
التواصل الجسدي ومداخل التأثير التربوي، تموقع المدرس بين الحركية والمكتبية : نحو مكتب بدون مقعد
Physical communication and introduction to educational influence:
Learners position between movement and passivity
-For office without a seat-
د.أيوب مهراز/أستاذ التاريخ والجغرافيا ثانوية محمود درويش، الصويرة، المغرب
د.كريم العرجاوي/جامعة القاضي عياض كلية الآداب والعلوم الإنسانية، مراكش، المغرب
مقال منشور في مجلة جيل العلوم الانسانية والاجتماعية العدد 55 الصفحة 39.
Abstract:
This attempt falls within educational resources which deal with educational Communication in general and physical communication more specifically: which is considered a domain which the academy crew search has not dealt with as much as it dealt with its verbal counterpart. In this context theory of situational communication appeared as a type of nonverbal communication which receives huge importance due to the real chances that it allows for the class group to be integrated homogene. It also plays a huge role in motivation to Learners and improve in there focus level and their desire to active participation in constructing knowledge we considered situational communication one of the necessary conditions to improve the profission and build an active and dynamic teacher instead of a passive one. From this framing this attempt tries to answer the following questions: what is the context of this theory? what are the means to educationally assimilate it didacticaly in the Moroccan School in both the rural and urban areas?.
Keywords: Physical communication – Positionnement – The Student – Teacher
ملخص:تندرج هذه المحاولة ضمن البحوث التربوية التي تعنى بالتواصل التربوي بشكل عام، والتواصل الجسدي بشكل خاص، باعتباره مبحثا لم توغل فيه معاول البحث الأكاديمي مقارنة بنظيره اللفظي. في هذا السياق برزت نظرية “التواصل التموقعي“، كشكل من أشكال التواصل غير اللفظي، والذي يحظى بأهمية كبيرة لما يتيحه من فرص حقيقية لاندماج وانسجام جماعة القسم، وكذلك تحفيز المتعلمين وزيادة مستوى تركيزهم وانتباههم ورغبتهم في المشاركة الفعالة والمسؤولة في بناء التعلمات، الشيء الذي يمكن من خلاله اعتبار التموقعية أحد الشروط الضرورية لتطوير المهنة وصناعة المدرس الدينامي بدل المدرس الجامد. انطلاقا من هذا التأطير تسعى هذه المساهمة إلى الإجابة عن التساؤلات التالية: ما سياق هذه النظرية؟ وما سبل استيعابها التربوي وأجرأتها الديداكتيكية في المدرسة المغربية بوسطيها الحضري والقروي؟.
الكلمات المفتاحية: التواصل الجسدي _ التموقعية _ المدس _ التلميذ مقدمةتأتي هذه المساهمة في سياق تربوي واجتماعي متحول تشهده منظومة التربية والتكوين بالمغرب، تحوّل يسِمه هاجس المهننة والرغبة في الارتقاء بالمدرسة وتطويرها وضمان مواكبتها لمستجدات الانتاج المعرفي والعلمي الدوليين. ولتحقيق هذا المسعى،بادر العديد من الباحثين والمفكرين في حقل التربية والتعليم والتكوين (بشكل جماعي أو فردي/رسمي أو خاص)،بالانفتاح على أهم انتاجات الفلسفة وسيكوسوسيولوجيا التربية وديداكتيكها، عن طريق البحث النظري والميداني والتأليف والترجمة وتجريب التطبيقات،وأجرأت المفاهيم الجديدة ذات الصلة على أرض الواقع، ودراسة مدى انسجامها مع خصوصيات المدرسة والإنسان المغربيين.
في هذا السياق، ونظرا لأهمية التواصل في الفعل التربوي، حاولنا الانفتاح على أهم ما جادت به المدارس الغربية في علوم التواصل، وأهم سبل تكييف هذه الانتاجات مع سيرورة تطور مؤسسة إنتاج القيم على الصعيد المحلي.
وقع الاختيار على نموذج التواصل غير اللفظي، باعتباره مبحث لم توغل فيه معاول البحث الأكاديمي المغربي مقارنة بنظيره اللفظي، وهو ما أتاح الفرصة للاطلاع على صنوف جديدة، يتم تجريبها في عدد كبير من محركات البحث والميادين الحياتية التي يكون شريان التواصل عصبها. من هذه الصنوف، نظرية “التواصل التموقعي”. فما سياق هذه النظرية؟ وما سبل استيعابها التربوي وأجرأتها الديداكتيكية في المدرسة المغربية بوسطيها الحضري والقروي؟.
سياق رصد الظاهرة:
في إطار تتبعنا للسياقات المواكبة للعملية التعلمية-التعليمية، وتدبيرنا لفضائها (الفصل الدراسي)، اتضح لنا أن التواصل التربوي غير اللفظي يحتل مكانة مهمة في بعث الحياة الفصلية، تلك الروح المفعمة بالحياة، وبالجدية، وبالتحصيل الجيد.
ومما لا شك فيه أن لكل ظاهرة سياقا يؤطرها ويبرز معالمها، ويؤشر عن جذورها. لذلك فاكتشاف أهمية “التموقع”في الفصول الدراسية، جاء نتيجة عدة ملاحظات مباشرة وموجهة، شملت عدة أقسام ومستويات. ومن تم، ارتأينا إلى تحديد عينة الدراسة في قسمين (من نفس المستوى)، تحملنا فيهما شخصيا مسؤولية الفعل الديداكتيكي، وقسمين آخرين في إطار الملاحظة الفصلية مع زملاء المهنة. إذ لوحظ بشكل متكرر أن الجلوس بالمكتب “التموقع الجامد” ولو لعشرة دقائق، ترافقه وشوشات هنا وهناك، كما تقل معه نسبة مشاركة المتعلمين، ويضعف الانتباه لديهم. بينما التحرك في القسم خصوصا أمام السبورة والتجول بين الصفوف، يزيد من نسبة المشاركة ويعزز الانضباط، ويحافظ على الهدوء والانتباه، كما يساهم في خلق نوع من الألفة والانسجام بين جماعة القسم. وقد تم العمل على إعادة “التجربة” للتحقق من وجود فرق بين التموقع المتحرك والتموقع الجامد، وتأكد بشكل واضح أن هناك فروقات واضحة، ترتبط بالانتباه والمشاركة والانضباط كما أسلفنا الذكر.
لهذه الاعتبارات تم اختيار دراسة تموقعية المدرس والبحث في آثارها على انتباه وتركيز ومشاركة المتعلمين.
تأطير وتعريف:
يتميز التواصل التربوي بأهمية معتبرة، إذ يعد من أساسيات نجاح التعلمات داخل الفصل الدراسي. ومما لا شك فيه أن مظاهر التواصل تتنوع، كما تتعدد أبعاده، فهناك تواصل لفظي منطوق، وتواصل غير لفظي يعبر عنه بلغة الجسد والرموز التصويرية… كما نجد التواصل التموضعي، الذي يرتبط باستثمار وتدبير الحيز المجالي للقسم، إذ يُمكن من التخفيف من حدة وآثار الاكتظاظ، وكذا عدم انضباط المتعلمين وضعف منسوب الانتباه لديهم. بالمقابل يرفع التموضع الجيد من حافزية المتعلمين على المشاركة… وقد أشارت التوجيهات التربوية[1](الخاصة بإحدى المواد الدراسية) إلى كون التواصل التموضعي يعتبر آلية تتيح إمكانية تنويع طرائق التنشيط، لأن كل طريقة تتطلب تدبيرا خاصا لمجال الفصل الدراسي. لهذه الأسباب يمكن اعتبار التواصل التموضعي – الذي يشير إلى حركية المدرس داخل الفصل- أحد مرتكزات المهننة. للوقوف على دور تموقعية المدرس في بناء التعلمات والتحصيل الدراسي لدى المتعلمين، لدى عملنا على رصد تمثلات ومواقف المتعلمين حول تموقعية المدرس لفهم الظاهرة فهما عميقا، وتفكيكيها بغية الخروج باقتراحات إجرائية تكون بمثابة إسهامة نوعية في مجال البحث.
ومن تم، فهذهالمساهمة تتضمن شقين:
- الأول، نظري: يعرف ببنيات الفصل، وآليات التواصل التموضعي، والقواعد التي تحكم تدبير المدرس لفضاء التعلم، سواء تعلق الأمر بمجال الفصل الدراسي، أو ببيئته باعتبارها بيئة سوسيوعاطفية (مجتمع مصغر).
- الثاني، ميداني: دراسة ميدانية تعبر عن آراء المتعلمين حول أهميةآليات تدبير فضاء الفصل الدراسي في عملية التواصل، انطلاقا من بحث ميداني استند على عينة من المتعلمين تم استجوابهم حول عناصر الموضوع بطريقة شبه موجهة. إذ تتكون هذه العينة من تلاميذ الجذع المشترك، عددهم 50 تلميذا وتلميذة، متوسط عمرهم ما بين 16 و17 سنة، يتتلمذون بإحدى مؤسسات التعليم العمومي بالعالم القروي (مؤسسة علال الفاسي التأهيلية، بالجماعة القروية امرامر، مديرية وزارة التربية الوطنية والتكوين المهني والتعليم العالي والبحث العلمي بالصويرة_المغرب)، على يد 42 أستاذا وأستاذة، ويبلغ عددهم/ن حوالي 634، منهم حوالي 102 تلميذ بالجذع المشترك[2].
الجنس |
توزيع المتعلمين بالعينة المدروسة |
الإناث |
22 |
الذكور |
28 |
المجموع |
50 |
فضاء التعلم والبيئة السوسيونفسية:
يعتبر الفصل الدراسي بيئة مادية وسوسيونفسية، فهو بمثابة مجتمع مُصغر يجمع المدرس بالمتعلمين، هذا يحتم وجود انسجام واندماج وتفاعل بين أفراد جماعة القسم. بحيث تتأثر هذه التفاعلات بالظروف النفسية والاجتماعية للمدرس والمتعلمين، وتتم في إطار بيئة مادية تتعلق باستغلال المدرس لمجال الفصل الدراسي. وتتألف “البيئة المادية من العناصر والشروط التي تتوفر داخل حجرة الدرس، وتضم بناء الفصل، مساحته، تنظيم الطاولات، لون الفصل، تهويته، إنارته وسهولة الحركة الداخلية فيه… أما البيئة السوسيونفسية فهي عبارة عن تركيبة من المتعلمين، يشكلون مجتمعا مصغرا يتفاعل فيه كل طرف بسماته وقدرته وميوله وحاجاته النفسية المتعددة مع الآخرين”[3].
تتعدد الأسس النفسية والاجتماعية لبيئة الفصل الدراسي، وتعتبر هذه الأسس بمثابة قنوات تربوية تواصلية لتوجيه وتمرير الممارسات الفصلية. مما يتطلب إدراك وإلمام المدرس بصفته قائدا للجماعة، للكثير من الأسس التي تهيكل وضعية المتعلمين (انتباه، تركيز، شرود، اندماج، انسجام، انعزال…) وحافزيتهم (المشاركة الفعالة، الطمأنينة وانشراح تعابير الوجه، إنجاز الواجبات، حسن الإنصات وانتظام المشاركة…).
ترتبط هذه الأسس السوسيوسيكولوجية بحاجة المتعلم إلى النجاح الذي يعزز ثقته بنفسه ويجنبه قلق التفكير في الفشل، كما الحاجة إلى الحب والانتماء لمجتمع الأقران، الحاجة إلى الحرية والإحساس بالمساواة في بناء التعلمات دون تمييز أو إقصاء أو ترهيب، فضلا عن الحاجة لسلطة ضابطة (زاجرة في بعض الأحيان)، وحاجته كذلك إلى زرع القيم والمعايير الإنسانية. مما يجعل المدرس قائدا لجماعة القسم التي تتعرض لشتى الخبرات والوضعيات المشكلة بشكل يساهم في تهيئة المتعلم للتكيف الاجتماعي ويكسبه/ يرسخ له الموارد ويتيح له الاندماج والتفاعل والعيش في مجتمعه المُصغر (القسم)… ومما لا شك فيه أن الظروف السوسيوسكولوجية للمتعلمين تتأثر بطبيعة حضور المدرس وحركيته، كما تُؤثر فيه في نفس الوقت، كأننا بصدد ملاحظة صراع بين الاندماج والتنافر، ومعناه حركية المدرس ينتج عنها اللاتهميش للمتعلمين، وبمقابلها، نجد الانعزال ومعناه جمود المدرس وتهميش المتعلمين والاكتفاء فقط بالاندماج الكلاسيكي (رفقة المقاعد الأمامية).
- التموقعية وطبيعة تحركات المدرس داخل الفصل:
- مفهوم التموقعية La proxémique :
يشير مفهوم ” La proxémique ” إلى الإبلاغ الحيزي، ويسميها البعض بالتموقعية أو التموضعية، التي تعبر عن دلالة الفضاء الفاصل بين المتخاطبين التي تنضاف إلى الإرسالية اللفظية المنطوقة، إذ يعبر حجم المسافة في عملية الإبلاغ عن طبيعة العلاقة “رسمية، تراتبية، حميمية…”. وفي هذا السياق تؤكد آلاف التجارب أن كل فضاء يتواصل بشكل خاص، حسب طبيعة تنظيمه المختلفة في كل ثقافة، لذلك نجد أن الروابط والمشاعر المنطلقة من أحد أفراد ثقافة ما دائما تعني شيئا آخرا في ثقافة أخرى”[4].
يعرف “إدوارد تي هول التموقعية / التموضعية، بكونها مجموع الملاحظات والنظريات المتعلقة باستعمال الإنسان للمجال من حيث هو إنتاج ثقافي، فهي دراسة تنظيم المجالين الزماني والمكاني، والمسافة بين المرسل والمرسل إليه، وكيفية تنظيمها أثناء عمليات التواصل، تبعا للموقع الاجتماعي والخصوصيات الثقافية للمتواصلين”[5].
تعطي “التغييرات المكانية طابعا خاصا للاتصال، إنها تؤكده وفي بعض الأحيان تهيمن حتى على الكلمة المنطوقة فيه. إن تغير المسافة بين الناس والحركة المستمرة فيها أثناء تفاعلهم مع بعضهم البعض هو جزء لا يتجزأ من عملية الاتصال. إن مسافة المحادثة الطبيعية بين الغرباء خصوصا توضح كم هي مهمة في ديناميكيات التفاعل المكاني فإذا اقترب شخص ما كثيرا فإن التفاعل يكون فوريا وآليا من طرف الشخص الآخر الذي يتراجع بشكل عفوي”[6].
من خلال مفهوم التموقعية أو التموضعية، يبدو واضحا أن التواصل لا يقتصر على المنطوق فقط، بل يتعداه إلى استعمال واستثمار الزمان والمكان، لكون المسافة بين المرسل والمتلقي ليست اعتباطية، بل تخضع لمجموعة من القواعد والمعايير التي تترجم نوايا وأهداف المتخاطبين، ففي “مجال التعليم يختار التلاميذ مواقعهم حسب العلاقات بينهم ومواقفهم من المدرس والمادة، فيما يختار المدرس تموقعه داخل الفصل الدراسي مراعيا عدة اعتبارات”[7].
- طبيعة تحركات المدرس داخل الفصل الدراسي:
يعتبر المدرس هو المسؤول عن جماعة القسم، حيث ينتقل بشكل طليق من مكان إلى آخر داخل الفصل الدراسي، تارة يجلس في مكتبه وتارة أخرى يقف أمام المتعلمين، كما يتجول أحيانا بين الصفوف. في حين يتموقع المتعلمون بشكل ثابت بمقاعدهم. خلال تحرك المدرس تختلف تموقعات المتعلم داخل الفصل وهو يباشر تدبير الأنشطة استنادا إلى الوضعية التعليمية المراد إنجازها وتتخذ تموقعاته بالنسبة للمدرس الوضعيات الآتية[8] :
- وجها لوجه: يقف المدرس مقابلا للمتعلمين ويتبادل النظرات معهم أثناء تدبير التعلمات.
- جنبا لجنب: يقف المدرس جنب المتعلم في وضعيات كثيرة تقتضي ذلك، مثل تقديم شروح بشكل انفرادي لأحد المتعلمين.
- ظهرا لظهر: يدير المدرس بظهره للمتعلمين عندما يتجول بين الصفوف وهو يقدم الشروح مثلا، ليتجاوز التلاميذ الأماميين ليصبحوا خارج دائرته.
مـثـال:
- وضعية تقديم المدرس لشروح: التموقع المناسب هو: وجها لوجه مع المتعلمين.
- وضعية المشاركة الجماعية أو المجموعاتية: جنبا لجنب / وجها لوجه.
- المدرس والتموقع الجامد – المكتبي:
يعد المكتب رمزا للجدية والمهنية في العمل، إذ يتيح فرصة معتبرة لتنظيم العمل وترتيب الوثائق المرتبطة به، كما يضمن الجلوس بأريحية تُيسر العمل وتقلص من الجهد الذي يبدل، وبذلك يساهم في المحافظة على نشاط الجسد رغم إرهاق العقل. لكن رغم ذلك فالمكتب ليس دائما رمزا للعمل الجاد والمسؤول، بل يصبح أحيانا مدعاة للكسل والخمول. فإذا كان الجلوس مطلوب بالنسبة لموظف بشركة ما يشتغل على وثائق وحاسوب، فلا شك أنه منبوذ ومكروه من طرف موظف بهيئة التدريس يشتغل ضمن جماعة يعتبر هو قائدها ومحركها.
يعتبر جلوس المدرس بمكتبه مؤشرا قويا على التقابلية بين المرسل والمرسل إليه. تقابلية تحد من اندماج جماعة القسم وتضع نوعا من الحدود التواصلية، خصوصا في القاعات ذات الأرضية المستوية، حيث تصبح المقاعد الخلفية هامشية ويكون الاندماج كلاسيكيا وحكرا على مقدمات الصفوف فقط. كما يعمق ذلك التموقع الجامد مسافات تواصلية ذات دلالة تواصلية تشير إلى علاقة تراتبية ورسمية، بعيدة عن العلاقة المأمولة بين المدرس والمتعلمين والتي تتمثل أساسا في علاقة تفاعلية وحميمية إلى حد ما، تؤشر عن الاندماج والانسجام بين أفراد جماعة القسم.
يتأقلم المتعلم بشكل عفوي مع تموقع المدرس، فهو المنصت والمركز والمشارك حينما يتحرك المدرس بطلاقة أمام السبورة ويتجول بين الصفوف. ونفس المتعلم يتحول إلى المُشوش والشارد والمشاغب حينما يستسلم المدرس للإرهاق ويركن للمكتب. هذه الازدواجية ربما نجد تفسيرها في طبيعة المرحلة التي يعيشها المتعلم و التي تتميز بالاندفاع والتمرد وكذلك السعي الدائم لانتزاع الاعتراف به كشخص ناضج ومفكر. لذلك ليس غريبا أن نجد نتائج البحث الميداني شبه متناقضة مع رغبة المتعلم الدائمة في الوشوشة والتشويش والشرود، والشكل البياني التالي يوضح موقف المتعلم من التموقع الجامد للمدرس.
يلاحظ من خلال الشكل البياني، أفضلية التموقع “وجها لوجه”، فقد عبر أربعون متعلما من أصل خمسين على تفضيلهم تحرك المدرس أمام السبورة، ويبدو أنهم يقرنون تموقعية المدرس بالشرح كما عبر الكثير منهم. لذلك يفضلون تحركه أمام السبورة لأن ذلك يضمن دمج الجميع على عكس التحرك بين الصفوف “ظهرا لظهر” الذي يستثني فئة لصالح فئة أخرى، لذلك تجد أغلبية هذه الفئة اختارت كذلك التحرك الدائم أمام السبورة وبين الصفوف، ويمكن تفسير ذلك بالإحساس بالهامشية بالنسبة للمقاعد الخلفية، لذلك تجدهم يفضلون تموقعية أكثر حركية لأنها تضمن لهم القرب من المدرس والاندماج أكثر في بناء التعلمات. أما بالنسبة لاختيار تحرك المدرس بين الصفوف وجلوسه بالقرب من المتعلمين، فقد عبر اثنا عشر متعلما فقط من أصل خمسين عن قبوله، ويمكن تفسير ذلك إلى أن هذا النمط من التموقع يعبر عن اختراق المدرس للمنطقة الحميمية للمتعلمين، ويمكن أن نفترض أن جواب المتعلم كان مقرونا باستحضار جلوس المدرس قربه، ومما لا شك فيه أن ذلك يؤثر على تركيزه ويشعره بالارتباك، لهذا على المدرس أن يحترم المنطقة الحميمية للمتعلمين (50 سنتم). أما بخصوص اختيار جلوس المدرس بالمكتب، فلم يتعدى أصحاب هذا التموقع الجامد سوى ثلاثة متعلمين، ويمكن أن نفسر ذلك بانتمائهم إلى فئة المشاغبين الذين يتصيدون الفرص للتشويش، من خلال سلوكات خفية تفضحها تحركات المدرس لذلك تجدهم يفضلون جلوسه بالمكتب لأن ذلك يتيح لهم فرصة الوشوشة والشغب الخفي.
من خلال هذه النتائج تبدو بشكل واضح أهمية التموقع المتحرك للمدرس، خصوصا التموقع أمام السبورة “وجها لوجه” أثناء الشرح، والتحرك بين الصفوف أثناء صياغة وتركيب التعلمات بشكل جماعي، مستغلا تلك الفرصة لمراقبة الدفاتر والتقرب من المتعلمين المنعزلين والصامتين واحتضانهم قصد دمجهم في جماعة القسم.
- المدرس والتموقع المتحرك – الفصلي:
تضمن تحركات المدرس فرصة حقيقية لاندماج المتعلمين وانسجام جماعة القسم، فعلى عكس التموقع الجامد الذي لا يخرج مدار تأثيره على الصفوف الأولى، فإن مدار تأثير التموقع المتحرك يشمل الفصل الدراسي دون استثناء. فيتحقق التركيز وتزيد نسبة المشاركة ويحافظ المتعلم على انتباهه، كما يخلق ألفة وود بين المدرس والمتعلمين. رغم طبيعة المرحلة التي يمرون بها المتلعمون إلا أنهم يدركون تمام الإدراك حجم الإرهاق الذي يطال مدرسهم من وقوفه لأربع ساعات متواصلة مثلا. لذلك تجدهم يحاولون أن يكونوا في مستوى حركية المدرس بحركية مقابلة تتجلى في التركيز وحسن الإنصات والالتزام بالتوجيهات والمشاركة الفعالة. ويمكننا أن نبرهن على هذا الطرح بمؤشرات عدة، ترتبط بإحساس المتعلم ومواقفه ودور مقعد الجلوس في المشاركة، والشكل البياني يقدم فكرة عن موقف المتعلم اتُّجاه تموقعية المدرس.
يعبر المبيانعن مدى اندماج جماعة القسم في علاقته بتموقعية المدرس، ويمكن اعتبار مواقف المتعلمين جد مُشجعة ومحفزة، حيث عبر 62% من المتعلمين المبحوثين عن عدم تهميش المدرس لهم أينما جلسوا، بينما عبرت النسبة المتبقية أي 38%، عن شعورها بنوع من الهامشية مرتبطة إما بتوزيع النظرات أو بقلة التحرك بالقرب من مقاعدهم. يمكن الاستناد في تفسير هذه النتيجة إلى طبيعة القاعة الواسعة، لذلك يقل تحركه خصوصا بالصف الأيمن المقابل للباب، بحكم بعده عن السبورة. رغم ذلك تعتبر مواقف المتعلمين عموما جد محفزة للعمل على دمج العناصر المنعزلة والصامتة، واستثمار أكبر للبيئة المادية بشكل يتماشى مع طبيعة الفصل الدراسي.
مما لا شك فيه، أن موقف المتعلمين اتُجاه تحركات المدرس داخل الفصل خلال الحصة الدراسية، ينعكس على جوانب أخرى، خاصة فيما يتعلق بتحفيز المتعلمين على المشاركة، والشكل البياني التالي يوضح تأثير تحركات المدرس على المشاركة.
يعبر المبيان عن عمق العلاقة التي تربط ما بين تحركات المدرس واستثماره البيئة المادية للفصل الدراسي، والتحفيز على المشاركة. تميزت النتائج بالتأكيد على هذا الارتباط، إذ عبر 82% من المتعلمين المبحوثين عن تشجيع تحركات المدرس لهم على المشاركة في بناء التعلمات، في حين عبر فقط 12% عن عدم تأثيرها على قابليتهم للمشاركة، بينما عبر فقط 6% منهم على أن تحركات المدرس لا تشجعهم على المشاركة، ويبدو أن هذه الفئة هي نفسها التي تفضل التموقع المكتبي للمدرس، ويعزى ذلك لطبيعة هذه الفئة المتميزة بكثرة الحركة والوشوشة، ما يجعلها تتضايق من تحركات المدرس لأنها تشكل أداة ضابطة وزاجرة لنزوعهم الفوضوي.
انطلاقا مما سبق يبدو واضحا تأثير تموقعية المدرس على إحساس المتعلم بالهامشية وحافزيته للمشاركة في بناء التعلمات، ولاختبار صحة هذا الافتراض، يجب العمل على إبراز علاقة المشاركة بمقعد الجلوس، لكون فعالية تموقعية المدرس تجعل من مقعد الجلوس عاملا ثانويا في تحفيز المتعلمين على المشاركة.
- أثر مكان جلوس المتعلم على حافزيته للمشاركة:
يعد مكان جلوس المتعلمين المؤشر الأول عن حافزية المتعلم للمشاركة في بناء التعلمات. إلا أن هذا التصور النمطي الكلاسيكي لدور “المقعد” في اندماج المتعلم وفعاليته، تكذبه أدبيات التصور الراهن لبناء التلعمات التي تنشد تحقيق قدرات متعددة لا تنحصر فقط في الجانب المعرفي، بل تتعداه لتشمل ما هو منهجي ووجداني، إذ يصبح المتعلم روح التعلمات وجوهرها. الشيء الذي يطرح تساؤلا مقلقا، ويمكن اختزاله في السؤال التالي؛ كيف يتم الاعتراف بالمتعلم كمنطلق للتعلم وغاية له ومحوره الرئيس ؟ في ظل أفضلية أماكن الجلوس عن أخرى، فمن المعلوم أن المقاعد الأمامية تشكل فرصة حقيقية لتحصيل دراسي مريح، وبمقابل ذلك، فالمقاعد الخلفية تهدد تلك الفرصة وتزيد من احتمالية الفشل الدراسي.
تحضر في هذا السياق، التموقعية كمرجعية للتخفيف من أثر مكان جلوس المتعلم، والعمل على اندماجه وتحفيزه على المشاركة الفعالة في بناء التعلمات بدل استهلاكها فقط. لأن تموقع المدرس وحركيته وتوزيعه للنظرات بشكل “ديمقراطي”، كلها عوامل تدفع المتعلم للاندماج والانسجام والذوبان في جماعة القسم، كما تحفزه على المشاركة، دون أي اعتبار لمكان جلوسه سواء كان أماميا أو خلفيا. وبالتالي تعتبر التموقعية حسب هذا الطرح، أداة لتوفير شرط التحصيل العادل والمتساوي بين المتعلمين، وهذا ما أكدته نتائج البحث الميداني، ولعل الشكل البياني التالي من الأدلة التي يمكن الاستناد إليها، لجعل التموقعية أحد المنطلقات الجديدة لتدبير البيئة المادية للفصل الدراسي.
يوضح المبيان قوة العلاقة بين تموقعية المدرس وحافزية المتعلمين على المشاركة، حيث أكد 82% من المتعلمين المبحوثين أن مقاعدهم تشجعهم على المشاركة سواء كانت أمامية، وسطى أو خلفية، وما يثير الانتباه هو ما موقف المتعلمين الجالسين بالمقاعد الخلفية، إذ أكد أربعة عشر متعلما من أصل سبعة عشر، على أن المقاعد الخلفية تشجع على المشاركة، في حين اعتبر فقط اثنان منهم فقط من أصل عينة البحث (50 متعلما) أن مقعديهما لا يشجعانهما على المشاركة.
تؤكد هذه النتائج بوضوح، أن حركية المرسل وتموقعه بالحيز المجالي للفصل الدراسي، يشجع ويحفز المتعلمين على المشاركة، ويخفف من آثار مكان جلوس المتعلم وكما أسلفنا الذكر فهذا الطرح المبني على مواقف المتعلمين يعبر عن وضعية اندماج وانسجام مريحة نسبيا، فضلا عما يتيحه من فرص معتبرة لتشجيع وتحفيز المتعلمين على المشاركة الفعالة في بناء التعلمات كما ذكرنا سابقا. وبطبيعة الحال لا ينحصر تأثير تموقعية المدرس في فعالية المشاركة فقط، بل تتعداه لتحدث أثرا في سيكولوجية المتعلمين، ولا شك أن هذا الأثر ينعكس بدوره على حافزية وجودة مشاركة المتعلمين.
- وقع تحركات المدرس على سيكولوجية المتعلمين:
تعتبر حافزية المتعلمين للمشاركة ترجمة للحالة السيكولوجية لكل متعلم، فإذا كان ضعف المشاركة ورداءتها من حيث الانتظام هو تعبير صريح عن اضطراب سيكولوجية المتعلم، فإن اتساع دائرة المشاركة وانتظامها هو إشارة واضحة لحالة التوازن السيكولوجي والانشراح الذي يعيشه المتعلم وهو ينافس أقرانه في بناء التعلمات. لذلك كان لابد من طرق باب الحضور الذهني والشعور الوجداني للمتعلمين، لإبراز وقع وتأثير تحركات المدرس على سيكولوجيتهم، وفي هذا الصدد، الشكل البياني التالي يعبر بوضوح عن أثر تموقعية المدرس على سيكولوجية المتعلمين.
يعبر الشكل بوضوح عن تجانس نتائج البحث الميداني، من حيث دور تموقع المدرس وحركيته، في اندماج وانسجام جماعة القسم وكذلك في رفع معدلات التركيز والانتباه والحافزية للمشاركة، فضلا عن الألفة ودفء العلاقة الوجدانية بين المدرس والمتعلمين. فمن خلال نتائج البحث لوحظ أن هناك دائرة في اتساع مستمر تعبر عن اندماج وانسجام جماعة القسم، حيث تبرز مواقف المتعلمين هذا الافتراض، إذ أكد ثمانية وعشرون متعلما من أصل خمسين متعلما (عينة البحث)، أن تحركات المدرس تزيد من تركيزهم، وتقريبا هي نفس الفئة التي صرحت بشعورها بالسعادة وحبها للمدرس إثر تحركاته بالفصل. بينما انكمشت دائرة الانعزال لتشمل فقط تسعة متعلمين يبدو أنهم ممن التحقوا مؤخرا بالفصل الدراسي. أما بالنسبة لمواقف الفئة التي ترى أن تحركات المدرس دون تأثير، فهي كذلك لا تتعدى عشرة متعلمين. من خلال هذه النتائج يتأكد بشكل جلي مدى تأثير تحركات المدرس على الحالة السيكولوجية للمتعلمين، التي تترجم بدورها لردود فعل، يمكن اختزالها في زيادة التركيز والحافزية للمشاركة ببناء التعلمات، بالنسبة لذوي الأثر الإيجابي، والاضطراب وتشتت الانتباه وضعف التركيز بالنسبة لذوي الأثر السلبي المحدود جدا كما سبقت الإشارة إليه بالتفصيل.
وعلى سبيل الختام، نوجز مخرجات واستنتاجات بحثنا في التوصيات والإيجاز الآتي:
تعتبر التموقعية أحد أشكال التواصل غير اللفظي، وتحظى بأهمية معتبرة لما تتيحه من فرص حقيقية لاندماج وانسجام جماعة القسم، وكذلك تحفيز المتعلمين وزيادة مستوى تركيزهم وانتباههم ورغبتهم في المشاركة الفعالة والمسؤولة في بناء التعلمات، كما تساهم في بناء علاقة يطبعها الاحترام والانضباط والحميمية بين أفراد جماعة القسم. لذلك يمكن اعتبار التموقعية أحد الشروط الضرورية لتطوير المهنة وصناعة المدرس الدينامي بدل المدرس الجامد. وعليه، فيحبذ:
- تغليب تموقع “وجها لوجه” على باقي التموقعات لأنه يضمن تواصل تموضعي عام يشمل جماعة القسم دون استثناء ويقلل من تهميش بعض المتعلمين.
- تجنب اختراق المنطقة الحميمية للمتعلمين وذلك بتجنب الجلوس قرب مقاعدهم.
- التجول بين الصفوف أثناء ملاحظتهم للوثائق لتفقد الكتب والمتابعة، وكذلك مراقبتهم حينما يكتبون منتوج التعلم.
- التموقع المتوازن أمام السبورة، والمزواجة بين المواقع الثلاثة، يمين _ وسط _ يسار، تجنبا لتهميش أي صف.
قائمة المصادر والمراجع:
- التوجيهات التربوية والبرامج الخاصة بتدريس مادتي التاريخ والجغرافيا بسلك التعليم الثانوي التأهيلي، مديرية المناهج، الرباط، نونبر 2007.
- نباري التباري، كفايات التأهيل المهني للمدرس بين المرجعيات النظرية والتطبيق، وفق منهاج التأهيل المهني بالمراكز الجهوية لمهن التربية والتكوين، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، الطبعة الأولى 2016.
- تي هول إدوارد، اللغة الصامتة، ترجمة؛ فؤاد اليحي لميس، الطبعة الأولى 2007، الأردن.
- العمل الميداني.
[1]التوجيهات التربوية والبرامج الخاصة بتدريس مادتي التاريخ والجغرافيا بسلكالتعليم الثانوي التأهيلي، مديرية المناهج، الرباط، نونبر 2007، ص 35.
[2]المعطيات تعود للإدارة التربوية بالمؤسسة.
[3] نباري التباري، كفايات التأهيل المهني للمدرس بين المرجعيات النظرية والتطبيق، وفق منهاج التأهيل المهني بالمراكز الجهوية لمهن التربية والتكوين، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، الطبعة الأولى 2016، ص: 245.
[4] . تي هول إدوارد، The Silent Language، اللغة الصامتة، ترجمة؛ فؤاد اليحي لميس، الطبعة الأولى 2007، الأردن، ص: 213.
[5] . نباري تباري (2016) مرجع سابق، ص: 247.
[6] تي هول إدوارد (2007) مرجع سابق، ص: 230.
[7]نباري تباري (2016) مرجع سابق، ص: 248.
[8]نباري تباري (2016) مرجع سابق، ص: 252.