الهجرة وتقاطع الصور النمطيّة: محاولة في فهم ظاهرة الهجرة من منظور علم النفس الاجتماعيّ
Migration and the intersection of the stereotyped image : An attempt to understand the phenomenon of migration from a social psychology perspective
د. محمد بالراشد/جامعة جندوبة، تونس
Dr. Mohamed BERRACHED/ University of Jendouba Tunisia
مقال نشر مجلة جيل العلوم الانسانية والاجتماعية العدد 68 الصفحة 87.
ملخص:
تهدف هذه الدراسة إلى تسليط الضوء على ظاهرة الهجرة من منظور علم النفس الاجتماعيّ مستخدمة مفهوم الصور النمطيّة. فهذه الظاهرة القديمة باتت اليوم عرضة لتضارب صور نمطيّة بناها فاعلون مختلفون. وتمثّل هذه الصور حافزا للكثيرين من شباب مجتمعات الجنوب إلى الهجرة، ولكنها في المقابل تمثّل منطلقا لرفض المهاجر الوافد (الغريب). في تقاطع هذه الصور وتضاربها تكمن اليوم خطورة ظاهرة الهجرة، فبعد أن كانت لفترات طويلة جسرا لبناء المشترك الإنساني باتت اليوم محلّ تضارب لصور نمطيّة الأمر الذي أثر سلبا في علاقة المهاجر بمجتمع الاستقبال.
الكلمات المفاتيح: الهجرة، الصور النمطيّة.Abstract:
This study aims to shed light on the phenomenon of migration from the perspective of social psychology using the concept of stereotypes. This old phenomenon has become, nowadays, susceptible to discrepancies in stereotypes created by different interactors. These images represent an incentive for many youths from southern societies to emigrate; nevertheless, these stereotypes are, in turn, considered a factor for the rejection of an immigrant. At the intersection and inconsistency of these images lies today the seriousness of the phenomenon of migration. After long periods of having been the bridge to building common human values, this phenomenon has now become the subject of conflict of stereotypes, which has negatively affected the migrant’s relationship with the receiving society.
keywords : migration, stereotypes
“إذا حصل النّاس على مجموعة من الحقائق ولو ضيئلة فإنّهم يندفعون إلى تكوين تعميمات كبيرة”
(البورت)
مقدمة:مثّلت الهجرة- على مرّ الأزمان- قناة من قنوات التّواصل والتّفاعل بين البشر، حيث كانت على مرّ التاريخ سبيلا للانفتاح على الآخر والتواصل معه، فمكّنت البشر –بذلك- من بناء المشترك، ومن تجاوز عقبات كثيرة منها ما هو اقتصاديّ واجتماعيّ وثقافيّ…الخ. ولكن لا يمكن اختزال الهجرة في هذا البعد التّفاعلي التّواصلي بين الأفراد والشعوب ومن ثمّة بين الثقافات، ذلك أن هذه الظاهرة ارتبطت في السنوات الأخيرة بأخرى تحتاج إلى فهم وتفسير بالمعنى السوسيولوجي للكلمتين ، ألا وهي ظاهرة الصوّر النمطيّة التي صارت تُبنى من قبل أطراف مختلفة، حتى أن بعض هذه الصّور بات متناقضًا حدّ التضارب. فتبدو الهجرة لشباب عاطل عن العمل، وفاقد للأمل في بلاده حلّا سحريّا لمشاكله، وسبيلا للانعتاق والتحرّر ممّا يكبّل تلك الفئة العمرية في المجتمعات الأصليّة. وفي المقابل تبدو الهجرة بالنسبة إلى مجتمعات الاستقبال مبعث تخوّف من وصول المغايرين دينا ولغة وثقافة، الأمر الذي أنتج صورة نمطيّة سلبية وقاتمة عن الآخر، ذلك الآخر الذي لن يتردّد في ارتكاب العنف – في أشكاله المختلفة- في مجتمعات فتحت له أبواب الرزق، ومكّنته من فرص حياة جديدة.
تبدو الهجرة اليوم- وعلى الرغم من قدمها كظاهرة إنسانيّة –فضاءَ تقاطع لصور نمطيّة ناجمة في الغالب عن فكر اختزالي، لا يرى في تلك الظاهرة إلا بعدا واحدا، فيفقدها جوهرها كظاهرة تيّسر التواصل والتفاعل بين الجماعات وبين الأفراد، ومن ثم بين الثقافات. وضمن هذا السياق تتنزّل هذه المحاولة التي تندرج في إطار علم النفس الاجتماعي، والتي تحاول فهم علاقة الهجرة بالصوّر النمطيّة التي تجتاح العالم، والتي تُترجم يوما بعد يوم في جدران لا ماديّة فقط وإنّما في جدران نفسيّة أيضا، جعلت العلاقة بالآخر مشوبة بالريبة والحذر وعدم الثقة، بل حتى الكراهية. وبعبارة أخرى، إن اختزال الهجرة في بعد واحد لا غير، وغضّ الطرف عن بقية الأبعاد الأخرى يجعلها مصدر صور نمطيّة متناقضة ومتضاربة، ومُفضية في نهاية المطاف إلى إعاقة التواصل مع الآخر. وهو ما يعني أن الهجرة ظاهرة إنسانية مركّبة وتحتاج إلى تعدّد في زوايا النظر، ومنها زاوية علم النفس الاجتماعيّ التي تلامس الصور النمطية والتمثّلاتles représentations التي ارتبطت بهذه الظاهرة لاسيما في السنوات الأخيرة والتي جعلتها إشكالا متعدّد الأبعاد.
الإشكاليّة:
كان من المفترض أن تتحوّل الهجرة – لاسيما في عصر العولمة الذي أتاح فرصة انتقال السلع بشكل غير مسبوق بين القارّات وبين الدول – إلى حلّ لمشاكل البلاد النامية كما البلاد المتقدّمة على حدّ السواء. فالأولى بدت عاجزة لأسباب تتّصل بعوامل متعدّدة (اقتصاديّة وسياسيّة وثقافيّة واجتماعيّة)وبضعف القدرة على التخطيط و الفساد… عن الاستفادة من طاقات شبابها المختلفة، والثانية بدت محتاجة إلى طاقات عمّالية شبابيّة، في وقت تراجع فيه عدد الشباب بهانتيجة تهرّمها السكاني… لكن الأمر لم يحدث، فاستحالت الهجرة مبعثَ خوف لدى الدول المتقدّمة ونوعا من التحدّي لدى شباب الدول النامية، الأمر الذي عكس في نهاية الأمر تقاطع صور نمطيّة متضادّة بين الشباب الراغب في الهجرة، وبين ساكنة الدول المتقدّمة أو على الأقلّ جزء منها، حيث تكفي الإشارة في هذا السياق إلى استفادة اليمين المتطرّف في دول الشمال من قضيّة الهجرة في اختراق الكتل الانتخابيّة لتلك الدول، بلفي وصوله إلى الحكم كما هو الشأن في إيطاليا وقبل ذلك في الولايات المتحدة الأمريكيّة…الخ. وعليه يكون من الوجيه والمنطقي التساؤل: لِمَ تحوّلت الهجرة إلى تقاطع لصور نمطيّة متناقضة تتقاطع فيها الأحلام بالواقع، والتضامن الإنساني بالعنصريّة ورفض الآخر؟ أي إذا كانت الهجرة ظاهرة إنسانيّة، رافقت صنع الإنسان لتاريخيّتهson historicité ، فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو لماذا تحوّلت في السنوات الأخيرة إلى مصدر للصور النمطيّة التي جعلت البعض يلقي بنفسه في البحر من أجلها، وجعلت البعض الآخر يقوم بتحصين نفسه بجدران ماديّة ونفسيّة حتى يمنع وصول الوافد إليه، ومن ثم يمنع بالخصوص اندماجه في المجتمع المهاجَر إليه؟
منهجيّة الورقة:
انبنت هذه الورقة على مقاربة تحليليّة مدعومة بأداة المقابلة. فظاهرة الهجرة كفضاء تتقاطع فيه الصّور النمطيّة تحتاج إلى فهم وتفسير بالمعنى السوسيولوجي للكلمتين. ولذلك تم اعتماد مقاربة تحليليّة مدعمّة بالمقابلة مع مجموعة من الشبّانب معتمدية بني خداش (من ولاية مدنين بأقصى الجنوب الشرقي التونسي، فهي تبعد حوالي 600 كلم عن تونس العاصمة) إثر حادثة قرقنة التي ذهب ضحيتها 84 مهاجرا غير شرعي[1] ، وقد بلغ عدد الضحايا من بني خداش 14 مهاجرا غير شرعي. وقد كانت المقابلة حرّة وجماعية حيث كان عدد المستهدفين 15 شابا تتراوح أعمارهم بين 20 و35 سنة.
أهميّة البحث:
تستمدّ الورقة أهميّتها من كونها تتناول مسألة تقاطع الصّور النمطيّة التي رسمها شباب بلدان الجنوب من جهة مع صور نمطيّة أخرى صارت سائدة لدى شريحة واسعة من ساكنة الغرب. ففي الوقت الذي بدت فيه الصور الأولى مفعمة بالإيجابيّة، مختزلة في العيش الكريم، وفي الدخل المرتفع، وفي أسلوب الحياة المرن الذي يتيح الارتقاء لا في المهنة فحسب وإنّما في السلّم الاجتماعيّ بصفة أخصّ، وفي نمط عيش يؤمن بالحريّة الفرديّة ويقدّسها، بدت الصور المهيمنة على جزء مهمّ ولا يستهان به من ساكنة الغرب مختزلة في أن الوافدين الجدد يهدّدون شباب تلك البلاد من خلال افتكاك مواطن الشغل، وهم فضلا عن ذلك يرمزون إلى صعوبة الاندماج الثقافيّ، بل هم أكثر من ذلك رمز للآخر الخطير الذي لا يهدّد فرص العمل بالنسبة إلى الشباب المقبل على العمل فحسب، وإنّما يهدّد نمط الحياة في دول الشمال من خلال المنظومة القيميّة التي يحملها والتي كثيرا ما تحول دون اندماج أولئك المهاجرين بيسر في المجتمعات المهاجر إليها. فتتحوّل الهجرة بذلك إلى فضاء تتصادم فيه تصوّرات الذات للآخر وتصوّرات الآخر للذات، الأمر الذي يفرض تناول إشكاليّة الهجرة من منظور آخر، منظور يركّز على علاقة الذات بالآخر نتيجة جملة من التحوّلات التي عرفتها الهجرة والتي لم تعد فقط هجرة مجموعة من الرّجال إلى الشمال، أي هجرة يد عاملة ستؤدّي دورا محدّدا ومرسوما بصفة مسبقة إلى هجرة شكّلت مجموعات انطوت على ذاتها في كثير من الأحيان لعوامل ذاتيّة خاصة بتلك المجموعات وكذلك لأسباب تتعلّق ببلدان الاستقبال التي لم تجد الآليات الملائمة لإدماج الوافدين القادمين من ثقافات ومناطق مختلفة. ويكفي في هذا السياق أن نشير إلى أن المدارس ذات الأولويّة التربويّة في فرنسا، أو المناطق ذات الأولية التربوية ZEP يقع أغلبُها في أحياء المهاجرين. بمعنى أن المقاربات التقليديّة للهجرة من منظور اقتصاديّ وأمنيّ، وإن تكشف عن جوانب مهمّة من الظاهرة، فإنّها لا تساعد على تبيّن بعض جوانب علاقة الذات بالآخر في عالم يشهد من جهة تناميا لخطاب حقوق الإنسان، ومن ناحية أخرى عودة الانكفاء على الذات وإغلاق الحدود.
مفاهيم الورقة
I .المفاهيم المركزية:
الهجرة ، الصور النمطيّة ، التمثّلات (التصوّرات)، الفكر الاختزالي
- الهجرة بما هي أبعد من ترحال البشر، إنها انعكاس لعلاقة الذات بالآخر
جاء في لسان العرب “الهجرة من هجر ضد الوصل. هجره يهجره هجرا وهِجرانا صَرَمه، وهما يهتجران ويتهاجران والاسم الهجرة. وفي الحديث لا هجرة بعد ثلاث، يريد به الهَجْر… والهِجرة والهُجرة : الخروج من أرض إلى أرض. والمهاجرون الذين ذهبوا مع النبي صلى الله عليه وسلم… وقال الأزهري: وأصل المُهاجرة عند العرب خروج البدوي من باديته إلى المدن، يُقال هاجر الرجل إذا فعل ذلك، وكذلك كل مُخْل بمسكنه منتقل إلى قوم آخرين بسكناه، فقد هاجر قومه… فكلّ من فارق بلده من بدويّ أو حضريّ أو سكن بلدا آخر، فهو مُهاجر، والاسم منه هجرة[2]“. فالهجرة لغويا، هي مغادرة القوم والانتقال للسكن والإقامة في مكان آخر. أما اصطلاحا، فالهجرة هي “أن يترك شخص أو جماعة من الناس مكان إقامتهم لينتقلوا للعيش في مكان آخر وذلك مع نيّة البقاء في المكان الجديد لفترة طويلة أو أطول من كونها زيارة أو سفر[3]“.بمعنى أن الهجرة ليست مجرّد سفر عادي لفترة محدودة يعود بعدها المسافر إلى بلده. ولذلك اعتبر انتوني غيدنز “المهاجرة هي انتقال الناس من منطقة أو مجتمع إلى آخر بغرض الإقامة والاستقرار. وقد تزايدت الهجرة العالميّة عبر الحدود الدوليّة في أعقاب الحرب العالميّة الثانية وازدادت سرعةً وكثافةً من جرّاء عملية العولمة المعاصرة[4]“. أي أن الهجرة تعني الانتقال للإقامة والاستقرار، بما يعنيه ذلك من تغيير في نمط الحياة سعيا للتأقلم مع المجتمع المهاجر إليه. ولذلك لا تخلو الهجرة من مخاطرة لا بالمعنى المادي (التعب / المشقة/…)، وإنما بالمعنى الرمزيّ الذي يلامس الثقافة، أو البعد الثقافي للإنسان والذي يفرض عليه تحديّات استيعاب قيم الثقافة الوافد إليها، ومصالحتها مع ثقافته المرجعيّة.
تبدو الهجرة، إذن أعمق من مجرّد الانتقال إلى العمل والإقامة في مكان آخر، إنّها عمليّة ذهاب إلى الآخر، بما تعنيه تلك العملية من استعداد نفسيّ وذهنيّ للانخراط في أسلوب حياة كثيرا ما يكون مغايرا للنمط الذي كان يعيش ضمنه. فاختلاف أنماط الحياة، كما ذكره ابن خلدون سابقا، يؤثّر في طبيعة الروابط الاجتماعية والعلاقات بين البشر.
ولكن الإشكاليّة الأعمق التي ترتبط بالانتقال إلى نمط حياة جديد هي أن أصحاب هذا الأسلوب في الحياة يعتبرونه في منزلة أسمى وأرفع من نمط حياة المهاجرين الوافدين، وهنا تبرز قضية النظرة إلى الآخر والتي كثيرا ما تبرّر رفضه، بل وحتى ارتكاب العنف والقتل ضده؛ مثلما حدث في مدينة “نيس يوم 13 حزيران/ يونيو 1987 عندما اغتال ستة شبّان من ذوي “الرؤوس المحلوقة” شابّا تونسيّا يُدعى حمة العبيدي المقيم في فرنسا منذ عشر سنوات. وتذكر الصحافة أن أحد القتلة صرّح عند استجوابه ” لقد قُتل عربيٌّ فما الأمر في ذلك؟[5]“.
ولئن كانت الهجرة، ليست بالظاهرة الجديدة، إذ “لو أمعنا النظر في تاريخ الإنسانيّة لوجدنا تنقل السكان من موطن إلى آخر صفة ملازمة للإنسان في كلّ فترات التاريخ مع تغيّر الاتّجاهات حسب عوامل الطرد والجذب. ولهذا فقد عُمّرت أغلب الأوطان من جرّاء الحركات الهجريّة التي ما فتئت تغيّر خارطة التوزّع الجغرافي للسكّان في العالم[6]” إلا أنّها ” أخذت بالتسارع المتزايد في العقود الأخيرة لتصبح جزءا لا يتجزأ من عملية التكامل العالمي. وأصبحت أنماط الهجرة تعبّر عن التغيّرات التي طرأت على العلاقات الاقتصادية والسياسيّة والثقافيّة بين دول العالم. وتشير بعض التقديرات إلى أن المهاجرين في مختلف أنحاء المعمورة عام1990 بلغوا نحو ثمانين مليون شخص يشملون نحو عشرين مليونا من اللّاجئين. ويُعتقد أن هذه الأعداد ستتزايد في أوائل القرن الحادي والعشرين، بل إن بعض علماء الاجتماع يطلقون على أيامنا هذه “عصر الهجرة[7]“.
إن تزايد الهجرة في ما سمي ب”عصر الهجرة” جعلها مصدر إشكاليات بكيفيّة غير مسبوقة باعتبارها أثارت في الفترة الأخيرة مسألة في غاية الأهميّة ألا وهي علاقة الذات بالآخر. ففي زمن تتعالى فيه الأصوات المنادية بحقوق الإنسان، تتنامى فيه نزعات الانكفاء على الذات، والانطواء عليها. ولعل هذا السياق هو الذي حوّل الهجرة منذ سنة 2000 إلى قضية دوليّة أو بالأحرى إلى مشغل دوليّ ولاسيما للأمم المتحدة. فقد أصبحت “المشكلات التي أثارها هؤلاء الأشخاص الذين يعبرون البلدان والقارات ويستخدمون القنوات الشرعيّة وغير الشرعيّة للهجرة ويعيشون الخوف والتهديد اليوميّ، كبضائع في أيدي التجّار، الأمر الذي دفع بالأمين العام الأسبق للأمم المتحدة – كوفي عنان- إلى مراجعة المكانة التي تحتلّها الهجرة في المشهد الدولي، وأن يعيد تقديرها وفرضها كأولويّة على أجندة أنشطة الأمم المتحدة. وفي إطار هذه التحرّكات، فقد طالب الاجتماع العام للأمم المتحدة (نوفمبر2000) في دورته الخامسة والخمسين بإقامة “يوم دوليّ للمهاجرين”[8] . وبعبارة أخرى في مطلع الألفية الثالثة غدت الهجرة قضيّة دوليّة متزامنة مع تحوّلات كبرى عرفها العالم، حيث بدأ العالم في التوجّه فعلا إلى تكوين قرية كونيّة على حد تعبير ماكلوهان…ولكن هذه القرية الكونيّة اصطدمت برؤى نظرية ترى العالم مقدما على صراع الحضارات، وعلى التنافر بين المنتمين إلى ثقافات مختلفة، الأمر الذي يجعل لحضور الآخر في حياة الذات أبعادا جديدة لم تُعرف من قبل. وعموما “بقدر ما كانت ظاهرة الهجرة تاريخيّة، لم تخل فترة زمنيّة من ظهورها، بقدر ما طرحت ومازالت تطرح عدة تساؤلات حول مفهومها وأسبابها ومختلف انعكاساتها على بلدان الانطلاق وعلى مجتمعات الاستقبال[9]“. ولهذا السبب شغلت العديد من الباحثين في مجالات مختلفة (التاريخ والجغرافيا وعلم الاجتماع وعلم النفس …[10]“).
- الصور النمطيّة les stéréotypes
إن الصوّر النمطيّة عبارة عن “تمثّلات اجتماعيّة تنتقل في الحياة اليوميّة. إنها تصوّرات جماعيّة توجّه إلى الآخر كجماعة، كشخصيّة جماعيّة en tant que personnalité collective . إن للصّور النمطيّة الجماعيّة (الوطنيّة والاثنيّة الخ) وظائف عديدة بالنسبة إلى الجماعة التي تحملها. فهي تيسّر التواصل بين أعضاء الجماعة، لأنّها توفّر لهم أطرا مرجعيّة جاهزة تهيكل بطريقة دالة العالم في خارج الجماعة، موقع الشعوب والاثنيات الأخرى. فهي تساهم في الانسجام الاجتماعيّ وتنمّي معنى “نحن” (شعورنا نحن)، بربط القيم الموحّدة لمجموعة مقارنة بتلك التي لدى الآخرين[11]“. أي أن الصوّر النمطيّة تشكّل ممارسة عامة في حياة البشر، فنحن نرى الآخرين كواقع وكصور، كما يرانا الآخرون بالطريقة ذاتها: واقعا وصورا. وليس معنى ذلك أن الواقع شيء والصور شيء آخر، بل ثمة تداخلات والتباسات عديدة، فأحيانا ما تكون الصورة التي نكوّنها عن الآخر أكثر تأثيرا في الواقع لأنها هي التي تحدّد مواقفنا وسلوكياتنا إزاء هذا الآخر[12]“.ويعدّ والتر ليبمانWalter Lippman من أشهر الصحافيّين السياسيّين في القرن العشرين، الذين تحدّثوا عن الأفكار النمطيّة. وقد أوضح لنا ليبمان مفهوم الأفكار النمطيّة، حيث تعني -حسب رأيه- الصورة الموجودة في أذهاننا[13]“.
وهي بالنسبة إلى “المتخصّصين من علماء النفس الاجتماعيّين لا تختلف كثيرا عمّا أشار إليه “ليبمان” فهي تعني الصور والمعتقدات التي نتمسّك بها عن الآخرين أفرادا أو جماعات، وتتكوّن من مجموعة من السّمات أو الخصائص (قد تكون إيجابيّة أو سلبيّة)التي تميّز جماعات معيّنة[14]“. ولذلك “يعتبر مفهوم الصور النمطيّة” أحد المفاهيم الأساسيّة المرتبطة بتعقيدات العلاقة بين الذات والآخر، شأنه في ذلك شأن العديد من المفاهيم الأخرى مثل العنصريّة والتعصّب والتحيّز. ولكن ما يجعل من مفهوم الصور النمطيّة مختلفا هو أنّه لا ينطوي على فعل مادّي مباشر، وإنّما هو فعل ثقافي ذهني يتمثّل في تشكيل صورة عن الآخر غالبا ما تكون سلبيّة ولكنّها يمكن أن تكون إيجابيّة[15]“. وفي السنوات الأخيرة صارت هذه الصور النمطيّة عاملا مؤثّرا في النظرة إلى الهجرة.
II . في مشهد متنافر: بين التضحية بالغالي والنفيس من أجل الوصول إلى الضفة الأخرى، وبين الجدران المتنامية
لم يعرف العالم من قبل مثل هذا التنامي للهجرة ولاسيما منها الهجرة غير الشرعيّة، التي يقدم فيها الشباب من بلدان الجنوب على ركوب البحر، وعبور الصحاري ومختلف التضاريس الطبيعيّة ومواجهة المخاطر المختلفة بحثا عن الخلاص في بلاد الشمال. ولذلك غدت أخبار قوارب المهاجرين خاصة في السنوات الأخيرة مكوّنا أساسيّا من مكوّنات نشرات الأخبار في العالم، سواء عند رسوّها على شواطئ أوروبا أو عند غرقها وهلاك من كانوا على متنها.
وبطبيعة الحال ليست الهجرة البحريّة – التي شكّل في الغالب-البحر المتوسط في السنين الأخيرة مسرحها الرئيسي، حيث “كان عام 2015 الأكثر دمويّة في مياه البحر المتوسط على الإطلاق، ووفقا للمفوضيّة العليا للأمم المتحدة لشؤون اللاّجئين، توفي 3605 شخصا/أو فقدوا خلال محاولة العبور من شاطئ إلى آخر، بينما وصل 950.617 شخصا إلى شواطئ أوروبا وكلا الرقمين يمثلان مستويات قياسيّة محزنة[16]“- الهجرة الوحيدة، ذلك أن الحدود البريّة بدورها كانت من معابر الهجرة الأساسيّة الأمر الذي ولّد ردّة فعل عند بعض الدول التي “أقدمت على تحصين حدودها، وعلى استخدام القوة مثل استخدام القنابل المسيّلة للدموع والطلقات المطاطيّة أثناء تسيير دوريات حماية لحدودها لمنع أي عمليات دخول غير مأذون بها[17]“، والأمر لم يقف عند هذا الحدّ. فقد “أقامت دول مثل النمسا وبلغاريا وفرنسا واليونان والمجر وإسرائيل ومقدونيا واسبانيا وتركيا والولايات المتحدة حواجز وأسوارا للتحكم بشكل أفضل في الدخول إليها وبالتالي عدم السماح بدخول “مهاجرين غير نظاميين” بما في ذلك اللاجئين[18]“. وقد نجم عن هذه النزعة الحمائيّة للحدود، تنامي الجدران حيث تطوّرت في أماكن مختلفة من العالم من عشرة سنة 1945 لتتجاوز ال75 جدارا سنة 2017 مشكلة ما طوله 40000 كلم[19]. وقد “بنت الدول الأوروبية لوحدها 12 جدارا بهدف الوقوف في وجه المهاجرين، حيث أقامت اسبانيا جدارين حدوديّين والمجر ثلاثة جدران بينما بنت كل من بلغاريا واليونان وفرنسا والنمسا وسلوفينيا واستونيا، إضافة إلى مقدونيا (الدولة غير العضوة في الاتحاد الأوروبي) جدارا واحدا[20]“. ولا يزال الرئيس الأمريكي “ترامب” يخوض صراعا مع الكونغرس ذي الأغلبيّة الديمقراطيّة من أجل تمويل بناء جدار على الحدود الأمريكيّة مع المكسيك.
III . صور نمطيّة متقاطعة حدّ التضارب
تبدو للمتأمّل في الصور النمطيّة المتّصلة بالهجرة صورتان متناقضتان تتأتّى الأولى من التصوّرات التي بناها الشباب المهاجر أو الراغب في الهجرة من البلدان النامية إلى بلاد الشمال المتقدّمة. وفي المقابل بُنيت الصورة الثانية من طرف جزء مهمّ من ساكنة بلدان الشمال رأى في الهجرة خطرا على مواطن شغل الشباب التي غدت شحيحة بسبب الأزمات التي تعاني منها اقتصاديات كثيرة في تلك البلدان، كما رأى في المهاجرين خطرا على النسيج الاجتماعيّ والثقافيّ لتلك البلدان.
- الصّور النمطيّة المبنيّة من قبل الشباب: بلاد الفرص والحريّة تحتضن الرّجولة
أظهرت المقابلات التي أجريناها مع بعض الشباب بجهة بني خداش (بالجنوب الشرقيّ التونسيّ) بعد حادثة مركب قرقنة[21] والتي أدّت إلى وفاة عدد من شبّان الجهة الرّاغبين في الهجرة تصميمهم القطعي على الهجرة، مشدّدين على أنّهم لن يتردّدوا في مغادرة البلاد متى سنحت لهم الظروف.
بمعنى أنهم مصمّمون على الهجرة بطرق شرعيّة وغير شرعيّة مهما كانت المخاطر المحدقة بهم، وأنّهم على استعداد لممارسة أية مهنة هناك بما في ذلك المهن التي يرفضون القيام بها في بلدهم أوفي بلدتهم مثل العمل الفلاحي، أو العمل في قطاع البناء…الخ. ويبرّر هذا الإصرار بعوامل مختلفة قائلين في أوروبا (بلاد الشمال) الدخل محترم، حيث بإمكان الإنسان أن يوفّر من المال ما يخوّل له اقتناء سيارة، ومساعدة عائلته، فضلا عن بناء مسكن والزواج، بل إن الزواج من مرأة أوروبيّة مطلوب أيضا. وتبدو هذه الصورة انعكاسا لما يراه الشباب عند عودة أقرانهم المهاجرين، والذين نجحوا في الوصول إلى الشمال بطرق شرعيّة أو غير شرعيّة.
تبدو الصورة النمطيّة التي رُسمت في أذهان الشباب عن مجموعات المهاجرين مختزلة في النّجاحات التي حُقّقت من قبل بعضهم بالمهجر والتي خوّلت لهم احتلال منزلة اجتماعيّة محترمة في مجتمعاتهم عند عودتهم.
وبتعبير آخر، صارت صورة المهاجر مبجّلة ومفضّلة على صور فئات أخرى. وفي هذا السياق بيّن نجيب بوطالب أن صورة المعلّم على سبيل المثال، بدأت بمرور الزمن “تخترق بتضمينات سلبيّة لدى الرأي العام المحلّي. ولم يعد مطمح الأطفال الصغار حينما يسألهم الكبار أن يصبحوا معلّمين وأساتذة (رمز السلطة والاحترام والوقار والأناقة…) كما تقهقر نموذج “العريس المعلّم” عند الفتيات لصالح “العريس المحامي” و”العريس الطبيب” ثم “العريس التاجر” وقس على ذلك “العريس “المهاجر”[22].
لقد أدّت المنزلة التي غدا عليها بعض المهاجرين من الدوافع المباشرة إلى الهجرة ولكنّها ليست المكوّن الوحيد لصورة المهاجر ولصورة البلدان المهاجر إليها، فهناك صورة آخذة في التبلور، وهي صورة الرّجولة والتي بدأت في التشكّل مع الهجرة غير الشرعيّة أي تلك الهجرة التي يدخل فيها المهاجرون “البلاد بدون تأشيرات أو أذونات مسبقة أو لاحقة[23]“.
وبذلك تشكّل الهجرة غير الشرعيّة تحديّا لرجولة فُقدت بسبب الفقر والحاجة، وقلّة ذات اليد، وأيضا بسبب الكبت وبسبب استبداد ثقافيّ وسياسيّ حال دون تمكين الشباب من إثبات الذات. وبعبارة أخرى لا تفضي الهجرة غير الشرعيّة إلى إثبات الذات وتأكيدها في وجه الحيف الذي بات مُسلّطا على الشباب في بلدانهم الأصليّة فحسب، بل إلى تأكيد الرجولة والفحولة، فهي عنوان الشجاعة. وبتعبير مغاير “إن هذه الرّجولة تدفعهم بالفعل نحو اختيار سبل صعبة ومسدودة[24]“، ذلك أنه وحده الشجاع “الراجل” يستطيع ركوب البحر والمغامرة لينال ما يريد، وفي هذا استحضار لصورة الرّجولة في المجتمع التونسيّ -وفي المجتمع العربيّ عامة- التي يماثل فيها “النموذج المفترض للرّجولة، لأن يكونوا أقوياء، قُساة وعدوانيّين منطقيّين وغيرها، ولأن يكونوا العاملين على تحصيل القوت عن طريق العمل وقوّامين على النساء، كما يعتمد هذا الفعل بالمقابل على إخفاء مشاعر الضعف في أنفسهم وكبتها[25]“. وهذا يعني أن ركوب الصعاب (البحر) والهجرة غير الشرعيّة تتنزّل في سياق تحقيق الذات وإثبات الرجولة في فضاء يعترف بالحقوق والمساواة التي افتقدت في المجتمعات الأصليّة. إن إثبات الرّجولة ليس بالأمر اليسير أو الهيّن، ومن ثمّ جاز ركوب المخاطر لأجله.
وبناء على ما تقدّم، أمكن القول إن دوافع الشباب إلى الهجرة عديدة منها ما يتعلّق بالظروف الاقتصادية والاجتماعية ومنها ما يتّصل بصورة المهاجر العائد بسيّارة صيفا، والذي حقّق رجولته، فاستطاع مغالبة الزمن الصعب الذي كبّل شريحة واسعة من أقرانه، ومنها أيضا عامل الرغبة في تحقيق الذات وإثباتها بعد أن تعذّر ذلك في المجتمع الأم ، ولعلّ هذه الدوافع مجتمعة وغيرها تبرّر بروز بعض الظواهر من قبيل “الزواج الأبيض” حيث يقبل شابّ على الارتباط قانونا فقط بشابّة من المقيمات بالمهجر دون أن يتمّ البناء، وذلك سعيا لتيسير التحاقه ببلاد المهجر، حيث يتمّ الطلاق بمجرّد وصول الشاب واستقراره بذلك البلد، مقابل أن تحصل الشّابة على مقدار مالي.
و فضلا عن ذلك كلّه، صارت الهجرة إلى الغرب رمزا للتحرّر متعدّد الأبعاد: التحرّر من الفقر والحاجة والحرمان فجلّ الذين يركبون المخاطر يرون في الهجرة سبيلا وحيدا للتغلّب على واقع قاس حرمهم من عيش كريم يطمحون إليه. والتحرّر من الظلم والاستبداد، فهذه الفئة الشابّة المهاجرة تقبل على مغادرة الديار متذمّرة لا فقط من الواقع المادّي الصعب وإنّما أيضا من غياب من ينصتون إليها، ومن يأخذون بوجهات نظرها ومن يساعدونها على أن تكون نشيطة وفاعلة في الحياة العامّة. فالتسلّط والاستبداد كابوس آخر خيّم على شباب البلاد النامية فدفعهم إلى البحث عن التحرّر والخلاص من تسلط متعدّد الأبعاد: اجتماعي وسياسي وحتى ثقافي على الرغم من انتشار تكنولوجيا المعلومات والاتّصال والتي حدّت –ولو إلى حد- من وطأة ذلك الاستبداد.
وتبدو المفارقة كبيرة بالنسبة إلى شباب بلدان كانت مستعمرة، فمن كان في نظر الآباء والأجداد رمزا للظلم والتسلّط والاستبداد بات اليوم في نظر الأحفاد رمزا للحريّة والخلاص والانعتاق. لم يعد المستعمر السابق منبوذا ومكروها بل على نقيض ذلك صار رمزا لتأكيد الذات وتحقيق الأحلام. ويكتمل هذا المشهد المرتبك والمتناقض من خلال هجرة النّخب والمثقّفين في المجالات المختلفة والتي ترى البقاء في البلدان الأصليّة عاملا معيقا لإبداعاتها. بمعنى آخر، إن الصوّر النمطيّة التي بناها شباب البلدان النامية عن العالم الآخر هي صور تجمع بين الرغبة في تحقيق الذات، وبين القطع مع واقع مرير على جميع الأصعدة، وبين فضاء آخر تسوده الحريّة وتُتاح فيه فرص الإبداع ولكن الوصول إليه ليس يسيرا، ومع ذلك فهو يستحق العناء والمكابدة لأنّه فضاء الحريّة والكرامة (العيش الكريم).ولكن تلك الصورة النمطيّة لا تعير اهتماما لما يعانيه هؤلاء المهاجرون في بلاد المهجر التي رسمت بدورها للمهاجرين صورا نمطيّة جعلتهم في غالب الأحيان رمزا للأعمال الدنيئة وللتخريب.
جدير بالذكر أن الصورة النمطيّة التي بناها شباب العالم النامي للهجرة، وتحديدا شباب العالمين العربي والإسلامي رافقتها صورة نمطيّة أخرى تجسّدت فيما يعرف ب”الهجرة إلى الآخرة[26]” .
أي الهجرة إلى أماكن القتال للدفاع عن الأمة والدّين. وقد لعبت عدة عوامل دورا فاعلا في تكريس تلك الصورة النمطيّة عن هؤلاء المقاتلين “المجاهدين”. “ففي مطلع الثمانينات وبعد الاحتلال السوفياتي لأفغانستان تنادت الحكومات العربيّة والولايات المتحدة الأمريكيّة ومعظم الحركات الإسلاميّة معا للذود عن “أرض الإسلام” التي احتلّها “الكفاّر الشيوعيون”. وحظي هذا النداء بالدّعم والتأييد المالي والإعلامي والسياسي. وقُدّم للمتطوّعين الشباب الذين جاؤوا من بلدان إسلاميّة وعربيّة مختلفة السلاح والعتاد والتدريب، ورفع الإعلام الرّسمي العربيّ وحتى الأجنبيّ من شأنهم، ومن شأن “الشهادة في سبيل الله” وسمّاهم من دون تردّد “المجاهدين” تأكيدا للمكانة الرّفيعة واعترافا بنبل مهمّتهم السامية[27]“.بمعنى أن صورة نمطيّة وضعت عن طريق الإعلام الرسميّ العربيّ كما الغربي لأولئك الذين بادروا إلى تلبية دعوة الهجرة إلى “الآخرة”. غير أن تلك الصورة سرعان ما تراجعت وخفت بريقها، ف”تحرير أفغانستان أعقبه تبرؤ من هؤلاء “المجاهدين”. فلم يرغب أحد في عودتهم إلى بلدانهم، وأسقطت تلك المكانة والهالة التي نسبت إليهم وتحوّل العائدون من أفغانستان إلى مطاردين في أصقاع الأرض ونشأ ما عرف بظاهرة الأفغان العرب[28]“.
من هذا المنطلق، يكون من الوجيه القول إن الصوّر النمطيّة لامست المهاجرين بنوعيهم : المهاجرون إلى الآخرة (الذين رسمت لهم صورة المجاهدين، الغيورين المدافعين عن الدين)، و”المهاجرون إلى الدنيا[29]” الذين يرون في الهجرة خلاصا من واقعهم المرير وسبيلا للتحرّر من العراقيل التي تكبّلهم على جميع الأصعدة. غير أن الصورة الثانية، أي تلك التي تتّصل بتمثّل الشباب المهاجرين لبلاد المهجر، هي التي تهمّنا في هذه الورقة مثلما تم التطرّق إليه أعلاه، وإن كان بين الصور نوع من العلاقة التي بدأت بالبروز في السنوات الأخيرة من خلال إقدام شباب من البلدان المغاربيّة والعربيّة والإسلاميّة على ارتكاب أعمال عنف تحت يافطة محاربة الكفّار حتى في ديارهم.
- الوافد ليس مختلفا فقط إنه خطر داهم:
في مقال نشر بمجلة Sciences Humaines، وحمل عنوان نهاية الضيافة la fin de l’hospitalité بيّنت الكاتبة كيف أن المهاجرين يمثّلون سنة 2017 3.5 بالمائة من ساكنة العالم[30]، وأنهم غالبا ما يستقبلون بشكل سيء والسبب الكامن وراء ذلك صورة نمطيّة رُسمت لهم.
تبدو صورة المهاجرين اليوم، والتي تمّ الاشتغال عليها في الخطاب الشعبويّ لأحزاب اليمين المتطرّف وثيقة الصلة بأصولهم وبثقافاتهم الأصليّة، إذ كثيرا ما ارتبطت تلك الصورة برفض قيم الشمال، وبالانتصار إلى المجموعات المنغلقة عن نفسها والتي لا تتردّد في ممارسة العنف ضد السكان الأصليّين. وبعبارة أخرى تعكس طريقة استقبال المهاجرين عامة والمهاجرين غير الشرعيّين بصورة خاصة موقفا تختزله صورة نمطيّة مفادها أن الغرباء الوافدين لا يهدّدون الشباب اقتصاديّا فقط باعتبارهم ينافسونهم على مواطن الشغل وإنما يهدّدون النسيج المجتمعي لبلدان الشمال، وهو نسيج له خصوصيّته.
ما لاشك فيه أن هذه النظرة إلى الغرباء تثير إشكالا كبيرا باعتبارها تعكس صورة سلبيّة للغريب الوافد، صورة تختزله في الجانب السلبي فحسب، ومن ثم تعيق التواصل معه وتفهّمه. وبعبارة أخرى، تقوم تلك الصورة على جملة من القوالب من قبيل الآخر المتعصّب وغير المتسامح ومن قبيل الآخر الكسول الذي لا يعمل، ومن قبيل الآخر الطامع في خيرات الشمال، ومن قبيل الآخر الخطير المهدّد لحياة النّاس القادر على ارتكاب أبشع الجرائم (اغتيال أبرياء…الخ)، الأمر الذي عمل على ترسيخ تلك الصورة النمطيّة السلبيّة للمهاجرين. وقد نصّ تقرير المقرّر الخاص المعني بحقوق الإنسان للمهاجرين بشأن خطة لتيسير التنقّل البشري لعام 2035 أنّه “على خلفيّة المناخ الاقتصادي السيء وصعود الأحزاب القوميّة الشعبويّة والهجمات الإرهابيّة المأساويّة، تزايد كره الأجانب وخطاب الكراهيّة، ممّا أدى إلى اتّجاه تصاعدي بارز في التصوّرات السلبيّة عن المهاجرين وشكّل حجر عثرة أمام وضع سياسات أكثر كفاءة تستند إلى الأدلّة وحقوق الإنسان[31]“.
ولعلّ الخطر يكمن في أن انتشار تلك الصّور سيتحوّل إلى جدران نفسيّة بعد أن شُيّدت الجدران الاسمنتيّة والحديديّة (الأسلاك الشائكة) على الحدود. وإذا كانت هذه الأخيرة قابلة للزوال في صورة توقيع اتّفاقيات ما، فإن الحواجز النفسيّة يصعب تخطّيها على المدى القصير وحتى المتوسّط لأنّها تتعلّق بالمواقف والاتّجاهات، ومن هنا تبرز خطورة الصوّر النمطيّة التي رُسمت في بلدان الشمال للآخر الغريب، الوافد طمعا في الثروات والذي لن يتردّد في ممارسة أبشع الأعمال للتعبير عن وجوده، بل وللإفصاح عن حقده. وممّا لا جدال فيه، أن هذه الصور تتغذّى من وقائع وأحداث من قبيل التحرّش الجماعي بالنّساء (ليلة رأس السنة الميلادية سنة 2015) ومن قبيل أحداث يوم الجمعة الأسود في 13 نوفمبر 2015 التي “صعقت المجتمع الفرنسي بمدى وحشيتها وعمى أهدافها…[32]“. وإذا ما أضفنا إلى ذلك “عاملا مباشرا آخر للخوف من الغريب وللترهيب من الأجنبي[33]” وهو التعصّب الذي أبداه بعض أفراد الجاليات المسلمة، نفهم كيف تستثمر أحزاب اليمين المتطرّف تلك الصورة النمطيّة التي رُسمت للمهاجرين.
تعمل أحزاب اليمين المتطرّف على استغلال تلك الصور النمطيّة السلبيّة للمهاجرين لأجل كسب المزيد من الأنصار، ومن ثم الفوز في الانتخابات. وهي بذلك لا تتردّد في العمل بشتّى الطرق على ترسيخ تلك الصور النمطيّة عن المهاجرين لدى الرأي العام في تلك البلدان. ومثل هذا التوجّه، والذي يكسب تلك التيّارات أنصارا جددا يجعل من الهجرة عائق تواصل بين البشر لا عامل تقارب يساعد على بناء المشترك. وبعبارة مغايرة، توظّف الأحزاب اليمينيّة في الغرب تلك الصور النمطيّة لكسب مؤيّدين جدد لها، ولتحقيق الفوز في الانتخابات، والذي قد يمكّنها لاحقا من منع الهجرة أو حتى ترحيل أعداد كبيرة من المهاجرين، ولكنها تتناسى أن ترسيخ مثل تلك الأفكار النمطيّة من شأنه أن يؤدّي إلى نتائج قد تصل إلى تبرير العدوان على أولئك المهاجرين وحرمانهم من حقوقهم كبشر. وضمن هذا السياق تتأتّى خطورة الأفكار النمطيّة التي تعمل التيارات اليمينيّة في الغرب على نشرها وترسيخها لدى شرائح واسعة من مجتمعاتها. فلهذه الأفكار وظائف اجتماعيّة منها التبرير[34]، بمعنى توظّف تلك الصوّر النمطيّة في تبرير ما يلحق بالمهاجرين من تهميش وحتى من اعتداءات بالعنف. ولهذه الأفكار النمطيّة آثار طويلة المدى تتجسّم في تلك الحواجز النفسيّة بين الأفراد والجماعات والشعوب التي تنعكس في مواقف وسلوكيات عنصريّة، فضلا عن ذلك فإنّ هذه الأفكار النمطيّة تتناسى “حقيقة أن المهاجرين هم أولا وقبل كل شيء بشر لهم حقوق الإنسان[35]“. بمعنى أن هذا العالم الذي فشل في تحقيق الحق في التنمية[36] لفئات عريضة من ساكنة الجنوب، نجده اليوم وبسبب الاشتغال على الصور النمطيّة ينتهك حقا آخرا من حقوق الإنسان وهو حرية التنقّل.
ملاحظات ختامية:
- الهجرة مسألة مركّبة، وبدأت منذ سنة 2000 تأخذ اهتماما خاصا في المجتمع الدولي.
- تبدو الطبيعة المركبة لمسألة الهجرة من خلال تصادم الصّور النّمطيّة وتضاربها، فالصّور التي رسمها الشباب لبلاد المهجر لا تقابلها صور تيسر قبولهم، بل صور تجعلهم موضع تُهم شتّى منها ما يتعلّق بافتكاك مواطن الشغل من أهلها، ومنها ما يتّصل بالاغتصاب ومنها أيضا ما يرتبط بالإرهاب والعنف.
- الهجرة مسألة تحتاج إلى مقاربة نفسيّة –اجتماعيّة، لأنها غدت عنوان تضارب صور نمطيّة يتطّلب التغلّب عليها دون الاشتغال على بناء ثقافة الاستقبال وتدبير التنوّع التي تسمح فعلا ببناء عالم متعدّد الثقافات واللّغات وينتصر للقيم الإنسانيّة مثل العدالة والمساواة والتسامح ونبذ كلّ أشكال التمييز….
- الصور النمطيّة حصيلة ثقافة، وعليه فإن تغييرها يستدعي بناء ثقافة مغايرة تعيد تشكيل الموقف من الآخر، وهي ثقافة تؤكّد على أهميّة التواصل والتفاعل مع الآخر، وذلك في انسجام مع الطابع الكونيّ لحقوق الإنسان. بمعنى أن ما تحتاجه البشريّة اليوم هو ثقافة ترسّخ النظرة الإيجابيّة للآخر، وتساعد فعلا على العيش في إطار الاختلاف والتعدّد. وقد يكون للمؤسّسات التربويّة والتعليميّة دور لا فقط في تأهيل يد عاملة مختصّة وإنّما أيضا في ترسيخ ثقافة التسامح مع الآخر والتعايش معه، دون أن تكون المؤسّسات الوحيدة المعنية بذلك.
قائمة المصادر والمراجع:
- أحمد زايد سيكولوجية العلاقات بين الجماعات: قضايا في الهويّة الاجتماعية وتصنيف الذات، الكويت، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، عالم المعرفة عدد326، أبريل 2006.
- انتوني غيدنز؛ علم الاجتماع (مع مدخلات عربية)،ترجمة فايز الصياغ، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربيّة، 2005.
- جمال الدين محمّد ابن منظور؛ ،لسان العرب، المجلّد السادس، بيروت، دار صادر، د/ت
- الجمعيّة العامة للأمم المتّحدة؛ إعلان الحق في التنمية ديسمبر 1986.
- الجمعيّة العامة للأمم المتحدة؛ مجلس حقوق الإنسان؛ تقرير المقرّر الخاص المعني بحقوق الانسان للمهاجرين بشأن خطة لتيسير التنقّل البشري لعام 2035 ، أفريل 2017.
- سلام الكواكبي؛ اللّجوء والهجرة في الغرب: استغلال سلبي من يمين عنصري وفشل للأحزاب التقليديّة، مجلّة الديمقراطيّة العدد61/ 2016
- صندوق الأمم المتحدة للسكّان؛ حالة سكان العالم2006 عبور إلى الأمل: النساءوالهجرة الدولية2006.
- طلال عتريسي؛ الشباب العربي بين هجرتين، شؤون عربية عدد132، شتاء 2007.
- الطاهر لبيب/ (محرر)؛ صورة الآخر: العربي ناظرا ومنظورا إليه، بيروت مركز دراسات الوحدة العربيّة، الطبعة الاولى 1999.
10.عبد الكريم الماجري؛ هجرة الجزائريين والطرابلسيّة والمغاربة الجواونة إلى تونس 1831-1937 ، دراسة تاريخية لإشكاليّة الاستعمار والهجرة وتشكّل الجاليات المغاربيّة بتونس وخصوصياتها الاجتماعية والقانونيّة، تونس، الشركة التونسية للنشر وتنمية فنون الرسم، 2010.
11.عبد المؤمن؛ ظاهرة الهجرة السريّة والإرهاب وأثرها على العلاقات الأورو مغاربيّة، دفاتر السياسة والقانون، العدد العاشر، جانفي 2014.
12.محمّد زيّان؛ أزمة الرجولة والهجرة غير الشرعيّة نحو أوروبا: رؤية سوسيولوجيّة للدفاع عن القيم التقليديّة لدى الشباب الجزائري، إضافات العددان 43-44 صيف-خريف 2018.
13.محمّد نجيب بوطالب؛ الأبعاد الاجتماعية والثقافيّة لأزمة القدوة: أنموذج القدوة في المدرسة العربيّة المعاصرة (حالة التعليم في تونس)، مجلّة مركز الدراسات والبحوث الاقتصادية والاجتماعية، خارج السلسلة عدد4، تونس 2005.
14.يان كلوديسفولكل؛ الهجرة غير الشرعية: لماذا يموت العديد من الناس مياه المتوسط؟، مجلة الديمقراطيّة، عدد61، يناير 2016.
15.مصطفى (يسري)؛ الصّور النمطيّة: الآخر في مرآة الذات، منشور بالموقع ceoss-eg.org/wp…/2016/.
16.يوروميد للهجرة2؛ الهجرة النسائيّة بين دول البحر الأبيض المتوسّط، منشور بالموقع
https://library.euneighbours.eu/sites/
17.Berting(J) ; Identités collectives et images de l’autre : les pièges de la pensée collectiviste, Hermès, 30,2001
18.Brugère (F) ; la fin de l’hospitalité, Sciences Humaines, N°292, Mai2017
19.Brugère (F ) ;& Le blanc (G) ; Quelle hospitalité pour les migrants ? , Sciences Humaines, Hors-série, N°22, Mai-Juin 2017.
[1]الصباح نيوز؛ فتح بحث تحقيقي في وفاة أحد منظّمي فاجعة قرقنة (الثلاثاء 14 أوت 2018 )
[2] جمال الدين محمد ابن منظور؛ ،لسان العرب، المجلّد السادس، بيروت، دار صادر، د/ت، ص 306
[3] عبد المؤمن مجدوب؛ ظاهرة الهجرة السريّة والإرهاب وأثرها على العلاقات الأورو مغاربيّة، دفاتر السياسة والقانون، العدد العاشر، جانفي 2014، ص302
[4] انتوني غينز؛ علم الاجتماع (مع مدخلات عربي)،ترجمة فايز الصياغ، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 2005، ص342
[5]روبار شارفان؛ الآخر في فرنسا المعاصرة: العربي كبش الفداء، ضمن الطاهر لبيب (محرر)؛ صورة الآخر: العربي ناظرا ومنظورا إليه، بيروت مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الاولى 1999، ص 587
[6] عبد الكريم الماجري؛ هجرة الجزائريين والطرابلسيّة والمغاربة الجواونة إلى تونس 1831-1937 ، دراسة تاريخيّة لإشكاليّة الاستعمار والهجرة وتشكّل الجاليات المغاربيّة بتونس وخصوصياتها الاجتماعيّة والقانونيّة، تونس، الشركة التونسيّة للنشر وتنمية فنون الرسم، 2010، ص 21
[7] انتوني غيدنز، المرجع السابق، ص331
[8]يوروميد للهجرة2؛ الهجرة النسائيّة بين دول البحر الأبيض المتوسّط، ص 9 منشور عن الموقع https://library.euneighbours.eu/sites/
[9] عبد الكريم الماجري؛ الرجع السابق، ص21
[10]المرجع نفسه، ص23
[11] Jan Berting ; Identités collectives et images de l’autre : les pièges de la pensée collectiviste, Hermès, 30,2001, p46
[12] يسري مصطفى؛ الصوّر النمطيّة: الآخر في مرآة الذات، عن الموقع ceoss-eg.org/wp…/2016/.
[13] أحمد زايد؛ سيكولوجيّة العلاقات بين الجماعات: قضايا في الهويّة الاجتماعيّة وتصنيف الذات، الكويت، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، عالم المعرفة عدد326، أبريل 2006، ص 127
[14]المرجع نفسه، ص 127
[15] يسري مصطفى؛ المرجع السابق.
[16] يان كلوديسفولكل؛ الهجرة غير الشرعيّة: لماذا يموت العديد من الناس مياه المتوسط؟، مجلّة الديمقراطية، عدد61، يناير 2016، ص 84
[17]ريدريسREDRESS؛ التدفّق الجماعي للاجئين و الإعادة القسريّة وحظر التعذيب، 2016، ص 30
[18]المرجع نفسه، الصفحة ذاتها.
[19]Brugère (F ) ;& Le blanc (G) ; Quelle hospitalité pour les migrants ? , Sciences Humaines, Hors-série, N°22, Mai-Juin 2017, p48
[20] 12 جدارا أوروبيّا تقف في وجه المهاجرين عن الموقع www.aljazeera.net
[21] جدت الحادثة في شهر جوان 2018، وتحديدا يوم 2 جوان 2018 ، وقد أسفرت عن غرق مركب يحمل عددا كبيرا من المهاجرين وقد أدّى الحادث إلى وفاة العشرات من بينهم 14 شابا من بني خداش مثلما سبقت الإشارة إلى ذلك.
[22] محمد نجيب بوطالب؛ الأبعاد الاجتماعيّة والثقافيّة لأزمة القدوة: أنموذج القدوة في المدرسة العربيّة المعاصرة (حالة التعليم في تونس)، مجلّة مركز الدّراسات والبحوث الاقتصاديّة والاجتماعيّة، خارج السلسلة عدد4، تونس 2005، ص 279
[23] ورد عند محمد زيان؛ أزمة الرجولة والهجرة غير الشرعيّة نحو أوروبا: رؤية سوسيولوجيّة للدفاع عن القيم التقليديّة لدى الشباب الجزائري، إضافات العددان 43-44 صيف-خريف 2018، ص 182.
[24]المرجع نفسه، ص 183.
[25]المرجع نفسه، ص 184.
[26] طلال عتريسي؛ الشباب العربي بين هجرتين، شؤون عربية عدد132، شتاء 2007، ص68.
[27]المرجع نفسه، ص68.
[28]المرجع نفسه، ص68.
[29]العبارة لصاحب المقال نفسه، ووردت في المقال ذاته.
[30]Brugère (F) ; la fin de l’hospitalité, Sciences Humaines, N°292, Mai2017, p46
[31]الجمعيّة العامة؛ مجلس حقوق الإنسان؛ تقرير المقرّر الخاص المعني بحقوق الانسان للمهاجرين بشأن خطة لتيسير التنقّل البشري لعام 2035 ، أفريل 2017، ص 6.
[32] سلام الكواكبي؛ اللّجوء والهجرة في الغرب: استغلال سلبي من يمين عنصري وفشل للأحزاب التقليديّة، مجلة الديمقراطيّة العدد61/ 2016، ص 81.
[33]المرجع نفسه، الصفحة ذاتها.
[34] أحمد زايد؛ سيكولوجيّة العلاقات بين الجماهير، مرجع سابق، ص 131.
[35]صندوق الأمم المتحدة للسكان؛ حالة سكان العالم2006 عبور إلى الأمل: النساء والهجرة الدوليّة، ص2.
[36]لقد اعتمدت الجمعيّة العامة للأمم المتّحدة إعلان الحق في التنمية بموجب القرار 128/41 المؤرّخ في 4 كانون الأول/ ديسمبر1986. وقد جاء في المادة الأولى من الإعلان أن “الحق في التنمية حق من حقوق الإنسان غير قابل للتصرّف…”.