربية- بمفهومها الشامل والعام- على مر العصور، بخدمة توجهات سياسية واقتصادية واجتماعية ودينية… هذا التوجيه أثر في العملية التربوية فلسفة وتنزيلا وحصيلة؛ بمعنى أن التربية عملية إنمائية للفرد داخل المجتمع، لا تسير وفق المنطق التربوي الصرف، وإنما هي جزء من مشروع مجتمعي- مؤسساتي –ايديولوجي، تفرضه مؤسسات عديدة؛ إن بشكل مباشر أو غير مباشر. إن المصطلح المؤثر في هذه المتغيرات هو الايديولوجيا، باعتبارها المحرك الأساس للخطاب والعملية التربويين. هذا التداخل القائم بين التربية والايديولوجيا، والذي قد يصل إلى حدود التماهي، يجعل الباحث يتساءل حول نوعية هذه العلاقة؟ وكيف توظف التربية كحقل مجتمعي في خدمة أغراض لا تربوية، عوض العمل على خلق نظام تعليمي يتبنى قيم الحرية والديمقراطية واحترام حقوق الإنسان…. ومنه تكون التربية خيارا استراتيجيا للتنمية بدل جعل الايديولوجيا سياسة لإعادة إنتاج العلاقات القائمة داخل المجتمع.
مفهوم الأيديولوجيا:
ارتبط مصطلح الأيديولوجيا بدستوت دي تراسيوهذا في القرن 18، وكان يدل على العلم الشارح أو علم العلم، أو ما بعد العلم meta- science، ووظيفته الأساس البحث عن مصدر العلوم الأخرى، ولذا فهو نظرة براغماتية إلى العالم بأفكاره ومبادئه، ونظام يقدم أجوبة لكل شيء، حيث تنشأ في غماره المثاليات المعاكسة للواقع، لأنها تنطلق من اللاوعي،وتتجلى غايته في العمل على تحرير المعرفة من الإيمان والاعتقاد، إذ أعطى للعقل السلطة للتغلب على الخرافات والأساطير، ونشر الفكر والتشجيع على التفكير.
إن لمصطلح الأيديولوجيا استعمالات عدة ومعاني متنوعة، وكلها تقع خارج حدودها، ولهذا كان من الصعب، على من خاض في تجربة تعريف هذا المصطلح، الحسم فيه[1]، ومن أهم التعاريف التي خصصت له:
- سيرورة من إنتاج المعاني، والإشارات والقيم في الحياة الاجتماعية؛
- مجموعة من الأفكار التي تميز طبقة أو فئة اجتماعية؛
- أفكار تساعد على توسيع نطاق قوة سياسية؛
- أفكار خاطئة تعمل على فرض هيمنة قوة سياسية؛
- نظام من المعتقدات؛
قد يفسر سبب غموض مصطلح الأيديولوجيا، بكونه” فرعا من الدراسات الإنسانية، التي تبحث في طبيعة الفكر، ونشأة الصور العقلية عند الإنسان”[2]، وبكونه أيضا ” مفهوما غير عادي يعبر عن واقع ملموس فيوصف وصفا شافيا، وليس مفهوما متولدا عن بديهيات فيحد حدا مجردا”[3].
ومن الناحية التركيبية، يتكون مصطلح الأيديولوجيا من جزءين: الأولIdea ويعني الفكرة، والثاني Logos ويدل على العلم، ومن تزاوجهما Idealogie،نخلص إلى علم دراسة الأفكار.
هكذا، تدل الأيديولوجيا في معناها العام، على تصور معين للحياة يكون نتاج تأثير وتأثر بين محتوى تفكير الفرد والمجتمع، مما يولد انعكاسا على تفكير الفرد داخل المؤسسات المجتمعية، وأما في خصوصيته فهو” نظرة معينة، سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية، يسير عليها مجتمع معين، وتؤثر هذه النظرية، بطبيعة الحال، في تصرفات كل إنسان يعيش في المجتمع الذي تطبق فيه تلك النظرية”[4]، وهنا نحن ملزمون بالحديث عن مرادفات الأيديولوجيا؛ ومن بينها الوعي الزائف في البداية، والعرف والوثنية، وما أن يستقر هذا العرف، فإنه “يحصل على قوة الاستمرار الطويل، يدس الأخطاء والانتحالات (التي لم تكن قط بهذه الضخامة) في أذهان معظم الناس، لتشكيل الحقيقة التي لا يشوبها زيف وتمثيلها”[5].
لقد أضحت الأيديولوجيا ذلك العلم الشامل لنسقية الأفكار والعواطف التي تساعد الفرد للحكم على الكون، وتتولد من خلال”عملية تكوين نسق فكري عام يفسر الطبيعة والمجتمع والفرد، ويطبق عليها بصفة دائمة”[6]، وتتجسد في معتقدات وعادات اجتماعية، كانت منتشرة في الماضي، ومازالت تتكرر في صيغ متعددة كالقوانين والعادات في الوقت الحالي؛ أي إن معناها يكون بارزا حينما تشير إلى مضمون معتقدات سياسية أو دينية أو تربوية لفرد من الأفراد، حيث إن الأيديولوجيا تعمل على توجيه تفكير الفرد، إلى أن يتحول بطريقة لاشعورية إلى عبد لها، ويتصرف وفق منطق نوعها.
يرى عبد الله العروي، أن ” كلمة أيديولوجيا دخيلة على جميع اللغات الحية، وتعني لغويا في أصلها الفرنسي، علم الأفكار”[7]، وبهذا تحدد في بعدها الخاص “أفكار وأعمال الأفراد والجماعات، بكيفية خفية لا واعية”[8]، وأما في بعدها الكوني، فهي تعتبر زمرة من المقولات والأحكام المتعلقة بالكون، علما أن الأفكار تعبر عن مصالح لا حقائق، لتكون النتيجة،هي العدمية في جانبها الأخلاقي والفكري.
وإذا كانت الأدلوجة تدور في فلك اللاوعي لا تتبلور ولا تنتعش إلا في إطار نظرية اجتماعية وتاريخية بينهما تكامل ، فحصيلة ذلك حدوث “مشكل عدم مطابقة الوعي للواقع،في مسألة اضطراب الآلة الإنسانية التي هي من اختصاص الطبيب أو أستاذ المنطق”[9]، وتدل الأيديولوجيا حسب العرف، على “الأوهام التي يستغلها المتسلطون (الرهبان والنبلاء والأغنياء) ليمنعوا عموم الناس من اكتشاف الحقيقة”[10]، والمانع من ذلك هو كون الأيديولوجيا نظاما من المعتقدات.
قدم العديد من الفلاسفة تعريفات متباينة للأيديولوجيا، فمثلا شبه كارل ماركس الأيديولوجيا ب” مجموعة أوهام تعتم العقل وتحجبه عن إدراك الواقع والحقيقة”[11]، أي إنها قناع يواري قانونا أو وصفة تقدم التاريخ، وبعبارة نيتشه فالأدلوجة شبيهة بالستار الذي يحجب الحياة، فهي أوهام وحيل يتسلح بها الفرد ليواجه قوانين الحياة الصارمة، ولا تتحقق الأيديولوجية الماركسية إلا إذا تم ربطها بالبنيات الاجتماعية وطبقاتها، ورأى أن الفكر السائد هو فكر الطبقة الحاكمة، لكونها مالكة وسائل الإنتاج الفكري والمادي، لكن فلاديمير لينين لا يوافق على أيديولوجية ماركس بسبب كونها ذات حمولة سلبية، وبالتالي قدم لينين بديلا جديدا، وهو جعل الأيديولوجية زمرة ما أنتجته طبقة ما من المعارف والنظريات للتعبير عن مآربها ومصالحها داخل المجتمع، أي إن لكل طبقة أيديولوجيتها الخاصة. وأما أنطوان غرامشي، فقد منح للأيديولوجيا مساحة أكبر وعامة أيضا، فهي وعي زائف بالدرجة الأولى يعبر عن أنساق القيم والمعتقدات والأفكار والنظريات التي تتحرك ضمن مجال مجتمعي ما، في حين يعتبرها إنجلز “عملية ذهنية يقوم بها المفكر وهو واع، إلا أن وعيه زائف لأنه يجهل القوى التي تحركه، ولو عرفها لما كان فكره أيديولوجيا”[12]. وأما بالنسبة للفرد، فالأيديولوجيا تأخذ بعدا ذهنيا يجعل منها قناعا يبصر من خلالها العالم، في إطار مجتمعي، وفي هذا الصدد، يحضر سيغموند فرويد بثقله، معتبرا الأيديولوجيا مجموعة من الأفكار المتولدة عن تعاقل السلوك المناقض لقانون اللذة، الذي يعلب دورا هاما في وضع ملامح الحضارة وإرساء لبناتها.
ومن جانبه، فصل مانهايم بين الطوبي والأيديولوجي؛ فالوصف الأول هو “نوع من التفكير يتمحور حول تمثل المستقبل واستحضاره بكيفية مستمرة”[13]، بينما عد الأدلوجة “التفكير الذي يهدف إلى استمرار الحاضر، ونفي بذور التغيير الموجودة فيه”[14]، كما قسم الأيديولوجيا إلى:
- جزئية: تظهر حالة قيام الشك في صحة المقابل، مما يؤدي إلى تشويه الحقيقة والعمل على تحريفها.
- كلية: السمات المشتركة ضمن فكر جماعة تاريخية.
ما يعني إجمالا، أن الأيديولوجيا تعبير عن خلاصة التنافر والخلل القائم بين الواقع والفكر داخل منظومة ما كيفما كانت، وداخل مكونات الفرد؛ أي إن الفكر الأيديولوجي واليوتوبي سيظل قائما، “ما دام في المجتمع كيفما كان، أناس يستفيدون من تركيبة الأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وأناس آخرون لا يستفيدون منها أو يضارون فيها”[15]، بينما تبدأ الأدلوجة في نظر ألتوسير، “عندما يتحول الفرد الملموس إلى ذات تتوهم أنها مستقلة حرة متحكمة في الحركة التاريخية”[16]، غير أن هذه الحركة التاريخية محددة ومرتبطة بأهداف معينة في تصور هيغل.
المتضح إذا، أن الايديولوجيا”لا تعكس فقط ممارسة ومطالب طبقة اجتماعية واحدة، إنها تعكس الواقع الموضوعي من خلال تشويه وتدليس تلك الممارسة وتلك المطالب”[17]، وانطلاقا من عمليتي التدليس والتشويه تتولد النسبية، وتنتفي الحقيقة عبر استعمال جهاز مفهومي بعيد كل البعد عن المجال الزمكاني للحقيقة، كما لا تعكس العلاقات (الواقعية) الرابطة بين الأفراد، بل تعمل على إيهام تلك العلاقات، ومرد ذلك إلى استحالة تحقيق وتحقق تلك العلاقات.
وفي الأخير، ارتبطت الأيديولوجيا بمفاهيم عدة، يمكن تصنيفها في الجدول الآتي:
الأيديولوجيا | ||||
تقليد | بنية | وهم | روح | تعاقل |
عقل فردي | مجتمع إنساني | حياة | تاريخ عام | حيوان |
يتبين أن الأيديولوجيا فلسفة حياة، تكمن مهمتها في تفسير”علاقة الإنسان بالمجتمع والتاريخ تفسيرا عاما شاملا يكشف عن منطق التاريخ وحركته”[18]، مع العلم أن الأيديولوجيا ليست تلك” الفكرة المجردة أو العقيدة وإنما هي الفكر غير المطابق للواقع”[19]، وقد عملت الأيديولوجيا العربية على استعادة”مسار الفكر العربي، وهيلهذا السبب، متعالية عن المجتمع الذي تعبر عنه”[20].
لا يمكن للأيديولوجيا العمل خارج أسوار المجتمع، فهو المجال الذي تحدث فيه الاصطدامات والصراعات الفكرية داخل لاوعي الفرد، ليتجسد على أرض الواقع من خلال تبني تلك الأفكار، بمعنى”أن مفهوم الأيديولوجيا يقتضي وضعا اجتماعيا وتاريخيا خاصا، يعيش أثناءه الفرد المنتمي إلى جماعة أو طبقة أو مجموعة ثقافية، حالة تجعله إما عاجزا عن إدراك تعبير صادق تام ومستقيم عن واقع حياته العامة، بما فيها العلاقات السياسية والاجتماعية والتطلعات إلى المستقبل، أي إلى تصور الحاضر والماضي والمستقبل، وإما معكوسا أو مشتتا أو معكرا غير واضح”[21].
وظائف الأيديولوجيا:
ينبغي التأكيد أن الأيديولوجيا نشأت وبرزت بشكل كبير، بسبب الخلل القائم بين مؤسسات عديدة، ولعل أهمها:
- الذات لكونها تجسد كيانا منتجا للأفكار؛
- الموضوع: الأشياء المادية والمعنوية بشكل عام؛
- الوساطة: آليات تمثيلية تجمع بين الذات والموضوع.
زيادة على ذلك، لا تعرف الأيديولوجيا إلا بنوع وظيفتها،وكلما ساد فهم خاطئ بين تلك المؤسسات ووظيفتها، نتج وعي زائف يكرس ثقافة محددة وقاموسا مفهوميا معينا، لينتهي بها المطاف إلى خلق فرد مزيف من حيث الموارد، والقواعد المنظمة له.
إن ما يسهل عملية انتشار الفكر الأيديولوجي هو أن الأمم تتميز بالاختلاف “وتنظر إلى الأشياء بطرق مختلفة، وكذلك الجماعات والطبقات في المجتمع الواحد تنظر إلى الأمور بطرق مختلفة، يسميها كارل مانهايم طرز التفكير”[22]، وهذا الاختلاف نابع من الموروث الثقافي والاجتماعي والسياسي والتربوي خاصة أنه غير خاضع للعقلنة، ويرجع سبب عدم الخضوع، إلى أن الوعي الزائف عائق أمام عملية فهم الواقع بوصفه عملية ذهنية أولا، وبوصفه واقعا ثانيا[23]، وآت أيضا من ابتكار مجموعة أفكار “تعرض مع التأكيد على أنها حاوية لكل شيء، وليست في النهاية إلا تعبيرا عن أضيق النظرات الإقليمية، وإن اعتناق أية وجهة نظر تكون في متناول اليد، هو واحد من أكثر الطرق ضمانا لمنع الوصول إلى الفهم الذي يزداد اتساعا وشمولا، والذي هو مُمْكن اليوم”[24].
هل يمكن أن نتحدث عن عصر ما بعد الايديولوجية؟وإن كان هذا يعني ضرب كل الذي سبق بعرض الحائط، وإذا كان الجواب بالنفي في الظرفية الحالية، فهل من الممكن أن يتحقق هذا العصر؟ في مادة إنسانية “يمكن لكل شخص أن يتم إضعافه إلى هوية من الانفعالات غير المتغيرة أبدا، لذا فإن كل مجموعة من ردود الأفعال يمكن استبدالها بأخرى استبدالا عشوائيا”[25]، ويمكن إجمال هذا الموقف في مقولة ماركس “الظروف تحدد الشعور”، ولتفادي هذا الشعور الأيديولوجي والاستبدال العشوائي المتسيد في العقول، وجب “إذا أردنا أن نغير وجه الحياة التي نحياها، ألا نفتح كتب السالفين، لنروي عنهم ما قالوه، وننقل عنهم ما صنعوه، وإنما السبيل القويمة والوحيدة، هي أن نسأل عما يراد تحقيقه في (المستقبل)، فالماضي لا بد منه لا لنجعل منه نموذجا نحتذيه، بل ليكون مصدرا للإلهام فيما ينبغي أن نصنعه”[26]، علما أننا “الآن في مرحلة أوجد تجميع النظم الأيديولوجية الكبيرة، وأوجدت أخرى ضعيفة”[27].
تعمل الأيديولوجيا وظيفيا، على تسمية الأشياء بغير أسمائها، وتعطي للواقع صيغة غير التي يوجد عليها بهدف القابلية، بينما تلعب دورا تاريخيا داخل المجتمع، حسب لويس ألتوسير، فلها وجود فعال ضمن النسق العام للمجتمع المتكون، من تصورات وأساطير وأفكار وتخيلات، تفوق التنظير المعرفي.
ومع هذا، فالأيديولوجيا تلعب أدوارا مجتمعية من خلال مجموعة من الأجهزة، أو ما ينعت بحراس الأيديولوجيا، ولعل أبرزها:
- الدين: الكنائس والمساجد..
- المدرسة: الخاصة والعامة
- السياسة:الأحزاب والنقابات السياسية
- الإعلام: الصحف، الإذاعات، التلفزة..
- الثقافة: الفنون، الآداب…
كل ما ذكر، مؤسسات تسعى إلى إعادة إنتاج أفكار (توهيمية)، فمثلا يعمل النظام التربوي، باعتباره الموضع المركز لهذه الأطروحة، على تدوير أساسيات النظام القائم عبر المهارات التدريسية المقدمة للمتعلم في إطار فلسفة تربوية، كما يستهدف التوغل إلى وعيه لإعادة إنتاج قواعد ذلك النظام، دون أية مساءلة أو استفسار وهنا بالذات، تكمن خطورة الأيديولوجيا، لأنها تستهدف الجانب العاطفي عوض العقل، فهي تقدم نفسها على أساس أنها فوق العلم.
إن الأيديولوجيا وسيلة من الوسائل التي تركن إليها الدولة، أو المؤسسة كيفما كانت لتحقيق مصالحها، وتتجلى ملامح ذلك في مفهوم السلطة (العنف)، التي تعمل على إنتاج المعرفة، وفي مرحلة موالية تخدم هذه الأخيرة السلطة، عبر تأسيس حقول معرفية وقيم ونظريات تكرس منطق خدمة غايات السلطة ومصالحها،كما أنها تجعل الفرد يتوهم وجود تضاد وتعارض بين المعرفة والسلطوية، في حين تجمعهما علاقة تكامل وتعاون.
وتوافقا مع غايات الأطروحة، فإنه من المستحيل الفصل بين الأيديولوجيا والعنف، إلا بالعودة إلى بنية العقل في جانبه السلطوي، أو ما يسميه ميشيل فوكو “ميكروفيزياء السلطة”، وأيضا المعرفة المموضعة في القيم، وبالتالي لا يجب إغفال السياسية، ف”هي الشكل الذي يتحقق فيه تاريخ أمة، بين تعددية من أمم، وهي الفن العظيم للحفاظ على الأمة، (في شكل لائق) باطنيا، استعدادا للأحداث الخارجية”[28].
الخطاب التربوي والأيديولوجيا:
إن النسق المجتمعي في شموليته تتبلور فيه اتجاهات وقيم اجتماعية وعلاقات براغماتية، وتخضع لقواعد وضوابط تشكل قاعدة البناء المجتمعي، ولعل من أبرز هذه الاتجاهات نجد التربية والتعليم[29].
إن الأيديولوجيا بكل أشكالها تربطها بالعنف علاقة وطيدة، لا تظهر على السطح إلا في لحظات معينة، فهي رمز السيادة الشرعية، وصلة تتحكم فيها قوة اجتماعية أو سياسية، أو اقتصادية أو دينية… وأيضا قناع مؤثر وعامل يسهل نشاط المؤسسات، لأنها أسست على منطق القهر داخليا وخارجيا، فدورها يكمن في جعل الفرد هشا من كل الجوانب،فسبب العنف اللاقانوني واللاأخلاقي الذي تمارسه المؤسسة الحاكمة على العقل، يتجلى في:
- محاولة مؤسسة، وما هي إلا خليط من المعرفة والسلطة، يتغيى الاستحواذ على الفرد فكريا وعقائديا، بهدف السيطرة؛
- بروز الأيديولوجيا المضادة أو الفكر الجديد، سعيا نحو تبيان سلبيات السائد وأخذ مكانه.
فكلتا الحالتين لا إنسانية التوجه، إذ تجعلان الفرد غير مستقل الفكر، وتسلبان منه صفة الإنسان العاقل – المفكر، ولا أدل على ذلك من بسط المؤسسة الأمنية يدها، على المؤسسات الأخرى، لأنها ترى ذاتها مؤسسة فوق النقد والعلم، وإذا كانت الأيديولوجيا السياسية تركز على فئة معينة وهم السياسيين، فإن الأيديولوجيا التربوية ذات بعد عام، حيث تمس جميع الفئات المجتمعية مع اختلاف الدرجات، وهي التي تكون الأيديولوجيات الأخرى، وتتولى صناعتها، فتتشارك الأيديولوجيات، رغم الاختلافات القائمة فيما بينها، في اعتماد الأسلوب العاطفي لولوج سيكو-سوسيولوجية الجماهير، لكي تستمد شرعيتها وتعطي لحقيقتها البرهان والقوة، في التسلل إلى المؤسسات بكل أصنافها، وإن كانت أفكارها مشوهة.
انطلاقا من هذه الصورة، تكمن خطورة الأيديولوجيا في تحويل السلوك إلى معرفة، عبر التربية التي تعتبر محطة لتطاحن وتصارع الأيديولوجيا، إذ هي المتحكمة في قتل وإلغاء مشروعية، أو تشهير أيديولوجيا معينة وتطويرها، كما تتيح لها أن تشكل مشروع انتقال تأثيري من الفرد نحو الجماعة، والعكس أصح؛ حيث المصالح تصاغ صياغة فردية في قالب جماعي.
لا تتوفر الأيديولوجيا على منهج للإجابة عن إشكالات معينة، ولا تمتلك أساسيات الحجة، ولهذا فهي غالبا ما تقدم تصورات فرضية حول ما ينبغي أن يكون عليه الأمر في حقول عدة، وهذا ما يجعلها تقدم حقيقة مطلقة عن الكون، من خلال تفسير الظواهر وفق منظار بسيط، لكنها في الأصل تعيد صياغة حقائق جديدة تجاه موضوعها (الكون)، وبالتالي سيبقى السؤال الآتي عالقا: متى ستتحرر المجتمعات والتربية خصوصا، من الأيديولوجيا بكل أشكالها؟
تعتبر الأيديولوجيا خطابا يتسم بالتنوع وتعدد الأغراض، يسعى إثبات حقيقة ما في حقل معرفي محدد، رغم أن ميشيل فوكو وأتباعه رفضه، وأحل محله مفهوم الخطاب،وإن كانت هنالك قاعدة أساسية تقوم على: ما من خطاب خال من الأيديولوجيا.
يعد فعل التشويه الحاضر في الخطاب الأيديولوجي وجودا براغماتيا، حيث يعمل على إعلاء شأن قضية ما على حساب أخرى، أو موقف دون غيره. وفي حالة ما لم يتمكن هذا النسق الأيديولوجي النفعي من التغلغل في المجالات الحيوية داخل المجتمع، فإنه يعمد إلى تأسيس وعي هوياتي يحل محل تلك المجالات؛ أي إن الأيديولوجيا منتوج وضعي، وفكر بشري يتحول إلى خطاب إجرائي.
إن الأيديولوجيا في هذا السياق، تهتم بالمجتمع في عموميته لا بالفرد،وإضافة إلى هذا، فالأيديولوجيا الناجحة هي التي تتمتع بنوع من المرونة لتحقيق الطاعة والولاء، في حين يمكن أن تتخذ شكلا عدوانيا يقوم على”فرض آراء ذات ميول عدوانية على الأفراد والشعوب، بهدف الإرهاب والإذلال وبسط النفوذ في داخل البلاد وخارجها”[30].
يبقى السؤال المطروح، إلى أي حد تؤثر الأيديولوجيا على سلوك الفرد ومعتقداته؟ ومتى يمكن له ولوج معارف تخالف الأيديولوجيا المتضمنة في منهاج دراسي ما أو فلسفة تربية معينة؟
خلافا للمتقدم، هناك موقف يرى المؤسسة التعليمية قناة أولية في تحويل التربية الأيديولوجية والدينية إلى الجيل اللاحق، علما أنها” لا توجد فقط إلا على مستوى الأفكار”[31]، وإذا ما ربطنا الأيديولوجيا بقانون من قوانين التربية وهو الديمقراطية، فقد يعد الأمر من التناقض إذا اعتبرت مكونا من مكونات المنهاج الدراسي في مجتمع تتحكم فيه العقلية الأيديولوجية، لأن دورها يقتصر على رسم معالم المواطن المشارك في الحياة العامة، لكن وفق تصور العقلية المتحكمة التي ترى في ذلك الفعل تحقيقا للذات.
عرفت مارجريت ريد Margaret read التربية على أنها عملية الارتباط بالثقافة والتلاؤم معها[32]،وانطلاقا من هذا التعريف، حاولت مارجريت ريد الربط بين التربية والأيديولوجيا، جاعلة من التربية وسيلة فعالة لتشكيل نمط أيديولوجي محدد لدى الفرد.
ومما لا شك فيه، أن التربية جزء من استقرار الدولة وفق المبدأ الأفلاطوني، إلا أنه يظل مرتكزا في المجتمعات الديكتاتورية والشيوعية، مما يجعل التربية مضطرة إلى تشكيل وبناء أيديولوجيا تربوية تخدم مصلحتها، لهذا يستلزم الأمر أن تتخذ العلاقة العضوية “بين الحياة الاقتصادية والحياة التعليمية أشكالا مختلفة، تخضع في كل منها لظروف المجتمع، ورؤاه الدينية، وتطلعه الحضاري، وتدفقه التاريخي، إضافة إلى أوضاعه السياسية والاقتصادية والاجتماعية جميعا”[33].
إن من نتائج بسط الدولة (الأيديولوجيا) قديما،نفوذها على التعليم، عجز الأسبرطيين عن تحمل تبعات النصر وأعباء الحكم، لأنهم قد تدربوا على أن يسمعوا ويطيعوا، ولم يتم تأهيلهم لأن يفكروا ويتخذوا قرارات”[34]،وبروز مظاهر من قبيل الانحلال الخلقي والاجتماعي لديهم، حيث كان مرد ذلك إلى فشل النظام التربوي المعتمد.
في هذه الحالة، يقع الفرد بين أمرين”أولهما هو القوانين الصالحة، التي تحفظ للمجتمع صورته المثالية، وتحدد العلاقات بين أبنائه، وثانيهما هو التربية السليمة، التي تحول تلك القوانين إلى أيديولوجيا فردية أو اجتماعية”[35]، وهذا الإشكال يحتاج إلى الفصل بين قوانين التنظيم، التي تضمن للدولة استمرارها، وبين التربية الهادفة إلى تكوين مواطن غير خاضع لأفكار تقيد صفة المواطن فيه، والحل يتجلى في اعتماد سياسة الترسل، التي تفيد رفع الدولة يدها عن شؤون التربية والتعليم؛ بدعوى أن التعليم عملية طبيعية وأساسية في العمران البشري.
لقد كان للدين سلطة على كل المجالات الحياتية، وكان له الأثر العظيم على حياة الفرد الذي”عندما يفكر بلغة الدين يبدأ بالمثل، بدل البدء بالعالم المادي الذي يقع خارج حدود إدراكه، ويخلق أسلوبا ميتافيزيقا غير علمي في النظر إلى العالم، وهو غالبا ما يتناقض مع النظرة المادية العلمية، ومع تطور المجتمع”[36]، وبالتالي ينتج حالة من الرفض التام للواقع، والتشكيك فيه.
إن الوصول إلى هذه الحالة لم يأت عبثا، فقد تحقق بسبب تضييق مفهوم التربية عبر العصور، فمثلا ” رفض آباء الكنيسة تعليم الألعاب الرياضية والموسيقى والبلاغة والفلسفة المدنية، وأنكروا قيمة التربية كإعداد للحياة العملية، وحصروا المثل الأعلى للتربية الرومانية حتى ضاق، ولم يشمل إلا الدراسات الدينية والفنون الحرة”[37]، ومن نتائج ذلك الفصل التام والقاطع بين الفرد وحقائق الحياة المجتمعية، زرع أدلوجة ما تخدم هذا القطع.
وفي مرحلة لاحقة، قرر نابليون بونبارت الآتي:” ربما كانت مسألة التعليم أهم المسائل السياسية، لأنه لن تكون دولة ذات استقرار متين، ما لم يكن لديها هيئة تدريسية تعلم التلاميذ مبادئ مقررة واضحة يشبون عليها، وإذا لم نعلم الطفل منذ نعومة أظفاره، أن يكون جمهوريا أو ملكيا كاثوليكيا، أو ذا مذهب حر فلن تكون الدولة ممثلة للأمة، وإنما ستكون نظاما قائما على قواعد وهمية، معرضا للقلاقل والاضطرابات باستمرار”[38]، إذا فنابليون يؤكد دور التربية والتعليم وسيلة فعالة لتحافظ الدولة على سلطتها، وتضمن استمراريتها. لكن السؤال المحير، بالاستناد إلى مقولة نابليون، هل كل دولة مستغنية عن التربية فعلا أيديولوجيا مبنية على قواعد وهمية؟ أليس العكس هاهنا، هو السليم والصحيح؟ وبمناسبة استحضار نابليون بونابرت، فقد ربط بين الأيديولوجيا والقدحية، حينما حاول مجموعة من الفلاسفة نشر أفكار تعارض طموحات الإمبراطورية، واستمر الأمر على النهج نفسه إلى حدود الآن، لكن الأمر وصل به ليشمل الفكر، إذ يعد” كل فكر مصنف تحت باب الأيديولوجيا، فكرا عقيما حين يصل الأمر إلى الممارسة الفعلية”[39].
ولهذا المعطى، وجب اعتبار البعد التربوي لدى الأمم بصفة عامة والأمة العربية خصوصا، جانبا مقدسا بعيدا عن التزيين والتدخلات القسرية من أطراف معينة، قد تحول مساره الحقيقي إلى متاهات جذرية تدخله في دائرة المجال الميت، دون أية قيمة تذكر.
إن المتسائل عن سبيل بروز شكل من الأشكال الاجتماعية أو وضعياتها،والمفضي إلى تفسير معين أو عنصر أيديولوجي ما أو في الفكر الإنساني عموما،يجد أنهنتيجة أو جواب لارتباط تام بالوضع الحياتي الراهن الذي بنى تلك الوضعيات الفكرية،ورغم هذا فإنه”يستحيل الحصول على استبصار شامل بخصوص المشاكل، إذا كان الملاحظ أو المفكر محصورا في وضع معين في المجتمع”[40]. وزيادة على هذا، تلعب التقاليد الموروثة دورا سلبيا يعوق التطورات الجديدة، خصوصا تلك المرتبطة بأنماط التفكير، إضافة إلى غياب صفة الاعتراض عليها نظرية وفعلا، ولا شك أن الحصيلة وفق هذا المنطق، ستعرف سيادة نمط فكري جامد وثابت لا يصلح للزمن والقادم، بكل أبعاده ومستوياته.
يستوجب الأمر استحضار مفهوم جديد وهو التشكيل الأيديولوجي، الذي يعني”تكوين التصورات والاتجاهات والميول التي تحدد أنواع السلوك التي يسلكها الفرد، وأنواع العلاقات التي تربطه بالأشياء والأفكار وموقفه من كل منها، ومدى قبوله لها، أو رفضه لها”[41]. والمؤسسة التي تعمل على تعميق التشكيل الأيديولوجي هي المؤسسة التعليمية، ففيها”تصقل تلك القيم والاتجاهات والتصورات وتتبلور”[42]، علما أن هاته “الاتجاهات التي تتكون عند الشخص، تكون في أول الأمر متصلة بمواقف معينة، ثم تنمو الاتجاهات وتتجمع وتكون ما يسمى بالقيمة”[43].
غير أن هذا التشكيل ليس ثابتا، بل غالبا ما يتم وقفا للعديد من الميكانيزمات المتجلية في الخبرات والمواقف والضغوط بكل أصنافها، دون إغفال خصوصيات كل مجتمع، وكل عصر مع مراعاة الفرد داخل المجتمع في عصر ما.
كانت عملية الأيديولوجيا في الماضي تتم عبر التقليد اللاعقلاني للكبار، بحكم الصورة الموجودة للخلف عن أسلافهم، كما كان للطابع الديني سلطته على حياة تلك المجتمعات، وهذه السيطرة الدينية أعطت لمن يكون ويشكل هذا الخطاب سلطة، فالكاهن الذي يمثل السلطة المتعددة آنذاك، فقد كان هو العالم، والطبيب، والفلكي والرياضي… والفيلسوف في الوقت ذاته.
نماذج تربوية -ايديولوجية
1-الأيديولوجيا والإغريق:
ساد أن الحياة الإغريقية تحررت من الأيديولوجيا الدينية، عبر الدخول في شكل نظامي، إلا أنرغم التحول والتحرر، عادت المنظومة الإغريقية إلى جعل المؤسسة التعليمية في خدمة أغراض دينية، وليس لأهداف عامة اجتماعية أو تربوية خاصة، بل جعلتها حارسا من حراس الأيديولوجيا، يستهدف تكريس ثقافة الطاعة والولاء.
هذا الفهم الخاطئ للقاعدة التي تقول إن الحياة الإغريقية تحررت من السلطة الأيديولوجية، ولم يعد للسلطة الدينية مكان في فرض السيطرة ليس كما ينبغي، بل الصحيح هو تحول منظومة الدين؛ بمعنى أنها سلكت منحى جديدا غير الذي كانت عليه، وأعطت لنفسها وظيفة تمويهية، ولعبت أدوار جديدة داخل المجتمع، وفي نفسية الفرد أيضا.
وبالرغم من فكرة عصر انتهاء الأيديولوجيا، وبزوغ مفهوم المواطن الحر، فإن الأيديولوجيا تعمل على فرض طريقة معينة في التصرف، في حين يحلم الفرد بكيان اجتماعي خال من الفساد والظلم والانقسامات والعداء، ولهذا “من الضروري أن يصبح العلم والثقافة من العناصر الضرورية الأساسية في كل مشروع تربوي، وأن يندرجا في كل الفعاليات التربوية المخصصة للأطفال والشبان والكبار”[44].
إن من الضروري فهم الواقع التربوي وتفسيره، وللقيام بهذا لابد من استحضار تاريخ التربية، إذ “لا نستطيع أن نفهم الحاضر ما لم ندرس الماضي، فالماضي يوضح لنا ما بذل فيه من جهود، وما تحقق من هذه الجهود”[45]، غير أنه لا يمكن استدعاء تاريخ التربية باعتباره سردا للأحداث الماضي، بل بوصفه”حصرا متداخل للعلاقات، بين الناس والأحداث والأزمان والأماكن، يستخدمه الإنسان لفهم الحاضر، مثلما يستخدمه لفهم الماضي”[46].
إن صناعة النماذج يبقى نجاحها بارزا، فقط داخل الحدود التي تمت فيها صناعة ذلك النموذج، حيث لا يصلح لغير تلك البلاد التي نشأ فيها طبيعيا، ويبقى الفشل خارج حدودها أمرا حتميا، ولنا في تجربة محمد عبده ومحمد علي خير دليل، إلا أن الذي يعاب عليهما:
- ربط التعليم بحاجات الجيش، وحاجات الحكومة؛
- فصله عن التعليم الكائن (الأزهر)؛
- ظهور مفهوم الثنائية التعليمية.
- لم تقف التبعية عند حدود العصور الوسطى، بل امتدت إلى ما دون ذلك، فمذ نشأة المدارس الحديثة سنة 1821، كانت تابعة لديوان الجهادية أو ما يسمى بوزارة الحربية.
2-التربية والأيديولوجيا في الغرب:
تشكل القومية اللبنة الأهم في قيام نظام التربية والتكوين، ولا يمكن لهذا النظام أن يقوم إلا بها، ففي ألمانيا مثلا “كان للشعور القومي، وإيقاظ الكبرياء القومية، وتعزيز سمو القومية الألمانية على كافة قوميات العالم، والمطالبة بنظام تعليمي قومي لجميع الألمان، من العوامل المساعدة في بناء ألمانيا العظمى”[47]، وفي مقابل هذا برزت مؤسسات تعليمية مناهضة للنظام، سميت بمدارس الفوهرر، وكان نظامها التربوي يقوم على التربية السياسية الحزبية، من أجل خلق كفاءات قيادية.
وأما في اليابان، فالتعليم اتخذ صبغة المحلية واحترام الخصوصية اليابانية الخالصة، ورغم وجود تأثير غربي على العالم، فإن اليابان” لم تسمح للعادات والسلوكات الغربية أن تغزو قيمها وأخلاقها، أو تغير من طرق تربية الطفل الياباني، فما زالت التربية اليابانية لها طابعها المميز فيذلك”[48].
إن المثير في الأمر، أن اليابان تمتنع بكل أجهزتها عن فرض أو مباشرة أي تعليم ديني، رغم حضور الجانب الأخلاقي في فكرها التربوي، وفي السياق ذاته، يقول فيلسوف الكونفوشيوسية كيبارا إكن:” ليس الغرض من التعليم مجرد التوسع في المعرفة، بل الغرض هو تكوين الشخصية،وغاية التعلم أن نخلق من أنفسنا رجالا صادقين، قبل أن نكون رجالا عالمين…، إن دراسة الأخلاق التي كانت تعد عماد التعليم في مدارس العهد القديم، تكاد لا تجد مكانا لها في مدارسنا العربية اليوم، لكثرة ما يطلب إلى التلاميذ دراسته من مواد، وعدم توجه العرب إلى أن ينفقوا مجهودا ووقتا في إصغاء أبنائهم، إلى تعاليم الحكماء القدماء”[49].
3-النموذج المغربي
لم يخل المغرب هو الآخر من الأيديولوجيا، وعلاماتها ما صرح به المسيو هاردي، وهو مدير التعليم في مرحلة الحماية، من أن “التعليم الذي سيقدم لأبناء النخبة الاجتماعية تعليم طبقي، يهدف إلى تكوينهم تكوينا منظما في ميادين الإدارة والتجارة،وهي الميادين التي اختص بها الأعيان المغاربة،وأما النوع الثاني، فهو التعليم الشعبي الخاص بالجماهير الفقيرة الجاهلة جهلا عميقا، فيتنوع بتنوع الوسط الاقتصادي”[50].
ومن أبرز معالم الايديولوجيا في الخطاب والممارسة التربوية المغربية، قديما، حينما كان شيخ الزاوية، وهو ممثل الدولة والسلطة، يسطر لرجال أو متعلمي الزاوية” حياة مريدية تبعا لنسق من الأفكار والممارسات تزاوج تلك التي يستعملها رب الأسرة وسط أسرته ونسبه”[51]. ومنه تتولد علاقات تصبح خالفات وانتهاكات، تقود المريد نحو “شذوذ” المتمظهر في إرجاء الزواج من أجل خدمة الشيخ، الاستغلال الجنسي…. مع العلم أن لكل مريد أو ممثل سلطة جديد يسن قوانين جديد وخاصة به.
يتميز العصر الحالي تربويا، بالثورة التكنولوجية التي وضعت النظم التعليمية العربية في أزمة، وأحوجتها إلى المواجهة عبر استراتيجيات فعالة تعمل على “تحديث العقل العربي بجملته، وتمكينه من استيعاب روح العصر في صيغته السلمية، المجردة من عيوبها وسلبياتها،فهي تحديث يؤاخي بين العلم وما يتطلبه من منهجية عقلانية صارمة، وما يترتب عليه من تقنية دقيقة قابلة للتطبيق والاستثمار”[52] ، رغم ذلك، ف”لقد كان التعليم التقليدي، في عمقه، يشتغل لا وفق الغاية التربوية، وإنما يكرس للايديولوجيا المخزنية الرسمية، ومدعما لمشروعها السياسي والثقافي والمجتمعي”[53].
عرف وما زال النظام التعليمي التربوي العربي إصلاحات لمواجهة أزماته، إلا أنها كانت تتصف:
- بالجزئية: إذ غالبا ما تنطلق الإصلاحات من رؤى غير نظمية، زيادة على الاهتمام المفرط بالجانب الكمي؛
- التخطيط المستقبلي: تخطيط لا يكاد يبتعد عن الاستراتيجيات الكمية،والأساليب التقليدية؛
- الهدر المدرسي: ما زال هذا الإشكال يؤرق الأنظمة التربوية العربية، رغم الإنفاق الملحوظ على التعليم؛
- ضعف/لا فعالية المحتوى الدراسي: غياب القدرة على تضمين معارف جديدة، وبصيغة فعالة في المناهج الدراسية.
خلاصة
ختاما، نستنتج أن الايديولوجيا لم يخل منها أي حقل معرفي، فحتى المؤرخون” الذين يسجلون فقط الوقائع الكبرى، من أحداث سياسية وحروب دينية ونزاعات نظرية، يشاطرون رغما عنهم أوهام الحقبة التي يؤرخون لها”[54]، معتمدين في ذلك على أسلوب من أساليب الأيديولوجيا، والحديث هنا عن نظرية القلب؛ وهي نظرية تقوم على جعل الحقيقي خياليا، والواقعي وهميا والعكس صحيح، سواء أكان ذلك من حيث المقدمات أم الحصيلة أم العلل، ويمكن تسميتها بالأيديولوجيا الانقلابية[55]، وبهذا يكون التاريخ المقدم والواضح غير موضوعيا، لكون التاريخ لا يصرح بتشابكه للإنسان مباشرة. ومن مبررات هذا التسيس في التعليم العربي –التقليدي- هو ” الحفاظ على القيم التراثية الدينية السنية وتدعيمها إلى الحد الذي كان يقع فيه تجريم كل من أحال إلى أي إطار مرجعي ثقافي محدث أو مخالف للتصور التراثي التقليدي المهيمن، حتى ولو كان ضمن المرجعية الدينية ذاتها”[56]
ثانيا، إن الوهم / الأيديولوجيا لن يتم إضعافه إلا عبر التعليم القائم على التجريب، كما يدعو إلى ذلك فرنسيس بيكون Francis Bacon[57]، بغرض محو أفكار العرف، وإعادة البناء العقلي للأفراد.
ثالثا، خلص جون ميلتون john Milton إلى الإقرار بسيادة الأفكار الخاطئة في ذهن الناس بدل العقل، وتعاقلها بعبارة فرويد، قائلا:” لو كان الناس في دخيلتهم محكومين بالعقل، ولم يسلموا فهمهم عموما لطغيان مزدوج، للعرف من الخارج، والانفعال الأعمى من داخلهم لتبينوا بشكل أفضل معنى تفضيل ومناصرة طاغية يضطهد أمة، ولكن لأنهم عبيد داخل بيوتهم، فلا عجب أن يسعوا جاهدين لجعل الدولة العمومية، محكومة في يسر بنفس الحكم الداخلي الفاسد الذي يسوسون به أنفسهم”[58]، إذ كثيرا ما يتم جعل العقل في مقابل الأيديولوجيا، وهنا يطرح سؤال؛ أليس في العقل عناصر أيديولوجية، علما أن جون لوك يقر بغياب أفكار نظرية فطرية من وجهة نظر تجريبية، تخدم مسألة ما أو عقيدة ما، أو طبقة معينة…؟
قائمة المصادر والمراجع :
- ديفيد هوكس، الأيديولوجية، ترجمة إبراهيم فتحي، المجلس الأعلى للثقافة، 2000.
- ديفيد وولش، عصر ما بعد الأيديولوجية، ترجمة ساميه الشامي و طلعت غنيم، ط1، 1995.
- سليمان حسين، مضمرات النص والخطاب، دراسة في عالم جبرا إبراهيم جبرا الروائي، منشورات اتحاد كتاب العرب، 1999.
- عبد الغني عبود وآخرون، التربية المقارنة والألفية الثالثة الأيديولوجيا والتربية والنظام العالمي، ط1،
- عبد الله العروي، مفهوم الايديولوجيا، ط5، المركز الثقافي العربي، 1993.
- عبد الله حمودي، الشيخ والمريد، ترجمة عبد المجيد جحفة، ط4، دار توبقال- الدارابيضاء، 2010،
- كارل مانهايم، الأيديولوجيا واليوتوبيا، ترجمة محمد رجا الدريني، ط1، شركات المكتبات الكويتية، 1980.
- مصطفى محسن، أسئلة التحديث في الخطاب التربوي بالمغرب، ط1، المركز الثقافي العربي، 2001.
- Lucas Coté,Ideology in ideology,(mémoire) university du quebec, juillet 1995
- Terry Eagleton, Ideology, british library cataloguing in publication data, London, 1991.
-Terry Eagleton, Ideology, british library cataloguing in publication data, London, 1991, p1
[2]– عبد الغني عبود وآخرون، التربية المقارنة والألفية الثالثة الأيديولوجيا والتربية والنظام العالمي، ط1، 2000، ص: 31.
[3]– عبد الله العروي، مفهوم الأيديولوجيا، ط5، 1993، ص: 05.
[4]– عبد الغني عبود وآخرون، التربية المقارنة والألفية الثالثة الأيديولوجيا والتربية والنظام العالمي، ط1، ص: 31.
[5]– ديفيد هوكس، الأيديولوجية، ص: 30-31.
[6]– عبد الغني عبود وآخرون، التربية المقارنة والألفية الثالثة الأيديولوجيا والتربية والنظام العالمي، ط1، ص: 31.
[7]– عبد الله العروي، مفهوم الأيديولوجيا، ط5، 1993، ص: 9.
[8]– المرجع نفسه، ص: 11.
[9]– عبد الله العروي، مفهوم الأيديولوجيا، ط5، 1993، ص: 18.
[10]– المرجع نفسه، ص: 29.
[11]– المرجع نفسه، ص: 30.
[12]– المرجع نفسه، ص: 34.
[13]– عبد الله العروي، مفهوم الأيديولوجيا، ط5، 1993، ص: 47.
[14]– المرجع نفسه، ص: 47.
[15]– كارل مانهايم، الأيديولوجيا واليوتوبيا، ترجمة محمد رجا الدريني، ط1، 1980، ص: 53.
[16]– عبد الله العروي ،مفهوم الايديولوجيا، ط5، 1993، ص 94
[17]– المرجع نفسه، ص: 64.
[18]– عبد الله العروي، مفهوم الايديولوجيا، ط5، 1993، ص: 121.
[19]– المرجع نفسه، ص: 124.
[20]– المرجع نفسه، ص: 125.
[21]– سليمان حسين، مضمرات النص والخطاب، دراسة في عالم جبرا إبراهيم جبرا الروائي، ص: 11.
[22]– كارل مانهايم، الأيديولوجيا واليوتوبيا، ترجمة محمد رجا الدريني، ط1، 1980، ص: 11.
[23]– المرجع نفسه، ص: 161.
[24]– المرجع نفسه، ص: 170، بتصرف.
[25]– ديفيد وولش، عصر ما بعد الأيديولوجية، ترجمة ساميه الشامي و طلعت غنيم، ط1، 1995، ص: 31.
[26]– عبد الغني عبود وآخرون، التربية المقارنة والألفية الثالثة الأيديولوجيا والتربية والنظام العالمي، ص: 262-263.
[27]– ديفيد وولش، عصر ما بعد الأيديولوجية، ص: 32.
[28]– عبد الغني عبود وآخرون، التربية المقارنة والألفية الثالثة الأيديولوجيا والتربية والنظام العالمي، ص 188
[29]– عبد الغني عبود، بيومي ضحاوي وآخرون، التربية المقارنة والألفية الثالثة الأيديولوجيا والتربية والنظام العالمي، ط1، ص: 216.
[30]– عبد الغني عبود وآخرون، التربية المقارنة والألفية الثالثة الأيديولوجيا والتربية والنظام العالمي، ط1، ص: 29
[31]-Lucas Coté,Ideology in ideology,(mémoire) university du quebec, juillet 1995, p16
[32]– عبد الغني عبود وآخرون، التربية المقارنة والألفية الثالثة الأيديولوجيا والتربية والنظام العالمي، ط1، ، ص: 33.
[33]– عبد الغني عبود وآخرون، التربية المقارنة والألفية الثالثة الأيديولوجيا والتربية والنظام العالمي، ط1، ص: 177.
[34]– المرجع نفسه، ص: 47.
[35]– المرجع نفسه، ص: 48.
[36]– المرجع نفسه، ص: 146.
[37]– عبد الغني عبود وآخرون، التربية المقارنة والألفية الثالثة الأيديولوجيا والتربية والنظام العالمي، ط1، ص: 154.
[38]– المرجع نفسه، ص: 158.
[39]– كارل مانهايم، الايديولوجيا واليوتوبيا، ترجمة محمد رجا الدريني، ط1، 1980، ص: 143.
[40]– كارل مانهايم، الأيديولوجيا واليوتوبيا، ترجمة محمد رجا الدريني، ط1، 1980، ص: 150.
[41]– عبد الغني عبود وآخرون، التربية المقارنة والألفية الثالثة الأيديولوجيا والتربية والنظام العالمي، ط1، ص: 33.
[42]– المرجع نفسه، ص: 34.
[43]– المرجع نفسه، ص: 33.
[44]– المرجع نفسه، ص: 254.
[45]– المرجع نفسه، ص: 73.
[46]– المرجع نفسه، ص: 73.
[47]– المرجع نفسه، ص: 322.
[48]– المرجع نفسه، ص: 365.
[49]– المرجع نفسه، ص: 376.
[50]– المرجع نفسه، ص: 470.
[51] عبد الله حمودي، الشيخ والمريد، ترجمة عبد المجيد جحفة، ط4، دار توبقال- الدارابيضاء، 2010، ص 112.
[52]– عبد الغني عبود وآخرون، التربية المقارنة والألفية الثالثة الأيديولوجيا والتربية والنظام العالمي، ط1، ص: 437.
[53] – مصطفى محسن، أسئلة التحديث في الخطاب التربوي بالمغرب، ص 19-20.
[54]– عبد الله العروي، مفهوم الايديولوجيا، ط5، 1993، ص 60
[55]– تتسم هذه الايديولوجيا بالمثالية، لأنها لا تنسجم مع الواقع، بل تسعى تصحيحه.
[56] مصطفى محسن، أسئلة التحديث في الخطاب التربوي بالمغرب، ص 21.
[57]– فيلسوف ورجل دولة وكاتب إنجليزي(1561 – 1626).
[58]– ديفيد هوكس، الأيديولوجية، ترجمة إبراهيم فتحي، 2000، ص: 32.